تفسير الطبري تفسير الصفحة 579 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 579
580
578
 الآية : 5-6
القول في تأويل قوله تعالى:{إِنّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً }.
يقول تعالى ذكره: إن الذين برّوا بطاعتهم ربهم في أداء فرائضه, واجتناب معاصيه, يشربون من كأس, وهو كل إناء كان فيه شراب كانَ مِزَاجُها يقول: كان مزاج ما فيها من الشراب كافُورا يعني: في طيب رائحتها كالكافور. وقد قيل: إن الكافور اسم لعين ماء في الجنة فمن قال ذلك, جعل نصب العين على الردّ على الكافور, تبيانا عنه, ومن جعل الكافور صفة للشراب نصبها, أعني العين على الحال, وجعل خبر كان قوله كافُورا وقد يجوز نصب العين من وجه ثالث, وهو نصبها بإعمال يشربون فيها فيكون معنى الكلام: إن الأبرار يشربون عينا يشرب بها عباد الله, من كأس كان مزاجها كافورا. وقد يجوز أيضا نصبها على المدح, فأما عامة أهل التأويل فإنهم قالوا: الكافور صفة للشراب على ما ذكرت. ذكر من قال ذلك:
27659ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: مِزَاجُها كافُورا قال: تمزج.
27660ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كأسٍ كانَ مِزَاجُها كافُورا قال: قوم تمزج لهم بالكافور, وتختم لهم بالمسك.
وقوله: عَيْنا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يقول تعالى ذكره: كان مزاج الكأس التي يشرب بها هؤلاء الأبرار كالكافور في طيب رائحته من عين يشرب بها عباد الله الذين يدخلهم الجنة. والعين على هذا التأويل نصب على الحال من الهاء التي في «مزاجها» ويعني بقوله يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُرْوَى بها ويُنتفع. وقيل: يشرب بها ويشربها بمعنى واحد. وذكر الفرّاء أن بعضهم أنشده:
شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمّ تَرَفّعَتْمَتى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنّ نَئِيجُ
وعنى بقوله: «متى لجج» من, ومثله: إنه يتكلم بكلام حسن, ويتكلم كلاما حسنا.
وقوله: يُفَجّرُونَها تَفْجِيرا يقول تعالى ذكره يفجرون تلك العين التي يشربون بها كيف شاؤوا وحيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم تفجيرا, ويعني بالتفجير: الإسالة والإجراء. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27661ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: يُفَجّرُونَها تَفْجِيرا قال: يدّلونها حيث شاؤوا.
27662ـ حدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: يُفَجّرُونَها تَفْجِيرا قال: يقودونها حيث شاؤوا.
27663ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة يُفَجّرُونَها تَفْجِيرا قال: مستقيد ماؤها لهم يفجرونها حيث شاؤوا.
27664ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان يُفَجّروُنَها تَفْجِيرا قال: يصرفونها حيث شاؤوا.
الآية : 7-9
القول في تأويل قوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَىَ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً }.
يقول تعالى ذكره: إن الأبرار الذين يشربون من كأس كان مزاجها كافورا, برّوا بوفائهم لله بالنذور التي كانوا ينذرونها في طاعة الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27665ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: يُوفُونَ بالنّذْرِ قال: إذا نذروا في حق الله.
27666ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يُوفُونَ بالنّذْرِ قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والزكاة, والحجّ والعمرة, وما افترض عليهم, فسماهم الله بذلك الأبرار, فقال: يُوفُونَ بالنّذْرِ ويَخافُونَ يَوْما كانَ شَرّهُ مُسْتَطِيرا.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة يُوفُونُ بالنّذْرِ قال: بطاعة الله, وبالصلاة, وبالحجّ, وبالعمرة.
27667ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, قوله: يُوفُونَ بالنّذْرِ قال: في غير معصية.
وفي الكلام محذوف اجتزىء بدلالة الكلام عليه منه, وهو كان ذلك. وذلك أن معنى الكلام: إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا, كانوا يوفون بالنذر, فترك ذكر كانوا لدلالة الكلام عليها والنذر: هو كلّ ما أوجبه الإنسان على نفسه من فعل ومنه قول عنترة:
الشّاتِمَيْ عِرْضِي وَلمْ أشْتُمْهُماوالنّاذِرَيْنَ إذا لَمْ ألْقَهُما دَمي
وقوله: وَيخافُونَ يَوْما كانَ شَرّهُ مُسْتَطِيرا يقول تعالى ذكره: ويخافون عقاب الله بتركهم الوفاء بما نذروا لله من برّ في يوم كان شرّه مستطيرا, ممتدّا طويلاً فاشيا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27668ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَيخافُونَ يَوْما كانَ شَرّهُ مُسْتَطِيرا استطاروا الله شرّ ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض.
وأما رجل يقول عليه نذر أن لا يصل رحما, ولا يتصدّق, ولا يصنع خيرا, فإنه لا ينبغي أن يكفر عنه, ويأتي ذلك, ومنه قولهم: استطار الصدع في الزجاجة واستطال: إذا امتدّ, ولا يقال ذلك في الحائط ومنه قول الأعشى:
فَبانَتْ وَقد أثأرَتْ فِي الفُؤَادِ صَدْعا عَلى نَأَيِها مُسْتَطِيرَا
يعني: ممتدّا فاشيا.
وقوله: وَيُطْعمُونَ الطّعامَ على حُبّهِ مِسْكينا يقول تعالى ذكره: كان هؤلاء الأبرار يطعمون الطعام على حبهم إياه, وشهوتهم له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27669ـ حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي, قال: حدثنا فضيل بن عياض, عن منصور, عن مجاهد, في قوله: وَيُطْعمُونَ الطّعامَ عَلى حُبّهِ قال: وهم يشتهونه.
27670ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا أبو العريان, قال: سألت سليمان بن قيس أبا مقاتل بن سليمان, عن قوله: وَيُطْعِمُونَ الطّعامَ عَلى حُبّهِ مِسْكِينا قال: على حبهم للطعام.
وقوله: مِسْكِينا يعني جلّ ثناؤه بقوله مسكينا: ذوي الحاجة الذين قد أذلتهم الحاجة, وَيَتِيما: وهو الطفل الذي قد مات أبوه ولا شيء له وأسِيرا: وهو الحربيّ من أهل دار الحرب يُؤخذ قهرا بالغلبة, أو من أهل القبلة يُؤخذ فيُحبس بحقّ فأثنى الله على هؤلاء الأبرار بإطعامهم هؤلاء تقرّبا بذلك إلى الله وطلب رضاه, ورحمة منهم لهم.
واختلف أهل العلم في الأسير الذي ذكره الله في هذا الموضع, فقال بعضهم: بما:
27671ـ حدثنا به بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَيُطْعِمُونَ الطّعامَ عَلى حُبّهِ مِسْكِينا وَيَتِيما وأسِيرا قال: لقد أمر الله بالأُسراء أن يحسن إليهم, وإن أسراهم يومئذٍ لأهل الشرك.
27672ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وأسِيرا قال: كان أسراهم يومئذٍ المشرك, وأخوك المسلم أحقّ أن تطعمه.
27673ـ قال: ثنا المعتمر, عن أبيه, عن أبي عمرو أن عكرِمة قال في قوله: وَيُطْعِمُونَ الطّعامَ عَلى حُبّهِ مِسْكِينا وَيَتِيما وأسِيرا زعم أنه قال: كان الأسرى في ذلك الزمان المشرك.
27674ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا حماد بن مسعدة, قال: حدثنا أشعث, عن الحسن وَيَتِيما وأسِيرا قال: ما كان أسراهم إلا المشركين.
وقال آخرون: عُني بذلك: المسجون من أهل القبلة. ذكر من قال ذلك:
27675ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: الأسير: المسجون.
27676ـ حدثني أبو شيبة بن أبي شيبة, قال: حدثنا عمر بن حفص, قال: ثني أبي عن حجاج, قال: ثني عمرو بن مرّة, عن سعيد بن جُبير في قوله الله: مِسْكِينا وَيَتِيما وأسيرامن أهل القبلة وغيرهم, فسألت عطاء, فقال مثل ذلك.
حدثني علي بن سهل الرملي, قال: حدثنا يحيى يعني ابن عيسى, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وأسيرا قال: الأسير: هو المحبوس.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله وصف هؤلاء الأبرار بأنهم كانوا في الدنيا يطعمون الأسير, والأسير الذي قد وصفت صفته واسم الأسير قد يشتمل على الفريقين, وقد عمّ الخبر عنهم أنهم يطعمونهم, فالخبر على عمومه حتى يخصه ما يجب التسليم له. وأما قول من قال: لم يكن لهم أسير يومئذٍ إلا أهل الشرك, فإن ذلك وإن كان كذلك, فلم يخصص بالخبر الموفون بالنذر يومئذٍ, وإنما هو خبر من الله عن كلّ من كانت هذه صفته يومئذٍ وبعده إلى يوم القيامة, وكذلك الأسير معنيّ به أسير المشركين والمسلمين يومئذٍ, وبعد ذلك إلى قيام الساعة.
وقوله: إنمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ يقول تعالى ذكره: يقولون: إنما نطعمكم إذا هم أطعموهم لوجه الله, يعنون طلب رضا الله, والقُربة إليه لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورَا يقولون للذين يطعمونهم ذلك الطعام: لا نريد منكم أيها الناس على إطعامناكم ثوابا ولا شكورا.
وفي قوله: وَلا شُكُورا وجهان من المعنى: أحدهما أن يكون جمع الشكر كما الفُلوس جمع فَلس, والكفور جمع كُفْر. والاَخر: أن يكون مصدرا واحدا في معنى جمع, كما يقال: قعد قعودا, وخرج خروجا. وقد:
27677ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن سالم, عن مجاهد إنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورا قال: أما إنهم ما تكلموا به, ولكن علمه الله من قلوبهم, فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك راغب.
27678ـ حدثنا محمد بن سنان القزاز, قال: حدثنا موسى بن إسماعيل, قال: حدثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح, عن سالم, عن سعيد بن جُبير إنّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورا قال: أما والله ما قالوه بألسنتهم, ولكن علمه الله من قلوبهم, فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب.
الآية : 10-11
القول في تأويل قوله تعالى:{إِنّا نَخَافُ مِن رّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللّهُ شَرّ ذَلِكَ الْيَومِ وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً }.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم أنهم يقولون لمن أطعموه من أهل الفاقة والحاجة: ما نطعمكم طعاما نطلب منكم عوضا على إطعامناكم جزاء ولا شكورا, ولكنا نطعمكم رجاء منا أن يؤمننا ربنا من عقوبته في يوم شديد هوله, عظيم أمره, تعبِس فيه الوجوه من شدّة مكارهه, ويطول بلاء أهله, ويشتدّ. والقمطرير: هو الشديد, يقال: هو يوم قمطرير, أو يوم قماطر, ويوم عصيب. وعصبصب, وقد اقمطرّ اليوم يقمطرّ اقمطرارا, وذلك أشدّ الأيام وأطوله في البلاء والشدّة ومنه قول بعضهم.
بني عَمّنا هَلْ تَذْكُرُونَ بَلاءنَاعليكُمْ إذا ما كانَ يَوْمٌ قُماطِرُ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة عن معناه, فقال بعضهم: هو أن يعبِس أحدهم, فيقبض بين عينيه حتى يسيل من بين عينيه مثل القطران. ذكر من قال ذلك:
27679ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا مصعب بن سلام التميمي, عن سعيد, عن عكرِمة, عن ابن عباس, في قوله: عَبُوسا قَمْطَرِيرا قال: يعبس الكافر يومئذٍ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران.
حدثني عليّ بن سهل, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفيان, عن هارون بن عنترة, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله يَوْما عَبُوسا قَمْطَرِيرا قال: القمطرير: المُقَبّض بين عينيه.
حدثني سليمان بن عبد الجبار, قال: حدثنا محمد بن الصلت, قال: حدثنا أبو كدينة, عن قابوس, عن أبيه, قال: سألت ابن عباس, عن قوله قَمْطَرِيرا قال: يُقَبّض ما بين العينين.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن هارون بن عنترة, عن أبيه, عن ابن عباس يَوْما عَبُوسا قَمْطَرِيرا قال: يقبّض ما بين العينين.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله إنّا نَخافُ مِنْ رَبّنا يَوْما عَبُوسا قَمْطَرِيرا قال: يوم يقبّض فيه الرجل ما بين عينيه ووجهه.
27680ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّا نخافُ مِنْ رَبّنا يَوْما عَبُوسا قَمْطَرِيرا عبست فيه الوجوه, وقبضت ما بين أعينها كراهية ذلك اليوم.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة قَمْطَرِيرا قال: تُقْبّض فيه الجباه وقوم يقولون: القمطرير: الشديد.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن هارون بن عنترة, عن أبيه, عن ابن عباس, قال: المقبّض ما بين العينين.
27681ـ قال: ثنا وكيع, عن عمر بن ذرّ, عن مجاهد, قال: هو المقبض ما بين عينيه.
27682ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا المعتمر, عن أبيه, عن أبي عمرو, عن عكرِمة, قال: القمطرير: ما يخرج من جباههم مثل القطران, فيسيل على وجوهم.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: قَمْطَرِيرا قال: يُقْبّض الوجه بالبسور.
وقال آخرون: العبوس: الضيق, والقمطرير: الطويل. ذكر من قال ذلك:
27683ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: عَبُوسا يقول: ضيقا. وقوله: قَمْطَرِيرا يقول: طويلاً.
وقال آخرون: القمطرير: الشديد. ذكر من قال ذلك:
27684ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في: إنّا نَخافُ مِنْ رَبّنا يَوْما عَبُوسا قَمْطَرِيرا قال: العَبوس: الشرّ, والقَمْطَرير: الشديد.
وقوله: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرّ ذلكَ اليَوْمِ وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورا يقول جلّ ثناؤه: فدفع الله عنهم ما كانوا في الدنيا يحذرون من شرّ اليوم العبوس القمطرير بما كانوا في الدنيا يعملون مما يرضى عنهم ربهم, لقّاهم نضرة في وجوههم, وسرورا في قلوبهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27685ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله: وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وسُرُورا قال: نَضْرة في الوجوه, وسرورا في القلوب.
27686ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورا نضرة في وجوههم, وسرورا في قلوبهم.
27687ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورا قال: نعمة وسرورا.
الآية : 12-13
القول في تأويل قوله تعالى:{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنّةً وَحَرِيراً * مّتّكِئِينَ فِيهَا عَلَىَ الأرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً }.
يقول تعالى ذكره: وأثابهم الله بما صبروا في الدنيا على طاعته, والعمل بما يرضيه عنهم جنة وحريرا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27688ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَجَزَاهُمُ بِمَا صَبرُوا جَنّةً وَحَرِيرا يقول: وجزاهم بما صبروا على طاعة الله, وصبروا عن معصيته ومحارمه, جنة وحريرا.
وقوله: مَتّكِئِينَ فِيها عَلى الأرَائِكِ يقول: متكئين في الجنة على السّرر في الحجال, وهي الأرائك واحدتها أريكة. وقد بيّنا ذلك بشواهده, وما فيه من أقوال أهل التأويل فيما مضى بما أغنى عن إعادته, غير أنا نذكر في هذا الموضع من الرواية بعض ما لم نذكره إن شاء الله تعالى قبل.
27689ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: مُتّكِئِينَ فِيها عَلى الأرَائِكِ يعني: الحِجال.
27690ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة مُتّكِئِينَ فِيها عَلى الأرَائِكَ كنا نُحدّث أنها الحجال فيها الأسرّة.
27691ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن الحصين, عن مجاهد مُتّكِئِينَ فِيها عَلى الأرَائِكِ قال: السّرُر في الحجال.
ونصب مُتّكِئِينَ فيها على الحال من الهاء والميم. وقوله لا يَرَوْنَ فِيها شَمْسا وَلا زَمْهَرِيرا يقول تعالى ذكره: لا يرَوْن فيها شمسا فيؤذيهم حرّها, ولا زمهريرا, وهو البرد الشديد, فيؤذيهم بردها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27692ـ حدثنا زياد بن عبد الله الحساني, قال: حدثنا مالك بن سعير, قال: حدثنا الأعمش, عن مجاهد, قال: الزمهرير: البرد المفظع.
27693ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال الله: لا يَرَوْنَ فيها شَمْسا وَلا زَمْهَريرا يعلم أن شدّة الحرّ تؤذي, وشدّة القرّ تؤذي, فوقاهم الله أذاهما.
27694ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا وهب بن جرير, قال: حدثنا شعبة, عن السّدّيّ, عن مرّة بن عبد الله قال في الزمهرير: إنه لون من العذاب, قال الله: لا يَذُوقُون فِيها بَرْدا وَلا شَرَابا.
27695ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الزهريّ, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, قال: «اشْتَكَتِ النّارُ إلى رَبّها, فَقالَتْ رَبّ أكَلَ بَعْضِي بَعْضا, فَنَفّسْنِي, فأذِنَ لَهَا فِي كُلّ عامٍ بنَفَسَينِ فأشَدّ ما تَجِدُونَ مِنَ البَرْدِ مِنَ زَمْهَرِيرِ جَهَنّم وأشَدّ ما تَجِدونَ مِنَ الحَرّ مِنْ حَرّ جَهَنّمَ».
الآية : 14-15
القول في تأويل قوله تعالى:{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مّن فِضّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ }.
يعني تعالى ذكره بقوله: وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وقَرُبت منهم ظلال أشجارها.
ولنصب دانية أوجه: أحدها: العطف به على قوله مُتّكِئيِن فِيها. والثاني: العطف به على موضع قوله لا يَرَوْنَ فِيها شَمْسا لأن موضعه نصب, وذلك أن معناه: متكئين فيها الأرائك, غير رائين فيها شمسا. والثالث: نصبه على المدح, كأنه قيل: متكئين فيها على الأرائك, ودانية بعد عليهم ظلالها, كما يقال: عند فلان جارية جميلة, وشابة بعد طرية, تضمر مع هذه الواو فعلاً ناصبا للشابة, إذا أريد به المدح, ولم يُرَد به النّسَق وأُنّثَتْ دانيةً لأن الظلال جمع. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله بالتذكير: «وَدَانِيا عَلَيْهِمْ ظِلالُها» وإنما ذكر لأنه فعل متقدّم, وهي في قراءة فيما بلغني: «وَدَانٍ» رفع على الاستئناف.
وقوله: وَذُلّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً يقول: وذُلّل لهم اجتناء ثمر شجرها, كيف شاؤوا قعودا وقياما ومتكئين. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27696ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وَذُلّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً قال: إذا قام ارتفعت بقدره, وإن قعد تدلّت حتى ينالها, وإن اضطجع تدلّت حتى ينالها, فذلك تذليلها.
27697ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذلّلَتْ قْطُوفُها تَذْلِيلاً قال: لا يردّ أيديَهم عنها بُعد ولا شوك.
27698ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: قُطُوفُها دَانِيَةٌ قال: الدانية: التي قد دنت عليهم ثمارها.
27699ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان وَذُلّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً قال: يتناوله كيف شاء جالسا ومتكئا.
وقوله: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضّةٍ وأكْوَابٍ كانَتْ قَوَارِيرا يقول تعالى ذكره: ويُطاف على هؤلاء الأبرار بآنية من الأواني التي يشربون فيها شرابهم, هي من فضة كانت قوارير, فجعلها فضة, وهي في صفاء القوارير, فلها بياض الفضة وصفاء الزجاج. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27700ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بآنِيَةٍ مِنْ فِضّةٍ وأكْوابٍ كانَتْ قَوَارِيرَ يقول: آنية من فضة, وصفاؤها وتهيؤها كصفاء القوارير.
27701ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن مجاهد من فضة, قال: فيها رقة القوارير في صفاء الفضة.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: قَوَارِيرَ مِنْ فِضّةٍ قال: صفاء القوارير وهي من فضة.
27702ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بآنِيَةٍ مِنْ فِضّةٍ أي صفاء القوارير في بياض الفضة.
وقوله: وأكْوابٍ يقول: ويُطاف مع الأواني بجرار ضِخام فيها الشراب, وكلّ جرّة ضخمة لا عروة لها فهي كوب, كما:
27703ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد وأكْوَابٍ قال: ليس لها آذان. وقد:
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان بهذا الحديث بهذا الإسناد عن مجاهد, فقال: الأكواب: الأقداح.
وقوله: كانَتْ قَوَارِيرَ يقول: كانت هذه الأواني والأكواب قوارير, فحوّلها الله فضة. وقيل: إنما قيل: ويطاف عليهم بآنية من فضة, ليدلّ بذلك على أن أرض الجنة فضة, لأن كل آنية تُتّخذ, فإنما تُتّخذ من تُرْبة الأرض التي فيها, فدلّ جلّ ثناؤه بوصفة الاَنية متى يطاف بها على أهل الجنة أنها من فضة, ليعلم عباده أن تربة أرض الجنة فضة.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله «قوارير, وسلاسل», فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة غير حمزة: سلاسلاً, وقواريرا قَوارِيرا بإثبات الألف والتنوين وكذلك هي في مصاحفهم وكان حمزة يُسْقط الألِفات من ذلك كله, ولا يجري شيئا منه وكان أبو عمرو يُثبت الألف في الأولى من قوارير, ولا يثبتها في الثانية, وكلّ ذلك عندنا صواب, غير أن الذي ذَكَرت عن أبي عمرو أعجبهما إليّ, وذلك أن الأوّل من القوارير رأس آية, والتوفيق بين ذلك وبين سائر رؤوس آيات السورة أعجب إليّ إذ كان ذلك بإثبات الألفات في أكثرها.
الآية : 16-18
القول في تأويل قوله تعالى:{قَوَارِيرَاْ مِن فِضّةٍ قَدّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمّىَ سَلْسَبِيلاً }.
يقول تعالى ذكره: قَوَارِيرَ في صفاء الصفاء من فضة الفضة من البياض, كما:
27704ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, عن أبي رجاء, قال: قال الحسن, في قوله: كانَتْ قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضّةٍ قال: صفاء القوارير في بياض الفضة.
حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا يحيى بن كثير, قال: حدثنا شعبة, عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله الله: قَوَارِيرَ مِنْ فِضّةٍ قال: بياض الفضة في صفاء القوارير.
27705ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا مروان بن معاوية, قال: أخبرنا ابن أبي خالد, عن أبي صالح, في قوله: كانَتْ قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضّةٍ قال: كان ترابها من فضة.
وقوله: قَوَارِيرَ مِنْ فِضّةٍ قال: صفاء الزجاج في بياض الفضة.
27706ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا سليمان, قال: حدثنا أبو هلال, عن قتادة, في قوله: قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِن فِضّةٍ قال: لو احتاج أهل الباطل أن يعملوا إناء من فضة يرى ما فيه من خلفه, كما يرى ما في القوارير ما قدروا عليه.
27707ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة قَوَارِيرَ مِنْ فِضّةٍ قال: هي من فضة, وصفاؤها: صفاء القوارير في بياض الفضة.
27708ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قَوَارِيرَ مِنْ فِضّة قال: على صفاء القوارير, وبياض الفضة.
وقوله: قَدّرُوها تَقْدِيرا يقول: قدّروا تلك الاَنية التي يُطاف عليهم بها تقديرا على قَدْر رِيّهم لا تزيد ولا تنقص عن ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27709ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله: قدّرُوها تَقْدِيرا قال: قُدّرت لريّ القوم.
27710ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد, في قوله: قَدّرُوها تَقْدِيرَا قال: قدر رِيّهم.
27711ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عمر بن عبيد, عن منصور, عن مجاهد, في قوله: قَوَارِيرَ مِنْ فِضّةٍ قَدّرُوها تَقْدِيرا قال: لا تنقص ولا تفيض.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قَدّرُوها تَقْدِيرا قال: لا تتْرَع فتُهَراق, ولا ينقصون من مائها فتنقص فهي ملأى.
27712ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة قَدّرُوها تَقْدِيرا لريّهم.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قَدّرُوها تَقْدِيرا قدرت على ريّ القوم.
27713ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: مِنْ فِضّةٍ قَدّرُوها تَقْديرا قال: قدّروها لريهم على قدر شربهم أهل الجنة.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد, في قوله قَدّرُوها تَقْديرا قال: ممتلئة لا تُهَراق, وليست بناقصة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: قدّروها على قدر الكفّ. ذكر من قال ذلك:
27714ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: حدثنا أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قَدّرُوها تَقْدِيرا قال: قدرت للكفّ.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله قَدّرُوها تَقْدِيرا, فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار: قَدّرُوها بفتح القاف, بمعنى: قدّرها لهم السّقاة الذين يطوفون بها عليهم. ورُوي عن الشعبيّ وغيره من المتقدمين أنهم قرأوا ذلك بضمّ القاف, بمعنى: قُدّرت عليهم, فلا زيادة فيها ولا نقصان.
والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها فتح القاف, لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله: وَيُسْقَوْنَ فِيها كأسا كانَ مِزَاجُها زَنْجَبِيلاً يقول تعالى ذكره: ويُسْقَى هؤلاء القوم الأبرار في الجنة كأسا, وهي كلّ إناء كان فيه شراب, فإذا كان فارغا من الخمر لم يقل له كأس, وإنما يقال له إناء, كما يقال للطبق الذي تهدي فيه الهدية المِهْدَى مقصورا ما دامت عليه الهدية فإذا فرغ مما عليه كان طبقا أو خِوَانا, ولم يكن مِهْدًى كانَ مِزَاجُها زَنْجَبِيلاً يقول: كان مزاج شراب الكأس التي يُسقون منها زنجبيلاً.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: يمزج لهم شرابهم بالزنجبيل. ذكر من قال ذلك:
27715ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: مِزَاجُها زَنْجَبِيلاً قال: تُمْزَج بالزنجبيل.
27716ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: كانَ مِزَاجُها زَنْجَبِيلاً قال: يأثُرُ لهم ما كانوا يشربون في الدنيا. زاد الحارث في حديثه: فَيُحَبّبُهُ إليهم.
وقال بعضهم: الزنجبيل: اسم للعين التي منها مزاج شراب الأبرار. ذكر من قال ذلك:
27717ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَيُسْقَوْنَ فِيها كأسا كانَ مِزَاجُها زَنْجَبِيلاً عَيْنا فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً رقيقة يشربها المقرّبون صِرْفا, وتمزج لسائرٍ أهل الجنة.
وقوله: عَيْنا فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً يقول تعالى ذكره: عينا في الجنة تسمى سلسبيلاً. قيل: عُنِي بقوله سلسبيلاً: سلسة مُنقادا ماؤها. ذكر من قال ذلك:
27718ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: عَيْنا فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً: عينا سلسة مستقيدا ماؤها.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة تُسَمّى سَلْسَبِيلاً قال: سلسة يصرفونها حيث شاؤوا.
وقال آخرون: عُني بذلك أنها شديدة الجِرْيَةِ. ذكر من قال ذلك:
27719ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد عَيْنا فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً قال: حديدة الجِرْية.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
قال: ثنا أبو أُسامة, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: سلسة الجرية.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد عَيْنا فِيها تُسَمّى سَلْسَبيلاً حديدة الجِرْية.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
واختلف أهل العربية في معنى السلسبيل وفي إعرابه, فقال بعض نحويي البصرة, قال بعضهم: إن سلسبيل صفة للعين بالتسلسل. وقال بعضهم: إنما أراد عينا تسمى سلسبيلاً: أي تسمى من طيبها السلسبيل: أي توصف للناس, كما تقول: الأعوجيّ والأرحبيّ والمهريّ من الإبل, وكما تنسب الخيل إذا وصفت إلى الخيل المعروفة المنسوبة كذلك تنسب العين إلى أنها تسمى, لأن القرآن نزل على كلام العرب, قال: وأنشدني يونس:
صَفْرَاءُ مِنْ نَبْعٍ يُسَمّى سَهْمُهامِنْ طُولِ ما صَرَعَ الصّيُودِ الصّيّبُ
فرفع الصّيّبُ لأنه لم يرد أن يسمى بالصّيب, إنما الصّيب من صفة الاسم والسهم. وقوله: «يسمى سهمها» أي يذكر سهمها. قال: وقال بعضهم: لا, بل هو اسم العين, وهو معرفة, ولكنه لما كان رأس آية, وكان مفتوحا, زيدت فيه الألف, كما قال: كانت قواريرا. وقال بعض نحويي الكوفة: السلسبيل: نعت أراد به سلس في الحلق, فلذلك حَرِيّ أن تسمى بسلاستها.
وقال آخر منهم: ذكروا أن السلسبيل اسم للعين, وذكروا أنه صفة للماء لسلسه وعذوبته قال: ونرى أنه لو كان اسما للعين لكان ترك الإجراء فيه أكثر, ولم نر أحدا ترك إجراءها و هو جائز في العربية, لأن العرب تُجري ما لا يجرى في الشعر, كما قال متمم بن نويرة:
فَمَا وَجْدُ أظْآرٍ ثَلاثٍ رَوَائمٍرأيْنَ مخرّا مِنْ حُوَارٍ ومَصْرَعا
فأجرى روائم, وهي مما لا يُجرَى.
والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله: تُسَمّى سَلْسَبِيلاً صفة للعين, وصفت بالسلاسة في الحلق, وفي حال الجري, وانقيادها لأهل الجنة يصرّفونها حيث شاؤوا, كما قال مجاهد وقتادة. وإنما عنى بقوله تُسَمّى: توصف.
وإنما قلت ذلك أولى بالصواب لإجماع أهل التأويل على أن قوله: سَلْسَبِيلاً صفة لا اسم.
الآية : 19-20
القول في تأويل قوله تعالى:{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مّخَلّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مّنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً }.
يقول تعالى ذكره: ويطوف على هؤلاء الأبرار ولدان, وهم الوصفاء, مخلّدون.
اختلف أهل التأويل في معنى: مُخَلّدُونَ فقال بعضهم: معنى ذلك: أنهم لا يموتون. ذكر من قال ذلك:
27720ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَيَطُوف عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلّدُونَ أي لا يموتون.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, مثله.
وقال آخرون: عنى بذلك وِلْدَانٌ مُخَلّدُونَ: مُسَوّرون.
وقال آخرون: بل عنى به أنهم مقرّطون. وقيل: عنى به أنهم دائم شبابهم, لا يتغيرون عن تلك السنّ.
وذكر عن العرب أنها تقول للرجل إذا كبر وثبت سواد شعره: إنه لمخلّد وكذلك إذا كبر وثبتت أضراسه وأسنانه قيل: إنه لمخلد, يراد به أنه ثابت الحال, وهذا تصحيح لما قال قتادة من أن معناه: لا يموتون, لأنهم إذا ثبتوا على حال واحدة فلم يتغيروا بهرم ولا شيب ولا موت, فهم مخلّدون. وقيل: إن معنى قوله: مُخَلّدُونَ مُسَوّرون بلغة حِمْير وينشد لبعض شعرائهم:
ومُخَلّدَاتٌ باللّجَيْنِ كأنّمَاأعْجازُهُنّ أقاوِزُ الْكُثْبانِ
وقوله: إذَا رأيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤا مَنْثُورا يقول تعالى ذكره: إذا رأيت يا محمد هؤلاء الولدان مجتمعين أو مفترقين, تحسبهم في حُسنهم, ونقاء بياض وجوههم, وكثرتهم, لؤلؤا مبدّدا, أو مجتَمِعا مصبوبا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27721ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة لُؤْلؤا مَنْثُورا قال: من كثرتهم وحُسْنِهِمْ.
27722ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله إذَا رأيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ من حسنهم وكثرتهم لُؤلُؤا مَنْثُورا وقال قتادة عن أبي أيوب, عن عبد الله بن عمرو, قال: ما من أهل الجنة من أحد إلا ويسعى عليه ألف غلام, كلّ غلام على عملٍ ما عليه صاحبه.
27723ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, قال: حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤا مَنْثُورا قال: في كثرة اللؤلؤ وبياض اللؤلؤ.
وقوله: إذَا رأيْتَ ثمّ رأيْتَ نَعِيما يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا نظرت ببصرك يا محمد, ورميت بطرفك فيما أعطيتُ هؤلاء الأبرار في الجنة من الكرامة. وعُني بقوله: ثَمّ الجنة رأيْتَ نَعِيما, وذلك أن أدناهم منزلة من ينظر في مُلكه فيما قيل في مسيرة ألفي عام, يُرى أقصاه, كما يرى أدناه.
وقد اختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله لم يذكر مفعول رأيت الأول, فقال بعض نحويي البصرة: إنما فعل ذلك لأنه يريد رؤية لا تتعدى, كما تقول: ظننت في الدار, أخبر بمكان ظنه, فأخبر بمكان رؤيته. وقال بعض نحويي الكوفة: إنما فعل ذلك لأن معناه: وإذا رأيت ما ثم رأيت نعيما قال: وصلح إضمار ما كما قيل: لقد تقطع بينكم, يريد: ما بينكم قال: ويقال: إذا رأيت ثم يريد: إذا نظرت ثم, أي إذا رميت ببصرك هناك رأيت نعيما.
وقوله: مُلْكا كَبِيرا يقول: ورأيت مع النعيم الذي ترى لهم ثَمّ مُلْكا كبيرا. وقيل: إن ذلك الملك الكبير: تسليم الملائكة عليهم, واستئذانهم عليهم. ذكر من قال ذلك:
27724ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفيان, قال: ثني من سمع مجاهدا يقول: وَإذَا رأيْتَ ثَمّ رأيْتَ نَعِيما وَمُلْكا كَبِيرا قال: تسليم الملائكة.
27725ـ قال: ثنا عبد الرحمن, قال: سمعت سفيان يقول في قوله: مُلْكا كَبِيرا قال: بلغنا أنه تسليم الملائكة.
27726ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعيّ, في قوله: وَإذَا رأيْتَ ثَمّ رأيْتَ نَعِيما وَمُلْكا كَبِيرا قال: فسّرها سفيان قال: تستأذن الملائكة عليهم.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان وَإذَا رأيْتَ ثَمّ رأيْتَ نَعِيما وَمُلْكا كَبِيرا قال استئذان الملائكة عليهم.
الآية : 21
القول في تأويل قوله تعالى:{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلّوَاْ أَسَاوِرَ مِن فِضّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً }.
يقول تعالى ذكره: فوقهم, يعني فوق هؤلاء الأبرار ثياب سُنْدُسٍ. وكان بعض أهل التأويل يتأوّل قوله: عالِيَهُمْ فوق حِجَالهم المثبتة عليهم ثِيابُ سُنْدُسٍ وليس ذلك بالقول المدفوع, لأن ذلك إذا كان فوق حجالٍ هم فيها, فقد علاهم فهو عاليهم.
وقد اختلف أهل القراءة في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة وبعض قرّاء مكة: «عَالِيْهِمْ» بتسكين الياء. وكان عاصم وأبو عمرو وابن كثير يقرءونه بفتح الياء, فمن فتحها جعل قوله عالِيَهُمْ اسما مرافعا للثياب, مثل قول القائل: ظاهرهم ثياب سندس.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وقوله: ثِيابُ سُنْدُسٍ يعني: ثياب ديباج رقيق حسن, والسندس: هو ما رقّ من الديباج.
وقوله: خُضْرٌ اختلف القرّاء في قراءة ذلك, فقرأه أبو جعفر القارىء وأبو عمرو برفع خُضْرٌ على أنها نعت للثياب, وخفض «اسْتَبْرَقٍ» عطفا به على السندس, بمعنى: وثياب إستبرق. وقرأ ذلك عاصم وابن كثير: «خُضْرٍ» خفضا واسْتَبْرَقٌ رفعا, عطفا بالاستبرق على الثياب, بمعنى: عاليهم استبرق, وتصييرا للخضر نعتا للسندس. وقرأ نافع ذلك: خُضْرٌ رفعا على أنها نعت للثياب واسْتَبْرَقٌ رفعا عطفا به على الثياب. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: «خُضْرٍ واسْتَبْرَقٍ» خفضا كلاهما. وقرأ ذلك ابن محيصن بترك إجراء الاستبرق: «واسْتَبْرَقَ» بالفتح بمعنى: وثياب استبرق, وفَتَحَ ذلك لأنه وجّهه إلى أنه اسم أعجميّ. ولكلّ هذه القراءات التي ذكرناها وجه ومذهب, غير الذي سبق ذكرنا عن ابن محيصن, فإنها بعيدة من معروف كلام العرب, وذلك أن الاستبرق نكرة, والعرب تجري الأسماء النكرة وإن كانت أعجمية, والاستبرق: هو ما غَلُظ من الديباج. وقد ذكرنا أقوال أهل التأويل في ذلك فيما مضى قبل, فأغنى ذلك عن إعادته ها هنا.
27727ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: الاستبرق: الديباج الغليظ.
وقوله: وَحُلّوا أساوِرَ مِنْ فِضّةٍ يقول: وحلاهم ربهم أساور, وهي جمع أسورة من فضة.
وقوله: وَسَقاهُمْ رَبّهُمْ شَرَابا طَهُورا يقول تعالى ذكره: وسقى هؤلاء الأبرار ربّهُم شرابا طهورا, ومن طهره أنه لا يصير بولاً نجسا, ولكنه يصير رشحا من أبدانهم كرشح المسك, كالذي:
27728ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن, قالا: حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم التيمي وَسَقاهُمْ رَبّهُمْ شَرَابا طَهُورا قال: عرق يفيض من أعراضهم مثل ريح المسك.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن منصور, عن إبراهيم التيمي, مثله.
27729ـ قال: ثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم التيمي, قال: إن الرجل من أهل الجنة يقسَمُ له شهوة مئة رجل من أهل الدنيا, وأكلهم وهمتهم, فإذا أكل سقي شرابا طهورا, فيصير رشحا يخرج من جلده أطيب ربحا من المسك الأذفر, ثم تعود شهوته.
27730ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: شَرَابا طَهُورا قال: ما ذكر الله من الأشربة.
27731ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن أبان, عن أبي قِلابة: إن أهل الجنة إذا أكلوا وشربوا ما شاءوا دَعَوا بالشراب الطهور فيشربونه, فتطهر بذلك بطونهم ويكون ما أكلوا وشربوا رَشْحا وريحَ مسك, فتضمر لذلك بطونهم.
27732ـ حدثنا عليّ بن سهل, قال: حدثنا حجاج, قال: حدثنا أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية الرياحي, عن أبي هريرة أو غيره «شكّ أبو جعفر الرازي» قال: صعد جبرائيل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة أُسريَ به إلى السماء السابعة, فاستفتَح, فقيل له: من هذا؟ فقال: جبرائيل قيل: ومن معك؟ قال: محمد, قالوا: أَوَ قَدْ أُرسل إليه؟ قال: نعم, قالوا: حياه الله من أخ وخليفة, فنعم الأخ ونعم الخليفة, ونعم المجيءُ جاء قال: فدخل فإذا هو برجل أشمط جالس على كرسيّ عند باب الجنة, وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس, وقوم في ألوانهم شيء, فقام الذين في ألوانهم شيء, فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه, فخرجوا وقد خَلَص من ألوانهم شيء ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه, فخرجوا وقد خَلَصت ألوانهم, فصارت مثل ألوان أصحابهم, فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم, فقال: يا جبريل من هذا الأشمط, ومن هؤلاء البيض الوجوه, ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء, وما هذه الأنهار التي اغتسلوا فيها, فجاءوا وقد صفت ألوانهم؟ قال: هذا أبوك إبراهيم, أوّل من شَمِط على الأرض, وأما هؤلاء البيض الوجوه, فقوم لم يَلْبِسوا إيمانهم بظلم. وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملاً صالحا وآخر سيئا فتابوا, فتاب الله عليهم. وأما الأنهار, فأوّلها رحمة الله, والثاني نعمة الله, والثالث سقاهم ربهم شرابا طهورا.
الآية : 22-24
القول في تأويل قوله تعالى:{إِنّ هَـَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مّشْكُوراً * إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً }.
يقول تعالى ذكره: يقال لهؤلاء الأبرار حينئذ: إن هذا الذي أعطيناكم من الكرامة كان لكم ثوابا على ما كنتم في الدنيا تعملون من الصالحات وكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورا يقول: كان عملكم فيها مشكورا, حمدكم عليه ربكم, ورضيه لكم, فأثابكم بما أثابكم به من الكرامة عليه.
27733ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزَاءً وكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورا غفر لهم الذنب, وشكر لهم الحسن.
27734ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: تلا قتادة وكانَ سَعْيُكُم مَشْكُورا قال: لقد شَكر الله سعيا قليلاً.
وقوله: إنّا نَحْنُ نَزّلْنا عَلَيْكَ القُرآنَ تَنْزِيلاً يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إنا نحن نزّلنا عليك يا محمد هذا القرآن تنزيلاً, ابتلاء منا واختبارا فاصْبِرْ لِحُكُمِ رَبّكَ يقول: اصبر لما امتحنك به ر بك من فرائضه, وتبليغ رسالاته, والقيام بما ألزمك القيام به في تنزيله الذي أوحاه إليك وَلتُطِعْ مِنْهُمْ آثِما أو كَفُورا يقول: ولا تطع في معصية الله من مشركي قومك آثما يريد بركوبه معاصيه, أو كفورا: يعني جحودا لنعمه عنده, وآلائه قِبلَه, فهو يكفر به, ويعبد غيره.
وقيل: إن الذي عني بهذا القول أبو جهل. ذكر من قال ذلك:
27735ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِما أوْ كَفُورا قال: نزلت في عدوّ الله أبي جهل.
27736ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة أنه بلغه أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمدا يصلي لأطأنّ عنقه, فأنزل الله: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِما أوْ كَفُورا.
27737ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِما أوْ كَفُورا قال: الاَثِم: المذنب الظالم والكفور, هذا كله واحد.
وقيل: أوْ كَفُورا والمعنى: ولا كفورا. قال الفرّاء: «أو» ههنا بمنزلة الواو, وفي الجحد والاستفهام والجزاء تكون بمعنى «لا», فهذا من ذلك مع الجحد ومنه قول الشاعر:
لا وَجْدُ ثَكْلَى كما وَجَدْتُ وَلا وَجْدُ عَجُولٍ أضَلّها رُبَعُ
أوْ وَجْدُ شَيْخٍ أضَلّ ناقَتَه ُيَوْمَ تَوَافَى الْحَجِيجُ فانْدَفَعُوا
أراد: ولا وجدُ شيخ, قال: وقد يكون في العربية: لا تطيعنّ منهم من أثم أو كفر, فيكون المعنى في أو قريبا من معنى الواو, كقولك للرجل: لأعطينك سألت أو سكتّ, معناه: لأعطينك على كلّ حال