تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 59 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 59

058

قوله 72- "وقالت طائفة من أهل الكتاب" هم رؤساؤهم وأشرافهم، قالوا للسفلة من قومهم هذه المقالة. ووجه النهار: أوله، وسمي وجهاً لأنه أحسنه قال: وتضيء في وجه النهار منيرة كجمانة البحري سل نظامها وهو منصوب على الظرف، أمروهم بذلك لإدخال الشك على المؤمنين، لكونهم يعتقدون أن أهل الكتاب لديهم علم، فإذا كفروا بعد الإيمان وقع الريب لغيرهم واعتراه الشك وهم لا يعلمون أن الله قد ثبت قلوب المؤمنين ومكن أقدامهم، فلا تزلزلهم أراجيف أعداء الله، ولا تحركهم ريح المعاندين.
قوله 73- "ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم" هذا من كلام اليهود بعضهم لبعض: أي قال ذلك الرؤساء للسفلة لا تصدقوا تصديقاً صحيحاً إلا لمن تبع دينكم من أهل الملة التي أنتم عليها، وأما غيرهم ممن قد أسلم فأظهروا لهم ذلك خداعاً "وجه النهار واكفروا آخره" ليفتتنوا، ويكون قوله "أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم" على هذا متعلقاً بمحذوف: أي فعلتم ذلك لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم: يعني أن ما بكم من الحسد والبغي أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم. وقوله "أو يحاجوكم" معطوف على أن يؤتى: أي لا يؤمنوا إيماناً صحيحاً وتقروا بما في صدوركم إقراراً صادقاً لغير من تبع دينكم، فعلتم ذلك ودبرتموه أن المسلمين يحاجوكم يوم القيامة عند الله بالحق. وقوله "إن الهدى هدى الله" جملة اعتراضية. وقال الأخفش: المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا ان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ولا تصدقوا أن يحاجوكم، فذهب إلى أنه معطوف، وقيل: المراد لا تؤمنوا وجه النهار وتكفروا آخره إلا لمن تبع دينكم: أي لمن دخل في الإسلام وكان من أهل دينكم قبل إسلامه، لأن إسلام من كان منهم هو الذي قتلهم غيظاً وأماتهم حسرة وأسفاً، ويكون قوله "أن يؤتى" على هذا متعلقاً بمحذوف كالأول، وقيل: إن قوله "أن يؤتى" متعلق بقوله "لا تؤمنوا" أي لا تظهروا إيمانكم ب"أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم" أي أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا لأتباع دينكم، وقيل المعنى: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتوه، فتكون على هذا أن وما بعدها في محل رفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره تصدقون بذلك، ويجوز أن تكون في محل نصب على إضمار فعل تقديره تقرون أن يؤتى، وقد قرأ آن يؤتى بالمد ابن كثير وابن محيصن وحميد. وقال الخليل: أن في موضع خفض والخافض محذوف. وقال ابن جريج: المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى، وقيل المعنى: لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من تبع دينكم، لئلا يكون ذلك سبباً لإيمان غيرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال الفراء: يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله "إلا لمن تبع دينكم" ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم "قل إن الهدى هدى الله" أي: إن البيان الحق بيان الله بين أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم على تقدير لا كقوله تعالى "يبين الله لكم أن تضلوا" أي: لئلا تضلوا، وأو في قوله "أو يحاجوكم" بمعنى حتى، وكذلك قال الكسائي، وهي عند الأخفش عاطفة كما تقدم. وقيل: إن هدى الله بدل من الهدى، وأن يؤتى خبر إن على معنى قل: إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. وقد قيل: إن هذه الآية أعظم آي هذه السورة إشكالاً وذلك صحيح. وقرأ الحسن يؤتي بكسر التاء الفوقية. وقرأ سعيد بن جبير إن يؤتى بكسر الهمزة على أنها النافية.
وقوله 74- "يختص برحمته من يشاء" قيل: هي النبوة، وقيل: أعم منها، وهو رد عليهم ودفع لما قالوه ودبروه. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سفيان قال: كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب فهو في النصارى، ويدفع هذا أن كثيراً من خطابات أهل الكتاب المذكورة في هذه السورة لا يصح حملها على النصارى ألبتة، ومن ذلك هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها، فإن الطائفة التي ودت إضلال المسلمين وكذلك الطائفة القائلة "آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار" هي من اليهود خاصة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله "يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون" قال: تشهدون أن نعت نبي الله محمد في كتابكم، ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل النبي الأمي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع مثله. وأخرجا أيضاً عن السدي نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج "وأنتم تشهدون" على أن الدين عند الله الإسلام ليس لله دين غيره. وأخرجا عن الربيع في قوله "لم تلبسون الحق بالباطل" يقول: لم تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره الإسلام "وتكتمون الحق" يقول: تكتمون شأن محمد وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله. واخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشية حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعون عن دينهم، فأنزل الله فيهم "يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل" إلى قوله "والله واسع عليم" وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة من طريق أبي ظبيان عن ابن عباس في قوله "وقالت طائفة" الآية، قال: كانوا يكونون معهم أول النهار ويجالسونهم ويكلمونهم، فإذا أمسوا وحضرت الصلاة كفروا به وتركوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله "ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم" قال: هذا قول بعضهم لبعض. وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله. وأخرج أيضاً عن السدي نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد "أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم" حسداً من يهود أن تكون النبوة في غيرهم، وإرادة أن يتابعوا على دينهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي مالك وسعيد بن جبير "أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم" قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم "إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم" يا أمة محمد "أو يحاجوكم عند ربكم" يقول اليهود: فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة حتى أنزل علينا المن والسلوى، فإن الذي أعطيتكم أفضل فقولوا "قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة "قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم" يقول: لما أنزل الله كتاباً مثل كتابكم وبعث نبياً كنبيكم حسدتموه على ذلك "قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء". وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله. واخرج ابن جرير عن ابن جريج "قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم" يقول: هذا الأمر الذي أنعم الله عليه "أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم" قال: قال بعضهم لبعض لا تخبروهم بما بين الله لكم في كتابه "ليحاجوكم" قال: ليخاصموكم "به عند ربكم" فتكون لهم حجة عليكم "قل إن الفضل بيد الله" قال: الإسلام "يختص برحمته من يشاء" قال: القرآن والإسلام. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير و ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "يختص برحمته من يشاء" قال: النبوة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: رحمته الإسلام يختص بها من يشاء.
هذا شروع في بيان خيانة اليهود في المال بعد بيان خيانتهم في الدين، والجار والمجرور في قوله 75- "ومن أهل الكتاب" في محل رفع على الابتداء على ما مر في قوله "ومن الناس من يقول" وقد تقدم تفسير القنطار. وقوله "تأمنه" هذه قراءة الجمهور. وقرأ ابن وثاب والأشهب العقيلي تيمنه بكسر التاء الفوقية على لغة بكر وتميم، ومثله قراءة من قرأ نستعين بكسر النون. وقرأ نافع والكسائي "يؤده" بكسر الهاء في الدرج. قال أبو عبيد: واتفق أبو عمرو والأعمش وحمزو وعاصم في رواية أبي بكر على إسكان الهاء. قال النحاس: إسكان الهاء لا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين، وبعضهم لا يجيزه ألبتة ويرى أنه غلط من قرأ به، ويوهم أن الجزم يقع على الهاء وأبو عمرو أجل من أن يجوز عليه شيء من هذا والصحيح عنه أنه كان يكسر الهاء. وقال الفراء: مذهب بعض العرب يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها، فيقولون: ضربنه ضرباً شديداً كما يسكنون ميم أنتم وقمتم، وأنشد: لما رأى أن لا دعة ولا شبع مال إلى أرضاه حقف فاضطجع اهـ وقرأ أبو المنذر سلام والزهري يؤده بضم الهاء بغير واو. وقرأ قتادة وحمزة ومجاهد يؤدهو بواو في الإدراج، ومعنى الآية: أن أهل الكتاب فيهم الأمين الذي يؤدي أمانته وإن كانت كثيرة، وفيهم الخائن الذي لا يؤده أمانته وإن كانت حقيرة، ومن كان أميناً في الكثير فهو في القليل أمين بالأولى، ومن كان خائناً في القليل فهو في الكثير خائن بالأولى وقوله "إلا ما دمت عليه قائماً" استثناء مفرغ، أي لا يؤده إليك في حال من الأحوال إلا ما دمت عليه قائماً مطالباً له مضيقاً عليه متقاضياً لرده، والإشارة بقوله: ذلك إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله "لا يؤده". والأميون هم العرب الذين ليسوا أهل كتاب: أي ليس علينا في ظلمهم حرج لمخالفتهم لنا في ديننا، وادعوا لعنهم الله أن ذلك في كتابهم، فرد الله سبحانه عليهم بقوله " ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون * بلى " أي بلى عليهم سبيل لكذبهم واستحلالهم أموال العرب.
فقوله: 76- "بلى" إثبات لما نفوه من السبيل. قال الزجاج: تم الكلام بقوله "بلى" ثم قال "من أوفى بعهده واتقى" وهذه جملة مستأنفة: أي من أوفى بعهده واتقى فليس من الكاذبين. أو فإن الله يحبه، والضمير في قوله "بعهده" راجع إلى من، أو إلى الله تعالى، وعموم المتقين قائم مقام العائد إلى من، أي: فإن الله يحبه.
قوله 77- "إن الذين يشترون بعهد الله" أي: يستبدلون كما تقدم تحقيقه غير مرة. وعهد الله هو ما عاهدوه عليه من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، والأيمان هي التي كانوا يحلفون أنهم يؤمنون به وينصرونه، وسيأتي بيان سبب نزول الآية، "أولئك" أي: الموصوفون بهذه الصفة "لا خلاق لهم في الآخرة" أي: لا نصيب "ولا يكلمهم الله" بشيء أصلاً كما يفيده حذف المتعلق من التعميم، ألا يكلمهم بما يسرهم "ولا ينظر إليهم يوم القيامة" نظر رحمة، بل يسخط عليهم ويعذبهم بذنوبهم كما يفيده قوله "ولهم عذاب أليم". وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله: "ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك" قال: هذا من النصارى "ومنهم من إن تأمنه بدينار" قال: هذا من اليهود "إلا ما دمت عليه قائماً" قال: إلا ما طلبته واتبعته. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله "ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل" قال: قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من مال العرب سبيل. وأخرج ابن جرير عن السدي نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله "ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب أعداء الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن صعصعة أنه سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة، قال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال: نقول ليس علينا في ذلك من بأس، قال: هذا كما قال ابن عباس: "ليس علينا في الأميين سبيل" إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب نفوسهم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "بلى من أوفى بعهده واتقى" يقول: اتقى الشرك "فإن الله يحب المتقين" يقول: الذين يتقون الشرك. وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان. فقال الأشعث بن قيس: في والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني، فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألك بينة؟ قلت: لا، قال لليهودي: احلف، فقلت: يا رسول الله إذن يحلف فيذهب مالي، فأنزل الله "إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً" إلى آخر الآية". وقد روي: أن سبب نزول الآية أن رجلاً كان يحلف بالسوق: لقد أعطى بسلعته ما لم يعط بها. أخرجه البخاري وغيره. وروي أن سبب نزولها مخاصمة كانت بين الأشعث وامرئ القيس ورجل من حضرموت. أخرجه النسائي وغيره.
أي: طائفة من اليهود يلوون، أي يحرفون ويعدلون به عن القصد، وأصل اللي: الميل، يقول: لوى برأسه: إذا أماله. وقرئ: يلوون بالتشديد، ويلوون بقلب الواو همزة، ثم تخفيفها بالحذف، والضمير في قوله 78- "لتحسبوه" يعود إلى ما دل عليه "يلوون" وهو المحرف الذي جاءوا به. قوله "وما هو من الكتاب" جملة حالية، وكذلك قوله "وما هو من عند الله" وكذلك قوله: "وهم يعلمون" أي: أنهم كاذبون مفترون. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله "وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم" قال: هم اليهود، كانوا يزيدون في الكتاب ما لم ينزل الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: يحرفونه.
أي ما كان ينبغي ولا يستقيم لبشر أن يقول هذه المقالة وهو متصف بتلك الصفة. وفيه بيان من الله سبحانه لعباده أن النصارى افتروا على عيسى عليه السلام ما لم يصح عنه، ولا ينبغي أن يقوله. والحكم: الفهم والعلم. قوله 79- "ولكن كونوا" أي: ولكن يقول النبي: كونوا ربانيين، والرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للمبالغة كما يقال لعظيم اللحية لحياني، ولعظيم الجمة جماني، ولغليظ الرقبة رقباني- قيل: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، فكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير الأمور. وقال المبرد: الربانيون أرباب العلم، واحدهم رباني، من قوله ربه يربه فهو بان: إذا دبره وأصلحه، والياء للنسب، فمعنى الرباني: العالم بدين الرب القوي المتمسك بطاعة الله، وقيل: العالم الحكيم. قوله "بما كنتم تعلمون" أي: بسبب كونكم عالمين: أي كونوا ربانيين بهذا السبب، فإن حصول العلم للإنسان والدراسة له يتسبب عنهما الربانية التي هي التعليم للعلم، وقوة التمسك بطاعة الله. وقرأ ابن عباس وأهل الكوفة "بما كنتم تعلمون" بالتشديد. وقرأ أبو عمرو وأهل المدينة بالتخفيف، واختار القراءة الأولى أبو عبيد. قال: لأنها لجمع المعنيين. قال مكي: التشديد أبلغ لأن العالم قد يكون عالماً غير معلم، فالتشديد يدل على العلم والتعليم، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط. واختار القراءة الثانية أبو حاتم. قال أبو عمرو: وتصديقها تدرسون بالتخفيف دون التشديد انتهى. والحاصل أن من قرأ بالتشديد لزمه أن يحمل الرباني على أمر زائد على العلم والتعليم، وهو أن يكون مع ذلك مخلصاً أو حكيماً أو حليماً حتى تظهر السببية، ومن قرأ بالتخفيف جاز له أن يحمل الرباني على العالم الذي يعلم الناس، فيكون المعنى: كونوا معلمين بسبب كونكم علماء وبسبب كونكم تدرسون العلم. وفي هذه الآية أعظم باعث لمن علم على أن يعمل، وإن من أعظم العمل بالعلم تعليمه والإخلاص لله سبحانه.