تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 60 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 60

059

قوله 80- "ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً" بالنصب عطفاً على ثم يقول ولا مزيدة لتأكيد النفي: أي ليس له أن يأمر بعبادة نفسه، ولا يأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً بل ينتهي عنه، ويجوز عطفه على أن يؤتيه، أي: ما كان لبشر أن يأمركم بأن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، وبالنصب قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة، وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف والقطع من الكلام الأول: أي ولا يأمركم الله أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، ويؤيده أن في مصحف ابن مسعود ولن يأمركم. والهمز في قوله "أيأمركم" لإنكار ما نفي من البشر. وقوله "بعد إذ أنتم مسلمون" استدل به من قال إن سبب نزول الآية استئذان من استأذن النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين في أن يسجدوا له. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني، فأنزل الله في ذلك "ما كان لبشر" الآية". وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: "بلغني أن رجلاً قال: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله، فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، فأنزل الله "ما كان لبشر" الآية". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ربانيين" قال: فقهاء علماء. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: حكماء علماء حلماء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: علماء فقهاء. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود قال: حكماء علماء. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي رزين في قوله "وبما كنتم تدرسون" قال: مذاكرة الفقه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله "ولا يأمركم أن تتخذوا" قال: ولا يأمرهم النبي.
قد اختلف في تفسير قوله تعالى 81- "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين" فقال سعيد بن جبير وقتادة وطاوس والحسن والسدي إنه أخذ الله ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضاً بالإيمان، ويأمر بعضهم بعضاً بذلك فهذا معنى النصرة له والإيمان به، وهو ظاهر الآية، فحاصله أن الله أخذ ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر وينصره وقال الكسائي: يجوز أن يكون معنى "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين" بمعنى: وإذ أخذ الله ميثاق الذين مع النبيين، ويؤيده قراءة ابن مسعود وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب وقيل: في الكلام حذف. والمعنى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتعلمن الناس لما جاءكم من كتاب وحكمة ولتأخذن على الناس أن يؤمنوا، ودل على هذا الحذف قوله "وأخذتم على ذلكم إصري" وما في قوله " لما آتيتكم " بمعنى الذي. قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم " فقال: ما بمعنى الذي. قال النحاس: التقدير في قول الخليل الذي آتيتكموه ثم حذفت الهاء لطول الاسم، واللام لام الابتداء، وبهذا قال الأخفش، وتكون ما في محل رفع على الابتداء، وخبرها من كتاب وحكمة. وقوله "ثم جاءكم" وما بعده جملة معطوفة على الصلة، والعائد محذوف أي مصدق به. وقال المبرد والزجاج والكسائي: ما شرطية دخلت عليها لام التحقيق، كما تدخل على إن، و"لتؤمنن به" جواب القسم الذي هو أخذ الميثاق، إذ هو بمنزلة الاستحلاف كما تقول: أخذت ميثاقك لتفعلن كذا، وهو ساد مسد الجزاء. وقال الكسائي: إن الجزاء قوله "فمن تولى". وقال في الكشاف: إن اللام في قوله " لما آتيتكم " لام التوطئة واللام في قوله "لتؤمنن" جواب القسم، وما يحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط، ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط جميعاً، وأن تكون موصولة بمعنى للذي آتيتكموه لتؤمنن به انتهى. وقرأ حمزة لما آتيتكم بكسر اللام وما بمعنى الذي وهي متعلقة بأخذ. وقرأ أهل المدينة "آتيناكم" على التعظيم. وقرأ الباقون "آتيتكم" على التوحيد، وقيل: إن ما في قراءة من قرأ بكسر اللام مصدرية. ومعناه: لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجيء رسول مصدق لما معكم، واللام لام التعليل: أي لأجل ذلك أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتؤمنن به. قوله "أقررتم" هو من الإقرار. والإصر في اللغة: الثقل، سمي العهد إصراً لما فيه من التشديد. والمعنى: وأخذتم على ذلك عهدي. قوله "قالوا أقررنا" جملة استئنافية كأنه قيل: ماذا قالوا عند ذلك؟ فقيل: قالوا: أقررنا، وإنما لم يذكر أحدهم الإصر اكتفاءً بذلك. قوله "قال فاشهدوا" أي قال الله سبحانه فاشهدوا: أي ليشهد بعضهم على بعض "وأنا معكم من الشاهدين" أي: وأنا على إقراركم وشهادة بعضكم على بعض من الشاهدين.
قوله 82- "فمن تولى" أي أعرض عما ذكر بعد ذلك الميثاق "فأولئك هم الفاسقون" أي: الخارجون عن الطاعة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرأون وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لما أتيتكم من كتاب وحكمة ونحن نقرأ "ميثاق النبيين" فقال ابن عباس: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن طاوس في الآية، قال "أخذ الله ميثاق النبيين" أن يصدق بعضهم بعضاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين" قال: هي خطأ من الكتاب، وهي في قراءة ابن مسعود ميثاق الذين أوتوا الكتاب. وأخرج ابن جرير عن علي قال: لم يبعث الله نبياً آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه، ثم تلا "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين" الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في الآية نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عنه في قوله "إصري" قال: عهدي. وأخرج ابن جرير عن علي في قوله "قال فاشهدوا" يقول: فاشهدوا على أممكم بذلك "وأنا معكم من الشاهدين" عليكم وعليهم "فمن تولى" عنك يا محمد بعد هذا العهد من جميع الأمم "فأولئك هم الفاسقون" هم العاصون في الكفر.
قوله 83- "أفغير" عطف على مقدر، أي: أتتولون فتبغون غير دين الله، وتقديم المفعول لأنه المقصود بالإنكار. وقرأ أبو عمرو وحده يبغون بالتحتية وترجعون بالفوقية، قال: لأن الأول خاص والثاني عام، ففرق بينهما لافتراقهما في المعنى. وقرأ حفص بالتحتية في الموضعين. وقرأ الباقون بالفوقية فيهما وانتصب طوعاً وكرهاً على الحال، أي طائعين ومكرهين. والطوع: الانقياد والاتباع بسهولة، والكره: ما فيه مشقة وهو من أسلم مخافة القتل وإسلامه استسلام منه.