تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 99 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 99

098

قوله 129- "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء" أخبر سبحانه بنفي استطاعتهم للعدل بين النساء على الوجه الذي لا ميل فيه ألبتة لما جبلت عليه الطباع البشرية من ميل النفس إلى هذه دون هذه، وزيادة هذه في المحبة ونقصان هذه، وذلك بحكم الخلقة بحيث لا يملكون قلوبهم ولا يستطيعون توقيف أنفسهم على التسوية، ولهذا كان يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك" ولما كانوا لا يستطيعون ذلك ولو حرصوا عليه وبالغوا فيه نهاهم عز وجل عن أن يميلوا كل الميل، لأن ترك ذلك وتجنب الجور كل الجور في وسعهم وداخل تحت طاقتهم فلا يجوز لهم أن يميلوا عن إحداهن إلى الأخرى كل الميل حتى يذروا الأخرى كالمعلقة التي ليست ذات زوج ولا مطلقة تشبيهاً بالشيء الذي هو معلق غير مستقر على شيء، وفي قراءة أبي فتذروها كالمسجونة قوله "وإن تصلحوا" أي: ما أفسدتم من الأمور التي تركتم ما يجب عليكم فيها من عشرة النساء والعدل بينهن "وتتقوا" كل الميل الذي نهيتم عنه "فإن الله كان غفوراً رحيماً" لا يؤاخذكم بما فرط منكم.
قوله 130- "وإن يتفرقا" أي: لم يتصالحا بل فارق كل واحد منهما صاحبه "يغن الله كلاً" منهما: أي يجعله مستغنياً عن الآخر بأن يهيئ للرجل امرأة توافقه وتقر بها عينه، وللمرأة رجلاً تغتبط بصحبته ويرزقهما "من سعته" رزقاً يغنيهما به عن الحاجة "وكان الله واسعاً حكيماً" واسع الفضل صادرة أفعاله على جهة الإحكام والإتقان. وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله لا تطلقني وأجعل يومي لعائشة، ففعل ونزلت هذه الآية "وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً" الآية، قال ابن عباس: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. وأخرج أبو داود والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة أن سبب نزول الآية هو قصة سودة المذكورة. وأخرج البخاري وغيره عنها في الآية قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول: أجعلك من شأني في حل فنزلت هذه الآية. وأخرج الشافعي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي عن سعيد بن المسيب أن ابنة محمد بن سلمة كانت عند رافع بن خديج، فكره منها أمراً، إما كبراً أو غيره، فأراد طلاقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك فاصطلحا، وجرت السنة بذلك ونزل القرآن "وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً" الآية. وأخرج أبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة وابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن علي أنه سئل عن هذه الآية فقال: هو رجل عنده امرأتان، فتكون إحداهما قد عجزت أو تكون دميمة فيريد فراقها، فتصالحه على أن يكون عندها ليلة، وعند الأخرى ليالي ولا يفارقها، فما طابت به نفسها فلا بأس به، فإن رجعت سوى بينهما. وقد ورد عن جماعة من الصحابة نحو هذا، وثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت: "لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله "وأحضرت الأنفس الشح" قال: هواه في الشيء يحرص عليه، وفي قوله "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء" قال: في الحب والجماع، وفي قوله "فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة" قال: لا هي أيمة ولا ذات زوج. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن المنذر عن عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" وإسناده صحيح. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأهل السنن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط". قال الترمذي: إنما أسنده همام. ورواه هشام الدستوائي عن قتادة قال: كان يقال، ولا يعرف هذا الحديث مرفوعاً إلا من حديث همام. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود في قوله "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء" قال: الجماع. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال: الحب.
قوله 131- "ولله ما في السموات وما في الأرض" هذه الجملة مستأنفة لتقرير كمال سعته سبحانه وشمول قدرته "ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم" أمرناهم فيما أنزلناه عليهم من الكتب، واللام في الكتاب للجنس "وإياكم" عطف على الموصول "أن اتقوا الله" أي: أمرناهم وأمرناكم بالتقوى وهو في موضع نصب بقوله "وصينا" أو منصوب بنزع الخافض. قال الأخفش: أي بأن اتقوا الله، ويجوز أن تكون أن مفسرة، لأن التوصية في معنى القول. قوله "وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض" معطوف على قوله "أن اتقوا" أي: وصيناهم وإياكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم إن تكفروا، وفائدة هذا التكرير التأكيد ليتنبه العباد على سعة ملكه وينظروا في ذلك ويعلموا أنه غني عن خلقه.
132- "ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً".
133- "إن يشأ يذهبكم" أي يفنكم "ويأت بآخرين" أي: بقوم آخرين غيركم، وهو كقوله تعالى "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".
134- "من كان يريد ثواب الدنيا" وهو من يطلب بعمله شيئاً من أمور الدنيا كالمجاهد يطلب الغنيمة دون الأجر "فعند الله ثواب الدنيا والآخرة" فما باله يقتصر على أدنى الثوابين وأحقر الأجرين، وهلا طلب بعمله ما عند الله سبحانه، وهو ثواب الدنيا والآخرة فيحرزها جميعاً ويفوز بهما وظاهر الآية العموم. وقال ابن جرير الطبري: إنها خاصة بالمشركين والمنافقين "وكان الله سميعاً بصيراً" يسمع ما يقولونه ويبصر ما يفعلونه. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "وكان الله غنياً" عن خلقه "حميداً" قال: مستحمداً إليهم. وأخرجا أيضاً عن علي مثله. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله "وكفى بالله وكيلاً" قال: حفيظاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه في قوله "إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين" قال: قادر والله ربنا على ذلك أن يهلك من خلقه ما شاء ويأتي بآخرين من بعدهم.