تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 100 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 100

099

قوله 135- "قوامين" صيغة مبالغة: أي ليتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم وهو الإقرار بما عليكم من الحقوق، وأما شهادته على والديه فبأن يشهد عليهما بحق للغير، وكذلك الشهادة على الأقربين وذكر الأبوين لوجوب برهما وكونهما أحب الخلق إليه، ثم ذكر الأقربين، لأنهم مظنة المودة والتعصب، فإذا شهدوا على هؤلاء بما عليهم فالأجنبي من الناس أحرى أن يشهدوا عليه. وقد قيل: إن معنى الشهادة على النفس أن يشهد بحق على من يخشى لحوق ضرر منه على نفسه وهو بعيد. وقوله "شهداء لله" خبر بعد خبر لكان، أو حال ولم ينصرف لأن فيه ألف التأنيث. وقال ابن عطية: الحال فيه ضعيفة في المعنى لأنها تحصص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط. وقوله "لله" أي: لمرضاته وثوابه. وقوله "ولو على أنفسكم" متعلق بشهداء، هذا المعنى الظاهر من الآية، وقيل معنى "شهداء لله" بالوحدانية فيتعلق قوله "ولو على أنفسكم" بقوامين، والأول أولى. قوله "إن يكن غنياً أو فقيراً" اسم كان مقدر: أي إن يكن المشهود عليه غنياً فلا يراعى لأجل غناه استجلاباً لنفعه وإشفاقاً عليه فيترك الشهادة عليه، أو فقيراً فلا يراعى لأجل فقره رحمة له وإشفاقاً عليه فيترك الشهادة عليه، وإنما قال "فالله أولى بهما" ولم يقل به مع أن التخيير إنما يدل على الحصول لواحد، لأن المعنى فالله أولى بكل واحد منهما وقال الأخفش: تكون أو بمعنى الواو، وقيل: إنه يجوز ذلك مع تقدم ذكرهما كما في قوله "وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس". وقد تقدم في مثل هذا ما هو أبسط مما هنا. وقرأ أبي "فالله أولى بهم". وقرأ ابن مسعود إن يكن غني أو فقير على أن كان تامة "فلا تتبعوا الهوى" نهاهم عن اتباع الهوى. وقوله "أن تعدلوا" في موضع نصب، وهو إما من العدل كأنه قال: فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس، أو من العدول كأنه قال: فلا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق، أو كراهة أن تعدلوا عن الحق. قوله: "وإن تلووا" من اللي، يقال: لويت فلاناً حقه: إذا دفعته عنه. والمراد لي الشهادة ميلاً إلى المشهود عليه. وقرأ ابن عامر والكوفيون " وإن تلووا " من الولاية: أي وإن تلوا الشهادة وتتركوا ما يجب عليكم من تأديتها على وجه الحق. وقد قيل إن هذه القراءة تفيد معنيين: الولاية، والإعراض. والقراءة الأولى تفيد معنى واحداً وهو الإعراض. وزعم بعض النحويين أن القراءة الثانية غلط ولحن، لأنه لا معنى للولاية ها هنا. قال النحاس وغيره: وليس يلزم هذا، ولكن يكون تلوا بمعنى تلووا، وذلك أن أصله تلووا فاستثقلت الضمة على الواو بعدها واو أخرى فألقيت الحركة على اللام وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين، وذكر الزجاج نحوه. قوله "أو تعرضوا" أي: عن تأدية الشهادة من الأصل "فإن الله كان بما تعملون خبيراً" أي: بما تعملون من اللي والإعراض أو من كل عمل، وفي هذا وعيد شديد لمن لم يأت بالشهادة كما تجب عليه وقد روي أن هذه الآية تعم القاضي والشهود، أما الشهود فظاهر، وأما القاضي لذلك بأن يعرض عن أحد الخصمين أو يلوي عن الكلام معه، وقيل: هي خاصة بالشهود.
قوله: 136- "يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله" أي: اثبتوا على إيمانكم ودوموا عليه، والخطاب هنا للمؤمنين جميعاً " والكتاب الذي نزل على رسوله " هو القرآن، واللام للعهد "والكتاب الذي أنزل من قبل" هو كل كتاب، واللام للجنس. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر "نزل" و"أنزل" بالضم. وقرأ الباقون بالفتح فيهما وقيل: إن الآية نزلت في المنافقين. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله. وقيل: نزلت في المشركين، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى آمنوا بالله وهما ضعيفان. قوله: "ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر" أي بشيء من ذلك "فقد ضل" عن القصد "ضلالاً بعيداً" وذكر الرسول فيما سبق لذكر الكتاب الذي أنزل عليه، وذكر الرسل هنا لذكر الكتب جملة فناسبه ذكر الرسل جملة، وتقديم الملائكة على الرسل لأنه الوسائط بين الله وبين رسله. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين" الآية، قال: أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم لا يحابون غنياً لغناه ولا يرحمون مسكيناً لمسكنته، وفي قوله "فلا تتبعوا الهوى" فتذروا الحق فتجوروا "وإن تلووا" يعني بألسنتكم بالشهادة "أو تعرضوا" عنها. وأخرج أحمد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عنه في معنى الآية قال: الرجلان يجلسان عند القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه لأحد الرجلين على الآخر. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانت البقرة أول سورة نزلت ثم أردفها سورة النساء، قال: فكان الرجل تكون عنده الشهادة قبل ابن عمه أو ذوي رحمه فيلوي بها لسانه أو يكتمها مما يرى من عسرته حتى يوسر فيقضي حين يوسر، فنزلت "كونوا قوامين بالقسط" الآية. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً "وإن تلووا أو تعرضوا" يقول: تلوي لسانك بغير الحق وهي اللجلجة فلا تقيم الشهادة على وجهها. والإعراض: الترك. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس "أن عبد الله بن سلام وأسداً وأسيداً ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلاماً ابن أخت عبد الله بن سلام وسلمة ابن أخيه ويامين بن يامين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله، فقالوا: لا نفعل، فنزلت "يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله" الآية". وينبغي النظر في صحة هذا، فالثعلبي رحمه الله ليس من رجال الرواية ولا يفرق بين الصحيح والموضوع. وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في هذه الآية قال: يعني بذلك أهل الكتاب، كان الله قد أخذ ميثاقهم في التوراة والإنجيل، وأقروا على أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث الله رسوله دعاهم إلى أن يؤمنوا بمحمد والقرآن وذكرهم الذي أخذ عليهم من الميثاق، فمنهم من صدق النبي صلى الله عليه وسلم واتبعه، ومنهم من كفر.
137- " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا " أخبر الله سبحانه عن هذه الطائفة التي آمنت ثم كفرت ثم آمنت ثم كفرت ثم ازدادت كفراً بعد ذلك كله أنه لم يكن الله سبحانه ليغفر لهم ذنوبهم ولا ليهديهم سبيلاً يتوصلون به إلى الحق ويسلكونه إلى الخير لأنه يبعد منهم كل البعد أن يخلصوا لله ويؤمنوا إيماناً صحيحاً فإن هذا الاضطراب منهم تارة يدعون أنهم مؤمنون وتارة يمرقون من الإيمان ويرجعون إلى ما هو دأبهم وشأنهم من الكفر المستمر والجحود الدائم يدل أبلغ دلالة على أنهم متلاعبون بالدين ليست لهم نية صحيحة ولا قصد خالص. قيل: المراد بهؤلاء اليهود فإنهم آمنوا بموسى ثم كفروا بعزير، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: آمنوا بموسى، ثم كفروا به بعبادتهم العجل، ثم آمنوا به عند عوده إليهم، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والمراد بالآية أنهم ازدادوا كفراً واستمروا على ذلك كما هو الظاهر من حالهم وإلا فالكافر إذا آمن وأخلص إيمانه وأقلع عن الكفر فقد هداه الله السبيل الموجب للمغفرة، والإسلام يجب ما قبله، ولكن لما كان هذا مستبعداً منهم جداً كان غفران ذنوبهم وهدايتهم إلى سبيل الحق مستبعداً.
قوله 138- "بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً" إطلاق البشارة على ما هو شر خالص لهم تهكم بهم وقد مر تحقيقه.
وقوله 139- "الذين يتخذون الكافرين أولياء" وصف للمنافقين أو منصوب على الذم: أي يجعلون الكفار أولياء لهم يوالونهم على كفرهم ويمالئونهم على ضلالهم. وقوله: "من دون المؤمنين" في محل نصب على الحال: أي يوالون الكافرين متجاوزين ولاية المؤمنين "أيبتغون عندهم العزة" هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والجملة معترضة. قوله "فإن العزة لله جميعاً" هذه الجملة تعليل لما تقدم من توبيخهم بابتغاء العزة عند الكافرين وجميع أنواع العزة وأفرادها مختص بالله سبحانه، وما كان منها مع غيره فهو من فيضه وتفضله كما في قوله "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين" والعزة: الغلبة، يقال عزه يعزه عزاً: إذا غلبه.
140- "وقد نزل عليكم في الكتاب" الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن ومنافق، لأن من أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل ما أنزله الله، وقيل: إنه خطاب للمنافقين فقط كما يفيده التشديد والتوبيخ. وقرأ عاصم ويعقوب "نزل" بفتح النون والزاي وتشديدها، وفاعله ضمير راجع إلى اسم الله تعالى في قوله "فإن العزة لله جميعاً" وقرأ حميد بتخفيف الزاي مفتوحة مع فتح النون، وقرأ الباقون بضم النون مع كسر الزاي مشددة على البناء للمجهول. وقوله "أن إذا سمعتم آيات الله" في محل نصب على القراءة الأولى على أنه مفعول نزل. وفي محل رفع على القراءة الثانية على أنه فاعل، وفي محل رفع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله على القراءة الثالثة. وأن هي المخففة من الثقيلة، والتقدير أنه إذا سمعتم آيات الله. والكتاب: هو القرآن. وقوله "يكفر بها ويستهزأ بها" حالان: أي إذا سمعتم الكفر والاتسهزاء بآيات الله فأوقع السماع على الآيات والمراد سماع الكفر والاستهزاء. وقوله "فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره" أي: أنزل عليكم في الكتاب أنكم عند هذا السماع للكفر والاستهزاء بآيات الله لا تقعدوا معهم ما داموا كذلك حتى يخوضوا في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بها. والذي أنزل الله عليهم الكتاب هو قوله تعالى "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره" وقد كان جماعة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود حال سخريتهم بالقرآن واستهزائهم به فنهوا عن ذلك. وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية، كما يقع كثيراً من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة ولم يبق في أيديهم سوى قال إمام مذهبنا كذا، وقال فلان من أتباعه بكذا، وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه ولم يرفعوا إلى ما قاله رأساً ولا بالوا به بالة وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع وخطب شنيع وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع، بل بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه الفائل، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل، مقدماً على الله وعلى كتابه وعلى رسوله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما صنعت هذه المذاهب بأهلها والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم، فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم كما أوضحنا ذلك في رسالتنا المسماة بـ[القول المفيد في حكم التقليد] وفي مؤلفنا المسمى بـ[أدب الطلب ومنتهى الأرب] اللهم انفعنا بما علمتنا واجعلنا من المقتدين بالكتاب والسنة وباعد بيننا وبين آراء الرجال المبنية على شفا جرف هار، يا مجيب السائلين. قوله "إنكم إذا مثلهم" تعليل للنهي: أي إنكم إن فعلتم ذلك ولم تنتهوا فأنتم مثلهم في الكفر. قيل: وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر كما في قول القائل: وكل قرين بالمقارن يقتدي وهذه الآية محكمة عند جميع أهل العلم إلا ما يروى عن الكلبي فإنه قال: هي منسوخة بقوله تعالى "وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء" وهو مردود فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها. قوله "إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً" هذا تعليل لكونهم مثلهم في الكفر، قيل: وهم القاعدون والمقعود إليهم عند من جعل الخطاب موجهاً إلى المنافقين.