تفسير الطبري تفسير الصفحة 101 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 101
102
100
 الآية : 141
القول في تأويل قوله تعالى: {الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللّهِ قَالُوَاْ أَلَمْ نَكُنْ مّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوَاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ} الّذينَ ينتظرون أيها المؤمنون بكم. {فإنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّهِ} يعني: فإن فتح الله عليكم فتحا من عدوّكم, فأفاء عليكم فيئا من المغانم. {قَالُو} لكم {ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} نجاهد عدوّكم, ونغزوهم معكم, فأعطونا نصيبا من الغنيمة, فإنا قد شهدنا القتال معكم. {وَإنْ كانَ للكافرينَ نَصيبٌ} يعني: وإن كان لأعدائكم من الكافرين حظّ منكم بإصابتهم منكم. {قالُوا ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} يعني: قال هؤلاء المنافقون للكافرين: {ألَمْ نسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ}: ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين, ونمنعكم منهم بتخذيلنا إياهم, حتى امتنعوا منكم فانصرفوا. {فاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ} يعني: فالله يحكم بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة, فيفصل بينكم بالقضاء الفاصل بإدخال أهل الإيمان جنته وأهل النفاق مع أوليائهم من الكفار نارَه. {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيل} يعني: حجة يوم القيامة, وذلك وعد من الله المؤمنين أنه لن يدخل المنافقين مدخلهم من الجنة ولا المؤمنين مدخل المنافقين, فيكون بذلك للكافرين على المؤمنين حجة, بأن يقولوا لهم: أن ادخلوا مدخلهم, ها أنتم كنتم في الدنيا أعداءنا, وكان المنافقون أولياءنا, وقد اجتمعتم في النار فيجمع بينكم وبين أوليائنا, فأين الذين كنتم تزعمون أنكم تقاتلوننا من أجله في الدنيا؟ فذلك هو السبيل الذي وعد الله المؤمنين أن لا يجعلها عليهم للكافرين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
8516ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: {فإنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّهِ} قال: المنافقون يتربصون بالمسلمين, فإن كان لكم فتح قال: إن أصاب المسلمون من عدوّهم غنيمة, قال المنافقون: ألم نكن معكم؟ قد كنا معكم فأعطونا غنيمة مثل ما تأخذون! وإن كان للكافرين نصيب يصيبونه من المسلمين, قال المنافقون للكافرين: ألم نستحوذ عليكم, ونمنعكم من المؤمنين؟ قد كنا نثبطهم عنكم!.
واختلف أهل التأويل في تأول قوله: {ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} فقال بعضهم: معناه: ألم نغلب عليكم. ذكر من قال ذلك:
8517ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ في قوله: {ألَمْ نَسْتْحْوِذْ عَلَيْكُمْ} قال: نغلب عليكم.
وقال آخرون: معنى ذلك: ألم نبين لكم أنّا معكم على ما أنتم عليه. ذكر من قال ذلك:
8518ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: {ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} ألم نبين لكم أنّا معكم على ما أنتم عليه.
قال أبو جعفر: وهذان القولان متقاربا المعنى, وذلك أن من تأوّله بمعنى: ألم نبين لكم إنما أراد إن شاء الله ألم نغلب عليكم بما كان منا من البيان لكم أنّا معكم. وأصل الاستحواذ في كلام العرب فيما بلغنا الغلبة, ومنه قول الله جلّ ثناؤه: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشّيْطانُ فَأنْساهُمْ ذِكْرَ اللّهِ} بمعنى غلب عليهم, يقال منه: حاذ عليه, واستحاذ يحيذ ويستحيذ, وأحاذ يحيذ. ومن لغة من قال حاذ, قول العجاج في صفة ثور وكلب:
يَحُـوذُهُـنّ وَلَـهُ حُـوذِيّ
وقد أنشد بعضهم:
يَحُـوزهُـنّ وَلَـهُ حُـوزِي
وهما متقاربا المعنى. ومن لغة من قال أحاذ, قول لبيد في صفة عَيْر وأُتُن:
إذَا اجْتَمَعْتْ وأحوذَ جانِبَيْهاوأوْرَدَها على عُوجٍ طِوَالِ
يعني بقوله: وأحوذ جانبيها: غلبها وقهرها حتى حاذ كلا جانبيه فلم يشذّ منها شيء. وكان القياس في قوله: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشّيْطانُ} أن يأتي استحاذ عليهم, لأن الواو إذا كانت عين الفعل وكانت متحركة بالفتح وما قبلها ساكن, جعلت العرب حركتها في فاء الفعل قبلها, وحوّلوها ألفا متبعة حركة ما قبلها, كقولهم: استحال هذا الشيء عما كان عليه من حال يحول, واستنار فلان بنور الله من النور, واستعاذ بالله من عاذ يعوذ. وربما تركوا ذلك على أصله, كما قال لبيد: «وأحوذ», ولم يقل: «وأحاذ», وبهذه اللغة جاء القرآن في قوله: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشّيْطانُ}.
وأما قوله: {فاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيل} فلا خلاف بينهم في أن معناه: ولن يجعل الله للكافرين يومئذٍ على المؤمنين سبيلاً. ذكر الخبر عمن قال ذلك:
8519ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن الأعمش, عن ذرّ, عن يُشَيْع الحضرميّ, قال: كنت عند عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه, فقال رجل: يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيل} وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون؟ قال له عليّ: ادنه! ثم قال: {فاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيل} يوم القيامة.
حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, أخبرنا الثوريّ, عن الأعمش, عن ذرّ, عن يُسَيْع الكندي في قوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيل} قال: جاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب, فقال: كيف هذه الاَية: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيل}؟ فقال عليّ: ادنه! {فاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ} يوم القيامة {للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيل}.
حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن ذرّ, عن بُسَيْع الحضرميّ, عن عليّ بنحوه.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا غندر, عن شعبة, قال: سمعت سليمان يحدّث عن ذرّ, عن رجل, عن عليّ رضي الله عنه أنه قال في هذه الاَية: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيل} قال: في الاَخرة.
8520ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن السديّ, عن أبي مالك: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيل} يوم القيامة.
8521ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراسانيّ, عن ابن عباس: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيل} قال: ذاك يوم القيامة.
وأما السبيل في هذا الموضع فالحجة. كما:
8522ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ في قوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيل} قال: حجة.
الآية : 142
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوَاْ إِلَى الصّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىَ يُرَآءُونَ النّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاّ قَلِيلاً }..
قد دللنا فيما مضى قبل على معنى خداع المنافق ربه ووجه خداع الله إياهم, بما أغني عن إعادته في هذا الموضع, مع اختلاف المختلفين في ذلك.
فتأويل ذلك: إن المنافقين يخادعون الله باحرازهم بنفاقهم دماءهم وأموالهم, والله خادعهم بما حكم فيهم من منع دمائهم بما أظهروا بألسنتهم من الإيمان, مع علمه بباطن ضمائرهم, واعتقادهم الكفر, استدراجا منه لهم في الدنيا حتى يلقوه في الاَخرة, فيوردهم بما استنبطنوا من الكفر نار جهنم. كما:
8523ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {إنّ المُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ} قال: يعطيهم يوم القيامة نورا يمشون به مع المسلمين كما كانوا معهم في الدنيا, ثم يسلبهم ذلك النور فيطفئه, فيقومون في ظلمتهم ويضرب بينهم بالسور.
8524ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, قال: قال ابن جريج: {إنّ المُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ} قال: نزلت في عبد الله بن أبيّ, وأبي عامر بن النعمان, وفي المنافقين¹ يخادعون الله وهو خادعهم, قال: مثل قوله في البقرة: {يُخادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَما يُخادِعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ}. قال: وأما قوله: {وَهُوَ خادِعُهُمْ} فيقول: في النور الذي يعطي المنافقون مع المؤمنين, فيعطون النور, فإذا بلغوا السور سلب, وما ذكرا لله من قوله: {انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} قال: قوله: {وَهُوَ خادِعُهُمْ}.
8525ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن سفيان بن حسين, عن الحسن, أنه كان إذا قرأ: {إنّ المُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ} قال: يُلْقَى على كلّ مؤمن ومنافق نور يمشون به, حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفيء نور المنافقين, ومضي المؤمنين بنورهم, فينادونهم: {انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}... إلى قوله: {وَلَكِنّكُمْ فَتَنْتُمْ أنْفُسَكُمْ} قال الحسن: فتلك خديعة الله إياهم.
وأما قوله: {وَإذَا قامُوا إلى الصّلاةِ قامُوا كُسَالى يُرَاءُونَ النّاسَ} فإنه يعني: أن المنافقين لا يعملون شيئا من الأعمال التي فرضها الله على المؤمنين على وجه التقرب بها إلى الله, لأنهم غير موقنين بمعاد ولا ثواب ولا عقاب, وإنما يعملون ما عملوا من الأعمال الظاهرة بقاء على أنفسهم وحذارا من المؤمنين عليها أن يقتلوا أو يسلبوا أموالهم, فهم إذا قاموا إلى الصلاة التي هي من الفرائض الظاهرة, قاموا كسالى إليها, رياءً للمؤمنين, ليحسبوهم منهم وليسوا منهم¹ لأنهم غير معتقدي فرضها ووجوبها عليهم, فهم في قيامهم إليها كسالي. كما:
8526ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَإذَا قامُوا إلى الصّلاةِ قامُوا كُسَالى} قال: والله لولا الناس ما صلى المنافق ولا يصلي إلا رياء وسمعة.
8527ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {وَإذَا قامُوا إلى الصّلاةِ قامُوا كُسَالى يُرَاءونَ النّاسَ} قال: هم المنافقون, لولا الرياء ما صلوا.
وأما قوله: {وَلا يَذْكُرونَ اللّهَ إلاّ قَلِيل} فلعلّ قائلاً أن يقول: وهل من ذكر الله شيء قليل؟ قيل له: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت, إنما معناه: ولا يذكرون الله إلا ذكرا رياء, ليدفعوا به عن أنفسهم القتل والسباء وسلب الأموال, لا ذكر موقن مصدّق بتوحيد الله مخلص له الربوبية, فلذلك سماه الله قليلاً, لأنه غير مقصود به الله ولا مُبْتَغَي به التقرّب إلى الله, ولا مرادا به ثواب الله, وما عنده فهو وإن كثر من وجه نَصَب عامله, وذاكره في معنى السراب الذي له ظاهر بغير حقيقة ماء.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
8528ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن أبي الأشهب, قال: قرأ الحسن: {وَلا يَذْكُرونَ اللّهَ إلاّ قَلِيل} قال: إنما قلّ لأنه كان لغير الله.
8529ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَلا يَذْكُرونَ اللّهَ إلاّ قَلِيل} قال: إنما قلّ ذكر المنافق لأن الله لم يقبله, وكلّ ما ردّ الله قليل وكلّ ما قبل الله كثير.
الآية : 143
القول في تأويل قوله تعالى: {مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَىَ هَـَؤُلآءِ وَلاَ إِلَى هَـَؤُلآءِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {مُذَبْذَبِينَ}: مردّدين, وأصل التذبذب: التحرّك والاضطراب, كما قال, النابغة:
ألَمْ تَرَ أنْ اللّهَ أعْطَاكَ سُورَةًترَى كُلّ مَلْكٍ دُوَنها يَتَذبْذَبُ
وإنا عنى بذلك: أن المنافقين متحيرون في دينهم, لا يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحةٍ فهم لامع المؤمنين على بصيرة, ولا مع المشركين على جهالة, ولكنهم حيارى بين ذلك, فمثلهم المثل الذي ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي:
8530ـ حدثنا به محمد بن المثنى, قال: حدثنا عبد الوهبا, قال: حدثنا عبيد الله عن نافع, عن ابن عمر, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, قال: «مَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَله الشّاةِ العائِرةِ بَيَنَ الغَنَمَيْنِ, تَعِيرُ إلى هَذِهِ مَرّةً وَإلى هَذِهِ مَرّةً, لا تَدْرِي أيّتَهُما تَتْبَعُ».
وحدثنا به محمد بن المثنى مرّة أخرى عن عبد الوهاب, فوقفه على ابن عمر ولم يرفعه, قال: حدثنا عبد الوهاب مرْتين كذلك.
ثني عمران بن بكار, قال: حدثنا أبو روح, قال: حدثنا ابن عباس, قال: حدثنا عبيد الله بن عمر, عن نافع, عن ابن عمر, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, مثله.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
8531ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {مُذَبْذَبِينَ بينَ ذَلِكَ لا إلى هَؤلاءِ وَلا إلى هَؤُلاءِ} يقول: ليسوا بمشركين فيظهروا الشرك, وليسوا بمؤمنين.
8532ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {مُذَبْذَبينَ بينَ ذَلِكَ لا إلى هَؤُلاءِ وَلا إلى هَؤُلاءِ} يقول: ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرّحين بالشرك. قال: وذكر لنا أن نبيّ الله عليه الصلاة والسلام كان يضرب مثلاً للمؤمن والمنافق والكافر, كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر, فوقع المؤمن فقطع, ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن, ناداه الكافر: أن هلمّ إليّ فإني أخشى عليك! وناداه المؤمن: أن هلمّ إليّ فإن عندي وعندي! يحصي له ما عنده. فما زال المنافق يتردّد بينهما حتى أتي عليه الماء فغرّقه, وإن المنافق لم يزل في شكّ وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك. قال: وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «مَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَلِ ثاغِيَةٍ بينَ غَنَمَيْنِ رأتْ غَنَما عَلى نَشَزٍ, فَأتَتْها فَلَمْ تُعْرَفْ, ثمّ رأتْ غَنما على نَشَزٍ فَأتَتْها وَشامّتْها فَلَمْ تُعْرَفْ».
8533ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {مُذَبْذَبِينَ} قال: المنافقون.
8534ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {مُذَبْذَبينَ بينَ ذَلِكَ لا إلى هَؤُلاءِ وَلا إلى هُؤلاءِ} يقول: لا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, ولا إلى هؤلاء اليهود.
8535ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قوله: {مُذَبْذَبِينَ بينَ ذَلِكَ} قال: لم يخلصوا الإيمان فيكونوا مع المؤمنين, وليسوا مع أهل الشرك.
8536ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {مذَبْذَبِينَ بينَ ذَلكَ}: بين الإسلام والكفر {لا إلى هَؤُلاءِ وَلا إلى هَؤلاءِ}.
وأما قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيل} فإنه يعني: من يخذ له الله عن طريق الرشاد وذلك هو الإلام الذي دعا الله إليه عباده, يقول: من يخذ له الله عنه فلم يوفقه له, فلن تجد له يا محمد سبيلاً: يعني طريقا يسلكه إلى الحقّ غيره. وأيّ سبيل يكون له إلى الحقّ غير الإسلام؟ وقد أخبر الله جل ثناؤه: أنه من يتبع غيره دينا فلن يُقبل منه, ومن أضله الله عنه فقد غوى, فلا هادي له غيره.
الآية : 144
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مّبِيناً }..
وهذا نهي من الله عباده المؤمنين أن يتخلقوا بأخلاق المنافقين الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين, فيكونوا مثلهم في ركوب ما نهاهم عنه من موالاة أعدائه. يقول لهم جلّ ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله, لا توالوا الكفار فتوازروهم من دون أهل ملتكم ودينكم من المؤمنين, فتكونوا كمن أوجب له النار من المنافقين. ثم قال جلّ ثناؤه متوعدا من اتخذ منهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين إن هو لم يرتدع عن موالاته وينجر عن مخالته أن يلحقه بأهل ولايتهم من المنافقين الذين أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتبشيرهم بأن لهم عذابا أليما: أتريدون أيها المتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين, ممن قد آمن بي وبرسولي أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا, يقول: حجة باتخاذكم الكافرين أولياء من دون المؤمنين, فتستوجبوا منه ما استوجبه أهل النفاق الذين وصف لكم صفتهم وأخبركم بمحلهم عنده {مُبِين} يعني: عن صحتها وحقيتها, يقول: لا تعرضوا لغضب الله بإيجابكم الحجة على أنفسكم في تقدمكم على ما نهاكم ربكم من موالاة أعدائه وأهل الكفر به.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
8537ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أتُرِيدُونَ أنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطانا مُبِين} قال: إن لله السلطان على خلقه, ولكنه يقول عذرا مبين} قال: إن لله السلطان على خلقه, ولكنه يقول عذرا مبينا.
8538ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا قبيصة بن عقبة, قال: حدثنا سفيان, عن رجل, عن عكرمة, قال: ما كان في القرآن من سلطان فهو حجة.
8539ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {سُلْطانا مُبِين} قال: حجة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
الآية : 145
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {إنّ المُنافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنع النّارِ}: إن المنافقين في الطبق الأسفل من أطباق جهنم. وكل طبق من أطباق جهنم درّك, وفيه لغتان: درَك بتسكينها, فمن فتح الراء جمعه في القلة أدراك, وإن شاء جمعه في الكثرة الدروك, ومن سكن الراء قال: ثلاثة أدرُك, وللكثير: الدروك. وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: «فِي الدّرَكِ» بفتح الراء. وقرأته عامة قرّاء الكوفة بتسكين الراء. وهما قراءتان معروفتان, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, لاتفاق معنى ذلك واستفاضة القراءة بكلّ واحدة منهما في قراءة الإسلام. غيرأني رأيت أهل العلم بالعربية يذكرون أن فتح الراء منه في العرب أشهر من تسكينها, وحكموا سماعا منهم: أعطني دَرَكا أصل به حبلي, وذلك إذا سأل ما يصل به حبله الذي قد عجز عن بلوغ الركيّة.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
8540ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن سلمة بن كهيل, عن خيثمة, عن عبد الله: {إنّ المُنافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ} قال: في توابيت من حديد مبهمة عليهم.
حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا وهب بن جرير, عن شعبة, عن سلمة, عن خيثمة, عن عبد الله قال: إنّ المنافقين في توابيت من حديد مقفلة عليهم في النار.
8541ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيـى بن يمان, عن سفيان, عن عاصم, عن ذكوان, عن أبي هريرة: {إنّ المنافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ} قال: في توابيت تُرْتجُ عليهم.
8542ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {إنّ المُنافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ} يعني: في أسفل النار.
8543ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال لي عبد الله بن كثير, قوله: {فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ} قال: سمعنا أن جهنم أدْراك, منازل.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن سلمة بن كهيل, عن خيثمة, عن عبد الله: {إنّ المُنافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ} قال: توابيت من نار تطبق عليهم.
وأما قوله: {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِير} فإنه يعني: ولن تجد لهؤلاء المنافقين يا محمد من الله إذا جعلهم في الدّرك الأسفل من النار ناصرا ينصرهم منه, فينقذهم من عذابه, ويدفع عنهم أليم عقابه.
الآية : 146
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للّهِ فَأُوْلَـَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً }..
وهذا استثناء من الله جل ثناؤه, استثنى التائبين من نفاقهم إذا أصلحوا وأخلصوا الدين لله وحده وتبرّءوا من الاَلهة والأنداد, وصدّقوا رسوله, أن يكونوا مع المصرّين على نفاقهم, حتى يوفيهم مناياهم فِي الاَخرة, وأن يدخلوا مداخلهم من جهنم. بل وعدهم جلّ ثناؤه أن يُحلهم مع المؤمنين محلّ الكرامة, ويسكنهم معهم مساكنهم في الجنة, ووعدهم من الجزاء على توبتهم الجزيل من العطاء, فقال: وَسَوْفَ يُؤْتِي اللّهُ المُؤمِنِينَ أجْرا عَظِيم}.
فتأويل الاَية: {إلاّ الّذِينَ تَابُو} أي راجعوا الحقّ, وأبوا إلا الإقرار بوحدانية الله وتصديق رسوله وما جاء به من عند ربه, من نفاقهم. {وأَصْلَحُو}: يعني وأصلحوا أعمالهم, فعملوا بما أمرهم الله به وأدّوا فرائضه, وانتهوا عما نهاهم عنه وانزجروا عن معاصيه. {واعْتَصمُوا بالله} يقول: وتمسكوا بعهد الله. وقد دللنا فيما مضى قبل, على أن الاعتصام: التمسك والتعلق, فالاعتصام بالله: التمسك بعهده وميثاقه الذي عهد في كتابه إلى خلقه من طاعته وترك معصيته. {وأخْلَصوا دِينَهُمْ لِلّهِ} يقول: وأخلصوا طاعتهم وأعمالهم التي يعملونها لله, فأرادوه بها, ولم يعملوها رئاء الناس ولا على شكّ منهم في دينهم وامتراء منهم, في أن الله محصٍ عليهم ما عملوا, فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته¹ ولكنهم عملوها على يقين منهم في ثواب المحسن على إحسانه وجزاء المسيء على إساءته, أو يتفضل عليه ربه فيعفو, متقرّبين بها إلى الله مريدين بها وجه الله¹ فذلك معنى إخلاصهم لله دينهم. ثم قال جلّ ثناؤه: {فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ} يقول: فهؤلاء الذين وصف صفتهم من المنافقين بعد توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم بالله وإخلاصهم له مع المؤمنين في الجنة, لا مع المنافقين الذي ماتوا على نفاقهم, الذي أوعدهم الدّرْكَ الأسفل من النار. ثم قال: {وَسَوْفَ يُؤْتِي اللّهُ المُؤْمِنِينَ أجْرا عَظِيم} يقول: وسوف يعطي الله هؤلاء الذين هذه صفتهم على توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم بالله وإخلاصهم دينهم له على إيمانهم, ثوابا عظيما, وذلك درجات في الجنة, كما أعطى الذين ماتوا على النفاق منازل في النار, وهي السفلى منها¹ لأن الله جلّ ثناؤه وعد عباده المؤمنين أن يؤتيهم على إيمانهم ذلك, كما أوعد المنافقين على نفاقهم ما ذكر في كتابه. وهذا القول, هو معنى قول حذيفة بن اليمان الذي:
8544ـ حدثنا به ابن حميد وابن وكيع, قالا: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم, قال حذيفة: ليدخلنّ الجنة قوم كانوا منافقين! فقال عبد الله: وما علمك بذلك؟ فغضب حذيفة, ثم قام فتنحّى. فلما تفرّقوا مرّ به علقمة فدعاه, فقال: أما إنّ صاحبك يعلم الذي قلت! ثم قرأ {إلاّ الّذِينَ تابُوا وأصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا باللّهِ وأخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤتِي اللّهُ المُؤمِنِينَ أجْرا عَظِيم}.
الآية : 147
القول في تأويل قوله تعالى: {مّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {ما يَفْعَلُ اللّهُ بَعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وآمَنْتُمْ}: ما يصنع الله أيها المنافقون بعذابكم, إن أنتم تبتم إلى الله ورجعتم إلى الحقّ الواجب لله عليكم, فشكرتموه على ما أنعم عليكم من نعمه في أنفسكم وأهاليكم وأولادكم, بالإنابة إلى توحيده والاعتصام به, وإخلاصكم أعمالكم لوجهه, وترك رياء الناس بها, وآمنتم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم فصدّقتموه وأقررتم بما جاءكم به من عنده فعملتم به. يقول: لا حاجة بالله أن يجعلكم في الدرك الأسفل من النار إن أنتم أنبتم إلى طاعته وراجعتم العمل بما أمركم به وترك ما نهاكم عنه¹ لأنه لا يجتلب بعذابكم إلى نفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرّا, وإنما عقوبته من عاقب من خلقه جزاء منه له على جراءته عليه وعلى خلافه أمره ونهيه وكفرانه شكر نعمه عليه. فإن أنتم شكرتم له على نعمة وأطعتموه في أمره ونهيه, فلا حاجة به إلى تعذيبكم, بل يشكر لكم ما يكون منكم من طاعة له وشكر, بمجازاتكم على ذلك بما تقصر عنه أمانيكم فلم تبلغه آمالكم. {وكَانَ اللّهَ شَاكِر} لكم ولعباده على طاعتهم إياه باجزاله لهم الثواب عليها, وإعظامه لهم العوض منها. {عَلِيم} بما تعملون أيها المنافقون وغيركم من خير وشرّ وصالح وطالح, محصٍ ذلك كله عليكم محيط بجميعه, حتى يجازيكم جزاءكم يوم القيامة, المحسن بإحسانه والمسيء باساءته. وقد:
8545ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {ما يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وآمَنْتُمْ وكانَ اللّهُ شاكِرا عَلِيم} قال: إن الله جلّ ثناؤه لا يعذّب شاكرا ولا مؤمنا