تفسير الطبري تفسير الصفحة 111 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 111
112
110
 الآية : 18
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنّصَارَىَ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }..
وهذا خبر من الله جلّ وعزّ عن قوم من الـيهود والنصارى أنهم قالوا هذا القول. وقد ذكر عن ابن عبـاس تسمية الذين قالوا ذلك من الـيهود.
9143ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـي زيد بن ثابت, قال: ثنـي سعيد بن جبـير, أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: أتـى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء وبحريّ بن عمرو, وشأس بن عديّ, فكلـموه, فكلّـمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلـى الله وحذّرهم نقمته, فقالوا: ما تـخوّفنا يا مـحمد, نـحن والله أبناء الله وأحبـاؤه كقول النصارى, فأنزل الله جلّ وعزّ فـيهم: وَقَالَتِ الـيَهُودُ وَالنّصَارَى نَـحْنُ أبْناءُ اللّه وأحِبّـاؤُهُ... إلـى آخر الاَية. وكان السديّ يقول فـي ذلك بـما:
9144ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وَقالَتِ الـيَهُودُ والنّصَارَى نَـحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحبّـاؤُهُ أما أبناء الله فإنهم قالوا: إن الله أوحى إلـى إسرائيـل أن ولدا من ولدك أدخـلهم النار فـيكونون فـيها أربعين يوما حتـى تطهرهم وتأكل خطاياهم, ثم ينادي مناد: أن أخرجوا كلّ مختون من ولد إسرائيـل, فأُخْرجهم. فذلك قوله: لَنْ تَـمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُوداتٍ. وأما النصارى, فإن فريقا منهم قال للـمسيح: ابن الله.
والعرب قد تـخرج الـخبر إذا افتـخرت مُخْرج الـخبر عن الـجماعة, وإن كان ما افتـخرت به من فعل واحد منهم, فتقول: نـحن الأجواد الكرام, وإنـما الـجواد فـيهم واحد منهم وغير الـمتكلـم الفـاعل ذلك, كما قال جرير:
نَدسْنا أبـا مَندوسة القَـيْنَ بـالقَنَاوَما رَدَمٌ من جارِ بَـيْبَةَ ناقعُ
فقال: «ندسنا», وإنـما النادس: رجل من قوم جرير غيره, فأخرج الـخبر مخرج الـخبر عن جماعة هو أحدهم. فكذا أخبر الله عزّ ذكره عن النصارى أنها قالت ذلك علـى هذا الوجه إن شاء الله. وقوله: وأحِبّـاؤُهُ وهو جمع حبـيب, يقول الله لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الكذبة الـمفترين علـى ربهم فَلِـمَ يُعَذّبُكُمْ رَبّكُمْ؟ يقول: فلأيّ شيء يعذّبكم ربكم بذنوبكم إن كان الأمر كما زعمتـم أنكم أبناؤه وأحبـاؤه, فإن الـحبـيب لا يعذّب حبـيبه, وأنتـم مقرّون أنه معذّبكم. وذلك أن الـيهود قالت: إن الله معذّبنا أربعين يوما عدد الأيام التـي عبدنا فـيه العجل, ثم يخرجنا جميعا منها فقال الله لـمـحمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم: إن كنتـم كما تقولون أبناءُ الله وأحبـاؤه, فلـم يعذّبكم بذنوبكم؟ يُعلـمهم عزّ ذكره أنهم أهل فِرية وكذب علـى الله جلّ وعزّ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: بَلْ أنْتُـمْ بَشَرٌ مِـمّنْ خَـلَقَ يَغْفِرُ لِـمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يشاءُ.
يقول جلّ ثناؤه لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم: لـيس الأمر كما زعمتـم أنكم أبناء الله وأحبـاؤه بل أنتـم بشر مـمن خـلق, يقول: خـلق من بنـي آدم, خـلقكم الله مثل سائر بنـي آدم, إن أحسنتـم جُوزيتـم بإحسانكم كما سائر بنـي آدم مَـجْزِيّون بإحسانهم, وإن أسأتـم جوزيتـم بإساءتكم كما غيركم مـجزىّ بها, لـيس لكم عند الله إلا ما لغيركم من خـلقه, فإنه يغفر لـمن يشاء من أهل الإيـمان به ذنوبه, فـيصفح عنه بفضله, ويسترها علـيه برحمته, فلايعاقبه بها. وقد بـينا معنى الـمغفرة فـي موضع غير هذا بشواهده, فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع. وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ يقول: ويعدل علـى من يشاء من خـلقه, فـيعاقبه علـى ذنوبه, ويفضحه بها علـى رءوس الأشهاد, فلا يسترها علـيه, وإنـما هذا من الله عزّ وجلّ وعيد لهؤلاء الـيهود والنصارى, الـمتكلـين علـى منازل سلفهم الـخيار عند الله, الذين فضلهم الله بطاعتهم إياه, واجتنابهم معصيته, لـمسارعتهم إلـى رضاه, واصطبـارهم علـى ما نابهم فـيه. يقول لهم: لا تغتروا بـمكان أولئك منـي, ومنازلهم عندي, فإنهم إنـما نالوا منـي بـالطاعة لـي, وإيثار رضاي علـى مـحابهم, لا بـالأمانـي, فجِدّوا فـي طاعتـي, وانتهوا إلـى أمري, وانزجروا عما نهيتهم عنه, فإنـي إنـما أغفر ذنوب من أشاء أن أغفر ذنوبه من أهل طاعتـي, وأعذّب من أشاء تعذيبه من أهل معصيتـي, لا لـمن قرُبت زلفة آبـائه منـي, وهو لـي عدوّ ولأمري ونهيـي مخالف. وكان السديّ يقول فـي ذلك بـما:
9145ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: قوله: يَغْفِرُ لِـمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ يقول: يهدي منكم من يشاء فـي الدنـيا فـيغفر له, ويـميت من يشاء منكم علـى كفره فـيعذّبه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ولِلّهِ مُلْكُ السّمَواتِ والأرْضه وَما بَـيْنَهُما وإلَـيْهِ الـمَصِيرُ.
يقول: لله تدبـير ما فـي السموات وما فـي الأرض وما بـينهما, وتصريفه, وبـيده أمره, وله ملكه, يصرّفه كيف يشاء ويدبره كيف أحبه, لا شريك له فـي شيء منه ولا لأحد معه فـيه ملك, فـاعلـموا أيها القائلون: نـحن أبناء الله وأحبـاؤه, أنه إن عذّبكم بذنوبكم, لـم يكن لكم منه مانع ولا لكم عنه دافع لأنه لا نسب بـين أحد وبـينه فـيحابـيَه لسبب ذلك, ولا لأحد فـي شيء ومرجعه. فـاتقوا أيها الـمفترون عقابه إياكم علـى ذنوبكم بعد مرجعكم إلـيه, ولا تغترّوا بـالأمانـي وفضائل الاَبـاء والأسلاف.
الآية : 19
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ عَلَىَ فَتْرَةٍ مّنَ الرّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }..
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: يا أهْلَ الكِتابِ الـيهود الذين كانوا بـين ظهرانـيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزلت هذه الاَية. وذلك أنهم أو بعضهم فـيـما ذُكِر لـما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى الايـمان به وبـما جاءهم به من عند الله, قالوا: ما بعث الله من نبـيّ بعد موسى, ولا أنزل بعد التوراة كتابـا.
9146ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثـين مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, قال: ثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال قال معاذ بن جبل وسعد بن عبـادة وعقبة بن وهب للـيهود: يا معشر الـيهود, اتقوا الله, فوالله إنكم لتعلـمون أنه رسول الله, لقد كنتـم تذكرونه لنا قبل مبعثه, وتصفونه لنا بصفته. فقال رابع بن حَرْملة وهب بن يهوذا: أما قلنا هذا لكم وما أنزل الله من كتاب بعد موسى, ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده. فأنزل الله عزّ وجلّ فـي (ذلك من) قولهما: يا أهْلَ الكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَـيّنُ لَكُمْ علـى فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ أنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنّ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ويعنـي بقوله جلّ ثناؤه: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا: قد جاءكم مـحمد صلى الله عليه وسلم رسولنا, يُبَـيّنُ لَكُمْ يقول: يعرّفكم الـحقّ, ويوضح لكم أعلام الهدى, ويرشدكم إلـى دين الله الـمرتضى. كما:
9147ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَـينُ لَكُمْ علـى فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ وهو مـحمد صلى الله عليه وسلم, جاء بـالفرقان الذي فرق الله به بـين الـحقّ والبـاطل, فـيه بـيان الله ونوره وهداه, وعصمة لـمن أخذ به.
عَلَـى فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ يقول: علـى انقطاع من الرسل. والفّترة فـي هذا الـموضع: الانقطاع, يقول: قد جاءكم رسولنا يبـين لكم الـحقّ والهدى علـى انقطاع من الرسل. والفترة: الفَعْلة, من قول القائل: فَتَر هذا الأمر يَفْتُر فتورا, وذلك إذا هدأ وسكن, وكذلك الفَترة فـي هذا الـموضع معناها: السكون, يراد به سكون مـجِيـيء الرسُل, وذلك انقطاعها.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي قدر مدة تلك الفترة, فـاختُلف فـي الرواية فـي ذلك عن قتادة. فروى معمر عنه, ما:
9148ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: علـى فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ قال: كان بـين عيسى ومـحمد صلـى الله علـيهما وسلـم خمسمائة وستون سنة. وروى سعيد بن أبـي عَرُوبة عنه, ما:
9149ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كانت الفترة بـين عيسى ومـحمد صلى الله عليه وسلم, ذكر لنا أنها كانت ستـمائة سنة, أو ما شاء من ذلك الله أعلـم.
9150ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن أصحابه, قوله: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَـينُ لَكُمْ علـى فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ قال: كان بـين عيسى ومـحمد صلـى الله علـيهما وسلـم خمسمائة سنة وأربعون سنة. قال معمر: قال قتادة: خمسمائة سنة وستون سنة. وقال آخرون بـما:
9151ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: علـى فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ قال: كانت الفترة بـين عيسى ومـحمد صلـى الله علـيهما وسلـم أربعمائة سنة وبضعا وثلاثـين سنة.
ويعين بقوله: أنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ: أن لا تقولوا, وكي لا تقولوا, كما قال جلّ ثناؤه: يُبّـينُ اللّهُ لكُمْ أنْ تَضِلّوا بـمعنى: أن لا تضلوا, وكي لا تضلوا. فمعنى الكلام: قد جاءكم رسولنا يبـين لكم علـى فترة من الرسل, كي لا تقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير. يُعلـمهم عزّ ذكره أنه قد قطع عذرهم برسوله صلى الله عليه وسلم, وأبلغ إلـيهم فـي الـحجة. ويعنـي بـالبشير: الـمبشر من أطاع الله وآمن به وبرسوله وعمل بـما آتاه من عند الله بعظيـم ثوابه فـي آخرته, وبـالنذير الـمنذر من عصاه وكذّب رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل بغير ما أتاه من عند الله من أمره ونهيه بـما لا قِبَل له به من ألـيـم عقابه فـي معاده وشديد عذابه فـي قـيامته.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
يقول جلّ ثناؤه لهؤلاء الـيهود الذين وصفنا صفتهم: قد أعذرنا إلـيكم, واحتـججنا علـيكم برسولنا مـحمد صلى الله عليه وسلم إلـيكم, وأرسلناه إلـيكم, لـيبـين لكم ما أشكل علـيكم من أمر دينكم, كيلا تقولوا لـم يأتنا من عندك رسول يبـين لنا ما نـحن علـيه من الضلالة, فقد جاءكم من عندي رسول, يبشر من آمن بـي وعمل بـما أمرتُهُ, وانتهى عما نهيته عنه, ويُنذر من عصانـي وخالف أمري, وأنا القادر علـى كلّ شيء, أقدر علـى عقاب من عصانـي وثواب من أطاعنـي, فـاتقوا عقابـي علـى معصيتكم إياي وتكذيبكم رسولـي, واطلبوا ثوابـي علـى طاعتكم إياي, وتصديقكم بشيري ونذيري, فإنـي أنا الذي لا يعجزه شيء أراده ولا يفوته شيء طلبه.
الآية : 20
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مّلُوكاً وَآتَاكُمْ مّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن الْعَالَمِينَ }..
وهذا أيضا من الله تعريف لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم قديـم بتـمادي هؤلاء الـيهود فـي الغيّ وبعدهم عن الـحقّ وسوء اختبـارهم لأنفسهم وشدّة خلافهم لأنبـيائهم وبطء إنابتهم إلـى الرشاد, مع كثرة نعم الله عندهم وتتابع أياديه وآلائه علـيه, مسلـيا بذلك نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم عما يحلّ به من علاجهم وينزل به من مقاساتهم فـي ذات الله. يقول الله له صلى الله عليه وسلم: لا تأس علـى علـى ما أصابك منهم, فإن الذهاب عن الله والبعد من الـحقّ وما فـيه لهم الـحظّ فـي الدنـيا والاَخرة من عاداتهم وعادات أسلافهم وأوائلهم, وتعزّ بـما لاقـى منهم أخوك موسى صلى الله عليه وسلم, واذكر إذ قال موسى لهم: يا قَوْم اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ يقول: اذكروا أياديَ الله عندكم وآلاءه قِبَلكم. كما:
9152ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن الزبـير, عن ابن عيـينة: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ قال: أيادي الله عندكم وأيامه.
9153ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ يقول: عافـية الله.
وإنـما أخترنا ما قلنا, لأن الله لـم يخصص من النعم شيئا, بل عمّ ذلك بذكر النعم, فذلك علـى العافـية وغيرها, إذ كانت العافـية أحد معانـي النعم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إذْ جَعَلَ فِـيكُمْ أنْبِـياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه, أن موسى ذكّر قومه من بنـي إسرائيـل بأيام الله عندهم وبآلائه قِبَلهم, فحرّضهم بذلك علـى اتبـاع أمر الله فـي قتال الـجبـارين, فقال لهم: اذكروا نعمة الله علـيكم أنْ فَضّلَكم بأن جعل فـيكم أنبـياء يأتونكم بوحيه ويخبرونكم بآياته الغيب, ولـم يعط ذلك غيركم فـي زمانكم هذا. فقـيـل إن الأنبـياء الذين ذكرهم موسى أنهم جُعِلوا فـيهم هم الذين اختارهم موسى, إذ صار إلـى الـجبل وهم السبعون الذين ذكرهم الله, فقال: واخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِـمِيقاتِنا.
وجَعَلَكُمْ مُلُوكا سخر لكم من غيركم خدّ ما يخدمونكم. وقـيـل: إنـما قال ذلك لهم موسى, لأنه لـم يكن فـي ذلك الزمان أحد سواهم يخدمه أحد من بنـي آدم. ذكر من قال ذلك:
9154ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَإذْ قال مُوسَى لقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ جَعَلَ فِـيكُم أنْبِـياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا قال: كنا نـحدّث أنهم أوّل من سخر لهم الـخدم من بنـي آدم وملكوا.
وقال آخرون: كلّ من ملك بـيتا وخادما وامرأة, فهو مَلِك كائنا من كان من الناس. ذكر من قال ذلك:
9155ـ حدثنا يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا أبو هانىء, أنه سمع أبـا عبد الرحمن الـحبلـي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل, فقال: ألسنا من فقراء الـمهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إلـيها؟ نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنـياء. فقال: إن لـي خادما. قال: فأنت من الـملوك.
9156ـ حدثنا الزبـير بن بكار, قال: حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض, قال: سمعت زيد بن أسلـم, يقول: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاٍ فلا أعلـم إلاّ أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كانَ لَهُ بَـيْتٌ وَخادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ».
9157ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا العلاء بن عبد الـجبـار, عن حماد بن سلـمة, عن حميد, عن الـحسن, أنه تلا هذه الاَية: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا فقال: وهل الـملكِ إلاّ مركب وخادم ودار؟
فقال قائلو هذه الـمقالة: إنـما قال لهم موسى ذلك, لأنهم كانوا يـملكون الدور والـخدم, ولهم نساء وأزواج. ذكر من قال ذلك:
9158ـ حدثنا سفـيان بن وكيع وابن حميد, قالا: حدثنا جرير, عن منصور, قال: أراه عن الـحكم: وَجَعَلَكمْ مُلُوكا قال: كانت بنو إسرائيـل إذا كان للرجل منهم بـيت وامرأة وخادم, عدّ ملكا.
حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان. ح, وحدثنا سفـيان, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن منصور, عن الـحكم: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا قال: الدار والـمرأة والـخادم. قال سفـيان: أو اثنتـين من الثلاثة.
9159ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن رجل, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَجَعَلكُمْ مُلُوكا قال: البـيت والـخادم.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن منصور, عن الـحكم أو غيره, عن ابن عبـاس, فـي قوله: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا قال: الزوجة والـخادم والبـيت.
9160ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا قال: جعل لكم أزواجا وخدما وبـيوتا.
حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا علـيّ بن مـحمد الطنافسي, قال: حدثنا أبو معاوية, عن حجاج بن تـميـم, عن ميـمون بن مهران, عن ابن عبـاس فـي قول الله: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا قال: كان الرجل من بنـي إسرائيـل إذا كانت له الزوجة والـخادم والدار يسمى ملكا.
9161ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبدالرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا قال: ملّكهم الـخدم. قال قتادة: كانوا أوّل من ملك الـخدم.
حدثنـي الـحرث بن مـحمد, قال: حدثنا عبد العزيز بن أبـان, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن مـجاهد: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا قال: جعل لكم أزواجا وخدما وبـيوتا.
وقال آخرون: إنـما عنى بقوله: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا أنهم بـملكون أنفسهم وأهلـيهم وأموالهم. ذكر من قال ذلك:
9162ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا يـملك الرجل منكم نفسه وأهله وماله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وآتاكُمْ ما لَـمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَـمِينَ.
اختلف فـيـمن عنُوا بهذا الـخطاب, فقال بعضهم: عُنـي به أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
9163ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن يـمان, عن سفـيان, عن السديّ, عن أبـي مالك وسعيد بن جبـير: وآتاكُمْ ما لَـمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَـمِينَ قالا: أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: عُنـي به قوم موسى صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
9164ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: هم قوم موسى.
9165ـ حدثنـي الـحارث بن مـحمد, قال: حدثنا عبد العزيز بن أبـان, قال: حدثنا سفـيان عن الأعمش, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس: وآتاكُمْ ما لَـمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَـمِينَ قال: هم بـين ظهرانـيه يومئذٍ.
ثم اختلفوا فـي الذي آتاهم الله ما لـم يؤت أحد من العالـمين, فقال بعضهم: هو الـمنّ والسلوى والـحجر والغمام. ذكر من قال ذلك:
9166ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن رجل, عن مـجاهد: وآتاكُمْ ما لَـمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَـمينَ قال: الـمنّ والسلوى والـحجر والغمام.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وآتاكُمْ ما لَـمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَـمِينَ يعنـي أهل ذلك الزمان, الـمنّ والسلوى والـحجر والغمام.
وقال آخرون: هو الدار والـخادم والزوجة. ذكر من قال ذلك:
9167ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا بشر بن السريّ, عن طلـحة بن عمرو, عن عطاء, عن ابن عبـاس: وآتاكُمْ ما لَـمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَـمِينَ قال: الرجل يكون له الدار والـخادم والزوجة.
9168ـ حدثنـي الـحرث. قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس: وآتاكُمْ ما لَـمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَـمِينَ الـمنّ والسلوى والـحجر والغمام.
وأولـى التأويـلـين فـي ذلك عندي بـالصواب, قول من قال: وآتاكم ما لـم يؤت أحدا من العالـمين, خطاب لبنـي إسرائيـل, حيث جاء فـي سياق قوله: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ ومعطوفـا علـيه. ولا دلالة فـي الكلام تدلّ علـى أن قوله: وآتاكُمْ ما لَـمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَـمِينَ مصروف عن خطاب الذين ابتدىء بخطابهم فـي أوّل الاَية. فإذا كان ذلك كذلك, فأن يكون خطابـا لهم أولـى من أن يقال: هو مصروف عنهم إلـى غيرهم. فإن ظنّ ظانّ أن قوله: وآتاكُمْ ما لَـمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَـمِينَ لا يجوز أن يكون خطابـا لبنـي إسرائيـل, إذ كانت أمة مـحمد قد أوتـيت من كرامة الله نبـيها علـيه الصلاة والسلام مـحمدا, ما لـم يؤت أحدا غيرهم, وهم من العالـمين فقد ظنّ غير الصواب, وذلك أن قوله: وآتاكُمْ ما لَـمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَـمِينَ خطاب من موسى صلى الله عليه وسلم لقومه يومئذٍ, وعنى بذلك عالـمي زمانه لا عالـمي كلّ زمان, ولـم يكن أُوتـي فـي ذلك الزمان من نعم الله وكرامته ما أُوتـي قومه صلى الله عليه وسلم أحد من العالـمين, فخرج الكلام منه صلى الله عليه وسلم علـى ذلك لا علـى جميع كلّ زمان.
الآية : 21
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدّسَةَ الّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدّوا عَلَىَ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ }..
وهذا خبر من الله عزّ ذكره عن قول موسى صلى الله عليه وسلم لقومه من بنـي إسرائيـل, وأمره إياهم عن أمر الله إياه, يأمرهم بدخول الأرض الـمقدسة.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي الأرض التـي عناها بـالأرض الـمقدسة, فقال بعضهم: عنى بذلك: الطور وما حوله. ذكر من قال ذلك:
9169ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: الأرض الـمقدسة: الطور وما حوله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
9170ـ حدثنـي الـحارث بن مـحمد, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس: ادْخُـلُوا الأرْضَ الـمُقَدّسَةَ قال: الطّور وما حوله.
وقال آخرون: هو الشأم. ذكر من قال ذلك:
9171ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: الأرْضُ الـمقدّسة قال: هي الشأم.
وقال آخرون: هي أرض أريحاء. ذكر من قال ذلك:
9172ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: ادْخُـلُوا الأرْضَ الـمُقَدّسَة التـي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ قال: أريحاء.
9173ـ حدثنـي يوسف بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: هي أريحاء.
9174ـ حدثنـي عبد الكريـم بن الهيثم, قال: حدثنا إبراهيـم بن بشار, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي سعيد, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: هي أريحاء.
وقـيـل: إن الأرض الـمقدسة: دمشق وفلسطين وبعض الأردنّ. وعنى بقوله الـمُقَدّسَة: الـمطهرة الـمبـاركة. كما:
9175ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: الأرْضَ الـمُقَدّسَة قال: الـمبـاركة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, بـمثله.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب, أن يقال: هي الأرض الـمقدسة, كما قال نبـيّ الله موسى صلى الله عليه وسلم. لأن القول فـي ذلك بأنها أرض دون أرض, لا تدرك حقـيقة صحته إلاّ بـالـخبر, ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به, غير أنها لن تـخرج من أن تكون من الأرض التـي بـين الفرات وعريش مصر لإجماع جميع أهل التأويـل والسير والعلـماء بـالأخبـار علـى ذلك. ويعنـي بقوله: التـي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ: التـي أثبت فـي اللوح الـمـحفوظ أنها لكم مساكن, ومنازل دون الـجبـابرة التـي فـيها.
فإن قال قائل: فكيف قال: التـي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ, وقد علـمت أنهم لـم يدخـلوها بقوله: فإنّها مُـحَرّمَةٌ عَلَـيْهِمْ؟ فكيف يكون مثبتا فـي اللوح الـمـحفوظ أنها مساكن لهم, ومـحرّما علـيهم سكناها؟ قـيـل: إنها كتبت لبنـي إسرائيـل دارا ومساكن, وقد سكنوها ونزلوها, وصارت لهم كما قال الله جلّ وعزّ. وإنـما قال لهم موسى: ادْخُـلُوا الأرْضَ الـمُقَدّسَة التـي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ يعنـي بها: كتبها الله لبنـي إسرائيـل وكان الذين أمرهم موسى بدخولها من بنـي إسرائيـل ولـم يعن صلى الله عليه وسلم أن الله تعالـى ذكره كتبها للذين أمرهم بدخولها بأعيانهم, ولو قال قائل: قد كانت مكتوبة لبعضهم, ولـخاصّ منهم, فأخرج الكلام علـى العموم والـمراد منه الـخاص, إذ كان يُوشَع وكالب قد دخلا, وكانا مـمن خوطب بهذا القول, كان أيضا وجها صحيحا.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال ابن إسحاق.
9176ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة عن مـحمد بن إسحاق: التـي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ: التـي وهب الله لكم.
وكان السديّ يقول: معنى «كتب» فـي هذا الـموضع بـمعنى «أمر».
9177ـ حدثنا بذلك موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: ادْخُـلُوا الأرْضَ الـمُقَدّسَة التـي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ: التـي أمركم الله بها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا تَرْتَدّوا علـى أدْبـارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ.
وهذا خبر من الله عزّ ذكره عن قـيـل موسى علـيه السلام لقومه من بنـي إسرائيـل, إذ أمرهم عن أمر الله عزّ ذكره إياه بدخول الأرض الـمقدسة, أنه قال لهم: امضوا أيها القوم لأمر الله الذي أمركم به من دخول الأرض الـمقدسة, وَلا تَرْتَدّوا يقول: لا ترجعوا القهقري مرتدين علـى أدْبَـارِكُمْ يعنـي: إلـى ورائكم, ولكن امضوا قدما لأمر الله الذي أمركم به من الدخول علـى القوم الذين أمركم الله بقتالهم والهجوم علـيهم فـي أرضهم, وأن الله عزّ ذكره قد كتبها لكم مسكنا وقرارا.
ويعنـي بقوله: فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ: أنكم تنصرفوا خائبـين هكذا. وقد بـينا معنى الـخسارة فـي غير هذا الـموضع بشواهده الـمغنـية عن إعادته فـي هذا الـموضع.
فإن قال قائل: وما كان وجه قـيـل موسى لقومه إذ أمرهم بدخول الأرض الـمقدسة لا ترتدّوا علـى أدْبـارِكُمْ فتنقلبوا خاسرين؟ أو يستوجب الـخسارة من لـم يدخـل أرضا جعلت له؟ قـيـل: إن الله عزّ ذكره كان أمره بقتال من فـيها من أهل الكفر به وفرض علـيهم دخولها, فـاستوجب القوم الـخسارة بتركهم. إذا فرض الله علـيهم من وجهين: أحدهما تضيـيع فرض الـجهاد الذي كان الله فرضه علـيهم. والثانـي: خلافهم أمر الله فـي تركهم دخول الأرض, وقولهم لنبـيهم موسى صلى الله عليه وسلم إذ قال لهم «ادخـلوا الأرض الـمقدسة»: إنّا لَنْ نَدْخُـلَها حتـى يَخْرُجُوا مِنْها فإنْ يَخْرُجُوا مِنْها فإنّا دَاخِـلُونَ.
كان قتادة يقول فـي ذلك بـما:
9178ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يا قَوْمِ ادْخُـلُوا الأرْضَ الـمُقَدّسَة التـي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ أمروا بها كما أمروا بـالصلاة والزكاة والـحجّ والعمرة.
الآية : 22
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالُوا يَامُوسَىَ إِنّ فِيهَا قَوْماً جَبّارِينَ وَإِنّا لَن نّدْخُلَهَا حَتّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنّا دَاخِلُونَ }..
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن جواب قوم موسى علـيه السلام, إذا أمرهم بدخول الأرض الـمقدسة, أنهم أبوا علـيه إجابة إلـى ما أمرهم به من ذلك, واعتلّوا علـيه فـي ذلك بأن قالوا: إن فـي الأرض الـمقدسة التـي تأمرنا بدخولها قوما جبـارين لا طاقة لنا بحربهم ولا قوّة لنا بهم. وسموهم جبـارين, لأنهم كانوا بشدّة بطشهم وعظيـم خـلقهم فـيـما ذُكر لنا قد قهروا سائر الأمـم غيرهم. وأصل الـجبـار: الـمصلـح أمر نفسه وأمر غيره, ثم استعمل فـي كل من اجترّ نفعا إلـى نفسه بحقّ أو بـاطل طلب الإصلاح لها حتـى قـيـل للـمتعدي إلـى ما لـيس له بغيا علـى الناس وقهرا لهم وعتوّا علـى ربه: جبـار, وإنـما هو فعّال من قولهم: جبر فلان هذا الكسر إذا أصلـحه ولأمه, ومنه قول الراجز:
قَدْ جَبَرَ الدّينَ الإلَهُ فَجَبَرْوعَوّرَ الرّحْمَنُ مَنْ وَلّـى العَوَرْ
يريد: قد أصلـح الدين الإله فصلـح ومن أسماء الله تعالـى ذكره الـجبـار, لأنه الـمصلـح أمر عبـاده القاهر لهم بقدرته. ومـما ذكرته من عظم خـلقهم ما:
9179ـ حدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السديّ فـي قصة ذكرها من أمر موسى وبنـي إسرائيـل, قال: ثم أمرهم بـالسير إلـى أريحاء, وهي أرض بـيت الـمقدس, فساروا حتـى إذا كانوا قريبـا منهم, بعث موسى اثنـي عشر نقـيبـا من جميع أسبـاط بنـي إسرائيـل, فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الـجبـارين, فلقـيهم رجل من الـجبـارين, يقال له: عوج, فأخذ الاثنـي عشر فجعلهم فـي حجزته, وعلـى رأسه حملة حطب, وانطلق بهم إلـى امرأته, فقال: انظري لـي هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بـين يديها, فقال: ألا أطحنهم برجلـي؟ فقالت امرأته: لا, بل خـلّ عنهم حتـى يخبروا قومهم بـما رأوا, ففعل ذلك.
9180ـ حدثنـي عبد الكريـم بن الهيثم, قال: حدثنا إبراهيـم بن بشار, قال: حدثنا سفـيان, قال: قال أبو سعيد, قال عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: أمِرَ موسى أن يدخـل مدينة الـجبـارين, قال: فسار موسى بـمن معه حتـى نزل قريبـا من الـمدينة, وهي أريحاء. فبعث إلـيهم اثنـي عشر عينا, من كلّ سبط منهم عينا, لـيأتوه بخبر القوم. قال: فدخـلوا الـمدينة, فرأوا أمرا عظميا من هيئتهم وجثثهم وعظمهم, فدخـلوا حائطا لبعضهم, فجاء صاحب الـحائط لـيجتنـي الثمار من حائطه, فجعل يجتنـي الثمار وينظر إلـى آثارهم وتتبعهم, فكلـما أصاب واحدا منهم أخذه, فجعله فـي كمه مع الفـاكهة. وذهب إلـى ملكهم فنثرهم بـين يديه, فقال الـملك: قد رأيتـم شأننا وأمرنا, اذهبوا فأخبروا صاحبكم قال: فرجعوا إلـى موسى فأخبروه بـما عاينوا من أمرهم.
9181ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فـي قوله: إنّ فِـيها قَوْما جَبّـارِينَ ذكر لنا أنهم كانت لهم أجسام وخـلق لـيست لغيرهم.
9182ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: إن موسى علـيه السلام قال لقومه: إنـي سأبعث رجالاً يأتوننـي بخبرهم وإنه أخذ من كلّ سبط رجلاً, فكانوا اثنـي عشر نقـيبـا, فقال: سيروا إلـيهم وحدثونـي حدثهم وما أمرهم ولا تـخافوا إن الله معكم ما أقمتـم الصلاة, وآتـيتـم الزكاة, وآمنتـم برسله, وعزّرتـموهم, وأقرضتـم الله قرضا حسنا. ثم إن القوم ساروا حتـى هجموا علـيهم, فرأوا أقواما لهم أجساما عجبٌ, عظما وقوّة, وأنه فـيـما ذكر أبصرهم أحد الـجبـارين, وهم لا يألون أن يخفوا أنفسهم حين رأوا العجب, فأخذ ذلك الـجبـار منهم رجالاً, فأتـى رئيسهم, فألقاهم قدامه, فعجبوا وضحكوا منهم, فقال قائل منهم: إن هؤلاء زعموا أنهم أرادوا غزوكم, وأنه لولا ما دفع الله عنهم لقتلوا. وإنهم رجعوا إلـى موسى علـيه السلام فحدثوه العجب.
9183ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: أْئنىْ عَشَرَ نَقِـيبـا من كلّ سبط من بنـي إسرائيـل رجل أرسلهم موسى إلـى الـجبـارين, فوجدوهم يدخـل فـي كمّ أحدهم اثنان منهم, يـلقونهم إلقاء, ولا يحمل عنقود عنهم إلاّ خمسة أنفس بـينهم فـي خشبة, ويدخـل فـي شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حديفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, نـحوه.
9184ـ حدثنـي مـحمد بن الوزير بن قـيس, عن أبـيه, عن جويبر, عن الضحاك: إنّ فِـيها قَوْما جَبّـارِينَ قال: سِفْلة لا خلاق لهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّا لَنْ نَدْخُـلَها حتـى يَخْرُجُوا مِنْهافإنْ يَخْرُجُوا مِنْها فإنّا داخِـلونَ.
وهذا خبر من الله عزّ ذكره عن قول قوم موسى لـموسى جوابـا لقوله لهم: ادْخُـلُوا الأرْضَ الـمُقَدّسَة التـي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ فقالوا: إنّا لَنْ نَدْخُـلَها حتـى يَخْرُجُوا مِنْها يعنون: من الأرض الـمقدسة الـجبـارون الذين فـيها, جبنا منهم وجزعا من قتالهم. وقالوا له: إن يخرج منها هؤلاء الـجبـارون دخـلناها, وإلاّ فإنا لا نطيق دخولها وهم فـيها, لأنه لا طاقة لنا بهم ولا يد.
9185ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, أن كالب بن يوفنا, أسكت الشعب عن موسى صلى الله عليه وسلم, فقال لهم: إنا سنعلو الأرض ونرثها, وإن لنا بهم قوّة. وأما الذين كانوا معه, فقالوا: لا نستطيع نصل إلـى ذلك الشعب من أجل أنهم أجرأ منا. ثم إن أولئك الـجواسيس أخبروا بنـي إسرائيـل الـخبر, وقالوا: إنا مررونا فـي أرض وأحسسناها, فإذا هي تأكل ساكنها, ورأينا رجالها جساما, ورأينا الـجبـابرة بنـي الـجبـابرة, وكنا فـي أعينهم مثل الـجراد. فأرجفت الـجماعة من بنـي إسرائيـل, فرفعوا أصواتهم بـالبكاء. فبكى الشعب تلك اللـيـلة, ووسوسوا علـى موسى وهارون, فقالوا لهما: يا لـيتنا متنا فـي أرض مصر, ولـيتنا نـموت فـي هذه البرية ولـم يدخـلنا الله هذه الأرض لنقع فـي الـحرب, فتكون نساؤنا وأبناؤنا وأثقالنا عنـيـمة, ولو كنا قعودا فـي أرض مصر, كان خيرا لنا وجعل الرجل يقول لأصحابه: تعالوا نـجعل علـينا رأسا وننصرف إلـى مصر.
الآية : 23
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكّلُوَاْ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ }..
وهذا خبر من الله عزّ ذكره عن الرجلـين الصالـحين من قوم موسى: يوشع بن نون, وكالب بن يوفنا, أنهما وفـيا لـموسى بـما عهد إلـيهما من ترك إعلام قومه بنـي إسرائيـل الدين أمرهم بدخول الأرض الـمقدسة علـى الـجبـابرة من الكنعانـيـين, بـما رأيا وعاينا من شدة بطش الـجبـابرة وعظم خـلقهم, ووصفهما الله بأنهما مـمن يخاف الله ويراقبه فـي أمره ونهيه كما:
9186ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان. ح, وحدثنا ابن وكيع, قال حدثنا أبـي, عن سفـيان. ح, وحدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد, قال: رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِما قال: كلاب بن يوفنا ويوشع بن نون.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو بن أبـي قـيس, عن منصور, عن مـجاهد, قال: رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِما قال: يوشع بن نون, وكلاب بن يوفنا, وهما من النقبـاء.
9187ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قصة ذكرها, قال: فرجع النقبـاء كلهم ينهى سبطه عن قتالهم, إلاّ يوشع بن نون, وكلاب بن يوفنا, يأمران الأسبـاط بقتال الـجبـارين ومـجاهدتهم, فعصوهما, وأطاعوا الاَخرين, فهما الرجلان اللذان أنعم الله علـيهما.
حدثنا ابن حميد, وسفـيان بن وكيع, قالا: حدثنا جرير, عن منصور, عن مـجاهد, مثل حديث ابن بشار, عن ابن مهدي, إلاّ أن ابن حميد قال فـي حديثه: هما من الاثنى عشر نقـيبـا.
9188ـ حدثنـي عبد الكريـم بن الهيثم, قال: حدثنا إبراهيـم بن بشار, قال: حدثنا سفـيان, قال: قال أبو سعيد, قال عكرمة, عن ابن عبـاس فـي قصة ذكرها, قال: فرجعوا يعنـي النقبـاء الاثنـي عشر إلـى موسى, فأخبروه بـما عاينوا من أمرهم, فقال لهم موسى: اكتـموا شأنهم ولا تـخبروا به أحدا من أهل العسكرة فإنكم إن أخبرتـموهم بهذا الـخبر فشلوا ولـم يدخـلوا الـمدينة. قال: فذهب كلّ رجل منهم, فأخبر قريبه وابن عمه, إلاّ هذين الرجلـين يوشع بن نون وكلاب بن يوفنا, فإنهما كتـما ولـم يخبرا به أحدا, وهما اللذان قال الله: قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِما... إلـى قوله: وبـينَ القَوْمِ الفـاسِقِـينَ.
9189ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِما وهما اللذان كتـماهم: يوشع بن نون فتـى موسى, وكالوب بن يوفنة ختن موسى.
9190ـ حدثنا سفـيان, قال: حدثنا عبـيد الله, عن فضيـل بن مرزوق, عن عطية: قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِما كالوب ويوشع بن نون فتـى موسى.
9191ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِما والرجلان اللذان أنعم الله علـيهما من بنـي إسرائيـل: يوشع بن نون, كالوب بن يوفنة.
9192ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِما ذُكر لنا أن الرجلـين: يوشع بن نون, وكالب.
9193ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: أن موسى قال للنقبـاء لـما رجعوا فحدّثوه العجب: لا تـحدّثوا أحدا بـما رأيتـم, إن الله سيفتـحها لكم ويظهركم علـيها من بعد ما رأيتـم وإن القوم أفشوا الـحديث من بنـي إسرائيـل, فقام رجلان من الذين يخافون أنعم الله علـيهما: كان أحدهما فـيـما سمعنا يوشع بن نون وهو فتـى موسى, والاَخر كالب, فقالا: ادخـلوا علـيهم البـاب إن كنتـم مؤمنـين.
واختلف القرّاء فـي قراءة قوله: قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ. قرأ ذلك قرّاء الـحجاز والعراق والشام: قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِما بفتـح الـياء من «يخافون», علـى التأويـل الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه آنفـا, أنهما يوشع بن نون وكالب من قوم موسى, مـمن يخاف الله, وأنعم علـيهما بـالتوفـيق. وكان قتادة يقول فـي بعض القراءة: «قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِما».
9194ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة. ح, وحدثثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِما فـي بعض الـحروف: «يخافون الله أنعم الله علـيهما».
وهذا أيضا مـما يدلّ علـى صحة تأويـل من تأوّل ذلك علـى ما ذكرنا عنه أنه قال: يوشع, وكالب. ورُوي عن سعيد بن جبـير أنه كان يقرأ ذلك: «قال رَجُلانِ منَ الّذِينَ يُخافونَ» بضم الـياء «أنعم اللّهُ عَلَـيْهِما».
9195ـ حدثنـي بذلك أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم بن سلام, قال: حدثنا هشيـم, عن القاسم بن أبـي أيوب, ولا نعلـمه أنه سمع منه, عن سعيد بن جبـير أنه كان يقرؤها بضم الـياء من: «يُخافُونَ».
وكأنّ سعيدا ذهب فـي قراءته هذه إلـى أن الرجلـين اللذين أخبر الله عنهما أنهما قالا لبنـي إسرائيـل: ادخـلوا علـيهم البـاب فإذا دخـلتـموه فإنكم غالبون, كانا من رهط الـجبـابرة, وكانا أسلـما واتبعا موسى, فهما من أولاد الـجبـابرة, اغلذين يخافهم بنو إسرائيـل وإن كان لهم فـي الدين مخالفـين. وقد حُكِي نـحو هذا التأويـل عن ابن عبـاس.
9196ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: ادْخُـلُوا الأرْضَ الـمُقَدّسَة التـي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدّوا علـى أدبـارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قال: هي مدنة الـجبـارين, لـما نزل بها موسى وقومه, بعث منهم اثنـي عشر رجلاً, وهم النقبـاء الذين ذكر نعتهم لـيأتوه بخبرهم. فساروا, فلقـيهم رجل من الـجبـارين, فجعلهم فـي كسائه, فحملهم حتـى أتـى بهم الـمدينة, ونادى فـي قومه, فـاجتـمعوا إلـيه, فقالوا: من أنتـم؟ فقالوا: نـحن قوم موسى, بعثنا إلـيكم لنأتـيه بخبركم, فأعطوهم حبة من عنب بوقر الرجل, فقالوا لهم: اذهبوا إلـى موسى وقومه, فقولوا لهم: اقدُروا قدر فـاكهتهم فلـما أتوهم, قالوا لـموسى: اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِما وكانا من أهل الـمدينة أسلـما واتبعا موسى وهارون, فقالا لـموسى: ادْخُـلُوا عَلَـيْهِمُ البـابَ فإذَا دَخَـلْتُـمُوهُ فَإنّكُمْ غالِبونَ وَلعى اللّهِ فَتَوَكّلُوا إنْ كُنْتُـمْ مُؤْمِنِـينَ.
فعلـى هذه القراءة وهذا التأويـل لـم يكتـم من الاثنى عشر نقـيبـا أحدا ما أمرهم موسى بكتـمانه بنـي إسرائيـل مـما رأوا وعاينوا من عظم أجسام الـجبـابرة وشدّة بطشهم وعجيب أمورهم, بل أفشوا ذلك كله. وإنـما القائل للقوم ولـموسى: ادخـلوا علـيهم البـاب, رجلان من أولاد الذين كان بنو إسرائيـل يخافونهم ويرهبون الدخول علـيهم من الـجبـابرة, كان أسلـما وتبعا نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم.
وأولـى القراءتـين بـالصواب عندنا, قراءة من قرأ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِما لإجماع قرّاء فـيه الـخطأ والسهو. ثم فـي إجماع الـحجة فـي تأويـلها علـى أنهما رجلان من أصحاب موسى من بنـي إسرائيـل وأنهما يوشع وكلاب, ما أغنى عن الاستشهاد علـى صحة القراءة بفتـح الـياء فـي ذلك وفساد غيره, وهو التأويـل الصحيح عندنا لـما ذكرنا من أجماعها علـيه.
وأما قوله: أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِما فإته يعنـي: أنعم الله علـيهم بطاعة الله فـي طاعة نبـيه موسى صلى الله عليه وسلم, وانتهائهم إلـى أمره, والانزجار عما زجرهما عنه صلى الله عليه وسلم, من إفشاء ما عاينا من عجيب أمر الـجبـارين إلـى بنـي إسرائيـل الذي حذّر عنه أصحابهما الاَخرين الذين كانوا معهما من النقبـاء. وقد قـيـل: إن معنى ذلك: أنعم الل علـيهما بـالـخوف. ذكر من قال ذلك:
9197ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا خـلف بن تـميـم, قال: حدثنا إسحاق بن القاسم, عن سهل ابن علـيّ, قوله: قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِما قال: أنعم الله علـيهما بـالـخوف.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, كان الضحاك يقول وجماعة غيره.
9198ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: ثنـي عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِما بـالهدى فهداهما, فكانا علـى دين موسى, وكانا فـي مدينة الـجبـارين.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ادْخُـلُوا عَلَـيْهِمُ البـابَ فإذَا دَخَـلْتُـمُوهُ فإنّكُمْ غالِبُونَ.
وهذا خبر من الله عزّ ذكره عن قول الرجلـين اللذين يخافـان الله لبنـي إسرائيـل إذ جبنوا وخافوا من الدخول علـى الـجبـارين لـما سمعوا خبرهم, وأخبرهم النقبـاءالذين أفشوا ما عاينوا من أمرهم فـيهم, وقالوا: إن فـيها قوما جبـارين وإنا لن ندخـلها حتـى يخرجوا منها, فقالا لهم: ادخـلوا علـيهم أيها القوم بـاب مدينتهم, فإن الله معكم وهو ناصركم, وإنكم إذا دخـلتـم البـاب غلبتـموهم. كما:
9199ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم بـالكتاب الأوّل, قال: لـما همّ بنو إسرائيـل بـالانصراف إلـى مصر حين أخبرهم النقبـاء بـما أخبروهم من أمر الـجبـابرة, خرّ موسى وهارون علـى وجوههما سجودا قدام جماعة بنـي إسرائيـل, وخرّق يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ثـيابهما, وكانا من جواسيس الأرض, وقالا لـجماعة بنـي إسرائيـل: إن الأرض مررنا بها وجسسناها صالـحة رضيها ربنا لنا فوهبها لنا, وإنها لـم تكن تفـيض لبنا وعسلاً, ولكن افعلوا واحدة, لا تعصُوا الله, ولا تـخَشوُا الشعب الذين بها, فإنهم جبناء, مدفوعون فـي أيدينا, إن حاربناهم ذهبت منهم, وإن الله معنا فلا تـخشوهم. فأراد من بنـي إسرائيـل أن يرجموهما بـالـحجارة.
9200ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذكر لنا أنهم بعثوا اثنـي عشر رجلاً, من كل سبط رجلاً, عيونا لهم, ولـيأتوهم بأخبـار القوم. فأما عشرة فجبّنوا قومهم وكَرّهُوا إلـيهم الدخول علـيهم. وأما الرجلان فأمرا قومهما أن يدخـلوها, وأن يتبعوا أمر الله, ورغبـا فـي ذلك, وأخبرا قومهما أنهم غالبون إذا فعلوا ذلك.
9201ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: عَلَـيْهِمُ البـابَ قرية الـجبـارين.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وعلـى اللّهِ فَتَوَكّلُوا إنْ كُنْتُـمْ مُؤْمِنـينَ.
وهذا أيضا خبر من الله جلّ وعزّ, عن قول الرجلـين اللذين يخافـان الله أنهما قالا لقوم موسى يشجعانهم بذلك, ويرغبـانهم فـي الـمضيّ لأمر الله بـالدخول علـى الـجبـارين فـي مدينتهم: توكلوا أيها القوم علـى الله فـي دخولكم علـيهم ويقولان لهم: ثقوا بـالله فإنه معكم إن أطعتـموه فـيـما أمركم من جهاد عدوّكم. وعنـيا بقولهما إنْ كُنْتُـمْ مُؤْمِنِـينَ: إن كنتـم مصدّقـي نبـيكم صلى الله عليه وسلم, فـيـما أنبأكم عن ربكم من النصرة والظفر علـيهم, وفـي غير ذلك من إخبـاره عن ربه, ومؤمنـين بأن ربكم قادر علـى الوفـاء لكم بـما وعدكم من تـمكينكم فـي بلاد عدوّه وعدوّكم