تفسير الطبري تفسير الصفحة 184 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 184
185
183
 الآية : 53
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىَ قَوْمٍ حَتّىَ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: وأخذنا هؤلاء الذين كفروا بآياتنا من مشركي قريش ببدر بذنوبهم وفعلنا ذلك بهم, بأنهم غيروا ما أنعم الله عليهم به من ابتعاثه رسوله منهم وبين أظهرهم, بإخراجهم إياه من بينهم وتكذيبهم له وحربهم إياه فغيرنا نعمتنا عليهم بإهلاكنا إياهم, كفعلنا ذلك في الماضين قبلهم ممن طغى علينا وعصى أمرنا.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12656ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: ذلكَ بأنّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرا نِعْمَةً أنْعَمَها على قَوْمٍ حتى يُغَيّرُوا ما بأنْفُسِهمْ يقول: نعمة الله محمد صلى الله عليه وسلم, أنعم به على قريش وكفروا, فنقله إلى الأنصار.
وقوله: وأنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يقول: لا يخفى عليه شيء من كلام خلقه, يسمع كلام كلّ ناطق منهم بخير نطق أو بشرّ, عليم بما تضمره صدورهم, وهو مجازيهم ومثيبهم على ما يقولون ويعملون, إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّا.
الآية : 54
القول في تأويل قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذّبُواْ بآيَاتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلّ كَانُواْ ظَالِمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: غَيّر هؤلاء المشركون بالله المقتولون ببدر, نعمة ربهم التي أنعم بها عليهم, بابتعاثه محمدا منهم وبين أظهرهم, داعيا لهم إلى الهدى, بتكذيبهم إياه وحربهم له. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ: كسنة آل فرعون وعادتهم, وفعلهم بموسى نبيّ الله في تكذيبهم إياه, وتصديهم لحربه وعادة من قبلهم من الأمم المكذبة رسلها وصنيعهم. فأهْلَكْناهُمْ بِذُنُوِبهِمْ بعضا بالرجفة, وبعضا بالخسف, وبعضا بالريح. وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ في اليم. وكُلّ كانُوا ظالِمِينَ يقول: كل هؤلاء الأمم التي أهلكناها كانوا فاعلين ما لم يكن لهم فعله من تكذيبهم رسل الله والجحود لاَياته, فكذلك أهلكنا هؤلاء الذين أهلكناهم ببدر, إذ غيّروا نعمة الله عندهم بالقتل بالسيف, وأذللنا بعضهم بالإسار والسّباء.
الآية : 55
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ شَرّ الدّوَابّ عِندَ اللّهِ الّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }.
يقول تعالى ذكره: إن شرّ ما دبّ على الأرض عند الله الذين كفروا بربهم فجحدوا وحدانيته, وعبدوا غيره. فهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يقول: فهم لا يصدقون رسل الله ولا يقرّون بوحيه وتنزيله.
الآية : 56
القول في تأويل قوله تعالى: {الّذِينَ عَاهَدْتّ مِنْهُمْ ثُمّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرّةٍ وَهُمْ لاَ يَتّقُونَ }.
يقول تعالى ذكره: إن شرّ الدوابّ عند الله الذين كفروا, الذين عاهدت منهم يا محمد, يقول: أخذت عهودهم ومواثيقهم أن لا يحاربوك ولا يظاهروا عليك محاربا لك كقريظة ونظرائهم ممن كان بينك وبينهم عهد وعقد, ثم ينقضون عهودهم ومواثيقهم, كلما عاهدوا دافعوك وحاربوك وظاهروا عليك, وهم لا يتقون الله ولا يخافون في فعلهم ذلك أن يوقع بهم وقعة تجتاحهم وتهلكهم. كالذي:
12657ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: الّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ قال: قريظة مالئوا على محمد يوم الخندق أعداءه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه.
الآية : 57
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِم مّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإما تلقين في الحرب هؤلاء الذين عاهدتهم فنقضوا عهدك مرّة بعد مرّة من قريظة فتأسرهم, فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ يقول: فافعل بهم فعلاً يكون مشرّدا مَن خلفهم من نظرائهم ممن بينك وبينه عهد وعقد. والتشريد: التطريد والتبديد والتفريق. وإنما أمر بذلك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل بالناقض العهد بينه وبينهم إذا قدر عليهم فعلاً يكون إخافة لمن وراءهم ممن كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه عهد, حتى لا يجترئوا على مثل الذي اجترأ عليه هؤلاء الذين وصف الله صفتهم في هذه الاَية من نقض العهد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12658ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ, عن ابن عباس قوله: فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ يعني: نكّلْ بهم من بعدهم.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ يقول: نكل بهم من وراءهم.
12659ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ يقول: عظ بهم من سواهم من الناس.
12660ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ يقول: نكل بهم من خلفهم من بعدهم من العدوّ, لعلهم يحذرون أن ينكُثوا فيُصْنَع بهم مثل ذلك.
12661ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أيوب, عن سعيد بن جبير: فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ قال: أنذر بهم من خلفهم.
12662ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراسانيّ, عن ابن عباس, قال: نكل بهم من خلفهم من بعدهم. قال ابن جريج, قال عبد الله بن كثير: نكل بهم من وراءهم.
12663ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ: أي نكل بهم من وراءهم لعلهم يعقلون.
12664ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ يقول: نكل بهم مَن بعدهم.
12665ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله: فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ قال: أخفهم بما تصنع بهؤلاء وقرأ: وآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ.
وأما قوله: لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ فإن معناه: كي يتعظوا بما فعلت بهؤلاء الذين وصفت صفتهم, فيحذروا نقض العهد الذي بينك وبينهم, خَوْفَ أن ينزل بهم منك ما نزل بهؤلاء إذا هم نقضوه.
الآية : 58
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِمّا تَخَافَنّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىَ سَوَآءٍ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الخَائِنِينَ }.
يقول تعالى ذكره: وإمّا تخافنّ يا محمد من عدوّ لك بينك وبينه عهد وعقد أن ينكث عهده وينقض عقده ويغدر بك, وذلك هو الخيانة والغدر. فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ يقول: فناجزهم بالحرب, وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم بما كان منهم من ظهور آثار الغدر والخيانة منهم حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب, فيأخذوا للحرب آلتها, وتبرأ من الغدر. إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الخائِنِينَ الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به, فيحاربه قبل إعلامه إياه أنه له حرب وأنه قد فاسخه العقد.
فإن قال قائل: وكيف يجوز نقض العهد بخوف الخيانة والخوف ظنّ لا يقين؟ قيل: إن الأمر بخلاف ما إليه ذهبتَ, وإنما معناه: إذا ظهرت آثار الخيانة من عدوّك وخفت وقوعهم بك, فألق إليهم مقاليد السلم وآذنهم بالحرب. وذلك كالذين كان من بني قريظة, إذ أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربتهم معه بعد العهد الذي كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسالمة, ولن يقاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكانت إجابتهم إياه إلى ذلك موجبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه منهم, فكذلك حكم كل قوم أهل موادعة للمؤمنين ظهر لإمام المسلمين منهم من دلائل الغدر مثل الذي ظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريظة منها, فحُقّ على إمام المسلمين أن ينبذ إليهم على سواء ويؤذنهم بالحرب.
ومعنى قوله: عَلى سَوَاءٍ: أي حتى يستوي علمك وعلمهم بأن كل فريق منكم حرب لصاحبه لا سلم. وقيل: نزلت الاَية في قريظة. ذكر من قال ذلك:
12666ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ قال قريظة.
وقد قال بعضهم: السواء في هذا الموضع: المَهَل. ذكر من قال ذلك:
12667ـ حدثني عليّ بن سهل, قال: حدثنا الوليد بن مسلم, قال: إنه مما تبين لنا أن قوله: فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ أنه على مهل. كما حدثنا بكير عن مقاتل بن حيان في قول الله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ.
وأما أهل العلم بكلام العرب, فإنهم في معناه مختلفون, فكان بعضهم يقول: معناه: فانبذ إليهم على عَدْل يعني حتى يعتدل علمك وعلمهم بما عليه بعضكم لبعض من المحاربة. واستشهدوا لقولهم ذلك بقول الراجز:
وَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدّرِ الأعْدَاءحتى يُجِيبُوكَ إلى السّوَاءِ
يعني إلى العدل. وكان آخرون يقولون: معناه الوسط, من قول حسان:
يا وَيْحَ أنْصَارِ الرّسُولِ وَرَهْطِهِبَعْدَ المُغَيّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ
بمعنى في وسط اللحد. وكذلك هذه المعاني متقاربة, لأن العدل وسط لا يعلو فوق الحقّ ولا يقصر عنه, وكذلك الوسط عدل, واستواء الفريقين فيما عليه بعضهم لبعض بعض المهادنة عدل من الفعل ووسط. وأما الذي قاله الوليد بن مسلم من أن معناه المهل, فما لا أعلم له وجها في كلام العرب.
الآية : 59
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوَاْ إِنّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ }.
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والعراق: «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إنّهُمْ» بكسر الألف من «إنهم» وبالتاء في «تحسبنّ», بمعنى: ولا تحسبنّ يا محمد الذين كفروا سبقونا ففاتونا بأنفسهم. ثم ابتدىء الخبر عن قدرة الله عليهم, فقيل: إن هؤلاء الكفرة لا يعجِزون ربهم إذا طلبهم وأراد تعذيبهم وإهلاكهم بأنفسهم فيفوتوه بها. وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والكوفة: وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا بالياء في «يحسبنّ», وكسر الألف من «إنهم», وهي قراءة غير حميدة لمعنيين: أحدهما خروجهما من قراءة القرّاء وشذوذها عنها, والاَخر بعدها من فصيح كلام العرب وذلك أن «يحسب» يطلب في كلام العرب منصوبا وخبره, كقوله: عبد الله يحسب أخاك قائما ويقوم وقام, فقارىء هذه القراءة أصحب «يحسب» خبرا لغير مخبر عنه مذكور, وإنما كان مراده: ظنيّ ولا يحسبنّ الذين كفروا سبقوا أنهم لا يعجزوننا, فلم يفكر في صواب مخرج الكلام وسقمه, واستعمل في قراءته ذلك كذلك ما ظهر له من مفهوم الكلام. وأحسب أن الذي دعاه إلى ذلك الاعتبار بقراءة عبد الله, وذلك أنه فيما ذكر في مصحف عبد الله: «وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّهُمْ سَبَقُوا إنّهُمْ لا يُعْجِزُونَ» وهذا فصيح صحيح إذا أدخلت أنهم في الكلام, لأن «يحسبنّ» عاملة في «أنهم», وإذا لم يكن في الكلام «أنهم» كانت خالية من اسم تعمل فيه. وللذي قرأ من ذلك من القرّاء وجهان في كلام العرب وإن كانا بعيدين من فصيح كلامهم: أحدهما أن يكون أريد به: ولا يحسبنّ الذين كفروا أن سبقوا, أو أنهم سبقوا, ثم حذف «أن» و«أنهم», كما قال جلّ ثناؤه: وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفا وَطَمَعا بمعنى: أن يريكم. وقد ينشد في نحو ذلك بيت لذي الرمة:
أظَنّ ابْنُ طُرْثُوثٍ عُيَيْنَةُ ذَاهِبابِعادِيّتِي تَكْذَابُهُ وَجَعائِلُهْ
بمعنى: أظنّ ابن طرثوث أن يذهب بعاديتي تكذابُه وجعائله. وكذلك قراءة من قرأ ذلك بالياء, يوجه «سبقوا» إلى «سابقين» على هذا المعنى. والوجه الثاني على أنه أراد إضمار منصوب ب «يحسب», كأنه قال: ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا, ثم حذف الهمز وأضمر. وقد وجه بعضهم معنى قوله: أنّمَا ذَلِكُمُ الشّيْطانُ يُخَوّفُ أوْلِياءَهُ إنما ذلكم الشيطان يخوّف المؤمن من أوليائه, وأن ذكر المؤمن مضمر في قوله: «يخوّف», إذ كان الشيطان عنده لا يخوّف أولياءه. وقرأ ذلك بعض أهل الشام: «وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا» بالتاء من «تحسبن» «سَبَقُوا إنّهُمْ لا يُعْجِزُونَ» بفتح الألف من «أنهم», بمعنى: ولا تحسبنّ الذين كفروا أنهم لا يعجزون. ولا وجه لهذه القراءة يعقل إلا أن يكون أراد القارىء ب «لا» التي في يعجزون «لا» التي تدخل في الكلام حشوا وصلة. فيكون معنى الكلام حينئذ: ولا تحسبنّ الذين كفروا سبقوا أنهم يعجزون. ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله إلى التطويل بغير حجة يجب التسليم لها وله في الصحة مخرج.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأ: «لا تَحْسَبن» بالتاء «الّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إنهُمْ» بكسر الألف من «إنهُمْ لا يُعْجِزُونَ» بمعنى: ولا تحسبنّ أنت يا محمد الذين جحدوا حجج الله وكذّبوا بها سبقونا بأنفسهم, ففاتونا, إنهم لا يعجزوننا: أي يفوتوننا بأنفسهم, ولا يقدرون على الهرب منا. كما:
12668ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: «وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إنّهُمْ لا يُعْجِزُونَ» يقول: لا يفوتون.
الآية : 60
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وأعدّوا لهؤلاء الذين كفروا بربهم الذين بينكم وبينهم عهد, إذا خفتم خيانتهم وغدرهم أيها المؤمنون بالله ورسوله ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّةٍ يقول: ما أطقتم أن تعدّوه لهم من الاَلات التي تكون قوّة لكم عليهم من السلاح والخيل. تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُو اللّهِ وَعَدُوّكُمْ يقول: تخيفون بإعدادكم ذلك عدوّ الله وعدوّكم من المشركين.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12669ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو إدريس, قال: سمعت أسامة بن زيد, عن صالح بن كيسان, عن رجل من جهينة يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوةٍ «ألا إنّ الرّمْيَ هُوَ القُوّةُ, ألاَ إنّ الرّمْيَ هُوَ الْقُوّةُ».
12670ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا سعيد بن شرحبيل, قال: حدثنا ابن لهيعة, عن يزيد بن أبي حبيب, وعبد الكريم بن الحرث, عن أبي عليّ الهمدانيّ, أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول: قال الله: وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّةٍ وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر «قالَ اللّهُ: وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّةٍ ألا أنّ القُوّةَ الرّمْيُ ألا إنّ القُوّةَ الرّمْيُ» ثَلاثا.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا محبوب وجعفر بن عون ووكيع وأبو أسامة وأبو نعيم, عن أسامة بن زيد, عن صالح بن كيسان, عن رجل, عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر: وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوةٍ وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ فقال: «ألا إن القُوةَ الرمْيُ, ألا إن القُوةَ الرمْيُ» ثلاث مرات.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن أسامة بن زيد, عن صالح بن كيسان, عن رجل, عن عقبة بن عامر, أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الاَية على المنبر, فذكر نحوه.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا أسامة بن زيد, عن صالح بن كيسان, عن عقبة بن عامر, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, نحوه.
حدثنا أحمد بن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا موسى بن عبيدة, عن أخيه محمد بن عبيدة, عن أخيه عبد الله بن عبيدة, عن عقبة بن عامر, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, في قوله: وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوةٍ «ألا إن القُوةَ الرمْيُ».
12671ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن شعبة بن دينار, عن عكرمة, في قوله: وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوةٍ قال: الحصون. وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ قال: الإناث.
12672ـ حدثنا عليّ بن سهل, قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة, عن رجاء بن أبي سلمة, قال: لقي رجل مجاهدا بمكة, ومع مجاهد جُوالَق, قال: فقال مجاهد: هذا من القوّة ومجاهد يتجهز للغزو.
12673ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوةٍ من سلاح.
وأما قوله: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ فقال ابن وكيع:
12674ـ حدثنا أبي عن إسرائيل, عن عثمان بن المغيرة الثقفي, عن مجاهد, عن ابن عباس: تَرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ قال: تخزون به عدوّ الله وعدوّكم.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيل, عن عثمان, عن مجاهد, عن ابن عباس, مثله.
حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا إسرائيل, عن خصيف, عن عكرمة وسعيد بن جبير, عن ابن عباس: تَرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ قال: تخزون به عدوّ الله وعدوّكم. وكذا كان يقرأ بها ترهبون.
حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا إسرائيل, عن عثمان بن المغيرة وخصيف, عن مجاهد, عن ابن عباس: تُرْهِبُونَ بِهِ تخزون به.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيل, عن خصيف, عن عكرمة, عن ابن عباس, مثله.
يقال منه: أرهبت العدوّ ورهّبته, فأنا أُرْهِبُه وأُرَهّبُه إرهابا وترهيبا, وهو الرّهَبُ والرّهْبُ, ومنه قول طفيل الغنويّ:
وَيْلُ امّ حَيّ دَفَعْتُمْ فِي نُحُورِهِمُبَنِي كِلابٍ غَدَاةَ الرّعْبِ والرّهَبِ
القول في تأويل قوله تعالى: وآخِرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمهُمْ.
اختلف أهل التأويل في هؤلاء الاَخرين من هم وما هم, فقال بعضهم: هم بنو قريظة. ذكر من قال ذلك:
12675ـ حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ يعني من بني قريظة.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ قال: قريظة.
وقال آخرون: من فارس. ذكر من قال ذلك:
12676ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وآخِرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمهُمْ هؤلاء أهل فارس.
وقال آخرون: هم كل عدوّ للمسلمين غير الذي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشرّد بهم من خلفهم. قالوا: وهم المنافقون. ذكر من قال ذلك:
12677ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قول الله: فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ قال: أخفهم بهم لما تصنع بهؤلاء. وقرأ: وآخِرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمهُمْ.
12678ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وآخِرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمهُمْ قال: هؤلاء المنافقون لا تعلمونهم لأنهم معكم يقولون لا إله إلا الله ويغزون معكم.
وقال آخرون: هم قوم من الجنّ.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب وما يتقوّون به على جهاد عدوّه وعدوّهم من المشركين من السلاح والرمي وغير ذلك ورباط الخيل. ولا وجه لأن يقال: عني بالقوّة معنى دون معنى من معاني القوّة, وقد عمّ الله الأمر بها.
فإن قال قائل: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قد بين أن ذلك مراد به الخصوص بقوله: «ألا إن القُوّةَ الرّمْيُ». قيل له: إن الخبر وإن كان قد جاء بذلك فليس في الخير ما يدلّ على أنه مراد بها الرمي خاصة دون سائر معاني القوّة عليهم, فإن الرمي أحد معاني القوّة, لأنه إنما قيل في الخبر: «ألا إنّ القُوّةَ الرّمْيُ» ولم يقل دون غيرها. ومن القوّة أيضا السيف والرمح والحربة, وكل ما كان معونة على قتال المشركين, كمعونة الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم, هذا مع وهي سند الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: وآخِرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ فإن قول من قال: عني به الجنّ, أقرب وأشبه بالصواب لأنه جلّ ثناؤه قد أدخل بقوله: وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ الأمر بارتباط الخيل لإرهاب كلّ عدوّ لله وللمؤمنين يعلمونهم, ولا شكّ أن المؤمنين كانوا عالمين بعداوة قريظة وفارس لهم, لعلمهم بأنهم مشركون وأنهم لهم حرب, ولا معنى لأن يقال: وهم يعلمونهم لهم أعداء, وآخرين من دونهم لا تعلمونهم ولكن معنى ذلك: إن شاء الله ترهبون بارتباطكم أيها المؤمنون الخيل عدوّ الله وأعداءكم من بني آدم الذين قد علمتم عداوتهم لكم لكفرهم بالله ورسوله, وترهبون بذلك جنسا آخر من غير بني آدم لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم الله يعلمهم دونكم, لأن بني آدم لا يرونهم. وقيل: إن صهيل الخيل يرهب الجنّ, وإن الجنّ لا تقرب دارا فيها فرس.
فإن قال قائل: فإن المؤمنين كانوا لا يعلمون ما عليه المنافقون, فما تنكر أن يكون عني بذلك المنافقون؟ قيل: فإن المنافقين لم يكن تروعهم خيل المسلمين ولا سلاحهم, وإنما كان يروعهم أن يظهر المسلمون على سرائرهم التي كانوا يستسرّون من الكفر, وإنما أمر المؤمنون بإعداد القوّة لإرهاب العدوّ, فأما من لم يرهبه ذلك فغير داخل في معنى من أمر بإعداد ذلك له المؤمنون, وقيل: «لا تعلمونهم», فاكتفي للعلم بمنصوب واحد في هذا الموضع, لأنه أريد لا تعرفونهم, كما قال الشاعر:
فإنّ اللّهَ يَعْلَمُنِي وَوَهْباوأنّا سَوْفَ يَلْقاهُ كِلانا
القول في تأويل قوله تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفّ إلَيْكُمْ وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ.
يقول تعالى ذكره: وما أنفقتم أيها المؤمنون من نفقة في شراء آلة حرب من سلاح أو حراب أو كراع أو غير ذلك من النفقات في جهاد أعداء الله من المشركين يخلفه الله عليكم في الدنيا, ويدّخر لكم أجوركم على ذلك عنده, حتى يوفيكموها يوم القيامة. وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ يقول: يفعل ذلك بكم ربكم فلا يضيع أجوركم عليه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12679ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ومَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفّ إلَيْكُمْ وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ: أي لا يضيع لكم عند الله أجره في الاَخرة وعاجل خلفه في الدنيا.
الآية : 61
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإما تخافنّ من قوم خيانة وغدرا, فانبذ إليهم على سواء وآذنهم بالحرب. وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فاجْنَحْ لَهَا وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحرب, إما بالدخول في الإسلام, وإما بإعطاء الجزية, وإما بموادعة, ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح فاجْنَحْ لَهَا يقول: فمل إليها, وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألوكه. يقال منه: جنح الرجل إلى كذا يجنح إليه جنوحا, وهي لتميم وقيس فيما ذكر عنها, تقول: يجنُح بضم النون. وآخرون: يقولون: يَجْنِحُ بكسر النون, وذلك إذا مال, ومنه قول نابغة بني ذبيان:
جَوَانِحَ قَدْ أيْقَنّ أنّ قَبِيلَهُإذَا ما الْتَقَى الجَمْعانِ أوّلُ غالِبِ
جوانح: موائل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12680ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ قال: للصلح. ونسخها قوله: فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.
12681ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ إلى الصلح فاجْنَحْ لَهَا قال: وكانت هذه قبل براءة, كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوادع القوم إلى أجل, فإما أن يسلموا وإما أن يقاتلوا, ثم نسخ ذلك بعد في براءة فقال: فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وقال: قاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً ونبذ إلى كلّ ذي عهد عهده, وأمره بقتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ويسلموا, وأن لا يقبل منهم إلا ذلك, وكل عهد كان في هذه السورة وفي غيرها, وكلّ صلح يصالح به المسلمون المشركين يتوادعون به فإن براءة جاءت بنسخ ذلك, فأمر بقتالهم على كل حال حتى يقولوا: لا إله إلا الله.
12682ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسن, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصري, قالا: وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا نسختها الاَية التي في براءة قوله: قاتِلُوا الّذينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ... إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ.
12683ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا يقول: وإن أرادوا الصلح فأرده.
12684ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا: أي إن دعوك إلى السلم إلى الإسلام, فصالحهم عليه.
12685ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا قال: فصالحهم. قال: وهذا قد نسخه الجهاد.
فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله من أن هذه الاَية منسوخة, فقول لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل. وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفي حكم المنسوخ من كل وجه, فأما ما كان بخلاف ذلك فغير كائن ناسخا. وقول الله في براءة: فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حيْثُ وَجَدْتْموهُمْ غير ناف حكمه حكم قوله: وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا لأن قوله: وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ إنّمَا عُني به بنو قريظة, وكانوا يهودا أهل كتاب, وقد أذن الله جلّ ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحرب على أخذ الجزية منهم. وأما قوله: فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حيْثُ وَجَدْتْموهُمْ فإنما عني به مشركو العرب من عبدة الأوثان الذين لا يجوز قبول الجزية منهم, فليس في إحدى الاَيتين نفي حكم الأخرى, بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه.
12686ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ قال: قريظة.
وأما قوله: وَتَوَكّلْ على اللّهِ يقول: فوّض إلى الله يا محمد أمرك, واستكفه واثقا به أنه يكفيك. كالذي:
12687ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: وَتَوَكّلْ على اللّهِ إن الله كافيك.
وقوله: إنّهُ هُوَ السّمِيِعُ العَلِيمُ يعني بذلك: إن الله الذي تتوكل عليه سميع لما تقول أنت, ومن تسالمه وتتاركه الحرب من أعداء الله وأعدائك عند عقد السلم بينك وبينه, ويشرط كل فريق منكم على صاحبه من الشروط, والعليم بما يضمره كلّ فريق منكم للفريق الاَخر من الوفاء بما عاقده عليه, ومن المضمِر ذلك منكم في قلبه والمنطوي على خلافه لصاحبه