تفسير الطبري تفسير الصفحة 203 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 203
204
202
 الآية : 100
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }.
يقول تعالى ذكره: والذين سبقوا الناس أولاً إلى الإيمان بالله ورسوله من المهاجرين الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا منازلهم وأوطانهم, والأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله: والّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ يقول: والذين سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام, طَلَبَ رضا الله, رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ.
واختلف أهل التأويل في المعنى بقوله: والسّابِقُونَ الأوّلُونَ فقال بعضهم: هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أو أدركوا. ذكر من قال ذلك:
13365ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا محمد بن بشر, عن إسماعيل, عن عامر: والسّابِقُونَ الأوّلُونَ قال: من أدرك بيعة الرضوان.
قال: حدثنا ابن فضيل, عن مطرف, عن عامر, قال: المُهاجِرُونَ الأوّلُونَ من أدرك البيعة تحت الشجرة.
حدثنا ابن بشار, قال حدثنا يحيى, قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد, عن الشعبي, قال: المُهاجِرُونَ الأوّلون الذين شهدوا بيعة الرضوان.
13366ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفيان, عن مطرف, عن الشعبيّ, قال: المهاجرون الأوّلون: من كان قبل البيعة إلى البيعة فهم المهاجرون الأولون, ومن كان بعد البيعة فليس من المهاجرين الأوّلين.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا إسماعيل ومطرّف عن الشعبي, قال: السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ هم الذين بايعوا بيعة الرضوان.
13367ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: حدثنا هشيم, عن داود, عن عامر, قال: فصل ما بين الهجرتين بيعة الرضوان, وهي بيعة الحُديبية.
حدثني المثنى, قال: أخبرنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيم, قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ومطرّف, عن الشعبي, قال: هم الذين بايعوا بيعة الرضوان.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا عبثر أبو زبيد, عن مطرف, الشعبي, قال: المهاجرون الأوّلون: من أدرك بيعة الرضوان.
وقال آخرون: بل هم الذين صلوا القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
13368ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن قيس, عن عثمان الثقفي, عن مولى لأبي موسى, عن أبي موسى, قال: المهاجرون الأوّلون: مَنْ صلى القبلتين مع النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثني الحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا قيس بن الربيع, عن عثمان بن المغيرة, عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير, عن مولى لأبي موسى, قال: سألت أبا موسى الأشعري, عن قوله: السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعا.
13369ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن أبي هلال, عن أبي قتادة, قال: قلت لسعيد بن المسيب: لم سموا المهاجرين الأوّلين؟ قال: من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم القبلتين جميعا, فهو من المهاجرين الأوّلين.
13370ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن أبي عروبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, قال: المهاجرون الأوّلون: الذين صلوا القبلتين.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيّبِ, قوله: السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعا.
حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا عباس بن الوليد, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, مثله.
13371ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيم, عن بعض أصحابه, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, وعن أشعث, عن ابن سيرين في قوله: السّابِقُونَ الأوّلُونَ قال: هم الذين صلوا القبلتين.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا معاذ بن معاذ, قال: حدثنا ابن عون, عن محمد, قال: المهاجرون الأوّلون: الذين صلوا القبلتين.
13372ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعا.
وأما الذين اتبعوا المهاجرون الأوّلين والأنصار بإحسان, فهم الذين أسلموا لله إسلامهم وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير. كما:
13373ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب, قال: مرّ عمر برجل وهو يقرأ هذه الآية: السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصَارِ والّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ قال: من أقرأك هذه الآية؟ قال أقرأنيها أبيّ بن كعب. قال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فأتاه فقال: أنت أقرأت هذا هذه الآية؟ قال نعم, قال: وسمعَتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لقد كنت أرانا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا. قال: وتصديق ذلك في أوّل الآية التي في أوّل الجمعة, وأوسط الحشر, وآخر الأنفال أما أوّل الجمعة: وآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ, وأوسط الحشر: وَالّذِينَ جَاءُوا مِنَ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوانِنا الّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمَانِ, وأما آخر الأنفال: والّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وجَاهَدُوا مَعَكُمْ فأولَئِكَ مِنْكُمْ.
حدثنا أبو كريب, حدثنا الحسن بن عطية, قال: حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي, قال: مرّ عمر بن الخطاب برجل يقرأ: السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصَارِ... حتى بلغ: وَرَضُوا عَنْهُ قال: وأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبيّ بن كعب. فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم, قال: أنت سمعَتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم, قال: لقد كنت أظن أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا, فقال أبيّ: بلى تصديق هذه الآية في أوّل سورة الجمعة: وآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ... إلى: وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ, وفي سورة الحشر: وَالّذِينَ جَاءُوا مِنَ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوانِنا الّذِينَ سَبَقُونَا بالإِيمَانِ, وفي الأنفال: والّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وجَاهَدُوا مَعَكُمْ فأُلَئِكَ مِنْكُمْ... إلى آخر الآية.
ورُوِي عن عمر في ذلك ما:
13374ـ حدثني به أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا حجاج, عن هارون, عن حبيب بن الشهيد, وعن ابن عامر الأنصاري, أن عمر بن الخطاب قرأ: «السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارُ الّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ» فرفع «الأنصار» ولم يلحق الواو في «الذين», فقال له زيد بن ثابت: «والذين اتبعوهم بإحسان», فقال عمر: «الذين اتبعوهم بإحسان». فقال زيد: أمير المؤمنين أعلم فقال عمر: ائتوني بأبيّ بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك, فقال أبي: والّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ فقال عمر: إذا نُتابع أبيّا.
والقراءة على خفض «الأنصار» عطفا بهم على «المهاجرين». وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ: «الأنصارُ» بالرفع عطفا بهم على «السابقين».
والقراءة التي لا أستجيز غيرها الخفض في «الأنصار», لإجماع الحجة من القرّاء عليه, وأن السابق كان من الفريقين جميعا من المهاجرين والأنصار. وإنما قصد الخبر عن السابق من الفريقين دون الخبر عن الجميع, وإلحاق الواو في «الذين اتبعوهم بإحسان», لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين جميعا, على أن التابعين بإحسان غير المهاجرين والأنصار. وأما السابقون فإنهم مرفوعون بالعائد من ذكرهم في قوله: رَضِي اللّهُ عَنْهُمْ ورضُوا عَنْهُ ومعنى الكلام: رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه, ورضي عنه السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار, والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه وإيمانهم به وبنبيه عليه الصلاة والسلام, وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار يدخلونها خالدين فيها لابثين فيها أبدا لا يموتون فيها ولا يخرجون منها, ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ.
الآية : 101
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مّرّتَيْنِ ثُمّ يُرَدّونَ إِلَىَ عَذَابٍ عَظِيمٍ }.
يقول تعالى ذكره: ومن القوم الذين حول مدينتكم من الأعراب منافقون, ومن أهل مدينتكم أيضا أمثالهم أقوام منافقون. وقوله: مَرَدُوا على النّفاقِ يقول: مرنوا عليه ودربوا به, ومنه شيطان مارد ومريد: وهو الخبيث العاتي, ومنه قيل: تمرّد فلان على ربه: أي عتا ومرد على معصيته واعتادها.
وقال ابن زيد في ذلك, ما:
13375ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَمِنْ أهْلِ المَدِينَةِ مَردُوا على النّفاقِ قال: أقاموا عليه لم يتوبوا كما تاب الاَخرون.
13376ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: وَمِنْ أهْلِ المَدِينَةِ مَردُوا على النّفاقِ أي لجّوا فيه وأبو غيره. لا تَعْلَمُهُمْ يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تعلم يا محمد أنت هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك صفتهم ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة, ولكنا نحن نعلمهم. كما:
13377ـ حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله:
وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مِن الأعْرَابِ مُنافِقُون... إلى قوله: نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ قال: فما بال أقوام يتكلفون علم الناس فلان في الجنة وفلان في النار, فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال لا أدري لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس, ولقد تكلفت شيئا ما تكلفته الأنبياء قبلك قال نبيّ الله نوح عليه السلام: وما عِلْمِي بِمَا كانُوا يَعْمَلُون, وقال نبي الله شعيب عليه السلام: بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنِينَ وما أنا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ, وقال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: لا تَعْلَمُهُمْ نحْنُ نَعْلَمُهُمْ.
وقوله: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ يقول: سنعذّب هؤلاء المنافقين مرّتين: إحداهما في الدنيا, والأخرى في القبر.
ثم اختلف أهل التأويل في التي في الدنيا ما هي فقال بعضهم: هي فضيحتهم فضحهم الله بكشف أمورهم وتبيين سرائرهم للناس على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
13378ـ حدثنا الحسين بن عمرو العنقزي, قال: حدثنا أبي, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, عن أبي مالك, عن ابن عباس, في قول الله: وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُون مِنْ أهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا على النّفاقِ... إلى قوله: عَذَابٍ عَظِيمٍ قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة, فقال «اخْرُجْ يا فُلانُ فإنّكَ مُنافِقٌ اخْرُج يا فُلانُ فإنّك مُنافِقٌ» فأخرج من المسجد ناسا منهم فضحهم. فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد, فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة, وظنّ أن الناس قد انصرفوا واختبئوا هم من عمر, ظنوا أنه قد علم بأمرهم. فجاء عمر فدخل المسجد, فإذا الناس لم يصلوا, فقال له رجل من المسلمين: أبشر يا عمر, فقد فضح الله المنافقين اليوم فهذا العذاب الأوّل حين أخرجهم من المسجد, والعذاب الثاني: عذاب القبر.
13379ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفيان, عن السدي, عن أبي مالك: سَنُعَذّبُهم مَرّتَيْنِ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب, فيذكر المنافقين فيعذّبهم بلسانه, قال: وعذاب القبر. ذكر من قال ذلك:
13380ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال: القتل والسباء.
13381ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ بالجوع, وعذاب القبر. قال: ثُمّ يُرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ يوم القيامة.
13382ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا جعفر بن عون والقاسم ويحيى بن آدم, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال: بالجوع والقتل, وقال يحيى: بالخوف والقتل.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: بالجوع والقتل.
13383ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن السدي, عن أبي مالك: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال: بالجوع, وعذاب القبر.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال: بالجوع والقتل.
وقال آخرون: معنى ذلك: سنعذّبهم عذابا في الدنيا وعذابا في الاَخرة. ذكر من قال ذلك:
13384ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ عذاب الدنيا وعذاب القبر. ثُمّ يُرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أسرّ إلى حذيفة باثني عشر رجلاً من المنافقين, فقال: «سِتّة مِنْهم تَكْفِيكَهُمُ الدّبيلة, سِرَاجٌ مِنْ نَارِ جَهَنّم يأْخُذُ في كَتِفِ أحَدِهِمْ حتى يُفْضي إلى صَدْرِهِ, وسِتّة يموتون مَوْتا» ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رحمه الله كان إذا مات رجل يرى أنه منهم ونظر إلىَ حذيفة, فإن صلى عليه صلى عليه وإلا تركه. وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة: أنشدك الله أمنهم أنا؟ قال: لا والله, ولا أؤمن منها أحدا بعدك
13385ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال: عذاب الدنيا وعذاب القبر.
13386ـ حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن العلاء, قالا: حدثنا بدل بن المحبر, قال: حدثنا شعبة, عن قتادة: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال: عذابا في الدنيا وعذابا في القبر.
13387ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: عذاب الدنيا وعذاب القبر ثم يردونَ إلى عذاب النار.
وقال آخرون: كان عذابهم إحدى المرّتين مصائبهم في أموالهم وأولادهم, والمرّة الأخرى في جهنم. ذكر من قال ذلك:
13388ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال: أما عذاب في الدنيا: فالأموال والأولاد, وقرأ قول الله: فَلا تُعْجِبْكَ أمْوَالُهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لَيُعَذّبُهُمْ بِها فَي الحَياةِ الدّنْيا بالمصائب فيهم, هي لهم عذاب وهي للمؤمنين أجر. قال: وعذاب في الاَخرة في النار. ثُمّ يُرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ قال: النار.
وقال آخرون: بل إحدى المرّتين: الحدود, والأخرى: عذاب القبر. ذكر ذلك عن ابن عباس من وجه غير مرضيّ.
وقال آخرون: بل إحدى المرّتين: أخذ الزكاة من أموالهم, والأخرى: عذاب القبر. ذُكر ذلك عن سليمان بن أرقم, عن الحسن.
وقال آخرون: بل إحدى المرّتين عذابهم بما يدخل عليهم من الغيظ في أمر الإسلام. ذكر من قال ذلك:
13389ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال: العذاب الذي وعدهم مرّتين فيما بلغني عنهم ما هم فيه من أمر الإسلام وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة, ثم عذابهم في القبر إذ صاروا إليه, ثم العذاب العظيم الذي يردّونَ إليه عذاب الاَخرة ويخلدون فيه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إن الله أخبر أنه يعذب هؤلاء الذين مردوا على النفاق مرّتين, ولم يضع لنا دليلاً نتوصل به إلى علم صفة ذينك العذابين وجائز أن يكون بعض ما ذكرنا عن القائلين ما أنبئنا عنهم, وليس عندنا علم بأيّ ذلك من بأيّ. على أن في قوله جلّ ثناؤه: ثُمّ يِرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ دلالة على أن العذاب في المرّتين كلتيهما قبل دخولهم النار, والأغلب من إحدى المرّتين أنها في القبر. وقوله: ثُمّ يُرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ يقول: ثم يردّ هؤلاء المنافقون بعد تعذيب الله إياهم مرّتين إلى عذاب عظيم, وذلك عذاب جهنم.
الآية : 102
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق, ومنهم آخرون اعترفوا بذنوبهم, يقول: أقرّوا بذنوبهم. خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا يعني جلّ ثناؤه بالعمل الصالح الذي خلطوه بالعمل السيىء: اعترافهم بذنوبهم وتوبتهم منها, والاَخر السيىء هو تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج غازيا, وتركهم الجهاد مع المسلمين,
فإن قال قائل: وكيف قيل: خلطوا عملاً صالحا وآخر سيئا, وإنما الكلام: خلطوا عملاً صالحا بآخر سيىء؟ قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك, فكان بعض نحويي البصرة يقول: قيل ذلك كذلك, وجائز في العربية أن يكون بآخر كما تقول: استوى الماء والخشبة أي بالخشبة, وخلطت الماء واللبن. وأنكر آخرون أن يكون نظير قولهم: استوى الماء والخشبة. واعتلّ في ذلك بأن الفعل في الخلط عامل في الأول والثاني, وجائز تقديم كلّ واحد منهما على صاحبه, وأن تقديم الخشبة على الماء غير جائز في قولهم: استوى الماء والخشبة, وكان ذلك عندهم دليلاً على مخالفة ذلك الخلط. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنه بمعنى قولهم: خلطت الماء واللبن, بمعنى خلطته باللبن.
عَسَى اللّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ يقول: لعلّ الله أن يتوب عليهم. وعسى من الله واجب, وإنما معناه: سيتوب الله عليهم, ولكنه في كلام العرب على ما وصفت. إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول: إن الله ذو صفح وعفو لمن تاب عن ذنوبه وساتر له عليها رحيم أن يعذّبه بها.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذه الآية والسبب الذي من أجله أنزلت فيه, فقال بعضهم: نزلت في عشرة أنفس كانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, منهم أبو لبابة, فربط سبعة منهم أنفسهم إلى السواري عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم توبة منهم من ذبنهم. ذكر من قال ذلك:
13390ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فلما حضر رجوع النبي صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد, وكان ممرّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم, فلما رآهم قال: «مَنْ هَؤُلاَءِ المُوَثّقُونَ أنْفُسَهُمْ بالسّواري؟» قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله حتى تطلقهم وتعذرهم. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «وأنا أُقْسِمُ باللّهِ لا أُطْلِقُهُمْ وَلا أَعْذِرُهُمْ حتى يَكُونَ اللّهَ هُوَ الّذِي يُطْلِقَهُمْ رَغِبُوا عَنّي وَتَخَلّفُوا عَنِ الغَزْوِ مَعَ المُسْلِمِينَ» فلما بلغهم ذلك, قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله الذي يطلقنا فأنزل الله تبارك وتعالى: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا عَسَى اللّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وعسى من الله واجب. فلما نزلت. أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم, فأطلقهم وعذرهم.
وقال آخرون: بل كانوا ستة, أحدهم أبو لبابة, ذكر من قال ذلك:
13391ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا عَسَى اللّهُ... إلى قوله: إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة تبوك, فتخلف أبو لبابة وخمسة معه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. ثم إن أبا لُبابة ورجلين معه تفكروا وندموا وأيقنوا بالهَلَكة, وقالوا: نكون في الكنّ والطمأنينة مع النساء, ورسول الله والمؤمنون معه في الجهاد؟ والله لنوثِقنّ أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يطلقنا ويعذرنا فانطلق أبو لبابة وأوثق نفسه ورجلان معه بسواري المسجد, وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته, وكان طريقه في المسجد, فمرّ عليهم فقال: «مَنْ هَولاءِ المُوثِقُو أنْفُسِهِمْ بالسّواري؟» فقالوا: هذا أبو لُبابة وأصحاب له تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم, وقد اعترفوا بذنوبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «واللّهِ لا أُطْلِقُهُمْ حتى أُومَر بإطْلاقِهِمْ, ولا أعْذِرهُمْ حتى يَكُونَ اللّهُ هُو يَعْذُرُهُمْ, وقَدْ تَخَلّفُوا عَنّي وَرَغِبُوا بأنْفُسِهِمْ عَنْ غَزْوِ المُسْلِمِينَ وَجِهَادِهِمْ» فأنزل الله برحمته: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا عَسَى اللّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعسى من الله واجب. فلما نزلت الآية أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذرهم, وتجاوز عنهم.
وقال آخرون: الذين ربطوا أنفسهم بالسواري كانوا ثمانية. ذكر من قال ذلك:
13392ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن زيد بن أسلم: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا عَسَى اللّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال: هم الثمانية الذين ربطوا أنفسهم بالسواري, منهم كَرْدم ومِرْداس وأبو لْبابة.
13393ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد, قال: الذين ربطوا أنفسهم بالسواري: هلال, أبو لُبابة, وكَردم, ومِرْداس, وأبو قيس.
وقال آخرون: كانوا سبعة. ذكر من قال ذلك:
13394ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا عَسَى اللّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ذُكر لنا أنهم كانوا سبعة رَهْط تخلفوا عن غزوة تبوك, فأما أربعة فخلطوا عملاً صالحا وآخر سيئا: جَدّ بن قيس, وأبو لُبابة, وحَرام, وأوس, وكلهم من الأنصار, وهم الذين قيل فيهم: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ... الآية.
13395ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاوآخَرَ سَيّئا قال: هم نفر ممن تخلف عن تبوك: منهم أبو لَبابة, ومنهم جد بن قيس تِيبَ عليهم. قال قتادة: وليسوا بثلاثة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ قال: هم سبعة, منهم أبو لبابة كانوا تخلفوا عن غزوة تبوك, وليسوا بالثلاثة.
13396ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقو ل في قوله: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا نزلا في أبي لبابة وأصحابه تخلفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته, وكان قريبا من المدينة, ندموا على تخلفهم عن رسول الله, وقالوا: نكون في الظلال والأطعمة والنساء, ونبيّ الله في الجهاد واللأواء؟ والله لنوثقنّ أنفسنا بالسواري ثم لا نطلقها حتى يكون نبي الله صلى الله عليه وسلم يطلقنا ويعذرنا وأوثقوا أنفسهم, وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم, فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته, فمرّ في المسجد وكان طريقه, فأبصرهم, فسأل عنهم, فقيل له: أبو لبابة وأصحابه تخلفوا عنك يا نبيّ الله, فصنعوا بأنفسهم ما ترى, وعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «لا أُطْلِقُهُمْ حتى أُومَرَ بإطْلاقِهِمْ, وَلا أعْذُرُهُمْ حتى يَعْذُرُهُمْ اللّهُ, قَدْ رَغِبُوا بأنْفُسِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ المُسْلِمِينَ». فأنزل الله: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ... إلى: عَسَى اللّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وعسى من الله واجب. فأطلقهم نبي الله وعذرهم.
وقال آخرون: بل عُني بهذه الآية أبو لبابة خاصة وذنبه الذي اعترف به فتيب عليه منه ما كان من أمره في بني قريظة. ذكر من قال ذلك:
13397ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ قال: نزلت في أبي لبابة قال لبني قريظة ما قال.
13398ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ قال أبو لبابة إذ قال لقريظة ما قال, أشار إلى حلقه: إن محمدا ذابحكم إن نزلتم على حكم الله.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ فذكره نحوه, إلا أنه قال: إن نزلتم على حكمه.
13399ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد: ربط أبو لبابة نفسه إلى سارية, فقال لا أحلّ نفسي حتى يحلني الله ورسوله قال: فحله النبي صلى الله عليه وسلم, وفيه أنزلت هذه الآية: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا... الآية.
13400ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا المحاربي, عن ليث, عن مجاهد: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ قال: نزلت في أبي لبابة.
وقال آخرون: بل نزلت في أبي لبابة بسبب تخلفه عن تبوك. ذكر من قال ذلك:
13401ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, قال: قال الزهري: كان أبو لبابة ممن تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فربط نفسه بسارية, فقال: والله لا أحلّ نفسي منها ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خرّ مغشيّا عليه. قال: ثم تاب الله عليه, ثم قيل له: قد تيب عليك يا أبا لبابة, فقال: والله لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحلني قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحلّه بيده. ثم قال أبو لبابة: يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب, وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال: «يَجْزِيكَ يا أبا لُبابَةُ الثّلُثُ».
وقال بعضهم: عني بهذه الآية الأعرابُ. ذكر من قال ذلك:
13402ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا قال: فقال إنهم من الأعراب.
13403ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن حجاج بن أبي زينب, قال: سمعت أبا عثمان يقول: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ... إلى: إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: نزلت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركهم الجهاد معه والخروج لغزو الروم حين شخص إلى تبوك, وأن الذين نزل فيهم جماعة أحدهم أبو لبابة,
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك, لأن الله جلّ ثناؤه قال: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ فأخبر عن اعتراف جماعة بذنوبهم, ولم يكن المعترف بذنبه الموثق نفسه بالسارية في حصار قريظة غير أبي لبابة وحده. فإذا كان ذلك, وكان الله تبارك وتعالى قد وصف في قوله: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ بالاعتراف بذنوبهم جماعة, علم أن الجماعة الذين وصفهم بذلك السبب غير الواحد, فقد تبين بذلك أن هذه الصفة إذا لم تكن إلا لجماعة, وكان لا جماعة فعلت ذلك فيما نقله أهل السير والأخبار وأجمع عليه أهل التأويل إلا جماعة من المتخلفين عن غزوة تبوك صحّ ما قلنا في ذلك, وقلنا: كان منهم أبو لبابة لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك.
الآية : 103
القول في تأويل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم فتابوا منها صدقة تطهرهم من دنس ذنوبهم وتُزَكّيهمْ بِها يقول: وتنميهم وترفعهم عن خسيس منازل أهل النفاق بها, إلى منازل أهل الإخلاص. وَصَلّ عَلَيْهِمْ يقول: وادع لهم بالمغفرة لذنوبهم, وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ منها. إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ يقول: إن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم بأن الله قد عفا عنهم وقبل توبتهم. وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يقول: والله سميع لدعائك إذا دعوت لهم ولغير ذلك من كلام خلقه, عليم بما تطلب بهم بدعائك ربك لهم وبغير ذلك من أمور عباده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13404ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قال: جاءوا بأموالهم يعني أبا لبابة وأصحابة حين أطلقوا فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدّق بها عنا واستغفر لنا قال: «ما أُمِرْتُ أن آخُذَ مِنْ أمْوَالِكُمْ شَيْئا». فأنزل الله: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها يعني بالزكاة: طاعة الله والإخلاص. وَصَلّ عَلَيْهِمْ يقول: استغفر لهم.
13405ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قال: لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وصاحبيه, انطلق أبو لبابة وصاحباه بأموالهم, فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: خذ من أموالنا فتصدق به عنا, وصلّ علينا يقولون: استغفر لنا وطهرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا آخُذُ مِنْها شَيْئا حتى أُومَرَ» فأنزل الله: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها وَصَلّ عَلَيْهِمْ إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ يقول: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوا. فلما نزلت هذه الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم جزءا من أموالهم, فتصدّق بها عنهم.
13406ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن زيد بن أسلم, قال: لما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة والذين ربطوا أنفسهم بالسواري, قالوا: يا رسول الله خذ من أموالنا صدقة تطهرنا بها فأنزل الله: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ... الآية.
13407ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد بن جبير, قال: قال الذين ربطوا أنفسهم بالسواري حين عفا الله عنهم با نبيّ الله طهر أموالنا فأنزل الله: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها, وكان الثلاثة إذا اشتكى أحدهم اشتكى الاَخران مثله, وكان عمى منهم اثنان, فلم يزل الاَخر يدعوا حتى عمى.
13408ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: الأربعة: جّد بن قيس, وأبو لبابة, وحرام, وأوس, وهم الذين قيل: فيهم: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها وَصَلّ عَلَيْهِمْ إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ أي وقار لهم. وكانوا وعدوا من أنفسهم أن ينفقوا ويجاهدوا ويتصدّقوا.
13409ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: أخبرنا عبيد بن سلمان, قال: سمعت الضحاك, قال: لما أطلق نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وأصحابه, أتوا نبيّ الله بأموالهم, فقالوا: يا نبيّ الله خذ من أموالنا فتصدّق به عنا, وطهرنا وصل علينا يقولون: استغفر لنا. فقال نبيّ الله: «لا آخُذُ مِنْ أمْوَالِكُمْ شَيْئا حتى أُومَرَ فِيها». فأنزل الله عزّ وجلّ: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ من ذنوبهم التي أصابوا. وَصَلّ عَلَيْهِمْ يقول: استغفر لهم. ففعل نبيّ الله عليه الصلاة والسلام ما أمره الله به.
13410ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس, قوله: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً أبو لبابة وأصحابه. وَصَلّ عَلَيْهِمْ يقول: استغفر لهم لذنوبهم التي كانوا أصابوا.
13411ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها وَصَلّ عَلَيْهِمْ إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ قال: هؤلاء ناس من المنافقين ممن كان تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, اعترفوا بالنفاق وقالوا: يا رسول الله قد ارتبنا ونافقنا وشككنا, ولكن توبة جديدة وصدقة نخرجها من أموالنا فقال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها بعد ما قال: وَلا تُصَلّ عَلى أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَدا وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ.
واختلف أهل العربية في وجه رفع «تزكيهم», فقال بعض نحويي البصرة: رفع «تزكيهم بها» في الابتداء وإن شئت جعلته من صفة الصدقة, ثم جئت بها توكيدا, وكذلك «تطهرهم». وقال بعض نحويي الكوفة: إن كان قوله: تُطَهّرُهُمْ للنبيّ عليه الصلاة والسلام فالاختيار أن تجزم بأنه لم يعد على الصدقة عائد, وَتُزَكّيهِمْ مستأنف, وإن كانت الصدقة تطهرهم وأنت تزكيهم بها جاز أن تجزم الفعلين وترفعهما.
قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول أن قوله: تُطَهّرُهُمْ من صلة «الصدقة», لأن القرّاء مجمعة على رفعها, وذلك دليل على أنه من صلة الصدقة. وأما قوله: وَتُزَكّيهِم بها فخبر مستأنف, بمعنى: وأنت تزكيهم بها, فلذلك رفع.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: إنّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ فقال بعضهم: رحمة لهم. ذكر من قال ذلك:
13412ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس: إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ يقول: رحمة لهم.
وقال آخرون: بل معناه: إن صلاتك وقار لهم. ذكر من قال ذلك:
13413ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ: أي وقار لهم.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته قرّاء المدينة: «إنّ صَلَوَاتِكَ سَكَنٌ لَهُمْ» بمعنى دعواتك. وقرأ قرّاء العراق وبعض المكيين: إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ بمعنى إن دعاءك. وكأن الذين قرءوا ذلك على التوحيد رأوا أن قراءته بالتوحيد أصحّ لأن في التوحيد من معنى الجمع وكثرة العدد ما ليس في قوله: «إنّ صَلَوَاتِكَ سَكَنٌ لَهُمْ» إذ كانت الصلوات هي جمع لما بين الثلاث إلى العشر من العدد دون ما هو أكثر من ذلك, والذي قالوا من ذلك عندنا كما قالوا. وبالتوحيد عندنا القراءة لا لعلة أن ذلك في العدد أكثر من الصلوات, ولكن المقصود منه الخبر عن دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم وصلاته أنه سكن لهؤلاء القوم لا الخبر عن العدد, وإذا كان ذلك كذلك كان التوحيد في الصلاة أولى.
الآية : 104
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصّدَقَاتِ وَأَنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ }.
وهذا خبر من الله تعالى ذكره أخبر المؤمنين به أن قبول توبة من تاب من المنافقين وأخذ الصدقة من أموالهم إذا أعطوها ليسا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم, وأن نبيّ الله حين أبى أن يطلق من ربط نفسه بالسواري من المتخلفين عن الغزو معه وحين ترك قبول صدقتهم بعد أن أطلق الله عنهم حين أذن له في ذلك إنما فعل ذلك من أجل أن ذلك لم يكن إليه صلى الله عليه وسلم, وأن ذلك إلى الله تعالى ذكره دون محمد, وأن محمدا إنما يفعل ما يفعل من ترك وإطلاق وأخذ صدقة وغير ذلك من أفعاله بأمر الله. فقال جلّ ثناؤه: ألم يعلم هؤلاء المتخلفون عن الجهاد مع المؤمنين الموثقو أنفسهم بالسواري, القائلون لا نطلق أنفسنا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا, السائلو رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الصدقة أموالهم أن ذلك ليس إلى محمد, وأن ذلك إلى الله, وأن الله هو الذي يقبل من تاب عباده أو يردّها, ويأخذ صدقة من تصدق منهم, أو يردّها عليه دون محمد, فيوجهوا توبتهم وصدقتهم إلى الله, ويقصدوا بذلك قصد وجهه دون محمد وغيره, ويخلصوا التوبة له ويريدوه بصدقتهم, ويعلموا أن الله هو التوّاب الرحيم؟ يقول: المرجع بعبيده إلى العفو عنه إذا رجعوا إلى طاعته, الرحيم بهم إذا هم أنابوا إلى رضاه من عقابه.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما:
13414ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, قال الاَخرون, يعني الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء يعني الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون, فما لهم, فقال الله: إنّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويأْخُذُ الصّدَقَاتِ وأنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ.
13415ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, قال: أخبرني رجل كان يأتي حمادا ولم يجلس إليه قال شعبة: قال العوّام بن حوشب: هو قتادة, أو ابن قتادة, رجل من محارب قال سمعت عبد الله بن السائب وكان جاره, قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: ما من عبد تصدّق بصدقة إلا وقعت في يد الله, فيكون هو الذي يضعها في يد السائل. وتلا هذه الآية: هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويأْخُذُ الصّدَقَاتِ.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن عبد الله بن السائب, عن عبد الله بن أبي قتادة المحاربي, عن عبد الله بن مسعود قال: ما تصدّق رجل بصدقة إلا وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل وهو يضعها في يد السائل. ثم قرأ: ألَمْ يَعْلَمُوا أنّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويأْخُذُ الصّدَقَاتِ.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفيان, عن عبد الله بن السائب, عن عبد الله بن أبي قتادة, عن ابن مسعود, بنحوه.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن الأعمش, عن عبد الله بن السائب, عن عبد الله بن أبي قتادة, قال: قال عبد الله: إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل, ثم قرأ هذه الآية: هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويأْخُذُ الصّدَقَاتِ.
13416ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عباد بن منصور, عن القاسم, أنه سمع أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّهَ يَقْبَلُ الصّدَقَة, ويَأْخُذَها بِيَمينِهِ, فَيُرَبّيها لأحَدِكُمْ كمَا يُرَبّي أحَدُكُمْ مُهْرَهُ, حتى إنّ اللّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ وتصديق ذلك في كتاب الله: أن اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويأْخُذُ الصّدَقَاتِ و يَمْحَقُ اللّهُ الرّبا ويُرْبي الصّدَقاتِ».
حدثنا سليمان بن عمر بن الأقطع الربى, قال: حدثنا ابن المبارك, عن سفيان, عن عباد بن منصور, عن القاسم, عن أبي هريرة, ولا أراه إلا قد رفعه, قال: «إنّ اللّهَ يَقْبَلُ الصّدَقَةَ», ثم ذكر نحوه.
13417ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أيوب, عن القاسم بن محمد عن أبي هريرة قال: إن الله يقبل الصدقة إذا كانت من طيب, ويأخذها بيمينه, وإن الرجل يتصدّق بمثل اللقمة, فيربيها الله له, كما يربى أحدكم فصيله أو مهره, فتربو في كفّ الله أو قال في يد الله حتى تكون مثل الجبل.
13418ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ألَمْ يَعْلَمُوا أنّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويأْخُذُ الصّدَقَاتِ ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «والّذِي نَفْسُ محَمّد بِيَدِهِ, لا يَتَصَدّق رَجُلٌ بِصَدَقَة فَتَقَعَ فِي يَدِ السّائِلِ حتى تَقَعَ فِي يَدِ اللّهِ».
13419ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس: وأن اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ يعني إن استقاموا.
الآية : 105
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدّونَ إِلَىَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَقُلْ يا محمد لهؤلاء الذين اعترفوا لك بذنوبهم من المتخلفين عن الجهاد معك: اعْمَلُوا لله بما يرضيه من طاعته وأداء فرائضه, فَسَيَرى اللّهُ عَمَلَكُم وَرَسُولُهُ يقول: فسيرى الله إن عملتم عملكم, ويراه رسوله. وَالمُؤْمِنُونَ في الدنيا وَسَيُرَدّونَ يوم القيامة إلى من يعلم سرائركم وعلانيتكم, فلا يخفى عليه شيء من باطن أموركُمْ وظواهرها. فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يقول: فيخبركم بما كنتم تعملون, وما منه خالصا وما منه رياء وما منه طاعة وما منه لله معصية, فيجازيكم على ذلك كله جزاءكم, المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
13420ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ قال: هذا وعيد.
الآية : 106
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المتخلفين عنكم شخصتم لعدوّكم أيها المؤمنون آخرون. ورفع قوله آخرون عطفا على قوله: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا. وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ يعني مرجئون لأمر الله وقضائه, يقال منه أرجأته أرجئه إرجاءً وهو مُرْجَأٌ بالهمز وترك الهمز, وهما لغتان معناهما واحد, وقد قرأت القرّاء بهما جميعا. وقيل: عنى بهؤلاء الاَخرين نفر ممن كان تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فندموا على ما فعلوا ولم يتعذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مقدمه, ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري, فأرجأ الله أمرهم إلى أن صحت توبتهم, فتاب عليهم وعفا عنهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13421ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قال: وكان ثلاثة منهم يعني من المتخلفين عن غزوة تبوك لم يوثقوا أنفسهم بالسواري أرجئوا سبتة لا يدرون أيعذّبون أو يتاب عليهم. فأنزل الله: لَقَدْ تَابَ اللّهُ على النّبِيّ وَالمْهاجِرِينَ... إلى قوله: إنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ.
13422ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قال: لما نزلت هذه الآية يعني قوله: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموالهم يعني من أموال أبي لبابة وصاحبيه فتصدّق بها عنهم, وبقي الثلاثة الذين خالفوا أبا لبابة, ولم يوثقوا, ولم يذكروا بشيء, ولم ينزل عذرهم, وضاقت عليهم الأرض بما رحبت. وهم الذين قال الله: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّهِ إمّا يُعَذّبُهُمْ وَإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلَيمٌ حَكِيمٌ فجعل الناس يقولون: هلكوا إذا لم ينزل لهم عذر وجعل آخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم فصاروا مرجئين لأمر الله, حتى نزلت: لَقَدْ تَابَ اللّهُ على النّبِيّ وَالمْهاجِرِينَ والأنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوه فِي ساعَة العُسْرَةِ الذين خرجوا معه إلى الشام مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمّ تابَ عَلَيْهِمُ إنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. ثم قال: وَعلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا يعني المرجئين لأمر الله نزلت عليهم التوبة فعُمّوا بها, فقال: حتى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أنْفُسُهُمْ... إلى قوله: إنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ.
13423ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا سويد بن عمرو, عن حماد بن زيد, عن أيوب, عن عكرمة: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ قال: هم الثلاثة الذين خلفوا.
13424ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ قال: هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الأوس والخزرج.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الأوس والخزرج.
قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله.
13425ـ قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, مثله.
13426ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ هم الثلاثة الذين خلفوا عن التوبة يريد غير أبي لبابة وأصحابه ولم ينزل الله عذرهم, فضاقت عليهم الأرض بما رحبت. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين: فرقة تقول: هلكوا حين لم ينزل الله فيهم ما أنزل في أبي لبابة وأصحابه, وتقول فرقة أخرى: عسى الله أن يعفو عنهم وكانوا مرجئين لأمر الله. ثم أنزل الله رحمته ومغفرته, فقال: لَقَدْ تَابَ اللّهُ على النّبِيّ وَالمْهاجِرِينَ... الآية, وأنزل الله: وَعلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا... الآية.
13427ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ قال: كنا نُحَدّثُ أنهم الثلاثة الذين خلفوا: كعب بن مالك, وهلال بن أمية, ومرارة بن الربيع, رهط من الأنصار.
13428ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ قال: هم الثلاثة الذين خلفوا.
13429ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ إمّا يُعَذّبُهُمْ وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وهم الثلاثة الذين خلوا, وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم حتى أتتهم توبتهم من الله.
وأما قوله: إمّا يُعَذّبُهُمْ فإنه يعني: إما أن يحجزهم الله عن التوبة بخذلانه إياهم فيعذّبهم بذنوبهم التي ماتوا عليها في الاَخرة. وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ يقول: وإما يوفقهم للتوبة فيتوبوا من ذنوبهم, فيغفر لهم. واللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يقول: والله ذو علم بأمرهم وما هم صائرون إليه من التوبة والمقام على الذنب, حكيم في تدبيرهم وتدبير من سواهم من خلقه, لا يدخل حكمه خلل