تفسير الطبري تفسير الصفحة 213 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 213
214
212
 الآية : 34
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ فَأَنّىَ تُؤْفَكُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ يعني من الاَلهة والأوثان مَنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ؟ يقول: من ينشىء خلق شيء من غير أصل, فيحدث خلقه ابتداء ثم يعيده, يقول: ثم يفنيه بعد إنشائه, ثم يعيده كهيئته قبل أن يفنيه؟ فإنهم لا يقدرون على دعوى ذلك لها. وفي ذلك الحجة القاطعة والدلالة الواضحة على أنهم في دعواهم أنها أرباب وهي لله في العبادة شركاء كاذبون مفترون. فقُلِ لهم حينئذ يا محمد: اللّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ فينشئه من غير شيء ويحدثه من غير أصل ثم يفنيه إذا شاء, ثُمّ يُعِيدُهُ إذا أراد كهيئته قبل الفناء. فَأَنّي تُؤْفَكُونَ يقول: فأيّ وجه عن قصد السبيل وطريق الرشد تصرفون وتقلبون. كما:
13758ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: فَأنّىَ تُؤْفَكونَ قال: أنىَ تصرفون.
وقد بيّنا اختلاف المختلفين في تأويل قوله: أنّىَ تُؤْفَكُونَ والصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده في سورة الأنعام.
الآية : 35
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مّن يَهْدِيَ إِلَى الْحَقّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقّ أَفَمَن يَهْدِيَ إِلَى الْحَقّ أَحَقّ أَن يُتّبَعَ أَمّن لاّ يَهِدّيَ إِلاّ أَن يُهْدَىَ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين هَلْ مِنْ شُركائِكم الذين تدعون من دون الله, وذلك آلهتهم وأوثانهم, مَنْ يَهْدِي إلى الحَقّ يقول: من يرشد ضالاّ من ضلالته إلى قصد السبيل, ويسدّد جائزا عن الهدى إلى واضح الطريق المستقيم فإنهم لا يقدرون أن يدّعوا أن آلهتهم وأوثانهم ترشد ضالاّ أو تهدي حائرا. وذلك أنهم إن ادّعوا ذلك لها أكذبتهم المشاهدة وأبان عجزها عن ذلك الاختبار بالمعاينة, فإذا قالوا لا وأقرّوا بذلك, فقل لهم. فالله يهدي الضالّ عن الهدى إلى الحقّ. أفَمَنْ يَهْدِي أيها القوم ضالاّ إلى الحَقّ وجائرا عن الرشد إلى الرشد, أحَقّ أنْ يُتّبَعَ إلى ما يدعو إليه أمْ مَنْ لا يَهْدِي إلاّ أنْ يُهْدَىَ؟
واختلف القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة: «أمْ مَنْ لا يَهْدّي» بتسكين الهاء وتشديد الدال, فجمعوا بين ساكنين. وكأن الذي دعاهم إلى ذلك أنهم وجهوا أصل الكلمة إلى أنه: أم مَن لا يهتدي, ووجدوه في خطّ المصحف بغير ما قرروا وأن التاء حذفت لما أدغمت في الدال, فأقرّوا الهاء ساكنة على أصلها الذي كانت عليه, وشدّدوا الدال طلبا لإدغام التاء فيها, فاجتمع بذلك سكون الهاء والدال. وكذلك فعلوا في قوله: «وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدّوا في السّبْتِ» وفي قوله: يخَصّمونَ. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل مكة والشام والبصرة: «يَهَدّي» بفتح الهاء وتشديد الدال. وأمّوا ما أمّه المدنيون من الكلمة, غير أنهم نقلوا حركة التاء من «يهتدي» إلى الهاء الساكنة, فحرّكوا بحركتها وأدغموا التاء في الدال فشدّدوها. وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة: يَهِدّي بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال, بنحو ما قصده قرّاء أهل المدينة غير أنه كسر الهاء لكسرة الدال من «يهتدي» استثقالاً للفتحة بعدها كسرة في حرف واحد. وقرأ ذلك بعض عامة قرّاء الكوفيين: «أمْ مَنْ لا يَهْدِي» بتسكين الهاء وتخفيف الدال, وقالوا: إن العرب تقول: هديت بمعنى اهتديت, قالوا: فمعنى قوله: أم مَنْ لا يَهْدِي: أم من لا يهتدي إلاّ أنْ يُهْدَى.
وأولى القراءة في ذلك بالصواب قراءة من قرأ: «أمْ مَنْ لا يَهَدّي» بفتح الهاء وتشديد الدال, لما وصفنا من العلة لقارىء ذلك كذلك, وأن ذلك لا يدفع صحته ذو علم بكلام العرب وفيهم المنكر غيره, وأحقّ الكلام أن يقرأ بأفصح اللغات التي نزل بها كلام الله تبارك وتعالى.
فتأويل الكلام إذا: أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتبع, أم من لا يهتدي إلى شيء إلا أن يُهْدَى.
وكان بعض أهل التأويل يزعم أن معنى ذلك: أم من لا يقدر أن ينتقل عن مكانه إلا أن ينقل.
وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ما:
13759ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: «أفمَنْ يَهْدِي إلى الحَقّ أحَقّ أنْ يُتّبَعَ أمْ مَنْ لا يَهِدّي إلاّ أنْ يُهْدَىَ» قال: الأوثان, الله يهدي منها ومن غيرها من شاء لما شاء.
13760ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: «أمّنْ لا يهَدّي إلاّ أنْ يُهْدَىَ» قال: قال: الوثن.
وقوله: فمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ألا تعلمون أن من يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتبع من الذي لا يهتدي إلى شيء إلا أن يهديه إليه هاد غيره, فتتركوا اتباع من لا يهتدي إلى شيء وعبادته وتتبعوا من يهديكم في ظلمات البرّ والبحر وتخلصوا له العبادة فتفردوه بها وحده دون ما تشركونه فيها من آلهتكم وأوثانكم؟
الآية : 36
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يَتّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاّ ظَنّاً إَنّ الظّنّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقّ شَيْئاً إِنّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين إلا ظنّا, يقول: إلا ما لا علم لهم بحقيقته وصحته, بل هم منه في شكّ وريبة. إنّ الظّنّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقّ شَيْئا يقول: إن الشكّ لا يغني من اليقين شيئا, ولا يقوم في شيء مقامه, ولا ينتفع به حيث يحتاج إلى اليقين. إنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما يفعل هؤلاء المشركون من اتباعهم الظنّ وتكذيبهم الحقّ اليقين, وهو لهم بالمرصاد, حيث لا يغني عنهم ظنهم من الله شيئا.
الآية : 37
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يَتّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاّ ظَنّاً إَنّ الظّنّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقّ شَيْئاً إِنّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين إلا ظنّا, يقول: إلا ما لا علم لهم بحقيقته وصحته, بل هم منه في شكّ وريبة. إنّ الظّنّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقّ شَيْئا يقول: إن الشكّ لا يغني من اليقين شيئا, ولا يقوم في شيء مقامه, ولا ينتفع به حيث يحتاج إلى اليقين. إنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما يفعل هؤلاء المشركون من اتباعهم الظنّ وتكذيبهم الحقّ اليقين, وهو لهم بالمرصاد, حيث لا يغني عنهم ظنهم من الله شيئا.
الآية : 38
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
يقول تعالى ذكره: أم يقول هؤلاء المشركون: افترى محمد هذا القرآن من نفسه, فاختلقه وافتعله. قل يا محمد لهم: إن كان كما تقولون إني اختلقته وافتريته, فإنكم مثلي من العرب, ولساني وكلامي مثل لسانكم, فجيئوا بسورة مثل هذا القرآن. والهاء في قوله «مثله» كناية عن القرآن. وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: معنى ذلك: قل فأتوا بسورة مثل سورته, ثم ألقيت «سورة» وأضيف المثل إلى ما كان مضافا إليه السورة, كما قيل: وَاسْئَلِ القَرْيَةَ يراد به: واسأل أهل القرية. وكان بعضهم ينكر ذلك من قوله ويزعم أن معناه: فأتوا بقرآن مثل هذا القرآن.
والصواب من القول في ذلك عندي أن السورة إنما هي سورة من القرآن, وهي قرآن, وإن لم تكن جميع القرآن, فقيل لهم: فأْتُوا بِسُورِةٍ مِنْ مِثْلِهِ ولم يقل: «مثلها», لأن الكناية أخرجت على المعنى, أعني معنى السورة, لا على لفظها, لأنها لو أخرجت على لفظها لقيل: فأتوا بسورة مثلها. وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ يقول: وادعوا أيها المشركون على أن يأتوا بسورة مثلها من قدر تم أن تدعوا على ذلك من أوليائكم وشركائكم مِنْ دُونِ الله يقول: من عند غير الله, فأجمعوا على ذلك واجتهدوا, فإنكم لا تستطيعون أن تأتوا بسورة مثله أبدا.
وقوله: إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ يقول: إن كنتم صادقين في أن محمدا افتراه, فأتوا بسورة مثله من جميع من يعينكم على الإتيان بها, فإن لم تفعلوا ذلك فلا شكّ أنكم كذبة في زعمكم أن محمدا افتراه لأن محمدا لن يعدو أن يكون بشرا مثلكم, فإذا عجز الجميع من الخلق أن يأتوا بسورة مثله, فالواحد منهم عن أن يأتي بجميعه أعجز.
الآية : 39
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ كَذّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظّالِمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء المشركين يا محمد تكذيبك, ولكن بهم التكذيب بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بعِلْمِهِ مما أنزل الله عليك في هذا القرآن من وعيدهم على كفرهم بربهم, وَلمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ يقول: ولما يأتهم بعد بيان ما يئول إليه ذلك الوعيد الذي توعدهم الله في هذا القرآن. كذلكَ كَذّبَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يقول تعالى ذكره: كما كذّب هؤلاء المشركون يا محمد بوعيد الله, كذلك كذّب الأمم التي خلت قبلهم بوعيد الله إياهم على تكذيبهم رسلهم وكفرهم بربهم. فانْظُرُ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظّالِمِين يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانظر يا محمد كيف كان عقبىَ كفر من كفر بالله, ألم نهلك بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالغرق؟ يقول: فإن عاقبة هؤلاء الذي يكذّبونك ويجحدون بآياتي من كفار قومك, كالتي كانت عاقبة من قبلهم من كفرة الأمم, إن لم ينيبوا من كفرهم ويسارعوا إلى التوبة.
الآية : 40
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنهُمْ مّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مّن لاّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ }.
يقول تعالى ذكره: ومن قومك يا محمد من قريش من سوف يؤمن به, يقول: من سوف يصدق بالقرآن, ويقرّ أنه من عند الله. وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ أبدا, يقول: ومنهم من لا يصدّق به, ولا يقرّ أبدا. وَرَبّكَ أعْلَمُ بالمُفْسدِينَ يقول: والله أعلم بالمكذّبين به منهم, الذين لا يصدّقون به أبدا من كل أحد لا يخفى عليه, وهو من وراء عقابه. فأما من كتبت له أن يؤمن به منهم فإني سأتوب عليه.
الآية : 41
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن كَذّبُوكَ فَقُل لّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيَئُونَ مِمّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيَءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: وإن كذّبك يا محمد هؤلاء المشركون وردّوا عليك ما جئتهم به من عند ربك, فقل لهم: أيها القوم لي ديني وعملي ولكم دينكم وعملكم, لايضرّني عملكم ولا يضرّكم عملي, وإنما يُجَازَي كلّ عامل بعمله. أنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أعْمَلُ لا تؤاخذون بجريرته, وأنا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ لا أؤاخذ بجريرة عملكم. وهذا كما قال جلّ ثناؤه: قُلْ يا أيّها الكافِرُونَ لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أنْتُمْ عابِدْونَ ما أعْبُدُ. وقيل: إن هذه الآية منسوخة, نسخها الجهاد والأمر بالقتال. ذكر من قال ذلك:
13761ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَإنْ كَذّبُوكَ فُقُلْ لي عَمَلِي وَلَكُم عَمَلُكُمْ... الآية, قال: أمره بهذا ثم نسخه, وأمره بجهادهم.
الآية : 42
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصّمّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ومن هؤلاء المشركين من يستمعون إلى قولك. أفأنْتَ تُسْمِعُ الصّمّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ يقول: أفأنت تخلق لهم السمع ولو كانوا لا سمع لهم يعقلون به, أم أنا؟ وإنما هذا إعلام من الله عباده أن التوفيق للإيمان به بيده لا إلى أحد سواه, يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كما أنك لا تقدر أن تسمع يا محمد من سلبته السمع, فكذلك لا تقدر أن تُفْهِمَ أمري ونهيي قلبا سلبته فهم ذلك, لأني ختمت عليه أنه لا يؤمن