تفسير الطبري تفسير الصفحة 214 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 214
215
213
 الآية : 43
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنهُمْ مّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المشركين, مشركي قومك, من ينظر إليك يا محمد ويرى أعلامك وحججك على نبوّتك, ولكن الله قد سلبه التوفيق فلا يهتدي, ولا تقدر أن تهديه, كما لا تقدر أن تحدث للأعمى بصرا يهتدي به. أفأنْتَ تَهْدِي العُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ يقول: أفأنت يا محمد تحدث لهؤلاء الذين ينظرون إليك وإلى أدلتك وحججك فلا يوفقون للتصديق بك أبصارا لو كانوا عميا يهتدون بها ويبصرون؟ فكما أنك لا تطيق ذلك ولا تقدر عليه ولا غيرك, ولا يقدر عليه أحد سواي, فكذلك لا تقدر على أن تبصرهم سبيل الرشاد, أنت ولا أحد غيري, لأن ذلك بيدي وإليّ. وهذا من الله تعالى ذكره تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم عن جماعة ممن كفر به من قومه وأدبر عنه فكذّب, وتعزية له عنهم, وأمر برفع طمعه من إنابتهم إلى الإيمان بالله.
الآية : 44
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئاً وَلَـَكِنّ النّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: إن الله لا يفعل بخلقه ما لا يستحقون منه, لا يعاقبهم إلا بمعصيتهم إياه, ولا يعذّبهم إلا بكفرهم به ولَكِنّ النّاسَ يقول: ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم باجترامهم ما يورثها غضب الله وسخطه. وإنما هذا إعلام من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به, أنه لم يسلب هؤلاء الذين أخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم لا يؤمنون الإيمان ابتداء منه بغير جرم سلف منهم, وإخبار أنه إنما سلبهم ذلك باستحقاق منهم سلبه لذنوب اكتسبوها, فحقّ عليهم قول ربهم, وطَبَعَ على قُلوبِهِمْ.
الآية : 45
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لّمْ يَلْبَثُوَاْ إِلاّ سَاعَةً مّنَ النّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِلِقَآءِ اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }.
يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء المشركين فنجمعهم في موقف الحساب, كأنهم كانوا قبل ذلك لم يلبثوا إلا ساعة من نهار يتعارفون فيما بينهم, ثم انقطعت المعرفة وانقضت تلك الساعة. يقول الله: قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِلِقاء اللّهِ وَما كانُواّ مُهْتَدِينَ, قد غبن الذين جحدوا ثواب الله وعقابه وحظوظهم من الخير, وهلكوا. وما كَانُوا مُهْتَدِينَ يقول: وما كانوا موفقين لإصابة الرشد مما فعلوا من تكذيبهم بلقاء الله لأنه أكسبهم ذلك ما لا قبَل لهم به من عذاب الله.
الآية : 46
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِمّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفّيَنّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَىَ مَا يَفْعَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وإما نرينك يا محمد في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من قومك من العذاب, أو نتوفينك قبل أن نريك ذلك فيهم. فإلَيْنا مَرْجِعُهُمْ يقول: فمصيرهم بكلّ حال إلينا ومنقلبهم. ثُمّ اللّهُ شَهِيدٌ على ما يَفْعَلُونَ يقول جلّ ثناؤه ثم أنا شاهد على أفعالهم التي كانوا يفعلونها في الدنيا, وأنا عالم بها لا يخفى عليّ شيء منها, وأنا مجازيهم بها عند مصيرهم إليّ ومرجعهم جزاءهم الذي يستحقونه. كما:
13762ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وإمّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب في حياتك, أوْ نَتَوَفَيّنّكَ قبل, فإلَيْنا مَرْجِعُهُم.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله.
الآية : 47
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِكُلّ أُمّةٍ رّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ولكلّ أمة خلت قبلكم أيها الناس رسول أرسلته إليهم, كما أرسلت محمدا إليكم يدعون من أرسلتهم إليهم إلى دين الله وطاعته. فإذا جَاءَ رَسُولُهُمْ يعني في الاَخرة كما:
13763ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ولِكُلّ أُمّةٍ رَسُولٌ فإذَا جاء رَسَوُلُهُمْ قال: يوم القيامة.
وقوله: قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ يقول قضي حينئذ بينهم بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ من جزاء أعمالهم شيئا, ولكن يجازي المحسن بإحسانه والمسيء من أهل الإيمان إما أن يعاقبه الله وأما أن يعفو عنه, والكافر يخلد في النار فذلك قضاء الله بينهم بالعدل, وذلك لا شكّ عدل لا ظلم.
13764ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ قال: بالعدل.
الآية : 48
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَـَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: ويقول هؤلاء المشركون من قومك يا محمد مَتى هَذَا الوَعْدُ الذي تعدنا أنه يأتينا من عند الله؟ وذلك قيام الساعة إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أنت ومن تبعك فيما تعدوننا به من ذلك.
الآية : 49
القول في تأويل قوله تعالى: {قُل لاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاّ مَا شَآءَ اللّهُ لِكُلّ أُمّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لمستعجليك وَعيدَ الله, القائلين لك: متى يأتينا الوعد الذي تعدنا إن كنتم صادقين: لا أمْلِكُ لَنْفِسي أيها القوم أي لا أقدر لها على ضرّ ولا نفع في دنيا ولا دين إلا ما شاء الله أن أملكه فأجلبه إليها بأذنه. يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: فإذا كنت لا أقدر على ذلك إلا بإذنه, فأنا عن القدرة على الوصول إلى علم الغيب ومعرفة قيام الساعة أعجز وأعجز, إلاّ بمشيئته وإذنه لي في ذلك. لكلّ أمةٍ أجَلٌ يقول: لكلّ قوم ميقات لانقضاء مدتهم وأجلهم, فإذا جاء وقت انقضاء أجلهم وفناء أعمارهم, لا يستأخرون عنه ساعة فيُمْهَلُون وُيؤَخّرون, ولا يستقدمون قبل ذلك لأن الله قضى أن لا يتقدّم ذلك قبل الحين الذي قدّره وقضاه.
الآية : 50
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك: أرأيتم إن أتاكم عذاب الله بياتا, يقول: ليلاً أو نهارا, وجاءت الساعة, وقامت القيامة أتقدرون على دفع ذلك عن أنفسكم؟ يقول الله تعالى ذكره: ماذا يَسْتعَجل من نزول العذاب المجرمون الذين كفروا بالله, وهم الصّالون بحرّه دون غيرهم, ثم لا يقدرون على دفعه عن أنفسهم.
الآية : 51
القول في تأويل قوله تعالى: {أَثُمّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الاَنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: أهنالك إذا وقع عذاب الله بكم أيها المشركون آمنتم به, يقول: صدّقتم به في حال لا ينفعكم فيها التصديق, وقيل لكم حينئذ: آلاَن تصدّقون به, وقد كنتم قبل الاَن به تستعجلون, وأنتم بنزوله مكذّبون فذوقوا الاَن ما كنتم به تكذّبون. ومعنى قوله: أثُمّ في هذا الموضع: أهنالك وليست «ثم» هذه هاهنا التي تأتي بمعنى العطف.
الآية : 52
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمّ قِيلَ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ثُمّ قِيلَ للّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بكفرهم بالله: ذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ تجرّعوا عَذَابَ اللّهِ الدّائمِ لكم أبدا, الذي لا فناء له ولا زوال. هَلْ تُجْزَوْنَ إلاّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يقول: يقال لهم: فانظروا هَلْ تُجْزَوْنَ أي هل تثابون إلاّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ؟ يقول: إلا بما كنتم تعملون في حياتكم قبل مماتكم من معاصي الله.
الآية : 53
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبّيَ إِنّهُ لَحَقّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ }.
يقول تعالى ذكره: ويستخبرك هؤلاء المشركون من قومك يا محمد فيقولون لك: أحقّ ما تقول وما تعدنا به من عذاب الله في الدار الاَخرة جزاء على ما كنا نكسب من معاصي الله في الدنيا؟ قل لهم يا محمد إي وربي إنه لحقّ لا شكّ فيه, وما أنتم بمعجزي الله إذا أراد ذلك بكم بهرب أو امتناع, بل أنتم في قبضته وسلطانه وملكه, إذ أراد فعل ذلك بكم, فاتقوا الله في أنفسكم