تفسير الطبري تفسير الصفحة 279 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 279
280
278
 الآية : 103
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّهُمْ يَقُولُونَ إِنّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ لّسَانُ الّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهَـَذَا لِسَانٌ عَرَبِيّ مّبِينٌ }.
يقول تعالـى ذكره: ولقد نعلـم أن هؤلاء الـمشركين يقولون جهلاً منهم: إنـما يعلّـم مـحمدا هذا الذي يتلوه بشر من بنـي آدم، وما هو من عند الله. يقول الله تعالـى ذكره مكذّبهم فـي قـيـلهم ذلك: ألا تعلـمون كذب ما تقولون؟ إن لسان الذين تلـحدون إلـيه، يقول: تـميـلون إلـيه. بأنه يعلـم مـحمدا، أعجميّ. وذلك أنهم فـيـما ذُكر كانوا يزعمون أن الذي يعلّـم مـحمدا هذا القرآن عبد روميّ، فلذلك قال تعالـى: لِسانُ الّذِي يُـلْـحِدُونَ إلَـيْهِ أعْجَمِيّ وَهذَا لِسانٌ عَرَبـيّ مُبِـينٌ يقول: وهذا القرآن لسان عربـيّ مبـين.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل علـى اختلاف منهم فـي اسم الذي كان الـمشركون يزعمون أنه يعلّـم مـحمدا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن من البشر، فقال بعضهم: كان اسمه بَلْعام، وكان قَـيْنا بـمكة نصرانـيّا. ذكر من قال ذلك:
16554ـ حدثنـي أحمد بن مـحمد الطّوسِيّ، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا إبراهيـم بن طَهْمان، عن مسلـم بن عبد الله الـمَلائي، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّـم قـينا بـمكة، وكان أعجميّ اللسان، وكان اسمه بَلْعام، فكان الـمشركون يَرَوْن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يدخـل علـيه وحين يخرج من عنده، فقالوا: إنـما يعلّـمه بَلْعام فأنزل الله تعالـى ذكره: وَلَقَدْ نَعْلَـمُ أنّهُمْ يَقُولُونَ إنّـمَا يُعَلّـمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الّذِي يُـلْـحِدُونَ إلَـيْهِ أعْجَمِيّ وَهَذَا لِسانٌ عَرَبِـيّ مُبِـينٌ.
وقال آخرون: اسمه يعيش. ذكر من قال ذلك:
16555ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن حبـيب، عن عكرمة، قال: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم يقرىء غلاما لبنـي الـمغيرة أعجميّا قال سفـيان: أراه يقال له: يَعِيش قال: فذلك قوله: لِسانُ الّذِي يُـلْـحِدُونَ إلَـيْهِ أعْجَمِيّ وَهَذَا لِسانٌ عَرَبِـيّ مُبِـينٌ.
16556ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَلَقَدْ نَعْلَـمُ أنّهُم يَقُولُونَ إنّـمَا يُعَلّـمُهُ بَشَرٌ وقد قالت قريش: إنـما يعلـمه بشر، عبد لبنـي الـحَضْرميّ يقال له يعيش، قال الله تعالـى: لِسانُ الّذِي يُـلْـحِدُونَ إلَـيْهِ أعْجَمِيّ وَهَذَا لِسانٌ عَرَبِـيّ مُبِـينٌ وكان يعيش يقرأ الكُتُب.
وقال آخرون: بل كان اسمهَ جْبر. ذكر من قال ذلك:
16557ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيـما بلغنـي كثـيرا ما يجلس عند الـمَرْوَة إلـى غلام نصرانـي يقال له جَبْر، عبد لبنـي بـياضةَ الـحَضَرِميّ، فكانوا يقولون: والله ما يعلّـم مـحمدا كثـيرا مـما يأتـي به إلا جَبْرٌ النصرانـيّ غلام الـحضرميّ فأنزل الله تعالـى فـي قولهم: وَلَقَدْ نَعْلَـمُ أنّهُم يَقُولُونَ إنّـمَا يُعَلّـمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الّذِي يُـلْـحِدُونَ إلَـيْهِ أعْجَمِيّ وَهَذَا لِسانٌ عَرَبِـيّ مُبِـينٌ.
16558ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عبد الله بن كثـير: كانوا يقولون: إنـما يعلـمه نصرانـيّ علـى الـمَرْوة، ويعلـم مـحمدا رُوميّ يقولون اسمه جَبْر وكان صاحب كُتُب عبد لابن الـحضرميّ، قال الله تعالـى: لِسانُ الّذِي يُـلْـحِدُونَ إلَـيْهِ أعْجَمِيّ قال: وهذا قول قريش إنـما يعلـمه بشر، قال الله تعالـى: لِسانُ الّذِي يُـلْـحِدُونَ إلَـيْهِ أعْجَمِيّ وَهَذَا لِسانٌ عَرَبِـيّ مُبِـينٌ.
وقال آخرون: بل كانا غلامين اسم أحدهما يسار والاَخر جَبْر. ذكر من قال ذلك:
16559ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن حُصَين، عن عبد الله بن مسلـم الـحضرميّ: أنه كان لهم عبدان من أهل عير الـيـمن، وكانا طفلـين، وكان يُقال لأحدهما يسار والاَخر جبر، فكانا يقرآن التوراة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربـما جلس إلـيهما، فقال كفـار قريش: إنـما يجلس إلـيهما يتعلـم منهما، فأنزل الله تعالـى: لِسانُ الّذِي يُـلْـحِدُونَ إلَـيْهِ أعْجَمِيّ وَهَذَا لِسانٌ عَرَبِـيّ مُبِـينٌ.
حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا معن بن أسد، قال: حدثنا خالد بن عبد الله، عن حصين، عن عبد الله بن مسلـم الـحضرميّ، نـحوه.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن فضيـل، عن حصين، عن عبد الله بن مسلـم، قال: كان لنا غلامان فكان يقرآن كتابـا لهما بلسانهما، فكان النبـيّ صلى الله عليه وسلم يـمرّ علـيهما، فـيقوم يستـمع منهما، فقال الـمشركون: يتعلـم منهما، فأنزل الله تعالـى ما كذّبهم به، فقال: لِسانُ الّذِي يُـلْـحِدُونَ إلَـيْهِ أعْجَمِيّ وَهَذَا لِسانٌ عَرَبِـيّ مُبِـينٌ.
وقال آخرون: بل كان ذلك سَلْـمان الفـارسي. ذكر من قال ذلك:
16560ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: لِسانُ الّذِي يُـلْـحِدُونَ إلَـيْهِ أعْجَمِيّ كانوا يقولون: إنـما يعلّـمه سَلْـمان الفـارسي.
16561ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل وحدثنـي الـمثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَلَقَدْ نَعْلَـمُ أنّهُم يَقُولُونَ إنّـمَا يُعَلّـمُهُ بَشَرٌ قال: قول كفـار قريش: إنـما يعلّـم مـحمدا عبدُ بن الـحضرمي، وهو صاحب كتاب، يقول الله: لِسانُ الّذِي يُـلْـحِدُونَ إلَـيْهِ أعْجَمِيّ وَهَذَا لِسانٌ عَرَبِـيّ مُبِـينٌ.
وقـيـل: إن الذي قال ذلك رجل كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدّ عن الإسلام. ذكر من قال ذلك:
16562ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرنـي سعيد بن الـمسيب: أن الذي ذكر الله إنـما يعلـمه بشر إنـما افتتن إنه كان يكتب الوحي، فكان يـملـي علـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سميع علـيـم» أو «عزيز حكيـم» وغير ذلك من خواتـم الاَي، ثم يشتغل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو علـى الوحي، فـيستفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـيقول: أعزيز حكيـم، أو سميع علـيـم، أو عزيز علـيـم؟ فـيقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيّ ذلك كتبت فهو كذلك». ففتنه ذلك، فقال: إن مـحمدا يكل ذلك إلـيّ، فأكتب ما شئت. وهو الذي ذكر لـي سعيد بن الـمسيب من الـحروف السبعة.
واختلف القرّاء فـي قراءة قوله: يُـلْـحِدُونَ فقرأته عامّة قرّاء الـمدينة والبصرة: لِسانُ الّذِي يُـلْـحِدُونَ إلَـيْهِ بضم الـياء من ألـحد يـلـحد إلـحادا، بـمعنى يعترضون ويعدلون إلـيه ويعرجون إلـيه من قول الشاعر:
قَدْنِـيَ منْ نَصْرِ الـخُبَـيْبَـيْنِ قَدِيلَـيْسَ أميرِي بـالشّحيحِ الـمُلْـحِدِ
وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة: «لِسانُ الّذِي يَـلْـحِدُونَ إلَـيْهِ» بفتـح الـياء، يعنـي: يـميـلون إلـيه، من لَـحَدَ فلان إلـى هذا الأمر يَـلْـحِدُ لَـحدا ولُـحودا. وهما عندي لغتان بـمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب فـيهما الصواب. وقـيـل: وَهَذَا لِسانٌ عَرَبِـيّ مُبِـينٌ يعنـي: القرآن كما تقول العرب لقصيدة من الشعر يعرضها الشاعر: هذا لسان فلان، تريد قصيدته كما قال الشاعر:
لِسانُ السّوءِ تُهْدِيها إلَـيْنا وحِنْتَ وَما حَسِبْتُكَ أنْ تَـحِينا
يعنـي بـاللسان القصيدة والكلـمة.

الآية : 104 و 105
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ }.
يقول تعالـى: إن الذين لا يؤمنون بحجج الله وأدلته فـيصدّقون بـما دلّت علـيه، لا يَهْدِيهِمُ اللّهُ يقول: لا يوفقهم الله لإصابة الـحقّ ولا يهديهم لسبـيـل الرشد فـي الدنـيا، ولَهُمْ فِـي الاَخِرَةِ وعند الله إذا وردوا علـيه يوم القـيامة عذاب مؤلـم موجع. ثم أخبر تعالـى ذكره الـمشركين الذين قالوا للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: إنـما أنت مفتر، أنهم هم أهل الفرية والكذب، لا نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم والـمؤمنون به، وبرّأ من ذلك نبـيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال: إنـما يتـخرّص الكذب ويتقوّل البـاطل، الذين لا يصدّقون بحجج الله وإعلامه لأنهم لا يرجون علـى الصدق ثوابـا ولا يخافون علـى الكذب عقابـا، فهم أهل الإفك وافتراء الكذب، لا من كان راجيا من الله علـى الصدق الثواب الـجزيـل، وخائفـا علـى الكذب العقاب الألـيـم. وقوله: وأُولَئِكَ هُمُ الكاذِبُونَ يقول: والذين لا يؤمنون بآيات الله هم أهل الكذب لا الـمؤمنون.

الآية : 106
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالإِيمَانِ وَلَـَكِن مّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.
اختلف أهل العربـية فـي العامل فـي «مَن» من قوله: مَنْ كَفَرَ بـاللّهِ ومن قوله: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بـالكُفْرِ صَدْرا، فقال بعض نـحويـي البصرة: صار قوله: فَعَلَـيْهِمْ خبرا لقوله: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بـالكُفْرِ صَدْرا، وقوله: مَنْ كَفَرَ بـاللّهِ مِنْ بَعْدَ إيـمانِهِ فأخبر لهم بخبر واحد، وكان ذلك يدلّ علـى الـمعنى. وقال بعض نـحويـي الكوفة: إنـما هذان جزءان اجتـمعا، أحدهما منعقد بـالاَخر، فجوابهما واحد كقول القائل: من يأتنا فمن يحسن نكرمه، بـمعنى: من يحسن مـمن يأتنا نكرمه. قال: وكذلك كلّ جزاءين اجتـمعا الثانـي منعقد بـالأوّل، فـالـجواب لهما واحد. وقال آخر من أهل البصرة: بل قوله: مَنْ كَفَرَ بـاللّهِ مرفوع بـالردّ علـى «الذين» فـي قوله: إنّـمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بآياتِ اللّهِ ومعنى الكلام عنده: إنـما يفتري الكذب من كفر بـالله من بعد إيـمانه، إلا من أكره من هؤلاء وقلبه مطمئنّ بـالإيـمان. وهذا قول لا وجه له وذلك أن معنى الكلام لو كان كما قال قائل هذا القول، لكان الله تعالـى ذكره قد أخرج مـمن افترى الكذب فـي هذه الاَية الذين وُلدوا علـى الكفر وأقاموا علـيه ولـم يؤمنوا قطّ، وخصّ به الذين قد كانوا آمنوا فـي حال، ثم راجعوا الكفر بعد الإيـمان والتنزيـل يدلّ علـى أنه لـم يخصص بذلك هؤلاء دون سائر الـمشركين الذين كانوا علـى الشرك مقـيـمين، وذلك أنه تعالـى أخبر خبر قوم منهم أضافوا إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم افتراء الكذب، فقال: وَإذَا بَدّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا يُنَزّلُ قَالُوا إنـمَا أنْتَ مُفْترٍ، بَلْ أكْثرُهُمْ لاَ يَعْلَـمُونَ وكذّب جميع الـمشركين بـافترائهم علـى الله وأخبر أنهم أحقّ بهذه الصفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنـما يَفْتَرِي الكَذِبَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بآياتِ اللّهِ وأُولَئِكَ هُمُ الكاذِبُونَ. ولو كان الذين عنوا بهذه الاَية هم الذين كفروا بـالله من بعد إيـمانهم، وجب أن يكون القائلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنـما أنت مفتر حين بدّل الله آية مكان آية، كانوا هم الذين كفروا بـالله بعد الإيـمان خاصة دون غيرهم من سائر الـمشركين لأن هذه فـي سياق الـخبر عنهم، وذلك قول إن قاله قائلٌ فبـين فساده مع خروجه عن تأويـل جميع أهل العلـم بـالتأويـل.
والصواب من القول فـي ذلك عندي أن الرافع ل «من» الأولـى والثانـية، قوله: فَعَلَـيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ والعرب تفعل ذلك فـي حروف الـجزاء إذا استأنفت أحدهما علـى آخر.
وذكر أن هذه الاَية نزلت فـي عمار بن ياسر وقوم كانوا أسلـموا ففتنهم الـمشركون عن دينهم، فثبت علـى الإسلام بعضهم وافتتن بعض. ذكر من قال ذلك:
16563ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: مَنْ كَفَرَ بـاللّهِ مِنْ بَعْدِ إيـمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بـالإيـمَانِ... إلـى آخر الاَية. وذلك أن الـمشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذّبوه، ثم تركوه، فرجع إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدّثه بـالذي لقـي من قريش والذي قال فأنزل الله تعالـى ذكره عذره: مَنْ كَفَرَ بـاللّهِ مِنْ بَعْدِ إيـمَانِهِ... إلـى قوله: ولَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ.
16564ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: مَنْ كَفَرَ بـاللّهِ مِنْ بَعْدِ إيـمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بـالإيـمَانِ قال: ذُكر لنا أنها نزلت فـي عمار بن ياسر، أخذه بنو الـمغيرة فغطوه فـي بئر ميـمون وقالوا: اكفر بـمـحمد فتابعهم علـى ذلك وقلبه كاره، فأنزل لله تعالـى ذكره: إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بـالإيـمَانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بـالكُفْرِ صَدْرا: أي من أتـى الكفر علـى اختـيار واستـحبـاب، فَعَلَـيهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ.
16565ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن عبد الكريـم الـجزري، عن أبـي عبـيدة بن مـحمد بن عمار بن ياسر، قال: أخذ الـمشركون عمار بن ياسر، فعذّبوه حتـى بـاراهم فـي بعض ما أرادوا. فشكا ذلك إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ تَـجدُ قَلْبَكَ؟» قال: مطمئنا بـالإيـمان. قال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «فإنْ عادُوا فَعُدْ».
16566ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، عن حصين، عن أبـي مالك، فـي قوله: إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بـالإِيـمَانَ قال: نزلت فـي عمار بن ياسر.
16567ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبـي، قال: لـما عذّب الأعبد أعطوهم ما سألوا إلا خبـاب بن الأرت، كانوا يضجعونه علـى الرضف فلـم يستقلوا منه شيئا.
فتأويـل الكلام إذن: من كفر بـالله من بعد إيـمانه، إلا من أكره علـى الكفر فنطق بكلـمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئنّ بـالإيـمان، موقن بحقـيقته صحيح علـيه عزمه غير مفسوح الصدر بـالكفر لكن من شرح بـالكفر صدرا فـاختاره وآثره علـى الإيـمان وبـاح به طائعا، فعلـيهم غضب من الله ولهم عذاب عظيـم.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك ورد الـخبر عن ابن عبـاس.
16568ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد الله بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بـالإيـمَانِ فأخبر الله سبحانه أنه من كفر من بعد إيـمانه، فعلـيه غضب من الله وله عذاب عظيـم. فأما من أكره فتكلـم به لسانه وخالفه قلبه بـالإيـمان لـينـجو بذلك من عدوّه، فلا حرج علـيه، لأن الله سبحانه إنـما يأخذ العبـاد بـما عقدت علـيه قلوبهم.
الآية : 107
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{ذَلِكَ بِأَنّهُمُ اسْتَحَبّواْ الْحَيَاةَ الْدّنْيَا عَلَىَ الاَخِرَةِ وَأَنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: حلّ بهؤلاء الـمشركين غضب الله ووجب لهم العذاب العظيـم، من أجل أنهم اختاروا زينة الـحياة الدنـيا علـى نعيـم الاَخرة، ولأن الله لا يوفق القوم الذين يجحدون آياته مع إصرارهم علـى جحودها.

الآية : 108 و 109
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{أُولَـَئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنّهُمْ فِي الاَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ }.
يقول تعالـى ذكره: هؤلاء الـمشركون الذين وصفت لكم صفتهم فـي هذه الاَيات أيها الناس، هم القوم الذين طبع الله علـى قلوبهم، فختـم علـيها بطابعه، فلا يؤمنون ولا يهتدون، وأصمّ أسماعهم فلا يسمعون داعي الله إلـى الهدى، وأعمى أبصارهم فلا يبصرون بها حجج الله إبصار معتبر ومتعظ. وأُولَئِكَ هُمُ الغافِلُونَ يقول: وهؤلاء الذين جعل الله فـيهم هذه الأفعال هم الساهون عما أعدّ الله لأمثالهم من أهل الكفر وعما يراد بهم.
وقوله: لا جَرَمَ أنّهُمْ فِـي الاَخِرَةِ هُمُ الـخاسرُونَ الهالكون، الذين غَبَنوا أنفسهم حظوظها من كرامة الله تعالـى.

الآية : 110
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ إِنّ رَبّكَ لِلّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنّ رَبّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رّحِيمٌ }.
يقول تعالـى ذكره: ثم إن ربك يا مـحمد للذين هاجروا من ديارهم ومساكنهم وعشائرهم من الـمشركين، وانتقلوا عنهم إلـى ديار أهل الإسلام ومساكنهم وأهل ولايتهم، من بعد ما فتنهم الـمشركون الذين كانوا بـين أظهرهم قبل هجرتهم عن دينهم، ثم جاهدوا الـمشركين بعد ذلك بأيديهم بـالسيف وبألسنتهم بـالبراءة منهم ومـما يعبدون من دون الله وصبروا علـى جهادهم إنّ رَبّكَ منْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيـمٌ يقول: إن ربك من بعد فعلتهم هذه لهم لغفور، يقول: لذو ستر علـى ما كان منهم من إعطاء الـمشركين ما أرادوا منهم من كلـمة الكفر بألسنتهم، وهم لغيرها مضمرون وللإيـمان معتقدون، رحيـم بهم أن يعاقبهم علـيها مع إنابتهم إلـى الله وتوبتهم.
وذُكر عن بعض أهل التأويـل أن هذه الاَية نزلت فـي قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا تـخـلّفوا بـمكة بعد هجرة النبـيّ صلى الله عليه وسلم، فـاشتدّ الـمشركون علـيهم حتـى فتنوهم عن دينهم، فأيسوا من التوبة، فأنزل الله فـيهم هذه الاَية، فهاجروا ولـحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
16569ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: مَنْ كَفَرَ بـاللّهِ مِنْ بَعْدِ إيـمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بـالإيـمَانِ قال: ناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إلـيهم بعض أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم بـالـمدينة أن هاجروا، فإنا لا نراكم منا حتـى تهاجروا إلـينا فخرجوا يريدون الـمدينة، فأدركتهم قريش بـالطريق، ففتنوهم وكفروا مكرهين، ففـيهم نزلت هذه الاَية.
حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، بنـحوه.
قال ابن جريج: قال الله تعالـى ذكره: مَنْ كَفَرَ بـاللّهِ مِنْ بَعْدِ إيـمَانِهِ ثم نسخ واستثنى، فقال: ثُمّ إنّ رَبّكَ للّذِينَ هاجَرُوا منْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيـمٌ.
16570ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ثُمّ إنّ رَبّكَ للّذِينَ هاجَرُوا منْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيـمٌ ذكر لنا أنه لـما أنزل الله أن أهل مكة لا يُقبل منهم إسلام حتـى يهاجروا، كتب بها أهل الـمدينة إلـى أصحابهم من أهل مكة. فلـما جاءهم ذلك تبـايعوا بـينهم علـى أن يخرجوا، فإن لـحق بهم الـمشركون من أهل مكة قاتلوهم حتـى ينـجوا أو يـلـحقوا بـالله. فخرجوا فأدركهم الـمشركون، فقاتلوهم، فمنهم من قُتل ومنهم من نـجا، فأنزل الله تعالـى: ثُمّ إنّ رَبّكَ للّذِينَ هاجَرُوا منْ بَعْدِ ما فُتِنُوا... الاَية.
فوصف الـيومين بـالغيـمين، وإنـما يكون الغيـم فـيهما. وقد يجوز أن يكون أريد به فـي يوم عاصف الريح، فحُذفت الريح لأنها قد ذُكرت قبل ذلك، فـيكون ذلك نظير قول الشاعر:
ذَا جاءَ يَوْمٌ مُظْلِـمُ الشّمْسِ كاسِفُ
يريد: كاسف الشمس. وقـيـل: هو من نعت الريح خاصة، غير أنه لـما جاء بعد الـيوم أتبع إعرابه، وذلك أن العرب تتبع الـخفضَ الـخفضَ فـي النعوت، كما قال الشاعر:
تُرِيكَ سُنّةَ وَجْهٍ غيرِ مُقْرِفَةٍمَلْساءَ لـيس بها خالٌ ولا نَدَبُ
فخفض «غير» إتبـاعا لإعراب الوجه، وإنـما هي من نعت السنة، والـمعنى: سُنّة وجه غَيرَ مقرفة، وكما قالوا: هذا جُحرُ ضبّ خربٍ.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16571ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، فـي قوله: كَرَمادٍ اشْتَدّتْ بِهِ الرّيحُ قال: حملته الريح فِـي يَوْمٍ عَاصِفٍ.
16572ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: مَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا بَرَبّهِمْ أعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدّتْ بِهِ الرّيحُ فِـي يَوْمٍ عاصِفٍ يقول: الذين كفروا بربهم وعبدوا غيره، فأعمالهم يوم القـيامة كرماد اشتدّت به الريح فـي يوم عاصف، لا يقدرون علـى شيء من أعمالهم ينفعهم، كما لا يقدر علـى الرماد إذا أرسل علـيه الريح فـي يوم عاصف