تفسير الطبري تفسير الصفحة 278 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 278
279
277
 الآية : 94
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَتّخِذُوَاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسّوَءَ بِمَا صَدَدتّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.
يقول تعالـى ذكره: ولا تتـخذوا أيـمانكم بـينكم دَخَلاً وخديعة بـينكم، تَغُرّون بها الناس فَتَزِلّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها يقول: فتهلكوا بعد أن كنتـم من الهلاك آمنـين. وإنـما هذا مثل لكلّ مبتلـي بعد عافـية، أو ساقطٍ فـي ورطة بعد سلامة، وما أشبه ذلك: «زلّت قدمه»، كما قال الشاعر:
سيَـمْنَعُ منكَ السّبْقُ إنْ كُنْتَ سابِقاوتُلْطَعُ إنْ زَلّتْ بكَ النّعْلانِ
وقوله: وَتَذُوقُوا السّوءَ يقول: وتذوقوا أنتـم السوء وذلك السوء هو عذاب الله الذي يعذّب به أهل معاصيه فـي الدنـيا، وذلك بعض ما عذّب به أهل الكفر. بِـمَا صَدَدْتُـمْ عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ يقول: بـما فَتنتـم من أراد الإيـمان بـالله ورسوله عن الإيـمان. وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ فـي الاَخرة، وذلك نار جهنـم. وهذه الاَية تدلّ علـى أن تأويـل برَيُدة الذي ذكرنا عنه فـي قوله: وأوْفُوا بعَهْدِ اللّهِ إذَا عاهَدْتُـمْ والاَيات التـي بعدها، أنه عُنِـي بذلك: الذين بـايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى الإسلام، عن مفـارقة الإسلام لقلة أهله، وكثرة أهل الشرك هو الصواب، دون الذي قال مـجاهد أنهم عنوا به، لأنه لـيس فـي انتقال قوم تـحالفوا عن حلفـائهم إلـى آخرين غيرهم صدّ عن سبـيـل الله ولا ضلال عن الهدى، وقد وصف تعالـى ذكره فـي هذه الاَية فـاعِلِـي ذلك أنهم بـاتـخاذهم الأيـمان دخلا بـينهم ونقضهم الأيـمان بعد توكيدها، صادّون عن سبـيـل الله، وأنهم أهل ضلال فـي التـي قبلها، وهذه صفة أهل الكفر بـالله لا صفة أهل النّقْلة بـالـحلف عن قوم إلـى قوم.
الآية : 95 و 96
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنّمَا عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنّ الّذِينَ صَبَرُوَاْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولا تنقضوا عهودكم أيها الناس وعقودكم التـي عاقدتـموها من عاقدتـم مؤكّديها بأيـمانكم، تطلبون بنقضكم ذلك عرضا من الدنـيا قلـيلاً ولكن أوفوا بعهد الله الذي أمركم بـالوفـاء به يثبكم الله علـى الوفـاء به، فإن ما عند الله من الثواب لكم علـى الوفـاء بذلك هو خير لكم إن كنتـم تعلـمون فضل ما بـين العِوَضين اللذين أحدهما الثمن القلـيـل الذي تشترون بنقض عهد الله فـي الدنـيا والاَخر الثواب الـجزيـل فـي الاَخرة علـى الوفـاء به. ثم بـين تعالـى ذكره فَرْق ما بـين العِوَضين وفضل ما بـين الثوابـين، فقال: ما عندكم أيها الناس مـما تتـملكونه فـي الدنـيا وإن كَثُر فنافدٌ فـانٍ، وما عند الله لـمن أوفـى بعهده وأطاعه من الـخيرات بـاق غير فـان، فلـما عنده فـاعملوا وعلـى البـاقـي الذي لا يفنى فـاحرصوا. وقوله: وَلَنَـجْزِيَنّ الّذِينَ صَبَرُوا أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يقول تعالـى ذكره: ولـيثـيبنّ الله الذين صبروا علـى طاعتهم إياه فـي السرّاء والضرّاء، ثوابهم يوم القـيامة علـى صبرهم علـيها ومسارعتهم فـي رضاه، بأحسن ما كانوا يعملُون من الأعمال دون أسوئها، ولـيغفرنّ الله لهم سيئها بفضله.


الآية : 97
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: من عمل بطاعة الله، وأوفـى بعهود الله إذا عاهد من ذكر أو أنثى من بنـي آدم وهُوَ مُؤْمِنٌ يقول: وهو مصدّق بثواب الله الذي وعد أهل طاعته علـى الطاعة، وبوعيد أهل معصيته علـى الـمعصية فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً.
واختلف أهل التأويـل فـي الذي عَنَى الله بـالـحياة الطيبة التـي وعد هؤلاء القوم أن يُحْيـيهموها، فقال بعضهم: عنـي أنه يحيـيهم فـي الدنـيا ما عاشوا فـيها بـالرزق الـحلال. ذكر من قال ذلك:
16525ـ حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيـل بن سَميع، عن أبـي مالك، عن ابن عبـاس: فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً قال: الـحياة الطيبة: الرزق الـحلال فـي الدنـيا.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيـل بن سَمِيع، عن أبـي مالك وأبـي الربـيع، عن ابن عبـاس، بنـحوه.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن إسماعيـل بن سَمِيع، عن أبـي الربـيع، عن ابن عبـاس، فـي قوله: مَنْ عَمِلَ صَالِـحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً قال: الرزق الـحسن فـي الدنـيا.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن إسماعيـل بن سَمِيع، عن أبـي الربـيع، عن ابن عبـاس: فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً قال: الرزق الطيب فـي الدنـيا.
حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا سفـيان، عن إسماعيـل بن سَمِيع، عن أبـي الربـيع، عن ابن عبـاس: فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً قال: الرزق الطيب فـي الدنـيا.
حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: مَنْ عَمِلَ صَالِـحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً يعنـي فـي الدنـيا.
16526ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن مطرف، عن الضحاك: فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً قال: الرزق الطيب الـحلال.
16527ـ حدثنـي عبد الأعلـى بن واصل، قال: حدثنا عون بن سلام القرشيّ، قال: أخبرنا بشر بن عُمارة، عن أبـي رَوْق، عن الضحاك، فـي قوله: فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً قال: يأكل حلالاً ويـلبس حلالاً.
وقال آخرون: فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً بأن نرزقه القناعة. ذكر من قال ذلك:
16528ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن يـمان، عن الـمنهال بن خـلـيفة، عن أبـي خزيـمة سلـيـمان التـمّار، عمن ذكره عن علـيّ: فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً قال: القنوع.
16529ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو عصام، عن أبـي سعيد، عن الـحسن البصريّ، قال: الـحياة الطيبة: القناعة.
وقال آخرون: بل يعنـي بـالـحياة الطيبة الـحياة مؤمنا بـالله عاملاً بطاعته. ذكر من قال ذلك:
16530ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً يقول: من عمل عملاً صالـحا وهو مؤمن فـي فـاقة أو ميسرة، فحياته طيبة، ومن أعرض عن ذكر الله فلـم يؤمن ولـم يعمل صالـحا، عيشته ضنكة لا خير فـيها.
وقال آخرون: الـحياة الطيبة السعادة. ذكر من قال ذلك:
16531ـ حدثنـي الـمثنى وعلـيّ بن داود، قالا: حدثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً قال: السعادة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الـحياة فـي الـجنة. ذكر من قال ذلك:
16532ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا هَوْذة، عن عوف، عن الـحسن: فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً قال: لا تطيب لأحد حياة دون الـجنة.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن الـحسن: فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً قال: ما تطيب الـحياة لأحد إلا فـي الـجنة.
16533ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: مَنْ عَمِلَ صَالِـحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً فإن الله لا يشاء عملاً إلا فـي إخلاص، ويوجب من عمل ذلك فـي إيـمان، قال الله تعالـى: فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً وهي الـجنة.
16534ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً قال: الاَخرة يحيـيهم حياة طيبة فـي الاَخرة.
16535ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: مَنْ عَمِلَ صَالِـحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً قال: الـحياة الطيبة فـي الاَخرة: هي الـجنة، تلك الـحياة الطيبة، قال: وَلَنَـجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وقال: ألا تراه يقول: يا لَـيْتَنِـي قَدّمْتُ لِـحَياتـي؟ قال: هذه آخرته. وقرأ أيضا: وَإنّ الدّارَ الاَخِرَةَ لَهِيَ الـحَيَوَانُ قال: الاَخرة دار حياة لأهل النار وأهل الـجنة، لـيس فـيها موت لأحد من الفريقـين.
16536ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، فـي قوله: مَنْ عَمِلَ صَالِـحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ قال: الإيـمان: الإخلاص لله وحده، فبـين أنه لا يقبل عملاً إلا بـالإخلاص له.
وأولـى الأقوال بـالصواب قول من قال: تأويـل ذلك: فلنـحيـينه حياة طيبة بـالقناعة وذلك أن من قنعه الله بـما قسم له من رزق لـم يكثر للدنـيا تعبه ولـم يعظم فـيها نَصَبه ولـم يتكدّر فـيها عيشه بـاتبـاعه بغية ما فـاته منها وحرصه علـى ما لعله لا يدركه فـيها.
وإنـما قلت ذلك أولـى التأويلات فـي ذلك بـالاَية لأن الله تعالـى ذكره أوعد قوما قبلها علـى معصيتهم إياه إن عصوه أذاقهم السوء فـي الدنـيا والعذاب فـي الاَخرة، فقال تعالـى: وَلا تَتّـخِذُوا أيـمَانَكُمْ دَخَلاً بَـيْنَكُمْ فَتزِلّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السّوءَ بِـمَا صَدَدَتُـمْ عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ فهذا لهم فـي الدنـيا، ولهم فـي الاَخرة عذاب عظيـم، فهذا لهم فـي الاَخرة. ثم أتبع ذلك ما لـمَن أوفـى بعهد الله وأطاعه فقال تعالـى: ما عندكم فـي الدنـيا ينفد، وما عند الله بـاق، فـالذي هذه السيئة بحكمته أن يعقب ذلك الوعد لأهل طاعته بـالإحسان فـي الدنـيا، والغفران فـي الاَخرة، وكذلك فَعَلَ تعالـى ذكره.
وأما القول الذي رُوِي عن ابن عبـاس أنه الرزق الـحلال، فهو مـحَتـمَل أن يكون معناه الذي قلنا فـي ذلك، من أنه تعالـى يقنعه فـي الدنـيا بـالذي يرزقه من الـحلال وإن قلّ فلا تدعوه نفسه إلـى الكثـير منه من غير حله، لا أنه يرزقه الكثـير من الـحلال، وذلك أن أكثر العاملـين لله تعالـى بـما يرضاه من الأعمال لـم نرهم رُزِقوا الرزق الكثـير من الـحلال فـي الدنـيا، ووجدنا ضيق العيش علـيهم أغلب من السعة.
وقوله: وَلَنَـجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فذلك لا شكّ أنه فـي الاَخرة وكذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16537ـ حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيـل بن سميع، عن أبـي مالك، عن ابن عبـاس: وَلَنَـجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال: إذا صاروا إلـى الله جزاهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيـل بن سُمَيع، عن أبـي مالك، وأبـي الربـيع، عن ابن عبـاس، مثله.
16538ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن إسماعيـل بن سُمَيع، عن أبـي الربـيع، عن ابن عبـاس: وَلَنَـجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ قال: فـي الاَخرة.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن إسماعيـل بن سُمَيع، عن أبـي الربـيع، عن ابن عبـاس، مثله.
حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس: وَلَنَـجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يقول: يجزيهم أجرهم فـي الاَخرة بأحسن ما كانوا يعملون.
وقـيـل: إن هذه الاَية نزلت بسبب قوم من أهل مِلَل شتـى تفـاخروا، فقال أهل كلّ ملة منها: نـحن أفضل، فبـين الله لهم أفضل أهل الـملل. ذكر من قال ذلك:
16539ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يعلـى بن عبـيد، عن إسماعيـل، عن أبـي صالـح، قال: جلس ناس من أهل الأوثان وأهل التوراة وأهل الإنـجيـل، فقال هؤلاء: نـحن أفضل وقال هؤلاء: نـحن أفضل فأنزل الله تعالـى: مَنْ عَمِلَ صَالِـحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُـحْيِـيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً وَلَنَـجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.

الآية : 98،99،100
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ * إِنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ * إِنّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىَ الّذِينَ يَتَوَلّوْنَهُ وَالّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وإذا كنت يا مـحمد قارئا القرآن، فـاستعذ بـالله من الشيطان الرجيـم. وكان بعض أهل العربـية يزعم أنه من الـمؤخر الذي معناه التقديـم. وكأن معنى الكلام عنده: وإذا استعذت بـالله من الشيطان الرجيـم، فـاقرأ القرآن. ولا وجه لـما قال من ذلك، لأن ذلك لو كان كذلك لكان متـى استعاذ مستعيذ من الشيطان الرجيـم لزمه أن يقرأ القرآن، ولكن معناه ما وصفناه. ولـيس قوله: فـاسْتَعِذْ بـاللّهِ مِنَ الشّيْطانِ الرّجِيـمِ بـالأمر اللازم، وإنـما هو إعلام وندب وذلك أنه لا خلاف بـين الـجميع أن من قرأ القرآن ولـم يستعذ بـالله من الشيطان الرّجيـم قبل قرأته أو بعدها أنه لـم يضيع فرضا واجبـا. وكان ابن زيد يقول فـي ذلك نـحو الذي قلنا.
16540ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: فإذَا قَرأتَ القُرآنَ فـاسْتَعِذ بـاللّهِ مِنَ الشّيْطانِ الرّجِيـمِ قال: فهذا دلـيـل من الله تعالـى دلّ عبـاده علـيه.
وأما قوله: إنّهُ لَـيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلـى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلـى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ فإنه يعنـي بذلك: أن الشيطان لـيست له حجة علـى الذين آمنوا بـالله ورسوله وعملوا بـما أمر الله به وانتهوا عما نهاهم الله عنه. وَعَلـى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ يقول: وعلـى ربهم يتوكلون فـيـما نابهم من مهمات أمورهم. إنّـمَا سُلْطَانُه عَلـىَ الّذِينَ يتَولّونَهُ يقول: إنـما حجته علـى الذين يعبدونه، وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ يقول: والذين هم بـالله مشركون.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16541ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا ورقاء وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: إنّـمَا سُلْطانُهُ قال: حجته.
16542ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قوله: إنّـمَا سُلْطانُهُ علـى الّذِينَ يتَوَلّوْنَهُ قال: يطيعونه.
واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي من أجله لـم يسلط فـيه الشيطان علـى الـمؤمن. فقال بعضهم بـما:
16543ـ حُدثت عن واقد بن سلـيـمان، عن سفـيان، فـي قوله: إنّهُ لَـيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلـى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلـى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ قال: لـيس له سلطان علـى أن يحملهم علـى ذنب لا يغفر.
وقال آخرون: هو الاستعاذة، فإنه إذا استعاذ بـالله منع منه ولـم يسلط علـيه. واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الله تعالـى: وإمّا يَنْزَغَنّكَ منَ الشّيْطانِ نَزْغٌ فـاسْتَعِذْ بـاللّهِ إنّه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ وقد ذكرنا الرواية بذلك فـي سورة الـحِجْر.
وقال آخرون فـي ذلك، بـما:
16544ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، فـي قوله: إنّهُ لَـيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلـى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلـى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ إلـى قوله: وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ يقال: إن عدوّ الله إبلـيس قال: لاَغْوِيَنّهُمْ أجَمعينَ إلاّ عبـادَكَ مِنْهُمُ الـمُخْـلَصِينَ فهؤلاء الذين لـم يجعل للشيطان علـيهم سبـيـل، وإنـما سلطانه علـى قوم اتـخذوه ولـيّا وأشركوه فـي أعمالهم.
16545ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: إنّهُ لَـيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلـى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلـى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ يقول: السلطان علـى من تولـى الشيطان وعمل بـمعصية الله.
16546ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إنّـمَا سُلْطانُهُ عَلـى الّذِينَ يَتَوَلّوْنَهُ يقول: الذين يطيعونه ويعبدونه.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: معناه: إنه لـيس له سلطان علـى الذين آمنوا فـاستعاذوا بـالله منه، بـما ندب الله تعالـى ذكره من الاستعاذة وَعَلـى رَبهِمْ يَتَوَكّلُونَ علـى ما عرض لهم من خطراته ووساوسه.
وإنـما قلنا ذلك أولـى التأويلات بـالاَية لأن الله تعالـى ذكره أتبع هذا القول: فإذَا قَرأتَ القُرآنَ فـاسْتَعِذْ بـاللّهِ مِنَ الشّيْطانِ الرّجِيـمِ وقال فـي موضع آخر: وَإمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطانِ نَزْغٌ فـاسْتَعِذْ بـاللّهِ إنّهُ سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ فكان بـينا بذلك أنه إنـما ندب عبـاده إلـى الاستعاذة منه فـي هذه الأحوال لـيُعيذهم من سلطانه.
وأما قوله: وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله، فقال بعضهم فـيه بـما قلنا إن معناه: والذين هم بـالله مشركون. ذكر من قال ذلك:
16547ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ قال: يعدلون بربّ العالـمين.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ قال: يعدلون بـالله.
16548ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول: فـي قوله: وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ عدلوا إبلـيس بربهم، فإنهم بـالله مشركون.
وقال آخرون: معنى ذلك: والذين هم به مشركون، أشركوا الشيطان فـي أعمالهم. ذكر من قال ذلك:
16549ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ أشركوه فـي أعمالهم.
والقول الأوّل، أعنـي قول مـجاهد، أولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب وذلك أن الذين يتولون الشيطان إنـما يشركونه بـالله فـي عبـادتهم وذبـائحهم ومطاعمهم ومشاربهم، لا أنهم يشركون بـالشيطان. ولو كان معنى الكلام ما قاله الربـيع، لكان التنزيـل: الذين هم مشركوه، ولـم يكن فـي الكلام «به»، فكان يكون لو كان التنزيـل كذلك: والذين هم مشركوه فـي أعمالهم، إلا أن يوجه موجه معنى الكلام إلـى أن القوم كانوا يدينون بألوهة الشيطان ويشركون الله به فـي عبـادتهم إياه، فـيصحّ حينئذ معنى الكلام، ويخرج عما جاء التنزيـل به فـي سائر القرآن وذلك أن الله تعالـى وصف الـمشركين فـي سائر سور القرآن أنهم أشركوا بـالله ما لـم ينزل به علـيهم سلطانا، وقال فـي كل موضع تقدّم إلـيهم بـالزجر عن ذلك: لا تشركوا بـالله شيئا، ولـم نـجد فـي شيء من التنزيـل: لا تشركوا الله بشيء، ولا فـي شيء من القرآن خبرا من الله عنهم أنهم أشركوا الله بشيء فـيجوز لنا توجيه معنى قوله: وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ إلـى والذين هم بـالشيطان مشركو الله. فبـين إذا إذ كان ذلك كذلك أن الهاء فـي قوله: وَالّذِينَ هُمْ بِهِ عائدة علـى «الربّ» فـي قوله: وَعَلـى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ.

الآية : 101
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا بَدّلْنَآ آيَةً مّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ قَالُوَاْ إِنّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكم أخرى، والله أعْلَـمُ بـما يُنَزّلُ يقول: والله أعلـم بـالذي هو أصلـح لـخـلقه فـيـما يبدّل ويغير من أحكامه، قالوا إنـما أنْتَ مُفْتَرٍ يقول: قال الـمشركون بـالله الـمكذبو رسوله لرسوله: إنـما أنت يا مـحمد مفتر أي مكذب تـخرص بتقوّل البـاطل علـى الله. يقول الله تعالـى: بل أكثر هؤلاء القائلـين لك يا مـحمد إنـما أنت مفتر جهالٌ بأنّ الذي تأتـيهم به من عند الله ناسخه ومنسوخه لا يعلـمون حقـيقة صحته.
وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل قوله: وَإذَا بَدّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16550ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل وحدثنـي الـمثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: وَإذَا بَدّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ رفعناها فأنزل غيرها.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: وَإذَا بَدّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ قال: نسخناها، بدّلناها، رفعناها، وأثبتنا غيرها.
16551ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَإذَا بَدّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ هو كقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها.
16552ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَإذَا بَدّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ قالوا: إنـما أنت مفتر، تأتـي بشيء وتنقضه، فتأتـي بغيره. قال: وهذا التبديـل ناسخ، ولا نبدّل آية مكان آية إلا بنسخ.

الآية : 102
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ نَزّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رّبّكَ بِالْحَقّ لِيُثَبّتَ الّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَىَ لِلْمُسْلِمِينَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد للقائلـين لك إنـما أنت مفتر فـيـما تتلو علـيهم من آي كتابنا: أنزله روح القُدُس يقول: قل جاء به جبرَئيـل من عند ربـي بـالـحقّ. وقد بـيّنت فـي غير هذا الـموضع معنى روح القُدس، بـما أغنى عن إعادته.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16553ـ حدثنـي عبد الأعلـى بن واصل، قال: حدثنا جعفر بن عون العمَريّ، عن موسى بن عبـيدة الرّبَذيّ، عن مـحمد بن كعب، قال: روح القُدُس: جبرئيـل.
وقوله: لِـيُثَبّتَ الّذِينَ آمَنُوا يقول تعالـى ذكره: قل نزل هذا القرآن ناسخه ومنسوخه روح القدس علـيّ من ربـي، تثبـيتا للـمؤمنـين وتقوية لإيـمانهم، لـيزدادوا بتصديقهم لناسخه ومنسوخه إيـمانا لإيـمانهم وهدى لهم من الضلالة، وبُشرى للـمسلـمين الذين استسلـموا لأمر الله وانقادوا لأمره ونهيه وما أنزله فـي آي كتابه، فأقرّوا بكلّ ذلك وصدّقوا به قولاً وعملاً