تفسير الطبري تفسير الصفحة 282 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 282
283
281
 سُورَة الإسْراءِ مَكيّة وآياتها إحدى عشرة ومائة
بِسمِ اللّهِ الرحمَن الرّحِيـمِ

الآية : 1
القول فـي تأويـل قوله تعالـى
{سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىَ الْمَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ }.
قال أبو جعفر مـحمد بن جرير الطبري: يعنـي تعالـى ذكره بقوله تعالـى: سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بعَبْدِه لَـيْلاً تنزيها للذي أسرى بعبده وتبرئة له مـما يقول فـيه الـمشركون من أنّ له من خـلقه شريكا، وأن له صاحبة وولدا، وعاوّا له وتعظيـما عما أضافوه إلـيه، ونسبوه من جهالاتهم وخطأ أقوالهم.
وقد بـيّنت فـيـما مضى قبل، أن قوله سبحان اسم وُضع موضع الـمصدر، فنصب لوقوعه موقعه بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وقد كان بعضهم يقول: نصب لأنه غير موصوف، وللعرب فـي التسبـيح أماكن تستعمله فـيها. فمنها الصلاة، كان كثـير من أهل التأويـل يتأوّلون قول الله: فَلَوْلا أنّهُ كانَ مِنَ الـمُسَبّحِينَ: فلولا أنه كان من الـمصلـين. ومنها الاستثناء، كان بعضهم يتأول قول الله تعالـى: ألَـمْ أقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبّحُونَ: لولا تستثنون، وزعم أن ذلك لغة لبعض أهل الـيـمن، ويستشهد لصحة تأويـله ذلك بقوله: إذْ أقْسَمُوا لَـيَصْرِمُنّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ قال: قَال أوْسَطُهمْ ألَـم أقُلْ لَكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحونَ فذكرهم تركهم الاستثناء. ومنها النور، وكان بعضهم يتأوّل فـي الـخبر الذي رُوي عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْلا ذلكَ لاَءَحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ ما أدْرَكَتْ مِنْ شَيْء» أنه عنى بقوله: سبحات وجهه: نور وجهه.
وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل قوله: سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16621ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن عثمان بن موهب، عن موسى بن طلـحة، عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن التسبـيح أن يقول الإنسان: سُبْحانَ الله، قال: «إنْزَاهُ اللّهِ عَنِ السّوءِ».
16622ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا عبدة بن سلـيـمان، عن الـحسن بن صالـح، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قوله: سبحان الله: قال: إنكاف لله. وقد ذكرنا من الاَثار فـي ذلك ما فـيه الكفـاية فـيـما مضى من كتابنا هذا قبل. والإسراء والسّرى: سير اللـيـل. فمن قال: أَسْرى، قال: يُسري إسراء ومن قال: سرى، قال: يَسري سُرَىً، كما قال الشاعر:
ولَـيْـلَةٍ ذَاتِ دُجّى سَرَيْتُولَـمْ يَـلِتْنِـي عَنْ سُراها لَـيْتُ
ويروى: ذات ندى سَريْت.
ويعنـي بقوله: لَـيْلاً من اللـيـل. وكذلك كان حُذيفة بن الـيـمان يقرؤها.
16623ـ حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبـا بكر بن عياش ورجل يحدّث عنده بحديث حين أُسري بـالنبـيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: لا تـجيء بـمثل عاصم ولا زر، قال: قرأ حُذيفة: «سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ اللّـيْـلِ منَ الـمَسجِدِ الـحَرَامِ إلـى الـمَسْجِدِ الأقْصَى» وكذا قرأ عبد الله.
وأما قوله: مِنَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ فإنه اختُلف فـيه وفـي معناه، فقال بعضهم: يعنـي من الـحرم، وقال: الـحرم كله مسجد. وقد بـيّنا ذلك فـي غير موضع من كتابنا هذا. وقال: وقد ذُكر لنا أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم كان لـيـلة أُسري به إلـى الـمسجد الأقصى كان نائما فـي بـيت أمّ هانىء ابنة أبـي طالب. ذكر من قال ذلك:
16624ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن السائب، عن أبـي صالـح بن بـاذام عن أمّ هانىء بنت أبـي طالب، فـي مسرى النبـيّ صلى الله عليه وسلم، أنها كانت تقول: ما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وهو فـي بـيتـي نائم عندي تلك اللـيـلة، فصلـى العشاء الاَخرة، ثم نام ونـمنا، فلـما كان قُبَـيـل الفجر، أهبّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلـما صلـى الصبح وصلـينا معه قال: «يا أُمّ هانِىءٍ لَقَدْ صَلّـيْتُ مَعَكُمُ العِشاءَ الاَخِرَةِ كمَا رأيْتِ بهَذَا الوَادِي، ثُمّ جِئْتُ بَـيْتَ الـمَقْدِسِ فَصَلّـيْتُ فِـيهِ، ثُمّ صَلّـيْتُ صَلاةَ الغَدَاةِ مَعَكُمُ الاَنَ كمَا تَرَيْنَ».
وقال آخرون: بل أُسرى به من الـمسجد، وفـيه كان حين أسرى به. ذكر من قال ذلك:
16625ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر بن عدي، عن سعيد بن أبـي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، وهو رجل من قومه قال: قال نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم: «بَـيْنا أنا عِنْدَ البَـيْتِ بـينَ النائمِ والـيَقْظانِ، إذْ سَمِعْتُ قائلاً يَقُولُ، أحَدُ الثلاثَةِ، فأتِـيتُ بطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِـيها مِنْ ماءِ زَمْزَمَ، فَشَرَحَ صَدْرِي إلـى كَذَا وكَذَا» قال قتادة: قلت: ما يعنـي به؟ قال: إلـى أسفل بطنه قال: «فـاسْتَـخْرَجَ قَلْبِـي فغُسلَ بِـمَاءِ زَمْزَمَ ثُمّ أُعِيدَ مَكانَهُ، ثُمّ حُشِيَ إيـمَانا وَحِكْمَةً، ثُمّ أتِـيتُ بِدَابّةٍ أبْـيَض»، وفـي رواية أخرى: «بِدَابّة بَـيْضَاءَ يُقالُ لَهُ البُرَاقُ، فَوْقَ الـحِمارِ وَدُونَ البَغْلِ، يَقَعُ خَطْوُهُ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فحُمِلْتُ عَلَـيْهِ، ثُمّ انْطَلَقْنا حتـى أتَـيْنا إلـى بَـيْتِ الـمَقْدِسِ فَصَلّـيْتُ فِـيِه بـالنّبِـيّـينَ والـمُرْسَلِـينَ إماما، ثُمّ عُرِجَ بِـي إلـى السّماءِ الدّنْـيا»... فذكر الـحديث.
حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا خالد بن الـحرث، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك، يعنـي ابن صعصعة رجل من قومه، عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم، نـحوه.
حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة رجل من قومه، قال: قال نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نـحوه.
16626ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: قال مـحمد بن إسحاق: ثنـي عمرو بن عبد الرحمن، عن الـحسن بن أبـي الـحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَـيْنا أنا نائمٌ فـي الـحِجْرِ جاءَنِـي جبْرِيـلُ فَهَمَزَنـي بِقَدمِهِ، فجَلَسْتُ فَلَـمْ أرَ شَيْئا، فَعُدْتُ لِـمَضْجَعي، فجاءَنِـي الثّانِـيَةَ فَهَمَزَنِـي بقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ فَلَـمْ أرَ شَيْئا، فَعُدْتُ لِـمَضْجَعي، فجاءَنـي الثّالِثَةَ فَهَمَزَنِـي بقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ، فَأخَذَ بعَضُدِي فَقُمْتُ مَعَهُ، فخَرَجَ بِـي إلـى بـابِ الـمَسْجدِ، فإذَا دَابّةٌ بَـيْضَاءُ بـينَ الـحِمارِ والبَغْلِ، لَهُ فِـي فَخِذَيْهِ جَناحان يَحْفِزُ بِهما رِجْلَـيْهِ، يَضَعُ يَدَهُ فِـي مُنْتَهَى طَرْفهِ، فحَمَلَنـي عَلَـيْهِ ثُمّ خَرَجَ مَعي، لا يَفُوتُنـي وَلا أفُوتُهُ».
16627ـ حدثنا الربـيع بن سلـيـمان، قال: أخبرنا ابن وهب، عن سلـيـمان بن بلال، عن شريك بن أبـي نـمر، قال: سمعت أنسا يحدثنا عن لـيـلة الـمسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إلـيه وهو نائم فـي الـمسجد الـحرام، فقال أوّلهم: أيهم هو؟ قال أوسطهم: هو خيرهم، فقال أحدهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك اللـيـلة، فلـم يرهم حتـى جاءوا لـيـلة أخرى فـيـما يرى قلبه والنبـيّ صلى الله عليه وسلم تنام عيناه، ولا ينام قلبه. وكذلك الأنبـياء تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم فلـم يكلـموه حتـى احتـملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبرئيـل علـيه السلام، فشقّ ما بـين نـحره إلـى لبّته، حتـى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم حتـى أنقـى جوفه، ثم أُتـي بطست من ذهب فـيه تَوْرٌ مـحشوّ إيـمانا وحكمة، فحشا به جوفه وصدره ولغاديده، ثم أطبقه ثم ركب البراق، فسار حتـى أتـى به إلـى بـيت الـمقدس فصلـى فـيه بـالنّبـيـين والـمرسلـين إماما، ثم عرج به إلـى السماء الدنـيا، فضرب بـابـا من أبوابها، فناداه أهل السماء: من هذا؟ قال: هذا جبرائيـل، قـيـل: من معك؟ قال: مـحمد، قـيـل: أَوَ قَد بُعث إلـيه؟ قال: نعم، قالوا: فمرحبـا به وأهلاً، فـيستبشر به أهل السماء، لا يعلـم أهل السماء بـما يريد الله بأهل الأرض حتـى يُعلـمهم، فوجد فـي السماء الدنـيا آدم، فقال له جبرائيـل: هذا أبوك، فسلّـم علـيه، فردّ علـيه، فقال: مرحبـا بك وأهلاً يا بنـي، فنعم الابن أنت، ثم مضى به إلـى السماء الثانـية، فـاستفتـح جبرائيـل بـابـا من أبوابها، فقـيـل: من هذا؟ فقال: جبرئيـل، قـيـل: ومن معك؟ قال: مـحمد، قـيـل: أو قد أرسل إلـيه؟ قال: نعم قد أُرسل إلـيه، فقـيـل: مرحبـا به وأهلاً، ففُتـح لهما فلـما صعد فـيها فإذا هو بنهرين يجريان، فقال: ما هذان النهران يا جبرائيـل؟ قال: هذا النـيـل والفرات عنصرهما ثم عرج به إلـى السماء الثالثة، فـاستفتـح جبرائيـل بـابـا من أبوابها، فقـيـل: من هذا؟ قال: جبرئيـل، قـيـل: ومن معك؟ قال: مـحمد، قـيـل: أَوَ قَد بُعث إلـيه؟ قال: نعم قد بُعث إلـيه، قـيـل: مرحبـا به وأهلاً، ففُتـح له فإذا هو بنهر علـيه قبـاب وقصور من لؤلؤ وزبرجد وياقوت، وغير ذلك مـما لا يعلـمه إلاّ الله، فذهب يشمّ ترابه، فإذا هو مسك أذفر، فقال: يا جبرائيـل ما هذا النهر؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك فـي الاَخرة ثم عرج به إلـى الرابعة، فقالوا به مثل ذلك ثم عرج به إلـى الـخامسة، فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلـى السادسة، فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلـى السابعة، فقالوا له مثل ذلك، وكلّ سماه فـيها أنبـياء قد سماهم أنس، فوعيت منهم إدريس فـي الثانـية، وهارون فـي الرابعة، وآخر فـي الـخامسة لـم أحفظ اسمه، وإبراهيـم فـي السادسة، وموسى فـي السابعة بتفضيـل كلامه الله، فقال موسى: رب لـم أظنّ أن يرفع علـيّ أحد ثم علا به فوق ذلك بـما لا يعلـمه إلاّ الله، حتـى جاء سدرة الـمنتهى، ودنا بـاب الـجبّـار ربّ العزّة، فتدلـى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلـى عبده ما شاء، وأوحى الله فـيـما أوحى خمسين صلاة علـى أمته كل يوم ولـيـلة، ثم هبط حتـى بلغ موسى فـاحتبسه، فقال: يا مـحمد ماذا عهد إلـيك ربك؟ قال: «عهد إلـيّ خمسين صلاة علـى أمتـي كل يوم ولـيـلة» قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فـارجع فلـيخفف عنك وعنهم، فـالتفتّ إلـى جبرائيـل كأنه يستشيره فـي ذلك، فأشار إلـيه أن نعم، فعاد به جبرائيـل حتـى أتـى الـجبّـارَ عزّ وجلّ وهو مكانه، فقال: «ربّ خفف عنا، فإن أمتـي لا تستطيع هذا»، فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلـى موسى علـيه السلام فـاحتبسه، فلـم يزل يردّده موسى إلـى ربه حتـى صارت إلـى خمس صلوات، ثم احتبسه عند الـخمس، فقال: يا مـحمد قد والله راودتُ بنـي إسرائيـل علـى أدنى من هذه الـخمس، فضعفوا وتركوه، فأمتك أضعف أجسادا وقلوبـا وأبصارا وأسماعا، فـارجع فلـيخفف عنك ربك، كلّ ذلك يـلتفت إلـى جبرئيـل لـيشير علـيه، ولا يكره ذلك جبرئيـل، فرفعه عند الـخمس، فقال: «يا ربّ إن أمتـي ضعاف أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم، فخفف عنا»، قال الـجبّـار جلّ جلاله: يا مـحمد، قال: «لبّـيك وسعديك»، فقال: إنـي لا يُبدّل القول لديّ كما كتبت علـيك فـي أمّ الكتاب، ولك بكلّ حسنة عشر أمثالها، وهي خمسون فـي أمّ الكتاب، وهي خمس علـيك فرجع إلـى موسى، فقال: كيف فعلت؟ فقال: «خفّف عنـي، أعطانا بكلّ حسنة عشر أمثالها»، قال: قد والله راودت بنـي إسرائيـل علـى أدنى من هذا فتركوه فـارجع فلـيخفف عنك أيضا، قال: «يا موسى قد والله استـحيـيت من ربـي مـما أختلف إلـيه»، قال: فـاهبط بـاسم الله، فـاستـيقظ وهو فـي الـمسجد الـحرام.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، أن يقال: إن الله عزّ وجلّ أخبر أنه أسرى بعبده من الـمسجد الـحرام، والـمسجد الـحرام هو الذي يتعارفه الناس بـينهم إذا ذكروه، وقوله: إلـى الـمَسْجِدِ الأقْصَى يعنـي: مسجد بـيت الـمقدس، وقـيـل له: الأقصى، لأنه أبعد الـمساجد التـي تزار، ويُبتَغى فـي زيارته الفضل بعد الـمسجد الـحرام. فتأويـل الكلام تنزيها لله، وتبرئة له مـما نـحله الـمشركون من الإشراك والأنداد والصاحبة، وما يجلّ عنه جلّ جلاله، الذي سار بعبده لـيلاً من بـيته الـحرام إلـى بـيته الأقصى.
ثم اختلف أهل العلـم فـي صفة إسراء الله تبـارك وتعالـى بنبـيه صلى الله عليه وسلم من الـمسجد الـحرام إلـى الـمسجد الأقصى، فقال بعضهم: أسرى الله بجسده، فسار به لـيلاً علـى البُراق من بـيته الـحرام إلـى بـيته الأقصى حتـى أتاه، فأراه ما شاء أن يريه من عجائب أمره وعبره وعظيـم سُلطانه، فجمعت له به الأنبـياء، فصلـى بهم هُنالك، وعَرج به إلـى السماء حتـى صعد به فوق السموات السبع، وأوحى إلـيه هنالك ما شاء أن يوحي ثم رجع إلـى الـمسجد الـحرام من لـيـلته، فصلـى به صلاة الصبح. ذكر من قال ذلك، وذكر بعض الروايات التـي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيحه:
16628ـ حدثنا يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرنـي ابن الـمسيب وأبو سلـمة بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسري به علـى البُراق، وهي دابّة إبراهيـم التـي كان يزور علـيها البـيت الـحرام، يقع حافرها موضع طرفها، قال: فمرّت بعير من عيرات قريش بواد من تلك الأودية، فنفرت العير، وفـيها بعير علـيه غرارتان: سوداء، وزرقاء، حتـى أتـى رسول الله صلى الله عليه وسلم إيـلـياء فأتـى بقدحين: قدح خمر، وقدح لبن، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدح اللبن، فقال له جبرئيـل: هُديت إلـى الفطرة، لو أخذت قدح الـخمر غوت أمتك. قال ابن شهاب: فأخبرنـي ابن الـمسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقـي هناك إبراهيـم وعيسى، فنعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «فأمّا مُوسَى فَضَرْبٌ رَجْلُ الرأسِ كأنّهُ مِنْ رِجالِ شَنُوءَةَ، وأمّا عِيسَى فَرَجْلٌ أحْمَرُ كأنّـمَا خَرَجَ مِنْ دِيـمَاسٍ، فأشْبَهُ مَنْ رأيْتُ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودِ الثّقَـفِـيّ وأمّا إبْرَاهِيـمُ فأنا أشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ» فلـما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدّث قريشا أنه أُسري به. قال عبد الله: فـارتدّ ناس كثـير بعد ما أسلـموا، قال أبو سلـمة: فأتـى أبو بكر الصدّيق، فقـيـل له: هل لك فـي صاحبك، يزعم أنه أسري به إلـى بـيت الـمقدس ثم رجع فـي لـيـلة واحدة، قال أبو بكر: أَوَ قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: فأشهد إن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أفتشهد أنه جاء الشام فـي لـيـلة واحدة؟ قال: إنـي أصدّقه بأبعد من ذلك، أصدّقه بخبر السماء. قال أبو سلـمة: سمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لَـمّا كَذّبَتْنِـي قُرَيْشٌ قُمْتُ فَمَثّلَ اللّهُ لـي بَـيْتَ الـمَقْدِسِ، فَطَفِقُت أُخْبرُهُمْ عَنْ آياتِه وأنا أنْظُرُ إلَـيْهِ».
16629ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن أبـيه، عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبـي وقاص، عن أنس بن مالك، قال: لـما جاء جبرائيـل علـيه السلام بـالبراق إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنها ضربت بذنبها، فقال لها جبرئيـل: مه يا براق، فوالله إن ركبك مثله فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بعجوز ناء عن الطريق: أي علـى جنب الطريق.
قال أو جعفر: ينبغي أن يقال: نائية، ولكن أسقط منها التأنـيث.
فقال: «ما هذه يا جبرائيـل؟» قال: سر يا مـحمد، فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا شيء يدعوه متنـحيا عن الطريق يقول: هلـمّ يا مـحمد، قال جبرائيـل: سر يا مـحمد، فسار ما شاء الله أن يسير قال: ثم لقـيه خـلق من الـخلائق، فقال أحدهم: السلام علـيك يا أوّل، والسلام علـيك يا آخر، والسلام علـيك يا حاشر، فقال له جبرائيـل: اردد السلام يا مـحمد، قال: فردّ السلام ثم لقـيه الثانـي، فقال له مثل مقالة الأوّلـين حتـى انتهى إلـى بـيت الـمقدس، فعرض علـيه الـماء واللبن والـخمر، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن، فقال له جبرائيـل: أصبت يا مـحمد الفطرة، ولو شربت الـماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الـخمر لغويت وغوت أمتك. ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبـياء، فأمّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك اللـيـلة، ثم قال له جبرائيـل: أما العجوز التـي رأيت علـى جانب الطريق، فلـم يبق من الدنـيا إلاّ بقدر ما بقـي من عمر تلك العجوز، وأما الذي أراد أن تـميـل إلـيه، فذاك عدوّ الله إبلـيس، أراد أن تـميـل إلـيه وأما الذين سلّـموا علـيك، فذاك إبراهيـم وموسى وعيسى.
16630ـ حدثنـي علـيّ بن سهل، قال: حدثنا حجاج، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربـيع بن أنس، عن أبـي العالـية الرياحي، عن أبـي هريرة أو غيره شك أبو جعفر فـي قول الله عزّ وجلّ: سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَـيْلاً مِنَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ إلـى الـمَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بـارَكْنا حَوْلَهُ، لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إنّهُ هُوَ السّميع البَصِيرُ قال: جاء جبرائيـل إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم ومعه ميكائيـل، فقال جبرائيـل لـميكائيـل: ائتنـي بطست من ماء زمزم كيـما أطهر قلبه، وأشرح له صدره، قال: فشقّ عن بطنه، فغسله ثلاث مرّات، واختلف إلـيه ميكائيـل بثلاث طسات من ماء زمزم، فشرح صدره، ونزع ما كان فـيه من غلّ، وملأه حلـما وعلـما وإيـمانا ويقـينا وإسلاما، وختـم بـين كتفـيه بخاتـم النبوّة، ثم أتاه بفرس فحمل علـيه كلّ خطوة منه منتهى طرفه وأقصى بصره. قال: فسار وسار معه جبرائيـل علـيه السلام، فأتـى علـى قوم يزرعون فـي يوم ويحصدون فـي يوم، كلـما حصدوا عاد كما كان، فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: «يا جبْرائيـلُ ما هَذَا؟» قال: هؤلاء الـمـجاهدون فـي سبـيـل الله، تُضاعف لهم الـحسنة بسبع مئة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخـلفه وهو خير الرازقـين ثم أتـى علـى قوم تُرضخ رؤوسهم بـالصخر، كلـما رضخت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال: «ما هؤلاء يا جَبرائِيـل؟» قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة الـمكتوبة ثم أتـى علـى قوم علـى أقبـالهم رقاع، وعلـى أدبـارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الإبل والغنـم، ويأكلون الضريع والزقّوم ورضف جهنـم وحجارتها، قال: «ما هَؤُلاء يا جَبْرِائيـلُ؟» قال: هؤلاء الذين لا يؤدّون صدقات أموالهم، وما ظلـمهم الله شيئا، وما الله بظلام للعبـيد ثم أتـى علـى قوم بـين أيديهم لـحم نضيج فـي قدور، ولـحم آخر نـيء قذر خبـيث، فجعلوا يأكلون من النـيء، ويدعَون النضيج الطيّب، فقال: «ما هَؤُلاء يا جَبْرَئِيـلُ؟» قال: هذا الرجل من أمتك، تكون عنده الـمرأة الـحلال الطيّب، فـيأتـي امرأة خبـيثة فـيبـيت عندها حتـى يصبح، والـمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيبـا، فتأتـي رجلاً خبـيثا، فتبـيت معه حتـى تصبح. قال: ثم أتـى علـى خشبة فـي الطريق لا يـمرّ بها ثوب إلاّ شقّته، ولا شيء إلاّ خرقته، قال: «ما هَذَا يا جَبْرَئِيـلُ؟» قال: هذا مثَل أقوام من أمتك يقعدون علـى الطريق فـيقطعونه. ثم قرأ: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدّونَ... الاَية. ثم أتـى علـى رجل قد جمع حزمة حطب عظيـمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد علـيها، فقال: «ما هذا يا جَبْرائِيـلُ؟» قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر علـى أدائها، وهو يزيد علـيها، ويريد أن يحملها، فلا يستطيع ذلك ثم أتـى علـى قوم تقرض ألسنتهم وشفـاههم بـمقاريض من حديد، كلـما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: «ما هؤلاء يا جَبْرَئِيـلُ؟» فقال: هؤلاء خطبـاء أمتك خطبـاء الفتنة يقولون ما لا يفعلون ثم أتـى علـى جحر صغير يخرج منه ثور عظيـم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، فقال: «ما هَذَا يا جَبْرَئِيـلُ؟» قال: هذا الرجل يتكلـم بـالكلـمة العظيـمة، ثم يندم علـيها، فلا يستطيع أن يردّها ثم أتـى علـى واد، فوجد ريحا طيبة بـاردة، وفـيه ريح الـمسك، وسمع صوتا، فقال: «يا جَبْرائِيـلُ ما هَذِهِ الرّيحُ الطّيّبَةُ البـارِدَةُ وَهذِهِ الرّائحَةُ الّتـي كَرِيحِ الـمسْكِ، وَما هَذَا الصّوْتُ؟» قال: هذا صوت الـجنة تقول: يا ربّ آتنـي ما وعدتنـي، فقد كثرت غرفـي واستبرقـي وحريري وسندسي وعبقري، ولؤلؤي ومرجانـي، وفضتـي وذهبـي، وأكوابـي وصحافـي وأبـاريقـي، وفواكهي ونـخـلـي ورمانـي، ولبنـي وخمري، فآتنـي ما وعدتنـي، فقال: لكِ كلّ مسلـم ومسلـمة، ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بـي وبرسلـي، وعمل صالـحا ولـم يُشرك بـي، ولـم يتـخذ من دونـي أندادا، ومن خشينـي فهو آمن، ومن سألنـي أعطيته، ومن أقرضنـي جزيته، ومن توكّل علـيّ كفـيته، إنـي أنا الله لا إله إلاّ أنا لا أخـلف الـميعاد، وقد أفلـح الـمؤمنون، وتبـارك الله أحسن الـخالقـين، قالت: قد رضيت ثم أتـى علـى واد فسمع صوتا منكرا، ووجد ريحا منتنة، فقال: «ما هَذِهِ الرّيحُ يا جَبْرَئيـلُ وَما هَذَا الصّوْتُ؟» قال: هذا صوت جهنـم، تقول: يا ربّ آتنـي ما وعدتنـي، فقد كثرت سلاسلـي وأغلالـي، وسعيري وجحيـمي، وضريعي وغسّاقـي، وعذابـي وعقابـي، وقد بعُد قعري واشتدّ حرّي، فآتنـي ما وعدتنـي، قال: لك كلّ مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وكلّ خبـيث وخبـيثة، وكلّ جبّـار لا يؤمن بـيوم الـحساب، قالت: قد رضيت قال: ثم سار حتـى أتـى بـيت الـمقدس، فنزل فربط فرسه إلـى صخرة، ثم دخـل فصلـى مع الـملائكة فلـما قُضيت الصلاة. قالوا: يا جبرئيـل من هذا معك؟ قال: مـحمد، فقالوا: أَوَ قَد أُرسل إلـيه؟ قال: نعم، قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خـلـيفة، فنعم الأخ ونعم الـخـلـيفة، ونعم الـمـجيء جاء قال: ثم لقـي أرواح الأنبـياء فأثنوا علـى ربهم، فقال إبراهيـم: الـحمد لله الذي اتـخذنـي خـلـيلاً وأعطانـي ملكا عظيـما، وجعلنـي أمّة قانتا لله يؤتـمّ بـي، وأنقذنـي من النار، وجعلها علـيّ بردا وسلاما ثم إن موسى أثنى علـى ربه فقال: الـحمد لله الذي كلّـمنـي تكلـيـما، وجعل هلاك آل فرعون ونـجاة بنـي إسرائيـل علـى يدي، وجعل من أمتـي قوما يهدون بـالـحقّ وبه يعدلون ثم إن داود علـيه السلام أثنى علـى ربه، فقال: الـحمد لله الذي جعل لـي ملكا عظيـما وعلّـمنـي الزّبور، وألان لـي الـحديد، وسخّر لـي الـجبـال يسبحن والطير، وأعطانـي الـحكمة وفصل الـخطاب ثم إن سلـيـمان أثنى علـى ربه، فقال: الـحمد لله الذي سخّر لـي الرياح، وسخّر لـي الشياطين، يعملون لـي ما شئت من مـحاريب وتـماثـيـل وجفـان كالـجواب، وقدور راسيات، وعلّـمنـي منطق الطير، وآتانـي من كلّ شيء فضلاً، وسخّر لـي جنود الشياطين والإنس والطير، وفضّلنـي علـى كثـير من عبـاده الـمؤمنـين، وآتانـي ملكا عظيـما لا ينبغي لأحد من بعدي، وجعل ملكي ملكا طيبـا لـيس علـيّ فـيه حساب ثم إن عيسى علـيه السلام أثنى علـى ربه، فقال: الـحمد لله الذي جعلنـي كلـمته وجعل مثلـي مثل آدم خـلقه من تراب، ثم قال له: كن فـيكون، وعلـمنـي الكتاب والـحكمة والتوراة والإنـجيـل، وجعلنـي أخـلق من الطين كهيئة الطير، فأنفخ فـيه، فـيكون طيرا بإذن الله، وجعلنـي أبرىء الأكنه والأبرص، وأحيـي الـموتـى بإذن الله، ورفعنـي وطهرنـي، وأعاذنـي وأمي من الشيطان الرجيـم، فلـم يكن للشيطان علـينا سبـيـل قال: ثم إن مـحمدا صلى الله عليه وسلم أثنى علـى ربه، فقال: «كُلّكُمْ أثْنَى عَلـى رَبّهِ، وأنا مُثْنٍ عَلـى رَبّـي»، فقال: «الـحَمْدُ لِلّهِ الذِي أرْسَلَنِـي رَحْمَةً للعالَـمِينَ، وكافةً للناس بَشِيرا وَنَذِيرا، وأنْزَلَ عَلـيّ الفُرقَانَ فِـيه تِبْـيانُ كُلّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ أُمّتـي خَيْرَ أُمةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ، وَجَعَلَ أُمّتِـي وَسَطا، وَجَعَلَ أُمّتِـي هُمُ الأوّلُونَ وَهُمُ الاَخِرُونَ، وَشَرَحَ لـي صَدْري، وَوَضَعَ عَنـي وِزْرِي وَرَفَعَ لـي ذِكْرِي، وَجَعَلَنـي فـاتـحا خاتِـما» قال إبراهيـم: بهذا فضلكم مـحمد. قال: أبو جعفر: وهو الرازي: خاتـم النبوّة، وفـاتـح بـالشفـاعة يوم القـيامة ثم أتـى إلـيه بآنـية ثلاثة مغطاة أفواهها، فأتـى بإناء منها فـيه ماء، فقـيـل: اشرب، فشرب منه يسيرا ثم دفع إلـيه إناء آخر فـيه لبن، فقـيـل له: اشرب، فشرب منه حتـى روى ثم دفع إلـيه إناء آخر فـيه خمر، فقـيـل له: اشرب، فقال: «لا أريده قد رويت» فقال له جبرئيـل صلى الله عليه وسلم: أما إنها سَتُـحَرّم علـى أمتك، ولو شربت منها لـم يتبعك من أمتك إلاّ القلـيـل، ثم عَرَج به إلـى سماء الدنـيا، فـاستفتـح جبرائيـل بـابـا من أبوابها، فقـيـل: من هذا؟ قال: جبرائيـل، قـيـل: ومن معك؟ فقال: مـحمد، قالوا: أَوَ قَد أُرسل إلـيه، قال: نعم، قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خـلـيفة، فنعم الأخ ونعم الـخـلـيفة، ونعم الـمـجيء جاء فدخـل فإذا هو برجل تامّ الـخـلق لـم ينقص من خـلقه شيء، كما ينقص من خـلق الناس، علـى يـمينه بـاب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله بـاب يخرج منه ريح خبـيثة، إذا نظر إلـى البـاب الذي عن يـمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر إلـى البـاب الذي عن شماله بكى وحزن، فقلت: «يا جَبْرَئِيـلَ مَنْ هَذَا الشّيْخُ التّامُ الـخَـلْقِ الّذِي لَـمْ يَنْقُصْ مِنْ خَـلْقِهِ شَيْءٌ، وَما هَذَانِ البـابـانِ؟» قال: هذا أبوك آدم، وهذا البـاب الذي عن يـمينه بـاب الـجنة، إذا نظر إلـى من يدخـله من ذرّيته ضحك واستبشر، والبـاب الذي عن شماله بـاب جهنـم، إذا نظر إلـى من يدخـله من ذرّيته بكى وحزن ثم صعد به جبرئيـل صلى الله عليه وسلم إلـى السماء الثانـية فـاستفتـح، فقـيـل: من هذا؟ قال: جبرائيـل، قـيـل: ومن معك؟ قال: مـحمد رسول الله، فقالوا: أَوَ قَد أُرسل إلـيه؟ قال: نعم، قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خـلـيفة، فنعم الأخ ونعم الـخـلـيفة، ونعم الـمـجيء جاء، قال: فإذا هو بشابـين، فقال: «يا جَبْرَئِيـلُ مَنْ هَذَانِ الشابّـانِ؟» قال: هذا عيسى ابن مريـم، ويحيى بن زكريا ابنا الـخالة، قال: فصعد به إلـى السماء الثالثة، فـاستفتـح، فقالوا: من هذا؟ قال: جبرائيـل، قالوا: ومن معك؟ قال: مـحمد، قالوا: أَوَ قَد أُرسل إلـيه؟ قال: نعم، قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خـلـيفة، فنعم الأخ ونعم الـخـلـيفة، ونعم الـمـجيء جاء، قال: فدخـل فإذا هو برجل قد فَضَل علـى الناس كلهم فـي الـحُسن، كما فُضّل القمرُ لـيـلة البدر علـى سائر الكواكب، قال: «مَنْ هَذَا يا جِبْرائِيـلُ الّذِي فَضَلَ علـى النّاسِ فـي الـحُسْنِ؟» قال: هذا أخوك يوسف ثم صعد به إلـى السماء الرابعة، فـاستفتـح، فقـيـل: من هذا؟ قال جبرائيـل، قالوا: ومن معك؟ قال: مـحمد، قالوا: أَوَ قَد أُرسل إلـيه؟ قال: نعم، قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خـلـيفة، فنعم الأخ ونعم الـخـلـيفة، ونعم الـمـجيء جاء قال: فدخـل، فإذا هو برجل، قال: «مَنْ هَذَا يا جَبْرَئيـلُ؟» قال: هذا إدريس رفعه الله مكانا علـيّا. ثم صعد به إلـى السماء الـخامسة، فـاستفتـح جبرائيـل، فقالوا: من هذا؟ فقال: جبرائيـل، قالوا: ومن معك؟ قال: مـحمد، قالوا: أَوَ قَد أُرسل إلـيه؟ قال: نعم، قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خـلـيفة، فنعم الأخ ونعم الـخـلـيفة، ونعم الـمـجيء جاء ثم دخـل فإذا هو برجل جالس وحوله قوم يقصّ علـيهم، قال: «مَنْ هَذَا يا جَبْرَئِيـلُ وَمَنْ هَؤُلاءِ الّذِينَ حَوْلَهُ؟» قال: هذا هارون الـمـحبب فـي قومه، وهؤلاء بنو إسرائيـل ثم صعد به إلـى السماء السادسة، فـاستفتـح جبرائيـل، فقـيـل له: من هذا؟ قال: جبرائيـل، قالوا: ومن معك؟ قال: مـحمد، قالوا: أَوَ قَد أُرسل إلـيه؟ قال: نعم، قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خـلـيفة، فنعم الأخ ونعم الـخـلـيفة، ونعم الـمـجيء جاء فإذا هو برجل جالس، فجاوزه، فبكى الرجل، فقال: «يا جَبْرائِيـلُ مَنْ هَذَا؟» قال: موسى، قال: «فَمَا بـالُهُ يَبْكي؟» قال: تزعم بنو إسرائيـل أنـي أكرم بنـي آدم علـى الله، وهذا رجل من بنـي آدم قد خـلفنـي فـي دنـيا، وأنا فـي أخرى، فلو أنه بنفسه لـم أبـال، ولكن مع كلّ نبـيّ أمته ثم صَعَد به إلـى السماء السابعة، فـاستفتـح جبرائيـل، فقـيـل: من هذا؟ قال: جبرائيـل، قالوا: ومن معك؟ قال: مـحمد، قالوا: أَوَ قَد أُرسل إلـيه؟ قال: نعم، قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خـلـيفة، فنعم الأخ ونعم الـخـلـيفة، ونعم الـمـجيء جاء، قال: فدخـل فإذا هو برجل أشمط جالس عند بـاب الـجنة علـى كرسي، وعنده قوم جلوسٍ بـيض الوجوه، أمثال القراطيس، وقوم فـي ألوانهم شيء، فقام هؤلاء الذين فـي ألوانهم شيء، فدخـلوا نهرا فـاغتسلوا فـيه، فخرجوا وقد خـلص من ألوانهم شيء، ثم دخـلوا نهرا آخر، فـاغتسلوا فـيه، فخرجوا وقد خـلص من ألوانهم شيء، ثم دخـلوا نهرا آخر فـاغتسلو فـيه، فخرجوا وقد خـلص من ألوانهم شيء، فصارت مثل ألوان أصحابهم، فجاءوا فجلسوا إلـى أصحابهم، فقال: «يا جَبْرَئِيـلُ مَنْ هَذَا الأشْمَطُ، ثُمّ مَنْ هَؤُلاءِ البِـيضُ وُجُوهُهُمْ، وَمَنْ هَؤُلاءِ الّذِينَ فـي ألْوَانِهِمْ شَيْءٌ، وَما هَذِهِ الأنهَارُ الّتـي دَخَـلُوا، فَجَاءُوا وَقَدْ صَفَتْ ألْوَانُهُمْ؟» قال: هذا أبوك إبراهيـم أوّل من شَمِط علـى الأرض، وأما هؤلاء البـيض الوجوه: فقوم لـم يُـلْبِسوا إيـمانهم بظلـم، وأما هؤلاء الذين فـي ألوانهم شيء، فقوم خـلطوا عملاً صالـحا وآخر شيئا، فتابوا، فتاب الله علـيهم، وأما الأنهار: فأولها رحمة الله، وثانـيها: نعمة الله، والثالث: سقاهم ربهم شرابـا طهورا قال: ثم انتهى إلـى السّدرة، فقـيـل له: هذه السدرة ينتهي إلـيها كلّ أحد خلا من أمتك علـى سنتك، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لـم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذّة للشاربـين، وأنهار من عسل مصفّـى، وهي شجرة يسير الراكب فـي ظلّها سبعين عاما لا يقطعها، والورقة منها مغطية للأمة كلها، قال: فغشيها نور الـخلاّق عزّ وجلّ، وغشيتها الـملائكة أمثال الغربـان حين يقعن علـى الشجرة، قال: فكلـمه عند ذلك، فقال له: سل، فقال: «اتـخذتَ إبراهيـم خـلـيلاً، وأعطيته مُلكا عظيـما، وكلـمت موسى تكلـيـما، وأعطيت داود ملكا عظيـما، وألنت له الـحديد، وسخرت له الـجبـال، وأعطيت سلـيـمان ملكا عظيـما، وسخرت له الـجنّ والإنس والشياطين، وسخرت له الرياح، وأعطيته ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وعلّـمت عيسى التوراة والإنـجيـل، وجعلته يبرىء الأكمه والأبرص، ويحيـي الـموتـى بإذن الله، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيـم، فلـم يكن للشيطان علـيهما سبـيـل». فقال له ربه: قد اتـخذتك حبـيبـا وخـلـيلاً، وهو مكتوب فـي التوراة: حبـيب الله وأرسلتك إلـى الناس كافّة بشيرا ونذيرا، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلاّ ذكرت معي، وجعلت أمتك أمة وسطا، وجعلت أمتك هم الأوّلون والاَخرون، وجعلت أمتك لا تـجوز لهم خطبة، حتـى يشهدوا أنك عبدي ورسولـي، وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيـلهم، وجعلتك أوّل النّبـيـين خَـلْقا، وآخرهم بَعْثا، وأوّلَهم يُقْضَى له، وأعطيتك سبعا من الـمثانـي، لـم يُعطها نبـيّ قبلك، وأعطيتك الكوثر، وأعطيتك ثمانـية أسهم الإسلام والهجرة، والـجهاد، والصدقة، والصلاة، وصوم رمضان، والأمر بـالـمعروف، والنهي عن الـمنكر، وجعلتك فـاتـحا وخاتـما، فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «فضّلَنِـي رَبّـي بسِتّ: أعْطانِـي فَوَاتِـحَ الكَلِـمِ وَخَوَاتِـيـمَهُ، وَجَوَامِعَ الـحَدِيثِ، وأرْسَلَنِـي إلـى النّاسِ كافّةً بَشِيرا وَنَذِيرا، وَقَذَفَ فِـي قُلُوبِ عَدُوّي الرُعْبَ مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وأُحِلّتْ لـيَ الغَنائمُ ولَـمْ تَـحِلّ لأَحَدٍ قَبْلِـي، وجُعِلَتْ لـي الأرْضُ كُلّها طَهُورا وَمَسْجِدا، قال: وَفَرَضَ عَلـيّ خَمْسِينَ صَلاةٍ» فلـما رجع إلـى موسى، قال: بِـم أُمرت يا مـحمد، قال: «بخَمْسِينَ صَلاةً»، قال: ارجع إلـى ربك فـاسأله التّـخفـيف، فإن أمتك أضعف الأمـم، فقد لقـيت من بنـي إسرائيـل شدّة، قال: فرجع النبـيّ صلى الله عليه وسلم إلـى ربه فسأله التـخفـيف، فوضع عنه عشرا، ثم رجع إلـى موسى، فقال: بكم أُمرت؟ قال: «بأرْبَعِينَ»، قال: ارجع إلـى ربك فـاسأله التـخفـيف، فإن أمتك أضعف الأمـم، وقد لقـيتُ من بنـي إسرائيـل شدّة، قال: فرجع إلـى ربه، فسأله التـخفـيف، فوضع عنه عشرا، فرجع إلـى موسى، فقال: بكم أُمرت؟ قال: «أُمِرْتُ بِثَلاثِـينَ»، فقال له موسى: ارجع إلـى ربك فـاسأله التـخفـيف، فإن أمتك أضعف الأمـم، وقد لقـيت من بنـي إسرائيـل شدّة، قال: فرجع إلـى ربه فسأله التـخفـيف، فوضع عنه عشرا، فرجع إلـى موسى فقال: بكم أمرت؟ قال: «بعشرين»، قال: ارجع إلـى ربك فـاسأله التـخفـيف، فإن أمتك أضعف الأمـم، وقد لقـيت من بنـي إسرائيـل شدة، قال: فرجع إلـى ربه فسأله التـخفـيف، فوضع عنه عشرا، فرجع إلـى موسى، فقال: لكم أمرت؟ قال: قال: ارجع إلـى ربك فـاسأله التـخفـيف، فإن أمتك أضعف الأمـم، وقد لقـيت من بنـي إسرائيـل شدّة، قال: فرجع علـى حياء إلـى ربه فسأله التـخفـيف، فوضع عنه خمسا، فرجع إلـى موسى، فقال: بكم أمرت؟ قال: «بخمس»، قال: ارجع إلـى ربك فـاسأله التـخفـيف، فإن أمتك أضعف الأمـم، وقد لقـيتُ من بنـي إسرائيـل شدّة، قال: «قَدْ رَجَعْتُ إلـى رَبّـي حتـى اسْتَـحْيَـيْت فَمَا أنا رَاجِعٌ إلَـيْهِ»، فقـيـل له: أما إنك كما صبرت نفسك علـى خمس صلوات فإنهنّ يجزين عنك خمسين صلاة، فإن كلّ حسنة بعشر أمثالها، قال: فرضي مـحمد صلى الله عليه وسلم كلّ الرضا، فكان موسى أشدّهم علـيه حين مرّ به، وخيرهم له حين رجع إلـيه.
حدثنـي مـحمد بن عبـيد الله، قال: أخبرنا أبو النضر هاشم بن القاسم، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربـيع بن أنس، عن أبـي العالـية أو غيره شكّ أبو جعفر عن أبـي هريرة فـي قوله: سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِه... إلـى قوله: إنّهُ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ قال: جاء جبرائيـل إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر نـحو حديث علـيّ بن سهل، عن حجاج، إلا أنه قال: جاء جبرائيـل ومعه مكائيـل، وقال فـيه: وإذا بقوم يسرحون كما تسرح الأنعام يأكلون الضريع والزقوم، وقال فـي كل موضع قال علـيّ: «ما هؤلاء»، «من هؤلاء يا جبرئيـل»، وقال فـي موضع «تقرض ألسنتهم» «تقص ألسنتهم»، وقال أيضا فـي موضع قال علـيّ فـيه: «ونعم الـخـلـيفة». قال فـي ذكر الـخمر، فقال: «لا أريده قد رويت»، قال جبرئيـل: قد أصبت الفطرة يا مـحمد، إنها ستـحرم علـى أمتك، وقال فـي سدرة الـمنتهى أيضا: هذه السدرة الـمنتهى، إلـيها ينتهي كلّ أحد خلا علـى سبـيـلك من أمتك وقال أيضا فـي الورقة منها: «تظلّ الـخـلق كلهم، تغشاها الـملائكة مثل الغربـان حين يقعن علـى الشجرة، من حُبّ الله عزّ وجلّ» وسائر الـحديث مثل حديث علـيّ.
16631ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن أبـي هارون العبدي، عن أبـي سعيد الـخدري وحدثنـي الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر، قال: أخبرنا أبو هارون العبدي، عن أبـي سعيد الـخدري، واللفظ لـحديث الـحسن بن يحيى، فـي قوله: سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَـيْلاً مِنَ الـمَسْجِد الـحَرَامِ إلـى الـمَسْجِدِ الأقْصَى قال: حدثنا النبـيّ صلى الله عليه وسلم عن لـيـلة أُسري به فقال نبـيّ الله: «أُتِـيتُ بِدَابّةٍ هِيَ أشْبَهُ الدّوَابّ بـالبَغْلِ، لَهُ أذُنانِ مُضْطَرِبَتان وَهُوَ البُرَاقُ، وَهُوَ الّذِي كانَ تَرْكَبُهُ الأنْبِـياءُ قَبْلِـي، فَرَكِبْتُهُ، فـانْطَلَقَ بِـي يَضَعُ يَدَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى بَصَرِهِ، فَسَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَـمِينِـي: يا مُـحَمّدُ عَلـى رِسْلِكَ أسألْكَ، فَمَضَيْتُ وَلَـمْ أعَرّجْ عَلَـيْهِ ثُمّ سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ شِمالـي: يا مُـحَمّدُ عَلـى رِسُلِكَ أسألْكَ، فَمَضَيْتُ وَلـمْ أعَرّجْ عَلَـيْهِ ثُمّ اسْتَقْبَلْتُ امْرأةً فِـي الطّرِيقِ، فَرأيْتُ عَلَـيْها مِنْ كُلّ زِينَةٍ مِنْ زِينَةِ الدّنـيْا رَافِعَةً يَدَها، تَقُولُ: يا مُـحَمّدُ علـى رِسْلِكَ أسألْكَ، فَمَضْيتُ وَلَـمْ أعَرّجْ عَلَـيْها، ثُمّ أتَـيْتُ بَـيْتَ الـمَقْدِسِ، أوْ قالَ الـمَسْجِدَ الأقْصَى، فَنَزَلْتُ عَنِ الدّابَةِ فَأوْثْقْتُها بـالـحَلْقَةِ التـي كانَنِ الأنْبِـياءُ تُوثِقُ بِها، ثُمّ دَخَـلْتُ الـمَسْجِدَ فَصَلّـيْتُ فِـيهِ، فقالَ لِـي جَبْرَئِيـل: ماذَا رأيْتَ فِـي وَجْهِكَ، فَقُلْتُ: سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَـمِينِـي أنْ يا مُـحَمّدُ عَلـى رِسْلِكَ أسألْكَ، فَمَضَيْتُ ولَـمْ أعَرّجْ عَلَـيْهِ، قالَ: ذَاكَ داعِيَ الـيَهُودِ، أمَا لَوَ أنّكَ وَقَـفْتَ عَلَـيْهِ لَتهَوّدَتْ أُمّتُكَ، قال: ثُمّ سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَسارِي أنْ يا مُـحَمّدُ عَلـى رِسْلِكَ أسألْكَ، فَمَضَيْتُ وَلَـمْ أعَرّجْ عَلَـيْهِ، قال: ذَاكَ داعي النّصَارَى، أمَا إنّكَ لَوْ وَقَـفْتَ عَلَـيْهِ لَتَنَصّرَتْ أُمّتُكَ، قُلْتُ: ثُمّ استْقَبَلَتَنِـي امْرأةٌ عَلَـيْها مِنْ كُلّ زِينَةٍ مِنْ زِينَةِ الدّنـيْا رَافِعَةً يَدَها تَقُولُ عَلـى رِسْلِكَ، أسألْكَ، فَمَضَيْتُ ولَـمْ أُعَرّجْ عَلَـيْها، قال: تِلْكَ الدّنـيْا تَزَيّنَتْ لَكَ، أمَا إنّكَ لَوْ وَقَـفْتَ عَلَـيْها لاخْتارَتْ أُمّتُكَ الدّنْـيا علـى الاَخِرَةِ، ثُمّ أُتِـيتُ بإناءَيْنِ أحَدُهُما فِـيهِ لَبنٌ، والاَخَرُ فِـيهِ خَمْرٌ، فَقِـيـلَ لِـي: اشْرَبْ أيّهُما شِئْتَ، فَأخَذْتُ اللّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، قال: أصَبْتَ الفِطْرَةَ أوْ قالَ: أخَذْتَ الفِطْرَةَ».
قال معمر: وأخبرنـي الزهري، عن ابن الـمسيب أنه قـيـل له: أما إنك لو أخذت الـخمر غوت أمتك.
قال أبو هارون فـي حديث أبـي سعيد: «ثُمّ جِيءَ بـالـمِعْرَاجِ الّذِي تَعْرُجُ فِـيهِ أرْوَاحُ بَنِـي آدَمَ فإذَا هُوَ أحْسَنُ ما رأيْتُ ألَـمْ تَرَ إلـى الـمَيّتِ كَيْفَ يُحِدّ بَصَرَهُ إلَـيْهِ فَعُرِجَ بِنا فِـيهِ حتـى انْتَهَيْنا إلـى بـابِ السّماءِ الدّنـيْا، فـاسْتَفْتَـحَ جَبْرَائِيـلُ، فَقـيـلَ مَنْ هَذا؟ قال: جَبْرَئِيـلُ؟ قِـيـلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: مُـحَمّدٌ، قِـيـلَ: أوَ قَدْ أُرْسِلَ إلَـيْهِ؟ قال: نَعَمْ، فَفَتَـحُوا وَسَلّـمُوا عَلَـيّ، وَإذَا مَلَكٌ مُوَكّلٌ يَحْرُسُ السّماءَ يُقال لَهُ إسْماعِيـلُ، مَعَهُ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ مَعَ كُلّ مَلَكٍ مِنْهُمْ مِئَةُ ألْفٍ، ثم قرأ: وَما يَعْلَـمُ جُنُودَ رَبّكَ إلاّ هُوَ وَإذَا أنا بِرَجُلٍ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَـلَقَهُ اللّهُ لَـمْ يَتَغَيّرْ مِنْهُ شَيْءٌ، فإذَا هُوَ تُعْرَض عَلَـيْهِ أرْوَاحُ ذُرّيّتِهِ، فإذَا كانَتْ رُوح مُؤْمِنٍ، قالَ: رُوحٌ طَيّبَةٌ، وَرِيحٌ طَيّبَةٌ، اجْعَلُوا كِتابَهُ فِـي عِلّـيِـينَ وَإذَا كانَ رُوحَ كافِرٍ قالَ: رُوحٌ خَبِـيثَةٌ وَرِيحٌ خَبِـيثَةٌ، اجْعَلُوا كِتابَهُ فِـي سِجيّـلٍ، فَقُلْتُ: يا جَبْرَائِيـلُ مَنْ هَذَا؟ قال: أبُوكَ آدَمُ، فَسَلّـمَ عَلـيّ وَرَحّبَ بِـي وَدَعا لِـي بِخَيرٍ وَقال: مَرْحَبـا بـالنّبِـيّ الصّالِـحِ والوَلَدِ الصّالِـحِ، ثُمّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بقَوْمٍ لَهُمْ مَشافِرُ كمَشافِرِ الإبلِ، وَقَدْ وُكّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِـمَشافِرِهِمْ، ثُمّ يُجْعَلُ فـي أفْوَاهِهِمْ صَخْرا مِنْ نارٍ يَخْرُجُ مِنْ أسافِلِهِمْ، قُلْتُ: يا جَبرْئِيـلُ مَنْ هَؤُلاءِ؟ قال: هَؤُلاءِ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوَالَ الـيَتَامَى ظُلْـما. ثُمّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بَقَوْمٍ يُحْذَي مِنْ جُلُودِهِمْ ويُرَدّ فِـي أفْوَاهِهِمْ، ثُمّ يُقال: كُلُوا كمَا أكَلْتُـمْ، فإذَا أكْرَهُ ما خَـلَقَ اللّهُ لَهُمْ ذلكَ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يا جَبْرَائِيـلُ؟ قال: هَؤُلاءِ الهَمّازُونَ اللّـمازُونَ الذِينَ يأكُلُونَ لُـحُومَ النّاسِ، وَيَقَعُونَ فِـي أعْرَاضِهِمْ بـالسّبّ ثُمّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بِقَوْمٍ عَلـى مائِدَةٍ عَلَـيْها لَـحْمٌ مَشْوِيّ كأحْسَنِ ما رأيْتُ مِنَ اللـحْمِ، وَإذَا حَوْلَهُمْ جِيَفٌ، فَجعلُوا يَـمِيـلُونَ عَلـى الـجِيفِ يَأكُلُونَ مِنْها وَيَدَعُونَ ذلكَ اللـحْمَ، قُلْتُ: مَنْ هَؤلاءِ يا جَبْرَائِيَـلُ؟ قالَ: هَؤُلاءِ الزّناةُ عَمَدُوا إلـى مَا حَرّمَ اللّهُ عَلَـيْهِمْ، وَتَرَكُوا ما أحَلّ اللّهُ لَهُمْ ثمّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بِقَوْمٍ لَهُمْ بُطونٌ كأنّها البُـيُوتُ وَهِيَ علـى سابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ، فإذَا مَرّ بِهِمْ آلُ فِرْعَوْنَ ثارُوا، فَـيَـمِيـلُ بأحَدِهِمْ بَطْنُهُ فَـيَقَعُ، فَـيَتَوَطئُوهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ بأرْجُلِهِمْ، وَهُمْ يُعْرَضُونَ عَلـى النارِ غُدُوّا وَعَشِيّا قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاء يا جَبْرَائِيـلُ؟ قال: هَؤُلاءِ أكَلَةُ الرّبـا، رَبـا فِـي بُطُونِهِمْ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي يَتَـخَبّطُهُ الشّيْطانُ مِن الـمَسّ ثُمّ نَظَرْتُ، فإذَا أنا بِنِساءٍ مُعَلّقاتٍ بِثُدُيّهِنّ، وَنِساءٌ مُنَكّساتٌ بأرْجُلِهِنّ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يا جِبْرَئِيـلُ؟ قال: هنّ اللاتـي يَزْنِـينَ وَيَقْتُلْنَ أوْلادَهُنّ قالَ: ثُمّ صَعَدْنا إلـى السّماءِ الثّانِـيَةِ، فإذَا أنا بِـيُوسُف وحَوْلهُ تَبَعٌ مِنْ أُمّتِهِ، وَوَجْهُهُ كالقَمَرِ لَـيْـلَةَ البَدْرِ، فَسَلّـمَ عَلـيّ وَرَحّبَ بِـي، ثُمّ مَضَيْنا إلـى السّماءِ الثّالِثَةِ، فإذا أنا بـابْنِـيَ الـخالَةِ يَحيَى وَعِيَسى، يُشْبِهُ أحَدُهُما صَاحِبَهُ، ثِـيابُهما وَشَعْرُهُما، فَسَلّـما عَلـيّ، وَرَحبّـابِـي ثُمّ مَضَيْنَا إلـى السّماءِ الرّابِعَةِ، فإذا أنا بإدْرِيَس، فَسَلّـمَ عَلـيّ وَرَحّب وَقَدْ قالَ اللّهُ: وَرَفَعْناه مَكانا عَلِـيّا ثُمّ مَضَيْنا إلـى السّماءِ الـخامِسَةِ، فإذَا أنا بِهارُونَ الـمُـحَبّبِ فِـي قَوْمِهِ، حَوْلَهُ تَبَعٌ كَثِـيرٌ مِنْ أُمّتِهِ» فَوَصَفَهُ النّبِـي صلى الله عليه وسلم: «طَوِيـلُ اللّـحْيَةِ تَكادُ لِـحْيَتُهُ تَـمَسّ سُرّتَهُ، فَسلّـمَ علـيّ وَرَحَبَ ثُمّ مَضَيْنا إلـى السّماءِ السّادِسَةِ فإذَا أنا بـمُوسَى بْنِ عِمْرانَ» فَوَصَفَهُ النّبِـيّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: «كَثِـيرُ الشّعْرِ لَوْ كانَ عَلَـيْهِ قَمِيصَانِ خَرَجَ شَعْرُهُ مِنْهُمَا قالَ مُوسَى: تَزْعَمُ النّاسُ أنّـي أكْرَمُ الـخَـلْقِ عَلـى اللّهِ، فَهَذَا أكْرَمُ عَلـى اللّهِ مِنّـي، وَلَوْ كانَ وَحْدَهُ لَـمْ أكُنْ أُبـالـي، وَلَكِنْ كُلّ نَبِـيّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أُمّتِهِ ثُمّ مَضَيْنا إلـى السّماءِ السّابِعَةِ، فإذَا أنا بإبْرَاهِيـمَ وَهُوَ جالِس مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إلـى البَـيْتِ الـمَعْمُورَ فَسَلّـمَ عَلـيّ وَقال: مَرْحبـا بـالنّبِـيّ الصّالِـحِ وَالَوَلَدِ الصّالِـحِ، فَقِـيـلَ: هذَا مَكانُكَ وَمَكانُ أُمّتِك، ثُمّ تَلا: إنّ أوْلَـى النّاسِ بـابْرَاهِيـمَ للّذِينَ اتّبَعُوا وَهَذا النّبِـيّ وَالّذِينَ آمَنُوا، وَاللّهُ وَلِـيّ الـمُؤْمِنِـينَ ثُمّ دَخَـلْتُ البَـيْتَ الـمَعْمُورَ فَصَلّـيْتُ فِـيهِ، وَإذَا هُوَ يَدْخُـلُهُ كُلّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ ثُمّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بشَجَرَةٍ إنْ كانَتْ الوَرَقَةُ مِنْها لُـمغَطّيَةٌ هَذِهِ الأُمّةَ، فإذَا فِـي أصْلِها عَيْنٌ تَـجْرِي قَدْ تَشَعّبَتْ شُعْبَتَـيْنِ، فَقُلْتُ: ما هذَا يا جَبْرَائِيـلُ؟ قال: أمّا هَذَا: فَهُوَ نَهْرُ الرّحْمَةِ، وأمّا هذَا: فَهُوَ الكَوْثَرُ الذِي أعْطاكَهُ اللّهُ، فـاغْتَسَلْتُ فِـي نَهْرِ الرّحمَةِ فَغُفِرَ لِـي ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِـي وَما تَأخّرَ، ثُمّ أَخَذْتُ عَلـى الكَوْثَرِ حتـى دَخَـلْتُ الـجَنّة، فإذَا فِـيها ما لا عَيْنٌ رأتْ، وَلا أُذُنٌ سَمَعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلـى قَلْبِ بَشَرٍ، وَإذَا فِـيها رُمّانٌ كأنّهُ جُلُودُ الإبِلِ الـمُقَتّبَةُ، وإذَا فِـيها طَيْرٌ كأنّها البُخْتُ» فقالَ أبُو بَكْرِ: إنّ تِلكَ الطّيْرَ لَناعِمَةٌ، قالَ: «أكَلَتْها أنْعَمُ مِنْها يا أبـا بَكْرٍ، وإنّـي لأَرْجُو أنْ تَأكُلَ مِنْها، ورأيْتُ فِـيها جارِيَةً، فَسألْتُها: لَـمَنْ أنْتِ؟ فَقالَتْ: لزَيْدِ بْنِ حارِثَة» فَبَشّرَ بِها رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدا قالَ: «ثُمّ إنّ اللّهَ أمَرَنِـي بأمْرِهِ، وَفَرَض عَلـيّ خَمْسِينَ صَلاةً، فَمَرَرْتُ عَلـى مُوسَى، فقالَ: بِـمَ أمَرَكَ رَبّكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ عَلـيّ خَمْسِينَ صَلاةَ، قالَ: ارْجِعْ إلـى رَبّكَ فأسألْهُ التّـخْفِـيفَ، فإنّ أُمّتَكَ لَنْ يَقُومُوا بِهذَا، فَرَجَعْتُ إلـى رَبّـي فَسألْتُهُ فَوَضَعَ عَنّـي عَشْرا، ثُمّ رَجَعْتُ إلـى مُوسَى، فَلَـمْ أزَلْ أرْجِعُ إلـى رَبّـي إذَا مَرَرْتُ بِـمُوسَى حتـى فَرَض عَلَـيّ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فَقالَ مُوسَى: ارْجِعْ إلـى رَبّكَ فـاسألْهُ التّـخْفِـيفَ، فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إلـى رَبّـي حتـى اسْتَـحْيَـيْتُ» أوْ قالَ: «قُلْت: ما أنا بِرَاجِعٍ، فَقـيـلَ لـي: إنّ لَكَ بِهذِهِ الـخَمْسِ صَلَوَاتِ خَمْسِينَ صَلاةً، الـحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا، وَمَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَـمْ يَعْمَلْها كُتِبتْ لَهُ حَسَنَة، وَمَنْ عَمِلَها كُتِبَتْ لَهُ عَشْرا، وَمَنْ هَمّ بِسيَئَةٍ فَلَـم يَعْمَلْها لَـمْ تُكْتَبْ شَيْئا، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ وَاحِدَةً».
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي روح بن القاسم، عن أبـي هارون عمارة بن جوين العبدي، عن أبـي سعيد الـخدري وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: وثنـي أبو جعفر، عن أبـي هارون، عن أبـي سعيد، قال: سمعت النبـيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لَـمّا فَرَغْتُ مِـمّا كانَ فِـي بَـيْتِ الـمَقْدِسِ، أُتِـيَ بـالـمِعْرَاجِ، ولَـمْ أرَ شَيْئا قَطّ أحْسَنَ مِنْهُ، وَهُوَ الّذِي يَـمُدّ إلَـيْهِ مَيّتُكُمْ عَيْنَـيْهِ إذا حَضَرَ، فَأصْعَدَنِـي صَاحِبـي فِـيهِ حتـى انْتَهَى إلـى بـابٍ مِنَ الأبْوَابِ يُقالُ لَهُ بـابُ الـحَفَظَةِ، عَلَـيْهِ مَلَكٌ يُقالُ لَهُ إسْماعِيـلُ، تَـحْتَ يَدَيهِ اثْنا عَشَرَ ألْفَ مَلَكٍ، تَـحْت يَدَيْ كُلّ مَلَكٍ مِنْهُمْ اثْنا عَشَرَ ألْفَ مَلَكٍ» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حدّث هذا الـحديث: «ما يَعْلَـمُ جُنُودَ رَبّكَ إلاّ هُوَ» ثم ذكر نـحو حديث معمر، عن أبـي هارون إلا أنه قال فـي حديثه: قال: «ثُمّ دَخَـلَ بِـيَ الـجَنّةَ فَرأيْتُ فِـيها جارِيَةً، فسألتُها لِـمَنْ أنْتِ؟ وَقَدْ أعْجَبَتْنِـي حينَ رأيْتُها، فَقالَتْ: لِزَيْدِ بْنِ حارِثَةَ» فبشّر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، ثم انتهى حديث ابن حميد عن سلـمة إلـى ههنا.
حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن الـمسيب، عن أبـي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لأصحابه لـيـلة أُسري به إبراهيـمَ وموسى وعيسى فقال: «أمّا إبْرَاهِيـمُ فَلَـمْ أرَ رَجُلاً أشْبَهً بِصَاحِبِكُمْ مِنْهُ. وأمّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمٌ طِوَالٌ جَعْدٌ أقْنَى، كأنّه مِنْ رِجالِ شُنُوءَةَ. وأمّا عِيسَى فَرجُلٌ أحْمَرُ بـينَ القَصِيرِ والطّوِيـلِ سَبطُ الشّعْرِ كَثِـيرُ خِيلانِ الوَجْهِ، كأنّه خَرَجَ مِنْ دِيـماَسٍ كأنّ رأسَهُ يَقْطُرُ ماءً، وَما بِهِ ماءٌ، أشْبَهُ مِنْ رأيْتُ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ».
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد، عن الزهري، عن سعيد بن الـمسيب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنـحوه، ولـم يقل عن أبـي هريرة.
16632ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أنس، أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أُتِـي بـالبراق لـيـلة أُسري به مسرجا ملـجما لـيركبه، فـاستصعب علـيه، فقال له جبرئيـل: ما يحملك علـى هذا، فوالله ما ركبك أحد قطّ أكرم علـى الله منه قال: فـارفض عرقا.
16633ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، فـي قوله: سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَـيْلاً مِنَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ إلـى الـمَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بـارَكْنا حَوْلَهُ أسري بِنَبِـيّ الله عشاء من مكة إلـى بـيت الـمقدس، فصلـى نبـيّ الله فـيه، فأراه الله من آياته وأمره بـما شاء لـيـلة أسري به، ثم أصبح بـمكة. ذُكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «حُمِلْتُ عَلـى دَابّةٍ يُقالُ لَهَا البُرَاقُ، فَوْقَ الـحِمارِ وَدُونَ البَغْلِ، يَضَعُ حافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ» فحدث نبـيّ الله بذلك أهل مكة، فكذب به الـمشركون وأنكروه وقالوا: يا مـحمد تـخبرنا أنك أتـيت بـيت الـمقدس، وأقبلت من لـيـلتك، ثم أصبحت عندنا بـمكة، فما كنت تـجيئنا به، وتأتـي به قبل هذا الـيوم مع هذا فصدقه أبو بكر، فسمّي أبو بكر الصدّيق من أجل ذلك.
16634ـ حدثنا ابن أبـي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا سلـيـمان الشيبـانـي، عن عبد الله بن شدّاد، قال: لـما كان لـيـلة أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم أتـي بدابة يقال لها البراق، دون البغل وفوق الـحمار، تضع حافرها عند منتهى ظفرها فلـما أتـى بـيت الـمقدس أُتِـيَ بإناءين: إناء من لبن، وإناء من خمر، فشرب اللبن. قال: فقال له جبرائيـل: هديت وهديت أمتك.
وقال آخرون مـمن قال: أسرى بـالنبـيّ صلى الله عليه وسلم إلـى الـمسجد الأقصى بنفسه وجسمه أسرى به علـيه السلام، غير أنه لـم يدخـل بـيت الـمقدس، ولـم يصلّ فـيه، ولـم ينزل عن البراق حتـى رجع إلـى مكة. ذكر من قال ذلك:
16635ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا سفـيان، قال: ثنـي عاصم بن بهدلة عن زرّ بن حبـيش، عن حُذيفة بن الـيـمان، أنه قال فـي هذه الاَية: سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَـيْلاً مِنَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ إلـى الـمَسْجِدِ الأقْصَى قال: لـم يصلّ فـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو صلـى فـيه لكتب علـيكم ألصلاة فـيه، كا كتب علـيكم الصلاة عند الكعبة.
حدثنا أبو كريب، قال: سمعا أبـا بكر بن عياش، ورجل يحدّث عنده بحديث حين أسري بـالنبـيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: لا تـجِيء بـمثل عاصم ولا زرّ قال: قال حُذيفة لزرّ بن حبـيش قال: وكان زِرّ رجلاً شريفـا من أشراف العرب، قال: قرأ حُذيفة سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ اللّـيْـلِ مِنَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ إلـى الـمَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بـارَكْنا حَوْلَهُ، لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إنّهُ هُوَ السّميعُ البَصِيرُ وكذا قرأ عبد الله، قال: وهذا كما يقولون: إنه دخـل الـمسجد فصلـى فـيه، ثم دخـل فربط دابته، قال: قلت: والله قد دخـله، قال: من أنت فإنـي أعرف وجهك ولا أدري ما اسمك، قال: قلت: زر بن حبـيش، قال: ما عملك هذا؟ قال: قلت: من قبَل القرآن، قال: من أخذ بـالقرآن أفلـح، قال: فقلت: سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَـيْلاً مِنَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ إلـى الـمَسْجِدِ الأَقْصَى الّذِي بـارَكْنا حَوْلَهُ قال: فنظر إلـيّ فقال: يا أصلع، هل ترى دخـله؟ قال: قلت: لا والله، قال حُذيفة: أجل والله الذي لا إله إلا هو ما دخـله، ولو دخـله لوجبت علـيكم صلاة فـيه، لا والله ما نزل عن البراق حتـى رأى الـجنة والنار، وما أعدّ الله فـي الاَخرة أجمع وقال: تدري ما البراق؟ قال: دابة دون البغل وفوق الـحمار، خطوه مدّ البصر.
وقال آخرون: بل أسري بروحه، ولـم يسر بجسده. ذكر من قال ذلك:
16636ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي يعقوب بن عتبة بن الـمغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبـي سفـيان، كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقة.
16637ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد، قال: ثنـي بعض آل أبـي بكر، أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أسرى بروحه.
16638ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال ابن إسحاق: فلـم يُنكر ذلك من قولها الـحسن أن هذه الاَية نزلت وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التـي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ ولقول الله فـي الـخبر عن إبراهيـم، إذ قال لابنه: يا بنـيّ إنّـي أرَى فِـي الـمَنامِ أنّـي أذْبَحُكَ فـانْظُرْ ماذَا تَرَى ثم مضى علـى ذلك، فعرفت أن الوحي يأتـي بـالأنبـياء من الله أيقاظا ونـياما، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تَنامُ عَيْسَى وَقَلْبِـي يَقْظانُ» فـالله أعلـم أيّ ذلك كان قد جاءه ؤعاين فـيه من أمر الله ما عاين علـى أيّ حالاته كان نائما أو يقظانا كلّ ذلك حقّ وصدق.
والصواب من القؤل فـي ذلك عندنا أن يقال: إن الله أسرى بعبده مـحمد صلى الله عليه وسلم من الـمسجد الـحرام إلـى الـمسجد الأقصى، كما أخبر الله عبـاده، وكما تظاهرت به الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله حمله علـى البراق حين أتاه به، وصلـى هنالك بـمن صلـى من الأنبـياء والرسل، فأراه ما أراه من الاَيات ولا معنى لقول من قال: أسرى بروحه دون جسده، لأن ذلك لو كان كذلك لـم يكن فـي ذلك ما يوجب أن يكون ذلك دلـيلاً علـى نبوّته، ولا حجة له علـى رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقـيقة ذلك من أهل الشرك، وكانوا يدفعون به عن صدقه فـيه، إذ لـم يكن منكرا عندهم، ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بنـي آدم أن يرى الرائي منهم فـي الـمنام ما علـى مسيرة سنة، فكيف ما هو علـى مسيرة شهر أو أقلّ؟ وبعد، فإن الله إنـما أخبر فـي كتابه أنه أسرى بعبده، ولـم يخبرنا أنه أسرى بروح عبده، ولـيس جائزا لأحد أن يتعدّى ما قال الله إلـى غيره. فإن ظنّ ظانّ أن ذلك جائز، إذ كانت العرب تفعل ذلك فـي كلامها، كما قال قائلهم:
حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِـي عَناقاوَما هِيَ وَيْبَ غيرِكِ بـالْعَناقِ
يعنـي: حسبت بغام راحلتـي صوت عناق، فحذف الصوت واكتفـى منه بـالعناق، فإن العرب تفعل ذلك فـيـما كان مفهوما مراد الـمتكلـم منهم به من الكلام. فأما فـيـما لا دلالة علـيه إلا بظهوره، ولا يوصل إلـى معرفة مراد الـمتكلّـم إلا ببـيانه، فإنها لا تـحذف ذلك ولا دلالة تدلّ علـى أن مراد الله من قوله: أسْرَى بِعَبْدِهِ أسرى بروح عبده، بل الأدلة الواضحة، والأخبـار الـمتتابعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أسرى به علـى دابة يُقال لها البراق ولو كان الإسراء بروحه لـم تكن الروح مـحمولة علـى البراق، إذ كانت الدوابّ لا تـحمل إلا الأجسام. إلا أن يقول قائل: إن معنى قولنا: أسرى بروحه: رأى فـي الـمنام أنه أسرى بجسده علـى البراق، فـيكذب حينئذٍ بـمعنى الأخبـار التـي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن جبرئيـل حمله علـى البراق، لأن ذلك إذا كان مناما علـى قول قائل هذا القول، ولـم تكن الروح عنده مـما تركب الدوابّ، ولـم يحمل علـى البراق جسم النبـيّ صلى الله عليه وسلم، لـم يكن النبـيّ صلى الله عليه وسلم علـى قوله حُمل علـى البراق لا جسمه، ولا شيء منه، وصار الأمر عنده كبعض أحلام النائمين، وذلك دفع لظاهر التنزيـل، وما تتابعت به الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به الاَثار عن الأئمة من الصحابة والتابعين.
وقوله: الّذِي بـاركْنا حَوْلَهُ يقول تعالـى ذكره: الذي جعلنا حوله البركة لسكانه فـي معايشهم وأقواتهم وحروثهم وغروسهم. وقوله: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا يقول تعالـى ذكره: كي نرى عبدنا مـحمدا من آياتنا، يقول: من عبرنا وأدلتنا وحججنا، وذلك هو ما قد ذكرت فـي الأخبـار التـي رويتها آنفـا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أريه فـي طريقه إلـى بـيت الـمقدس، وبعد مصيره إلـيه من عجائب العبر والـمواعظ. كما:
16639ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ما أراه الله من الاَيات والعبر فـي طريق بـيت الـمقدس.
وقوله: إنّهُ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ يقول تعالـى ذكره: إن الذي أسرى بعبده هو السميع لـما يقول هؤلاء الـمشركون من أهل مكة فـي مسرى مـحمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلـى بـيت الـمقدس، ولغير ذلك من قولهم وقول غيرهم، البصير بـما يعملون من الأعمال، لا يخفـى علـيه شيء من ذلك، ولا يعزب عنه علـم شيء منه، بل هو مـحيط بجميعه علـما، ومـحصيه عددا، وهو لهم بـالـمرصاد، لـيجزى جميعهم بـما هم أهله.
وكان بعض البصريـين يقول: كسرت «إن» من قوله: إنّهُ هَوَ السّمِيعُ البَصِيرُ لأن معنى الكلام: قل يا مـحمد: سبحان الذي أسرى بعبده، وقل: إنه هو السميع البصير.
الآية : 2
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاّ تَتّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً }.
يقول تعالـى ذكره: سبحان الذي أسرى بعبده لـيلاً وآتـى موسى الكتاب، وردّ الكلام إلـى وآتَـيْنا وقد ابتدأ بقوله أسرى لـما قد ذكرنا قبل فـيـما مضى من فعل العرب فـي نظائر ذلك من ابتداء الـخبر بـالـخبر عن الغائب، ثم الرجوع إلـى الـخطاب وأشبـاهه. وعنى بـالكتاب الذي أوتـى موسى: التوراة. وَجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِـي إسْرَائِيـلَ يقول: وجعلنا الكتاب الذي هو التوراة بـيانا للـحقّ، ودلـيلاً لهم علـى مـحجة الصواب فـيـما افترض علـيهم، وأمرهم به، ونهاهم عنه.
وقوله: ألاّ تَتّـخِذُوا مِنْ دُونِـي وَكِيلاً اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والكوفة ألاّ تَتّـخِذُوا بـالتاء بـمعنى: وآتـينا موسى الكتاب بأن لا تتـخذوا يا بنـي إسرائيـل مِنْ دُونِـي وَكيِلاً. وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة: «ألاّ يَتّـخِذُوا» بـالـياء علـى الـخبر عن بنـي إسرائيـل، بـمعنى: وجعلناه هدى لبنـي إسرائيـل، ألا يتّـخذ بنو إسرائيـل، من دونـي وكيلاً، وهما قراءتان صحيحتا الـمعنى، متفقتان غير مختلفتـين، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب، غير أنـي أوثر القراءة بـالتاء، لأنها أشهر فـي القراءة وأشدّ استفـاضة فـيهم من القراءة بـالـياء. ومعنى الكلام: وآتـينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنـي إسرائيـل ألا تتـخذوا حفـيظا لكم سواي. وقد بـينا معنى الوكيـل فـيـما مضى. وكان مـجاهد يقول: معناه فـي هذا الـموضع: الشريك.
16640ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: ألاّ تَتّـخِذُوا مِنْ دُونِـي وَكِيلاً قال: شريكا.
وكأن مـجاهدا جعل إقامة من أقام شيئا سوى الله مقامه شريكا منه له، ووكيلاً للذي أقامه مقام الله. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل هذه الاَية، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16641ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وآتَـيْنا مُوسَى الكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِـي إسْرَائِيـلَ جعله الله لهم هدى، يخرجهم من الظلـمات إلـى النور، وجعله رحمة لهم.
الآية : 3
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذُرّيّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: سبحان الذي أسرى بعبده لـيلاً من الـمسجد الـحرام إلـى الـمسجد الأقصى، وآتـينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنـي إسرائيـل ذريّة من حملنا مع نوح. وعنى بـالذرية: جميع من احتـجّ علـيه جلّ ثناؤه بهذا القرآن من أجناس الأمـم، عربهم وعجمهم من بنـي إسرائيـل وغيرهم، وذلك أنّ كلّ من علـى الأرض من بنـي آدم، فهم من ذرية من حمله الله مع نوح فـي السفـينة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16642ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ذُرّيّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ والناس كلهم ذرّية من أنـجى الله فـي تلك السفـينة وذُكر لنا أنه ما نـجا فـيها يومئذٍ غير نوح وثلاثة بنـين له، وامرأته وثلاث نسوة، وهم: سام، وحام، ويافث فأما سام: فأبو العرب وأما حام: فأبو الـحبش وأما يافث: فأبو الروم.
حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ذَرّيّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ قال: بنوه ثلاثة ونساؤهم، ونوح وامرأته.
16643ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، قال: قال مـجاهد: بنوه ونساؤهم ونوح، ولـم تكن امرأته.
وقد بـيّنا فـي غير هذا الـموضع فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته.
وقوله: إنّهُ كانَ عَبْدا شَكُورا يعنـي بقوله تعالـى ذكره: «إنه» إن نوحا، والهاء من ذكر نوح، كان عبدا شكورا لله علـى نعمه.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي سماه الله من أجله شكورا، فقال بعضهم: سماه الله بذلك لأنه كان يحمد الله علـى طعامه إذا طعمه. ذكر من قال ذلك:
16644ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن بن مهدي، قالا: حدثنا سفـيان، عن التـيـمي، عن أبـي عثمان، عن سلـمان، قال: كان نوح إذا لبس ثوبـا أو أكل طعاما حمد الله، فسمّي عبدا شكورا.
16645ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا: حدثنا سفـيان، عن أبـي حصين، عن عبد الله بن سنان، عن سعيد بن مسعود بـمثله.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر، عن أبـي حصين، عن عبد الله بن سنان، عن سعيد بن مسعود قال: ما لبس نوح جديدا قطّ، ولا أكل طعاما قطّ إلا حمد الله فلذلك قال الله: عَبْدا شَكُورا.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، قال: ثنـي سفـيان الثوري، قال: ثنـي أيوب، عن أبـي عثمان النهدي، عن سلـمان، قال: إنـما سمى نوح عبدا شكورا أنه كان إذا لبس ثوبـا حمد الله، وإذا أكل طعاما حمد الله.
16646ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ذُرّيّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ من بنـي إسرائيـل وغيرهم إنّهُ كانَ عَبْدا شَكُورا قال: إنه لـم يجدّد ثوبـا قطّ إلا حمد الله، ولـم يبل ثوبـا قطّ إلا حمد الله، وإذا شرب شربة حمد الله، قال: الـحمد لله الذي سقانـيها علـى شهوة ولذّة وصحة، ولـيس فـي تفسيرها، وإذا شرب شربة قال هذا، ولكن بلغنـي ذا.
16647ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو فضالة، عن النضر بن شفـي، عن عمران بن سلـيـم، قال: إنـما سمّى نوح عبدا شكورا أنه كان إذا أكل الطعام قال: الـحمد لله الذي أطعمنـي، ولو شاء أجاعنـي وإذا شرب قال: الـحمد لله الذي سقانـي، ولو شاء أظمأنـي وإذا لبس ثوبـا قال: الـحمد لله الذي كسانـي، ولو شاء أعرانـي وإذا لبس نعلاً قال: الـحمد لله الذي حذانـي، ولو شاء أحفـانـي وإذا قضى حاجة قال: الـحمد لله الذي أخرج عنـي أذاه، ولو شاء حبسه. وقال آخرون فـي ذلك بـما.
16648ـ حدثنـي به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي عبد الـجبـار بن عمر أن ابن أبـي مريـم حدّثه، قال: إنـما سمى الله نوحا عبدا شكورا، أنه كان إذا خرج البراز منه قال: الـحمد لله الذي سوّغنـيك طيبـا، وأخرج عنـي أذاك، وأبقـى منفعتك. وقال آخرون فـي ذلك بـما:
16649ـ حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال الله لنوح إنّهُ كانَ عَبْدا شَكُورا ذكر لنا أنه لـم يستـجد ثوبـا قطّ إلا حمد الله، وكان يأمر إذا استـجدّ الرجل ثوبـا أن يقول: الـحمد لله الذي كسانـي ما أتـجمّل به، وأواري به عورتـي.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة إنّهُ كانَ عَبْدا شَكُورا قال: كان إذا لبس ثوبـا قال: الـحمد لله، وإذا أخـلقه قال: الـحمد لله.
الآية : 4 و 5
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَضَيْنَآ إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مّفْعُولاً }.
وقد بـيّنا فـيـما مضى قبل أن معنى القضاء: الفراغ من الشيء، ثم يستعمل فـي كلّ مفروغ منه، فتأويـل الكلام فـي هذا الـموضع: وفرغ ربك إلـى بنـي إسرائيـل فـيـما أنزل من كتابه علـى موسى صلوات الله وسلامه علـيه بإعلامه إياهم، وإخبـاره لهم لَتُفْسِدُنّ فِـي الأرْضِ مَرّتَـيْنِ يقول: لتعصنّ الله يا معشر بنـي إسرائيـل ولتـخالفنّ أمره فـي بلاده مرّتـين وَلَتَعْلُنّ عَلُوّا كَبِـيرا يقول: ولتستكبرنّ علـى الله بـاجترائكم علـيه استكبـارا شديدا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16650ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قول الله: وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائيِـلَ قال: أعلـمناهم.
16651ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، فـي قوله: وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ يقُول: أعلـمناهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: وقضينا علـى بنـي إسرائيـل فـي أمّ الكتاب، وسابق علـمه. ذكر من قال ذلك:
16652ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ قال: هو قضاء قضى علـيهم.
16653ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سيعد، عن قتادة، قوله: وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ قضاء قضاه علـى القوم كما تسمعون.
وقال آخرون: معنى ذلك: أخبرنا. ذكر من قال ذلك:
16654ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ فِـي الكِتابِ قال: أخبرنا بنـي إسرائيـل.
وكلّ هذه الأقوال تعود معانـيها إلـى ما قلت فـي معنى قوله: وَقَضَيْنا وإن كان الذي اخترنا من التأويـل فـيه أشبه بـالصواب لإجماع القرّاء علـى قراءة قوله لَتُفْسِدُنّ بـالتاء دون الـياء، ولو كان معنى الكلام: وقضينا علـيهم فـي الكتاب، لكانت القراءة بـالـياء أولـى منها بـالتاء، ولكن معناه لـما كان أعلـمناهم وأخبرناهم، وقلنا لهم، كانت التاء أشبه وأولـى للـمخاطبة. وكان فساد بنـي إسرائيـل فـي الأرض الـمرّة الأولـى ما:
16655ـ حدثنـي به هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ فـي خبر ذكره عن أبـي صالـح، وعن أبـي مالك، عن ابن عبـاس، وعن مرّة، عن عبد الله أن الله عهد إلـى بنـي إسرائيـل فـي التوراة لَتُفْسِدُنّ فِـي الأرْضِ مَرّتَـيْنِ فكان أوّل الفسادين: قتل زكريا، فبعث الله علـيهم ملك النبط، وكان يُدعى صحابـين فبعث الـجنود، وكان أساورته من أهل فـارس، فهم أولو بأس شديد، فتـحصنت بنو إسرائيـل، وخرج فـيهم بختنصر يتـيـما مسكينا، إنـما خرج يستطعم، وتلطف حتـى دخـل الـمدينة فأتـى مـجالسهم، فسمعهم يقولون: لو يعلـم عدوّنا ما قُذف فـي قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا، فخرج بختنصرحين سمع ذلك منهم، واشتدّ القـيام علـى الـجيش، فرجعوا، وذلك قول الله: فإذَا جاء وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عبـادا لنَا أُولـى بَأْسٍ شَدِيدٍ، فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ وكانَ وَعْدا مَفْعولاً ثم إن بنـي إسرائيـل تـجهّزوا، فغزوا النبط، فأصابوا منهم واستنقذوا ما فـي أيديهم، فذلك قول الله ثُمّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرّةَ عَلَـيْهِمْ وأمْدَدْناكُمْ بأمْوَالٍ وَبَنِـينَ، وَجَعَلْناكُمْ أكْثَرَ نَفِـيرا يقول: عددا.
16656ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان إفسادهم الذي يفسدون فـي الأرض مرّتـين: قتل زكريا ويحيى بن زكريا، سلط الله علـيهم سابور ذا الأكتاف ملكا من ملوك فـارس، من قتل زكريا، وسلّط علـيهم بختنصر من قتل يحيى.
16657ـ حدثنا عصام بن رواد بن الـجراح، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا سفـيان بن سعيد الثوري، قال: حدثنا منصور بن الـمعتـمر، عن ربعي بن حراش، قال: سمعت حُذيفة بن الـيـمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ بَنِـي إسْرَائِيـلَ لَـمّا اعْتَدَوْا وَعَلَوْا، وَقَتَلُوا الأنْبِـياءَ، بَعَثَ اللّهُ عَلَـيْهِمْ مَلِكَ فـارِسَ بُخْتَنَصّر، وكانَ اللّهُ مَلّكَهُ سَبْعَ مئَةِ سَنةٍ، فَسارَ إلَـيْهِمْ حتـى دَخَـلَ بَـيْتَ الـمَقْدِسِ فَحاصَرَهَا وَفَتَـحَها، وَقَتَلَ عَلـي دَمِ زَكَرِيّا سَبْعِينَ ألْفـا، ثُمّ سَبِـي أهْلَها وَبَنِـي الأَنْبِـياءِ، وَسَلَبَ حُلـيّ بَـيْتِ الـمَقْدِسِ، وَاسْتَـخْرَجَ مِنْها سَبْعِينَ ألْفـا وَمِئَةَ ألْفِ عَجَلَةٍ مِنْ حُلِـيَ حتـى أوْرَدَهُ بـابِلَ» قال حُذيفة: فقتل: يا رسول الله لقد كان بـيت الـمقدس عظيـما عند الله؟ قال: «أجَلْ بَناهُ سُلَـيْـمانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ ذَهَبٍ وَدُرّ وَياقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ، وكانَ بَلاطُهُ بَلاطَةً مِنْ ذَهَبٍ وَبَلاطَةً مِنْ فَضّةٍ، وعُمُدُهُ ذَهَبـا، أعْطاهُ اللّهُ ذلكَ، وسَخّرَ لَهُ الشّياطينَ يَأْتُونَهُ بِهِذِهِ الأشْياءِ فِءَ طَرْفَةِ عَيْنٍ، فَسارَ بُخْتَنَصّر بهذهِ الأشيْاءِ حتـى نَزَلَ بِها بـابِلَ، فَأقامَ بَنُوا إسْرَائيـلَ فِـي يَدَيِهِ مِئَةَ سَنَةٍ تُعَذّبُهُمُ الـمَـجُوسُ وأبْناءُ الـمَـجُوسِ، فِـيهِمُ الأنْبِـياءُ وأبْناءُ الأنْبِـياءِ ثُمّ إنّ اللّهَ رَحِمَهُمْ، فأوْحَى إلـى مَلِكِ مِنْ مُلُوكِ فـارِسَ يُقالُ لُهُ كُورَسُ، وكانَ مُؤْمِنا، أنْ سِرْ بَقايَا بَنِـي إسْرَائِيـلَ حتـى تَسْتَنْقِذَهُمْ، فَسارَ كُورَسُ بِبَنـي إسْرَائِيـل وحُلـيّ بَـيْتِ الـمَقْدِسِ حتـى رَدّهُ إلَـيْهِ، فَأقامَ بَنُوا إسْرَائِيـلَ مُطِيعينَ لِلّهِ مِئَةَ سَنَةِ، ثُمّ إنّهُمْ عادُوا فِـي الـمَعاصِي، فَسَلّطَ اللّهُ عَلَـيْهِمْ ابْطِيانْـحُوسَ، فَغَزَا بأْبْناءِ مَنْ غَزَا مَعَ بُخْتَنَصّر، فَغَزَا بَنِـي إسْرَائِيـلَ حتـى أتاهُمْ بَـيْتَ الـمَقْدِسِ، فَسَبـي أهْلَها، وأحْرَقَ بَـيْتَ الـمَقْدِسِ، وَقالَ لَهُمْ: يا بَنِـي إسْرَائِيـلَ إنْ عُدْتُـمْ فِـي الـمَعاصِي عُدْنا عَلَـيْكُمْ بـالسّبـاءِ، فَعادُوا فِـي الـمَعاصِي، فَسَيّرَ اللّهُ عَلَـيْهِمُ السّبـاءَ الثّالِثَ مَلِكَ رُومِيّةَ، يُقالُ لَهُ قاقِسُ بْنُ إسْبـايُوس، فَغَزَاهُمْ فِـي البَرّ والبَحْرِ، فَسَبـاهُمْ وَسَبَى حُلِـيّ بَـيْتِ الـمَقْدِسِ، وأحْرَقَ بَـيْتَ الـمَقْدِسِ بـالنّـيرانِ» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذَا مِنْ صَنْعَةِ حُلِـيّ بَـيْتِ الـمَقْذِسِ، ويَرُدّهُ الـمَهْدِيّ إلـى بَـيْتِ الـمَقْدِسِ، وَهُوَ ألْفُ سَفِـينَةٍ وسَبْعُ مِئَةٍ سَفِـينَةٍ، يُرْسَى بِها عَلـى يافـا حتـى تُنْقَلَ إلـى بَـيْتِ الـمَقْذِسِ، وبِها يَجْمَعُ اللّهُ الأوّلِـينَ والاَخِرِينَ».
16658ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، قال: كان مـما أنزل الله علـى موسى فـي خبره عن بنـي إسرائيـل، وفـي أحداثهم ما هم فـاعلون بعده، فقال: وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ فِـي الكتابِ لَتُفْسِدّنّ فِـي الأرْضِ مَرّتَـيْنِ، وَلَتَعْلُنّ عُلُوّا كَبِـيرا... إلـى قوله: وَجَعَلْنا جَهَنّـمَ للْكافرِينَ حَصِيرا فكانت بنو إسرائيـل، وفـيهم الأحداث والذنوب، وكان الله فـي ذلك متـجاوزا عنهم، متعطفـا علـيهم مـحسنا إلـيهم، فكان مـما أُنزل بهم فـي ذنوبهم ما كان قدّم إلـيهم فـي الـخبر علـى لسان موسى مـما أنزل بهم فـي ذنوبهم. فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع، أن ملكا منهم كان يُدعي صديقة، وكان الله إذا ملّك الـملِك علـيهم، بعث نبـيا يسدّده ويرشده، ويكون فـيـما بـينه وبـين الله، ويحدث إلـيه فـي أمرهم، لا ينزل علـيهم الكتب، إنـما يؤمرون بـاتبـاع التوراة والأحكام التـي فـيها، وينهونهم عن الـمعصية، ويدعونهم إلـى ما تركوا من الطاعة فلـما ملك ذلك الـملك، بعث الله معه شعياء أمُصيا، وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى وشعياء الذي بشّر بعيسى ومـحمد، فملك ذلك الـملك بنـي إسرائيـل وبـيت الـمقدس زمانا فلـما انقضى ملكه عظمت فـيهم الأحداث، وشعياء معه، بعث الله علـيهم سنـحاريب ملك بـابل، ومعه ستّ مئة ألف راية، فأقبل سائرا حتـى نزل نـحو بـيت الـمقدس، والـملك مريض فـي ساقه قرحة، فجاء النبـيّ شعياء، فقال له: يا ملك بنـي إسرائيـل إن سنـحاريق ملك بـابل، قد نزل بك هو وجنوده ستّ مئة ألف راية، وقد هابهم الناس وفرَقوا منهم، فكبر ذلك علـى الـملك، فقال: يا نبـيّ الله هل أتاك وحي من الله فـيـما حدث، فتـخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنـحاريب وجنوده؟ فقال له النبـيّ علـيه السلام: لـم يأتنـي وحي أحدث إلـيّ فـي شأنك. فبـيناهم علـى ذلك، أوحى الله إلـى شعياء النبـيّ: أن ائت ملك بنـي إسرائيـل، فمره أن يوصي وصيته، ويستـخـلف علـى ملكه من شاء من أهل بـيته. فأتـى النبـيّ شيعاء ملك بـين إسرائيـل صديقة، فقال له: إن ربك قد أوحى إلـيّ أن آمرك أن توصي وصيتك، وتستـخـلف من شئت علـى مُلكك من أهل بـيتك، فإنك ميت فلـما قال ذلك شعياء لصديقة، أقبل علـى القبلة، فصلـى وسبح ودعا وبكى، فقال وهو يبكي ويتضرّع إلـى الله بقلب مخـلص وتوكل وصبر وصدق وظنّ صادق. اللهمّ ربّ الأربـاب، وإله الاَلهة، قدّوس الـمتقدسين، يا رحمن يا رحيـم، الـمترحم الرؤوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، اذكرنـي بعملـي وفعلـي وحُسن قضائي علـى بنـي إسرائيـل وذلك كله كان منك، فأنت أعلـم به من نفسي سرّي وعلانـيتـي لك وإن الرحمن استـجاب له، وكان عبدا صالـحا، فأوحى الله إلـى شعياء أن يخبر صديقة الـملك أن ربه قد استـجاب له وقبل منه ورحمه، وقد رأى بكاءه، وقد أخّر أجله خمس عشرة سنة، وأنـجاه من عدوّه سنـحاريب ملك بـابل وجنوده، فأتـى شعياء النبـيّ إلـى ذلك الـملك فأخبره بذلك، فلـما قال له ذلك ذهب عنه الوجع، وانقطع عنه الشرّ والـحزن، وخرّ ساجدا وقال: يا إلهي وإله آبـائي، لك سجدت وسبّحت وكرمت وعظمت، أنت الذي تعطي الـمُلك من تشاء، وتنزعه مـمن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذلّ من تشاء، عالـم الغيب والشهادة، أنت الأوّل والاَخر، والظاهر والبـاطن، وأنت ترحم وتستـجيب دعوة الـمضطرّين، أنت الذي أحببت دعوتـي ورحمت تضرّعي فلـما رفع رأسه، أوحى الله إلـى شعياء إن قل للـملك صديقة فـيأمر عبدا من عبـيده بـالتـينة، فـيأتـيه بـماء التـين فـيجعله علـى قرحته فـيشفـى، ويصبح وقد برأ، ففعل ذلك فشفـي. وقال الـملك لشعياء النبـيّ: سل ربك أن يجعل لنا علـما بـما هو صانع بعدوّنا هذا. قال: فقال الله لشعياء النبـيّ: قل له: إنـي قد كفـيتك عدوّك، وأنـجيتك منه، وإنهم سيصبحون موتـى كلهم إلاّ سنـحاريب وخمسة من كتابه فلـما أصبحوا جاءهم صارخ ينبئهم، فصرخ علـى بـاب الـمدينة: يا ملك بنـي إسرائيـل، إن الله قد كفـاك عدوّك فـاخرج، فإن سنـحاريب ومن معه قد هلكوا فلـما خرج الـملك التـمس سنـحاريب، فلـم يُوجد فـي الـموتـى، فبعث الـملك فـي طلبه، فأدركه الطلب فـي مغارة وخمسة من كتابه، أحدهم بختنصر، فجعلوهم فـي الـجوامع، ثم أتوا بهم ملك بنـي إسرائيـل فلـما رآهم خرّ ساجدا من حين طلعت الشمس حتـى كانت العصر، ثم قال لسنـحاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألـم يقتلكم بحوله وقوّته، ونـحن وأنتـم غافلون؟ فقال سنـحاريب له: قد أتانـي خبر ربكم، ونصره إياكم، ورحمته التـي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي، فلـم أطع مرشدا، ولـم يـلقنـي فـي الشقوة إلاّ قلة عقلـي، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، ولكن الشقوة غلبت علـيّ وعلـى من معي، فقال ملك بنـي إسرائيـل: الـحمد لله ربّ العزّة الذي كفـاناكم بـما شاء، إن ربنا لـم يُبقك ومن معك لكرامة بك علـيه، ولكنه إنـما أبقاك ومن معك لـما هو شرّ لك، لتزدادوا شقوة فـي الدنـيا، وعذابـا فـي الاَخرة، ولتـخبروا من وراءكم بـما لقـيتـم من فعل ربنا، ولتنذر من بعدكم، ولولا ذلك ما أبقاكم، فلدمُك ودم من معك أهون علـى الله من دم قراد لو قتلته. ثم إن ملك بنـي إسرائيـل أمر أمير حرسه، فقذف فـي رقابهم الـجوامع، وطاف بهم سبعين يوما حول بـيت الـمقدس إيـلـيا، وكان يرزقهم فـي كلّ يوم خبزتـين من شعير لكل رجل منهم، فقال سنـحاريب لـملك بنـي إسرائيـل: القتل خير مـما يفعل بنا، فـافعل ما أمرت فنقل بهم الـملك إلـى سجن القتل، فأوحى الله إلـى شعياء النبـيّ أن قل لـملك بنـي إسرائيـل يرسل سنـحاريب ومن معه لـينذروا من وراءهم، ولـيكرمهم ويحملهم حتـى يبلغوا بلادهم فبلّغ النبـيّ شعياء الـملك ذلك، ففعل، فخرج سنـحاريب ومن معه حتـى قدموا بـابل فلـما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده، فقال له كهّانه وسحرته: يا ملك بـابل قد كنا نقصّ علـيك خبر ربهم وخبر نبـيهم، ووحى الله إلـى نبـيهم، فلـم تطعنا، وهي أمّة لا يستطيعها أحد مع ربهم، فكان أمر سنـحاريب مـما خوّفوا، ثم كفـاهم الله تذكرة وعبرة، ثم لبث سنـحاريب بعد ذلك سبع سنـين، ثم مات.
16659ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: لـما مات سنـحاريب استـخـلف بختنصر ابن ابنه علـى ما كان علـيه جدّه يعمل بعمله، ويقضي بقضائه، فلبث سبع عشرة سنة. ثم قبض الله ملك بنـي إسرائيـل صديقة فمرج أمر بنـي إسرائيـل وتنافسوا الـمُلك، حتـى قتل بعضهم بعضا علـيه، ونبـيهم شعياء معهم لا يذعنون إلـيه، ولا يقبلون منه فلـما فعلوا ذلك، قال الله فـيـما بلغنا لشعياء: قم فـي قومك أُوحِ علـى لسانك فلـما قام النبـيّ أنطق الله لسانه بـالوحي فقال: يا سماء استـمعي، ويا أرض أنصتـي، فإن الله يريد أن يقصّ شأن بنـي إسرائيـل الذين ربـاهم بنعمته، واصطفـاهم لنفسه، وخصّهم بكرامته، وفضّلهم علـى عبـاده، وفضلهم بـالكرامة، وهم كالغنـم الضائعة التـي لا راعي لها، فآوى شاردتها، وجمع ضالتها، وجبر كسيرها، وداوى مريضها، وأسمن مهزولها، وحفظ سمينها فلـما فعل ذلك بطرت، فتناطحت كبـاشها فقتل بعضها بعضا، حتـى لـم يبق منها عظم صحيح يخبر إلـيه آخر كسير، فويـل لهذه الأمة الـخاطئة، وويـل لهؤلاء القوم الـخاطئين الذين لا يدرون أين جاءهم الـحين. إن البعير ربـما يذكر وطنه فـينتابه، وإن الـحمار ربـما يذكر الاَريّ الذي شبع علـيه فـيراجعه، وإن الثور ربـما يذكر الـمرج الذي سمن فـيه فـينتابه، وإن هؤلاء القوم لا يدرون من حيث جاءهم الـحين، وهم أولو الألبـاب والعقول، لـيسوا ببقر ولا حمير وإنـي ضارب لهم مثلاً فلـيسمعوه: قل لهم: كيف ترون فـي أرض كانت خواء زمانا، خربة مواتا لا عمران فـيها، وكان لها ربّ حكيـم قويّ، فأقبل علـيها بـالعمارة، وكره أن تـخرب أرضه وهو قويّ، أو يقال ضيع وهو حكيـم، فأحاط علـيها جدارا، وشيّد فـيها قصرا، وأنبط فـيها نهرا، وصف فـيها غراسا من الزيتون والرمان والنـخيـل والأعناب، وألوان الثمار كلها، وولـى ذلك واستـحفظه قـيـما ذا رأي وهمّة، حفـيظا قويا أمينا، وتأنى طلعها وانتظرها فلـما أطلعت جاء طلعها خروبـا، قالوا: بئست الأرض هذه، نرى أن يهدم جدرانها وقصرها، ويدفن نهرها، ويقبض قـيّـمها، ويحرق غراسها حتـى تصير كما كانت أوّل مرّة، خربة مواتا لا عمران فـيها. قال الله لهم: فإن الـجدار ذمتـي، وإن القصر شريعتـي، وإن النهر كتابـي، وإن القَـيّـمَ نبِـيـي، وإن الغراس هم، وإن الـخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الـخبـيثة، وإنـي قد قضيت علـيهم قضاءهم علـى أنفسهم، وإنه مَثلٌ ضربه الله لهم يتقرّبون إلـيّ بذبح البقر والغنـم، ولـيس ينالنـي اللـحم ولا آكله، ويدّعون أن يتقرّبوا بـالتقوى والكفّ عن ذبح الأنفس التـي حرمتها، فأيديهم مخضوبة منها، وثـيابهم متزملة بدمائها، يشيدون لـي البـيوت مساجد، ويطهرون أجوافها، وينـجسون قلوبهم وأجسامهم ويدنسونها، ويزوّقون لـي البـيوت والـمساجد ويزينونها، ويخرّبون عقولهم وأحلامهم ويفسدونها، فأيّ حاجة لـي إلـى تشيـيد البـيوت ولـيست أسكنها، وأيّ حاجة إلـى تزويق الـمساجد ولست أدخـلها، إنـما أمرت برفعها لأذكر فـيها وأسبح فـيها، ولتكون معلـما لـمن أراد أن يصلـي فـيها، يقولون: لو كان الله يقدر علـى أن يجمع ألفتنا لـجمعها، ولو كان الله يقدر علـى أن يفقّه قلوبنا لأفقهها، فـاعمد إلـى عودين يابسين، ثم ائت بهما ناديهما فـي أجمع ما يكونون، فقل للعودين: إن الله يأمركما أن تكونا عودا واحدا فلـما قال لهما ذلك، اختلطا فصارا واحدا، فقال الله: قل لهم: إنـي قدرت علـى ألفة العيدان الـيابسة وعلـى أن أولّف بـينها، فكيف لا أقدر علـى أن أجمع ألفتهم إن شئت، أم كيف لا أقدر علـى أن أفقّه قلوبهم، وأنا الذي صوّرتها يقولون: صمنا فلـم يرفع صيامنا، وصلّـينا فلـم تنوّر صلاتنا، وتصدّقنا فلـم تزكّ صدقاتنا، ودعونا بـمثل حنـين الـحمام، وبكينا بـمثل عواء الذئب، فـي كلّ ذلك لا نسمع، ولا يُستـجاب لنا قال الله: فسلهم ما الذي يـمنعنـي أن أستـجيب لهم، ألست أسمع السامعين، وأبصر الناظرين، وأقرب الـمـجيبـين، وأرحم الراحمين؟ ألأنّ ذات يدي قلت كيف ويداي مبسوطتان بـالـخير، أنفق كيف أشاء، ومفـاتـيح الـخزائن عندي لا يفتـحها ولا يغلقها غيري ألا وإن رحمتـي وسعت كلّ شيء، إنـما يتراحم الـمتراحمون بفضلها أو لأن البخـل يعترينـي أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بـالـخيرات، أجود من أعطى، وأكرم من سُئل لو أنّ هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بـالـحكمة التـي نوّرت فـي قلوبهم فنبذوها، واشتروا بها الدنـيا، إذن لأبصروا من حيث أتوا، وإذن لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى العداة لهم، فكيف أرفع صيامهم وهم يـلبسونه بقول الزور، ويتقوّون علـيه بطعمة الـحرام؟ وكيف أنوّر صلاتهم، وقلوبهم صاغية إلـى من يحاربنـي ويحادّنـي، وينتهك مـحارمي؟ أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدّقون بأموال غيرهم؟ وإنـما أوجر علـيها أهلها الـمغصوبـين أم كيف أستـجيب لهم دعاءهم وإنـما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد؟ وإنـما أستـجيب للداعي اللـين، وإنـما أسمع من قول الـمستضعف الـمسكين، وإن من علامة رضاي رضا الـمساكين فلو رحموا الـمساكين، وقرّبوا الضعفـاء، وأنصفوا الـمظلوم، ونصروا الـمغصوب، وعدلوا للغائب، وأدّوا إلـى الأرملة والـيتـيـم والـمسكين، وكلّ ذي حقّ حقه، ثم لو كان ينبغي أن أكلـم البشر إذن لكلـمتهم، وإذن لكنت نور أبصارهم، وسمع آذانهم، ومعقول قلوبهم، وإذن لدعمت أركانهم، فكنت قوّة أيديهم وأرجلهم، وإذن لثبّت ألسنتهم وعقولهم. يقولون لـمّا سمعوا كلامي، وبلغتهم رسالاتـي بأنها أقاويـل منقولة، وأحاديث متوارثة، وتآلـيف مـما تؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، وأن يطلعوا علـى الغيب بـما توحي إلـيهم الشياطين طلعوا، وكلهم يستـخفـى بـالذي يقول ويسرّ، وهم يعلـمون أنـي أعلـم غيب السموات والأرض، وأعلـم ما يبدون وما يكتـمون وإنـي قد قضيت يوم خـلقت السموات والأرض قضاء أثبته علـى نفسي، وجعلت دونه أجلاً مؤجلاً، لا بدّ أنه واقع، فإن صدقوا بـما ينتـحلون من لـم الغيب، فلـيخبروك متـى أنفذه، أو فـي أيّ زمان يكون، وإن كانوا يقدرون علـى أن يأتوا بـما يشاءون، فلـيأتوا بـمثل القُدرة التـي بها أمضيت، فإنـي مظهره علـى الدين كله ولو كره الـمشركون، وإن كانوا يقدرون علـى أن يقولوا ما يشاءون فلـيؤلّفوا مثل الـحكمة التـي أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقـين، فإنـي قد قضيت يوم خـلقت السموات والأرض أن أجعل النبوّة فـي الأُجراء، وأن أحوّل الـملك فـي الرعاء، والعزّ فـي الأذلاء، والقوّة فـي الضعفـاء، والغنى فـي الفقراء، والثروة فـي الأقلاء، والـمدائن فـي الفلوات، والاَجام فـي الـمفـاوز، والبردى فـي الغيطان، والعلـم فـي الـجهلة، والـحكم فـي الأميـين، فسلهم متـى هذا، ومن القائم بهذا، وعلـى يد من أسنه، ومن أعوان هذه الأمر وأنصاره إن كانوا يعلـمون فإنـي بـاعث لذلك نبـيا أمّيا، لـيس أعمى من عميان، ولا ضالاً من ضالّـين، ولـيس بفظّ ولا غلـيظ، ولا صخّاب فـي الأسواق، ولا متزين بـالفُحش، ولا قوّال للـخنا، أسدده لكل جميـل، أهب له كلّ خـلق كريـم، أجعل السكينة لبـاسه، والبرّ شعاره، والتقوى ضميره، والـحكمة معقوله، والصدق والوفـاء طبـيعته، والعفو والعرف خـلقه والعدل والـمعروف سيرته، والـحقّ شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملّته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلـم به بعد الـجهالة، وأرفع به بعد الـخمالة، وأشهر به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلّة، وأغنـي به بعد العيـلة، وأجمع به بعد الفُرقة، وأؤلّف به قلوبـا مختلفة، وأهواء مشتتة، وأمـما متفرّقة، وأجعل أمته خير أمّة أُخرجت للناس، تأمر بـالـمعروف، وتنهى عن الـمنكر، توحيدا لـي، وإيـمانا وإخلاصا بـي، يصلون لـي قـياما وقعودا، وركوعا وسجودا، يُقاتلون فـي سبـيـلـي صفوفـا وزحوفـا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضوانـي، ألهمهم التكبـير والتوحيد، والتسبـيح والـحمد والـمدحة، والتـمـجيد لـي فـي مساجدهم ومـجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهلّلون، ويقدّسون علـى رؤوس الأسواق، ويطهرون لـي الوجوه والأطراف، ويعقدون الثـياب فـي الأنصاف، قربـانهم دماؤهم، وأناجيـلهم صدورهم، رهبـان بـاللـيـل، لـيوث بـالنهار، ذلك فضلـي أوتـيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيـم. فلـما فرغ نبـيهم شعياء إلـيهم من مقالته، عدوا علـيه فـيـما بلغنـي لـيقتلوه، فهرب منهم، فلقـيته شجرة، فـانفلقت فدخـل فـيها، وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا الـمنشار فـي وسطها فنشروها حتـى قطعوها، وقطعوه فـي وسطها.
قال أبو جعفر: فعلـى القول الذي ذكرنا عن ابن عبـاس من رواية السديّ، وقول ابن زيد، كان إفساد بنـي إسرائيـل فـي الأرض الـمرّة الأولـى قتلهم زكريا نبـيّ الله، مع ما كان سلف منهم قبل ذلك وبعده، إلـى أن بعث الله علـيهم من أحلّ علـى يده بهم نقمته من معاصي الله، وعتوّهم علـى ربهم. وأما علـى قول ابن إسحاق الذي روينا عنه، فكان إفسادهم الـمرّة الأولـى ما وصف من قتلهم شعياء بن أمصيا نبـيّ الله. وذكر ابن إسحاق أن بعض أهل العلـم أخبره أن زكريا مات موتا ولـم يُقتل، وأن الـمقتول إنـما هو شعياء، وأن بختنصر هو الذي سُلّط علـى بنـي إسرائيـل فـي الـمرّة الأولـى بعد قتلهم شعياء. حدثنا بذلك ابن حميد، عن سلـمة عنه.
وأما إفسادهم فـي الأرض الـمرّة الاَخرة، فلا اختلاف بـين أهل العلـم أنه كان قتلهم يحيى بن زكريا. وقد اختلفوا فـي الذي سلّطه الله علـيهم منتقما به منهم عند ذلك، وأنا ذاكر اختلافهم فـي ذلك إن شاء الله.
وأما قوله: وَلَتَعْلُنّ عُلُوّا كَبِـيرا فقد ذكرنا قول من قال: يعنـي به: استكبـارهم علـى الله بـالـجراءة علـيه، وخلافهم أمره. وكان مـجاهد يقول فـي ذلك ما:
16660ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَلَتَعْلُنّ عُلُوّا كَبِـيرا قال: ولتعلنّ الناس علوّا كبـيرا.
حدثنا الـحارث، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.
وأما قوله: فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما يعنـي: فإذا جاء وعد أولـى الـمرّتـين اللتـين يفسدون بهما فـي الأرض كما:
16661ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما قال: إذا جاء وعد أولـى تـينك الـمرّتـين اللتـين قضينا إلـى بنـي إسرائيـل لَتُفْسِدُنّ فِـي الأرْضِ مَرّتَـيْنِ.
وقوله: بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عِبـادا لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ، وكانَ وَعْدا مَفْعُولاً يعنـي تعالـى ذكره بقوله: بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ وجّهنا إلـيكم، وأرسلنا علـيكم عِبـادا لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ يقول: ذوي بطش فـي الـحروب شديد. وقوله: فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ، وكانَ وَعدا مَفْعُولاً يقول: فتردّدوا بـين الدور والـمساكن، وذهبوا وجاءوا. يقال فـيه: جاس القوم بـين الديار وجاسوا بـمعنى واحد، وجست أنا أجوس جوسا وجوسانا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، رُوي الـخبر عن ابن عبـاس:
16662ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ قال: مشوا.
وكان بعض أهل الـمعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول: معنى جاسوا: قتلوا، ويستشهد لقوله ذلك ببـيت حسان:
وَمِنّا الّذِي لاقـى بسَيْفِ مُـحَمّدٍفَجاسَ بِهِ الأعْدَاءَ عُرْضَ العَساكِرِ
وجائز أن يكون معناه: فجاسوا خلال الديار، فقتلوهم ذاهبـين وجائين، فـيصحّ التأويلان جميعا. ويعنـي بقوله: وكانَ وَعْدا مَفْعُولاً وكان جوس القوم الذين نبعث علـيهم خلال ديارهم وعدا من الله لهم مفعولاً ذلك لا مـحالة، لأنه لا يخـلف الـميعاد.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي الذين عنى الله بقوله: أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ فـيـما كان من فعلهم فـي الـمرّة الأولـى فـي بنـي إسرائيـل حين بعثوا علـيهم، ومن الذين بعث علـيهم فـي الـمرّة الاَخرة، وما كان من صنعهم بهم، فقال بعضهم: كان الذي بعث الله علـيهم فـي الـمرّة الأولـى جالوت، وهو من أهل الـجزيرة. ذكر من قال ذلك:
16663ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنا أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: فَإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عِبـادا لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ، وكانَ وَعْدا مَفْعُولاً قال: بعث الله علـيهم جالوت، فجاس خلال ديارهم، وضرب علـيهم الـخراج والذلّ، فسألوا الله أن يبعث لهم ملكا يُقاتلون فـي سبـيـل الله، فبعث الله طالوت، فقاتلوا جالوت، فنصر الله بنـي إسرائيـل، وقُتل جالوت بـيدي داود، ورجع الله إلـى بنـي إسرائيـل ملكهم.
16664ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عِبـادا لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ، فجاسُوا خِلالَ الدّيارِ، وكانَ وَعْدا مَفْعُولاً قضاء قضى الله علـى القوم كما تسمعون، فبعث علـيهم فـي الأولـى جالوت الـجزري، فسبى وقتل، وجاسوا خلال الديار كما قال الله، ثم رجع القوم علـى دخن فـيهم.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: أما الـمرّة الأولـى فسلّط الله علـيهم جالوت، حتـى بعث طالوت ومعه داود، فقتله داود.
وقال آخرون: بل بعث علـيهم فـي الـمرّة الأولـى سنـحاريب، وقد ذكرنا بعض قائلـي ذلك فـيـما مضى ونذكر ما حضرنا ذكره مـمن لـم نذكره قبل.
16665ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي الـمعلـى، قال: سمعت سعيد بن جبـير، يقول فـي قوله: بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عِبـادا لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: بعث الله تبـارك وتعالـى علـيهم فـي الـمرّة الأولـى سنـحاريب من أهل أثور ونـينوى فسألت سعيدا عنها، فزعم أنها الـموصل.
16666ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج عن ابن جريج، قال: ثنـي يعلـى بن مسلـم بن سعيد بن جبـير، أنه سمعه يقول: كان رجل من بنـي إسرائيـل يقرأ، حتـى إذا بلغ بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عِبـادا لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ بكى وفـاضت عيناه، وطبق الـمصحف، فقال ذلك ما شاء الله من الزمان، ثم قال: أي ربّ أرنِـي هذا الرجل الذي جعلت هلاك بنـي إسرائيـل علـى يديه، فأُري فـي الـمنام مسكينا ببـابل، يقال له بختنصر، فـانطلق بـمال وأعبد له، وكان رجلاً موسرا، فقـيـل له أين تريد؟ قال: أريد التـجارة، حتـى نزل دارا ببـابل، فـاستكراها لـيس فـيها أحد غيره، فجعل يدعو الـمساكين ويـلطف بهم حتـى لـم يبق أحد، فقال: هل بقـي مسكين غيركم؟ قالوا: نعم، مسكين بفجّ آل فلان مريض يقال له بختنصر، فقال لغلـمته: انطلقوا، حتـى أتاه، فقال: ما اسمك؟ قال: بختنصر، فقال لغلـمته: احتـملوه، فنقله إلـيه ومرّضه حتـى برأ، فكساه وأعطاه نفقة، ثم آذن الإسرائيـلـي بـالرحيـل، فبكى بختنصر، فقال الإسرائيـلـي: ما يبكيك؟ قال: أبكي أنك فعلت بـي ما فعلت، ولا أجد شيئا أجزيك، قال: بلـى شيئا يسيرا، إن ملكت أطعتنـي فجعل الاَخر يتبعه ويقول: تستهزىء بـي؟ ولا يـمنعه أن يعطيه ما سأله، إلاّ أنه يرى أنه يستهزىء به، فبكى الإسرائيـلـي وقال: ولقد علـمت ما يـمنعك أن تعطينـي ما سألتك، إلاّ أن الله يريد أن ينفذ ما قد قضاه وكتب فـي كتابه وضرب الدهر من ضربه فقال يوما صيحون، وهو ملك فـارس ببـابل: لو أنا بعثنا طلـيعة إلـى الشام قالوا: وما ضرّك لو فعلت؟ قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان، فبعث رجلاً وأعطاه مئة ألف، وخرج بختنصر فـي مطبخه، لـم يخرج إلاّ لـيأكل فـي مطبخه فلـما قدم الشام ورأى صاحب الطلـيعة أكثر أرض الله فرسا ورجلاً جلدا، فكسر ذلك فـي ذرعه، فلـم يسأل، قال: فجعل بختنصر يجلس مـجالس أهل الشام فـيقول: ما يـمنعكم أن تغزوا بـابل، فلو غزوتـموها ما دون بـيت مالها شيء، قالوا: لا نُـحسن القتال، قال: فلو أنكم غزوتـم، قالوا: إنا لا نـحسن القتال ولا نقاتل حتـى أنفذ مـجالس أهل الشام، ثم رجعوا فأخبر الطلـيعة ملكهم بـما رأى، وجعل بختنصر يقول لفوارس الـملك: لو دعانـي الـملك لأخبرته غير ما أخبره فلان فرُفع ذلك إلـيه، فدعاه فأخبره الـخبر وقال: إن فلانا لـما رأى أكثر أرض الله فرسا ورجلاً جلدا، كبر ذلك فـي روعه ولـم يسألهم عن شيء، وإنـي لـم أدع مـجلسا بـالشام إلاّ جالست أهله، فقلت لهم كذا وكذا، وقالوا لـي كذا وكذا، الذي ذكر سعيد بن جبـير أنه قال لهم، قال الطلـيعة لبختنصر: إنك فضحتنـي لك مئة ألف وتنزع عما قلت، قال: لو أعطيتنـي بـيت مال بـابل ما نزعت، ضرب الدهر من ضربه فقال الـملك: لو بعثنا جريدة خيـل إلـى الشام، فإن وجدوا مساغا ساغوا، وإلاّ انثنوا ما قدروا علـيه، قالوا: ما ضرّك لو فعلت؟ قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان، قال: بل الرجل الذي أخبرنـي ما أخبرنـي، فدعا بختنصر وأرسله، وانتـخب معه أربعة آلاف من فرسانهم، فـانطلقوا فجاسوا خلال الديار، فسبوا ما شاء الله ولـم يخربوا ولـم يقتلوا. ومات صيحون الـملك قالوا: استـخـلفوا رجلاً، قالوا: علـى رسلكم حتـى تأتـي أصحابكم فإنهم فرسانكم، لن ينقضوا علـيكم شيئا، أمهلوا فأمهلوا حتـى جاء بختنصر بـالسبـي وما معه، فقسمه فـي الناس، فقالوا: ما رأينا أحدا أحق بـالـملك من هذا، فملّكوه.
16667ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي سلـيـمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن الـمسيب يقول: ظهر بختنصر علـى الشام، فخرّب بـيت الـمقدس وقتلهم، ثم أتـى دمشق، فوجد بها دما يغلـي علـى كبـا: أي كناسة، فسألهم ما هذا الدم؟ قالوا: أدركنا آبـاءنا علـى هذا وكلـما ظهر علـيه الكبـا ظهر، قال: فقتل علـى ذلك الدم سبعين ألفـا من الـمسلـمين وغيرهم، فسكن.
وقال آخرون: يعنـي بذلك قوما من أهل فـارس، قالوا: ولـم يكن فـي الـمرّة الأولـى قتال. ذكر من قال ذلك:
16668ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عِبـادا لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خلالَ الدّيارِ قال: من جاءهم من فـارس يتـجسسون أخبـارهم، ويسمعون حديثهم، معهم بختنصر، فوعى أحاديثهم من بـين أصحابه، ثم رجعت فـارس ولـم يكن قتال، ونُصرت علـيهم بنو إسرائيـل، فهذا وعد الأولـى.
حدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بَعَثْنَا عَلَـيْكُمْ عِبـادا لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ جند جاءهم من فـارس يتـجسسون أخبـارهم، ثم ذكر نـحوه.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَـيْكُمْ عِبـادا لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: ذلك أي من جاءهم من فـارس، ثم ذكر نـحوه.

الآية : 6
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {ثُمّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً }.
يقول تعالـى ذكره: ثم أدلناكم يا بنـي إسرائيـل علـى هؤلاء القوم الذين وصفهم جلّ ثناؤه أنه يبعثهم علـيهم، وكانت تلك الإدالة والكرّة لهم علـيهم، فـيـما ذكر السديّ فـي خبره أن بنـي إسرائيـل غزوهم، وأصابوا منهم، واستنقذوا ما فـي أيديهم منهم. وفـي قول آخرين: إطلاق الـملك الذي غزاهم ما فـي يديه من أسراهم، وردّ ما كان أصاب من أموالهم علـيهم من غير قتال. وفـي قول ابن عبـاس الذي رواه عطية عنه هي إدالة الله إياهم من عدوّهم جالوت حتـى قتلوه، وقد ذكرنا كلّ ذلك بأسانـيده فـيـما مضى وأمْدَدْناكُمْ بأمْوَالٍ وَبَنِـينَ يقول: وزدنا فـيـما أعطيناكم من الأموال والبنـين.
وقوله: وَجَعَلْناكُمْ أكْثَرَ نَفِـيرا يقول: وصيرناكم أكثر عدَدَ نافرٍ منهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16669ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قولهوَجَعَلْناكُمْ أكْثَرَ نَفِـيرا: أي عددا، وذلك فـي زمن داود.
16670ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ وَجَعَلْناكُمْ أكْثَرَ نَفِـيرا يقول: عددا.
16671ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: ثُمّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرّةَ عَلَـيْهِمْ لبنـي إسرائيـل، بعد أن كانت الهزيـمة، وانصرف الاَخرون عنهم وَجَعَلْناكُمْ أكْثَرَ نَفِـيرا قال: جعلناكم بعد هذا أكثر عددا.
16672ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور عن معمر، عن قتادة ثُمّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرّةَ عَلَـيْهِمْ ثم رددت الكرّة لبنـي إسرائيـل.
16673ـ حدثنـي مـحمد بن سنان القزّاز، قال: حدثنا أبو عاصم، عن سفـيان، فـي قوله: وأمْدَدْناكُمْ بأمْوَال وبَنِـينَ قال: أربعة آلاف.

الآية : 7
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوّلَ مَرّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً }.
يقول تعالـى ذكره لبنـي إسرائيـل فـيـما قضى إلـيهم فـي التوراة: إنْ أحْسَنْتُـمْ يا بنـي إسرائيـل، فأطعتـم الله وأصلـحتـم أمركم، ولزمتـم أمره ونهيه أحْسنْتُـمْ وفعلتـم ما فعلتـم من ذلك لأَنْفُسِكُمْ لأنّكم إنـما تنفعون بفعلتكم ما تفعلون من ذلك أنفسكم فـي الدنـيا والاَخرة. أما فـي الدنـيا فإن الله يدفع عنكم من بغاكم سوءا، وينـمي لكم أموالكم، ويزيدكم إلـى قوّتكم قوّة. وأما فـي الاَخرة فإن الله تعالـى يثـيبكم به جنانه وإنْ أسأْتُـمْ يقول: وإن عصيتـم الله وركبتـم ما نهاكم عنه حينئذٍ، فإلـى أنفسكم تسيئون، لأنكم تسخطون بذلك علـى أنفسكم ربكم، فـيسلط علـيكم فـي الدنـيا عدوّكم، ويـمكّن منكم من بغاكم سوءا، ويخـلدكم فـي الاَخرة فـي العذاب الـمهين. وقال جلّ ثناؤه وَإنْ أسأْتُـمْ فلها والـمعنى: فإلـيها كما قالبأنّ رَبّكَ أوْحى لَها والـمعنى: أوحى إلـيها.
وقوله: فإذَا جاءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ يقول: فإذا جاء وعد الـمرّة الاَخرة من مرّتـي إفسادكم يا بنـي إسرائيـل فـي الأرض لِـيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ يقول: لـيسوء مـجيء ذلك الوعد للـمرّة الاَخرة وجوهكم فـيقبّحها.
وقد اختلف القرّاء فـي قراءة قوله لِـيْسُوءُوا وُجُوهَكُمْ فقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة لِـيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ بـمعنى: لـيسوء العبـاد أولو البأس الشديد الذين يبعثهم الله علـيكم وجوهكم، واستشهد قارئوا ذلك لصحة قراءتهم كذلك بقوله وَلِـيَدْخُـلُوا الـمَسْجِدَ وقالوا: ذلك خبر عن الـجميع فكذلك الواجب أن يكون قوله لِـيَسُوءُوا. وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفة: «لِـيَسُوءَ وُجُوهَكُمْ» علـى التوحيد وبـالـياء. وقد يحتـمل ذلك وجهين من التأويـل أحدهما ما قد ذكرت، والاَخر منهما: لـيسوء الله وجوهكم. فمن وجّه تأويـل ذلك إلـى لـيسوء مـجيء الوعد وجوهَكم، جعل جواب قوله «فإذا» مـحذوفـا، وقد استغنـي بـما ظهر عنه، وذلك الـمـحذوف «جاء»، فـيكون الكلام تأويـله: فإذا جاء وعد الاَخرة لـيسوء وجوهكم جاء. ومن وجّهَ تأويـله إلـى: لـيسوء الله وجوهكم، كان أيضا فـي الكلام مـحذوف، قد استغنـي هنا عنه بـما قد ظهر منه، غير أن ذلك الـمـحذوف سوى «جاء»، فـيكون معنى الكلام حينئذٍ: فإذا جاء وعد الاَخرة بعثناهم لـيسوء الله وجوهكم، فـيكون الـمضمر بعثناهم، وذلك جواب «إذا» حينئذٍ. وقرأ ذلك بعض أهل العربـية من الكوفـيـين: «لِنَسُوءَ وُجُوهَكُمْ» علـى وجه الـخبر من الله تبـارك وتعالـى اسمه عن نفسه.
وكان مـجيء وعد الـمرّة الاَخرة عند قتلهم يحيى. ذكر الرواية بذلك، والـخبر عما جاءهم من عند الله حينئذٍ كما:
16674ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ فـي الـحديث الذي ذكرنا إسناده قبل أن رجلاً من بنـي إسرائيـل رأى فـي النوم أن خراب بـيت الـمقدس وهلاك بنـي إسرائيـل علـى يدي غلام يتـيـم ابن أرملة من أهل بـابل، يدعى بختنصر، وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم، فأقبل فسأل عنه حتـى نزل علـى أمه وهو يحتطب، فلـما جاء وعلـى رأسه حزمة من حطب ألقاها، ثم قعد فـي جانب البـيت فضمه، ثم أعطاه ثلاثة دراهم، فقال: اشتر لنا بها طعاما وشرابـا، فـاشترى بدرهم لـحما وبدرهم خبزا وبدرهم خمرا، فأكلوا وشربوا حتـى إذا كان الـيوم الثانـي فعل به ذلك، حتـى إذا كان الـيوم الثالث فعل ذلك، ثم قال له: إنـي أُحبّ أن تكتب لـي أمانا إن أنت ملكت يوما من الدهر، فقال: أتسخر بـي؟ فقال: إنـي لا أسخر بك، ولكن ما علـيك أن تتـخذ بها عندي يدا، فكلـمته أمه، فقالت: وما علـيك إن كان ذلك وإلاّ لـم ينقصك شيئا، فكتب له أمانا، فقال له: أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بـينـي وبـينك، فـاجعل لـي آية تعرفنـي بها قال: نرفع صحيفتك علـى قصبة أعرفك بها، فكساه وأعطاه. ثم إن ملك بنـي إسرائيـل كان يكرم يحيى بن زكريا، ويدنـي مـجلسه، ويستشيره فـي أمره، ولا يقطع أمرا دونه، وأنه هوى أن يتزوّج ابنة امرأة له، فسأل يحيى عن ذلك، فنهاه عن نكاحها وقال: لست أرضاها لك، فبلغ ذلك أمها فحقدت علـى يحيى حين نهاه أن يتزوّج ابنتها، فعمدت أمّ الـجارية حين جلس الـملك علـى شرابه، فألبستها ثـيابـا رقاقا حمرا، وطيّبتها وألبستها من الـحُلـيّ، وقـيـل: إنها ألبستها فوق ذلك كساء أسود، وأرسلتها إلـى الـملك، وأمرتها أن تسقـيه، وأن تعرض له نفسها، فإن أرادها علـى نفسها أبت علـيه حتـى يعطيها ما سألته، فإذا أعطاها ذلك سألته أن يأتـي برأس يحيى بن زكريا فـي طست، ففعلت، فجعلت تسقـيه وتعرض له نفسها فلـما أخذ فـيه الشراب أرادها علـى نفسها، فقالت: لا أفعل حتـى تعطينـي ما أسألك، فقال: ما الذي تسألـينـي؟ قالت: أسألك أن تبعث إلـى يحيى بن زكريا، فأوتَـى برأسه فـي هذا الطست، فقال: ويحك سلـينـي غير هذا، فقالت له: ما أريد أن أسألك إلاّ هذا. قال: فلـما ألّـحت علـيه بعث إلـيه، فأتـى برأسه، والرأس يتكلـم حتـى وضع بـين يديه وهو يقول: لا يحلّ لك ذلك فلـما أصبح إذا دمه يغلـي، فأمر بتراب فألقـى علـيه، فرقـى الدم فوق التراب يغلـي، فألقـى علـيه التراب أيضا، فـارتفع الدم فوقه فلـم يزل يـلقـي علـيه التراب حتـى بلغ سور الـمدينة وهو يغلـى وبلغ صيحابـين، فثار فـي الناس، وأراد أن يبعث علـيهم جيشا، ويؤمّر علـيهم رجلاً، فأتاه بختنصر وكلّـمه وقال: إن الذي كنت أرسلته تلك الـمرّة ضعيف، وإنـي قد دخـلت الـمدينة وسمعت كلام أهلها، فـابعثنـي، فبعثه، فسار بختنصر حتـى إذا بلغوا ذلك الـمكان تـحصنوا منه فـي مدائنهم، فلـم يطقهم، فلـما اشتدّ علـيهم الـمقام وجاع أصحابه، أرادوا الرجوع، فخرجت إلـيهم عجوز من عجائز بنـي إسرائيـل فقالت: أين أمير الـجند؟ فأتـى بها إلـيه، فقالت له: إنه بلغنـي أنك تريد أن ترجع بجندك قبل أن تفتـح هذه الـمدينة، قال: نعم، قد طال مقامي، وجاع أصحابـي، فلست أستطيع الـمقام فوق الذي كان منـي، فقالت: أرأيتك إن فتـحت لك الـمدينة أتعطينـي ما سألتك، وتقتل من أمرتك بقتله، وتكفّ إذا أمرتك أن تكفّ؟ قال: نعم، قالت: إذا أصبحت فـاقسم جندك أربعة أربـاع، ثم أقم علـى كلّ زاوية ربعا، ثم ارفعوا بأيديكم إلـى السماء فنادوا: إنا نستفتـحك يا ألله بدم يحيى بن زكريا، فإنها سوف تسّاقط ففعلوا، فتساقطت الـمدينة، ودخـلوا من جوانبها، فقالت له: اقتل علـى هذا الدم حتـى يسكن، وانطلقت به إلـى دم يحيى وهو علـى تراب كثـير، فقتل علـيه حتـى سكن سبعين ألفـا وامرأة فلـما سكن الدم قالت له: كفّ يدك، فإن الله تبـارك وتعالـى إذا قتل نبـيّ لـم يرض، حتـى يقتل من قتله، ومن رضي قتله، وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفته، فكفّ عنه وعن أهل بـيته، وخرّب بـيت الـمقدس، وأمر به أن تطرح فـيه الـجيف، وقال: من طرح فـيه جيفة فله جزيته تلك السنة، وأعانه علـى خرابه الروم من أجل أن بنـي إسرائيـل قتلوا يحيى، فلـما خرّبه بختنصر ذهب معه بوجوه بنـي إسرائيـل وأشرافهم، وذهب بدانـيال وعلـيا وعزاريا وميشائيـل، هؤلاء كلهم من أولاد الأنبـياء وذهب معه برأس جالوت فلـما قدم أرض بـابل وجد صحابـين قد مات، فملك مكانه، وكان أكرم الناس علـيه دانـيال وأصحابه، فحسدهم الـمـجوس علـى ذلك، فوشوا بهم إلـيه وقالوا: إن دانـيال وأصحابه لا يعبدون إلهك، ولا يأكلون من ذبـيحتك، فدعاهم فسألهم، فقالوا: أجل إن لنا ربـا نعبده، ولسنا نأكل من ذبـيحتكم، فأمر بخدّ فخدّ لهم، فألقوا فـيه وهم ستة، وألقـى معهم سبعا ضاريا لـيأكلهم، فقال: انطلقوا فلنأكل ولنشرب، فذهبوا فأكلوا وشربوا، ثم راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع مفترش ذراعيه بـينهم، ولـم يخدش منهم أحدا، ولـم ينكأه شيئا، ووجدوا معهم رجلاً، فعدّوهم فوجدوهم سبعة، فقالوا: ما بـال هذا السابع إنـما كانوا ستة؟ فخرج إلـيهم السابع، وكان ملَكا من الـملائكة، فلطمه لطمة فصار فـي الوحش، فكان فـيهم سبع سنـين، لا يراه وحشيّ إلاّ أتاه حتـى ينكحه، يقتصّ منه ما كان يصنع بـالرجال ثم إنه رجع ورد الله علـيه مُلكه، فكانوا أكرم خـلق الله علـيه. ثم إن الـمـجوس وَشَوا به ثانـية، فألقوا أسدا فـي بئر قد ضَرِي، فكانوا يـلقون إلـيه الصخرة فـيأخذها، فألقوا إلـيه دانـيال، فقام الأسد فـي جانب، وقام دانـيال فـي جانب لا يـمسه، فأخرجوه، وقد كان قبل ذلك خدّ لهم خدّا، فأوقد فـيه نارا، حتـى إذا أججها قذفهم فـيها، فأطفأها الله علـيهم ولـم ينلهم منها شيء. ثم إن بختنصر رأى بعد ذلك فـي منامه صنـما رأسه من ذهب، وعنقه من شَبَه، وصدره من حديد، وبطنه أخلاط ذهب وفضة وقوارير، ورجلاه من فخار فبـينا هو قائم ينظر، إذ جاءت صخرة من السماء من قِبَل القبلة، فكسرت الصنـم فجعلته هشيـما، فـاستـيقظ فزعا وأُنسيها، فدعا السحرة والكهنة، فسألهم، فقال: أخبرونـي عما رأيت فقالوا له: لا، بل أنت أخبرنا ما رأيت فنعبره لك. قال: لا أدري، قالوا له: فهؤلاء الفتـية الذين تكرمهم، فـادعهم فـاسألهم، فإن هم لـم يخبروك بـما رأيت فما تصنع بهم؟ قال: أقتلهم فأرسل إلـى دانـيال وأصحابه، فدعاهم، فقال لهم: أخبرونـي ماذا رأيت؟ فقال له دانـيال: بل أنت أخبرنا ما رأيت فنعبره لك قال: لا أدري قد نسيتها فقال له دانـيال: كيف نعلـم رؤيا لـم تـخبرنا بها؟ فأمر البوّاب أن يقتلهم، فقال دانـيال للبوّاب: إن الـملك إنـما أمر بقتلنا من أجل رؤياه، فأخّرنا ثلاثة أيام، فإن نـحن أخبرنا الـملك برؤياه وإلا فـاضرب أعناقنا فأجّلهم فدعوا الله فلـما كان الـيوم الثالث أبصر كل رجل منهم رؤيا بختنصر علـى حدة، فأتوا البوّاب فأخبروه، فدخـل علـى الـملك فأخبره، فقال: أدخـلهم علـيّ وكان بختنصر لا يعرف من رؤياه شيئا، إلا شيئا يذكرونه، فقالوا له: أنت رأيت كذا وكذا، فقصوها علـيه، فقال: صدقتـم قالوا: نـحن نعبرها لك. أما الصنـم الذي رأيت رأسه من ذهب، فإنه ملك حسن مثل الذهب، وكان قد ملك الأرض كلها وأما العنق من الشّبَه، فهو ملك ابنك بعد، يـملك فـيكون ملكه حسنا، ولا يكون مثل الذهب وأما صدره الذي من حديد فهو ملك أهل فـارس، يـملكون بعدك ابنك، فـيكون ملكهم شديدا مثل الـحديد وأما بطنه الأخلاط، فإنه يذهب ملك أهل فـارس، ويتنازع الناس الـملك فـي كلّ قرية، حتـى يكون الـملك يـملك الـيوم والـيومين، والشهر والشهرين، ثم يُقتل، فلا يكون للناس قوام علـى ذلك، كما لـم يكن للصنـم قوام علـى رجلـين من فخار فبـينـما هم كذلك، إذ بعث الله تعالـى نبـيا من أرض العرب، فأظهره علـى بقـية مُلك أهل فـارس، وبقـية مُلك ابنك وملكك، فدمره وأهلكه حتـى لا يبقـى منه شيء، كما جاءت الصخرة فهدمت الصنـم فعطف علـيهم بختنصر فأحبهم. ثم إن الـمـجوس وشوا بدانـيال، فقالوا: إن دانـيال إذا شرب الـخمر لـم يـملك نفسه أن يبول، وكان ذلك فـيهم عارا، فجعل لهم بختنصر طعاما، فأكلوا وشربوا، وقال للبوّاب: انظر أوّل من يخرج علـيك يبول، فـاضربه بـالطبرزين، وإن قال: أنا بختنصر، فقل: كذبت، بختنصر أمرنـي. فحبس الله عن دانـيال البول، وكان أوّل من قام من القوم يريد البول بختنصر، فقام مدلاً، وكان ذلك لـيلاً، يسحب ثـيابه فلـما رآه البوّاب شدّ علـيه، فقال: أنا بختنصر، فقال: كذبت، بختنصر أمرنـي أن أقتل أوّل من يخرج، فضربه فقتله.
16675ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي الـمعلـى، قال: سمعت سعيد بن جبـير، قال: بعث الله علـيهم فـي الـمرّة الأولـى سنـحاريب. قال: فردّ الله لهم الكرّة علـيهم، كما قال قال: ثم عصوا ربهم وعادوا لـما نهوا عنه، فبعث علـيهم فـي الـمرّة الاَخرة بختنصر، فقتل الـمقاتلة، وسبى الذرّية، وأخذ ما وجد من الأموال، ودخـلوا بـيت الـمقدس، كما قال الله عزّ وجلّ: وَلِـيَدْخُـلُوا الـمَسْجدَ كمَا دَخَـلُوهُ أوّلَ مَرّةٍ وَلـيُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِـيرا دخـلوه فتبّروه وخرّبوه وألقوا فـيه ما استطاعوا من العذرة والـحيض والـجيف والقذر، فقال الله عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدْتُـمْ عُدْنا فرحمهم فردّ إلـيهم ملكهم وخـلص من كان فـي أيديهم من ذرّية بنـي إسرائيـل، وقال لهم: إن عدتـم عدنا. فقال أبو الـمعلـى، ولا أعلـم ذلك، إلاّ من هذا الـحديث، ولـم يَعِدهم الرجعة إلـى ملكهم.
16676ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فإذَا جاء وَعْدُ الاَخرَةِ لـيَسُوءُوا وُجوهَكمْ قال: بعث الله ملك فـارس ببـابل جيشا، وأمر علـيهم بختنصر، فأتوا بنـي إسرائيـل، فدمروهم، فكانت هذه الاَخرة ووعدها.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، نـحوه.
16677ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: ثنـي يعلـى بن مسلـم، عن سعيد بن جبـير، قال: لـما ضرب لبختنصر الـملك بجرانه، قال: ثلاثة فمن استأخر منكم بعدها فلـيـمش إلـى خشبته، فغزا الشام، فذلك حين قتل وأخرج بـيت الـمقدس، ونزع حلـيته، فجعلها آنـية لـيشرب فـيها الـخمور، وخوانا يأكل علـيه الـخنازير، وحمل التوراة معه، ثم ألقاها فـي النار، وقدم فـيـما قدم به مئة وصيف منهم دانـيال وعزريا وحنانـيا ومشائيـل، فقال لإنسان: أصلـح لـي أجسام هؤلاء لعلـي أختار منهم أربعة يخدموننـي، فقال دانـيال لأصحابه: إنـما نصروا علـيكم بـما غيرتـم من دين آبـائكم، لا تأكلوا لـحم الـخنزير، ولا تشربوا الـخمر، فقالوا للذي يصلـح أجسامهم: هل لك أن تطعمنا طعاما، هو أهون علـيك فـي الـمؤونة مـما تطعم أصحابنا، فإن لـم نسمن قبلهم رأيت رأيك، قال: ماذا؟ قال: خبز الشعير والكرّاث، ففعل فسمنوا قبل أصحابهم، فأخذهم بختنصر يخدمونه فبـينـما هم كذلك، إذ رأى بختنصر رؤيا، فجلس فنسيها فعاد فرقد فرآها، فقام فنسيها، ثم عاد فرقد فرآها، فخرج إلـى الـحجرة، فنسيها فلـما أصبح دعا العلـماء والكهّان، فقال: أخبرونـي بـما رأيت البـارحة، وأوّلوا لـي رؤياي، وإلا فلـيـمش كل رجل منكم إلـى خشبته، موعدكم ثالثة. فقالوا: هذا لو أخبرنا برؤياه وذكر كلاما لـم أحفظه، قال: وجعل دانـيال كلـما مرّ به أحد من قرابته يقول: لو دعانـي الـملك لأخبرته برؤياه، ولأوّلتها له، قال: فجعلوا يقولون: ما أحمق هذا الغلام الإسرائيـلـي إلـى أن مرّ به كهل، فقال له ذلك، فرجع إلـيه فأخبره، فدعاه فقال: ماذا رأيت؟ قال: رأيت تـمثالاً، قال: إيه، قال: ورأسه من ذهب، قال: إيه، قال: وعنقه من فضة، قال: إيه، قال: وصدره من حديد، قال: إيه، قال: وبطنه من صُفر، قال: إيه، قال: ورجلاه من آنُك، قال: إيه، قال: وقدماه من فخار، قال: هذا الذي رأيت؟ قال: إيه، قال: فجاءت حصاة فوقعت فـي رأسه، ثم فـي عنقه، ثم فـي صدره، ثم فـي بطنه، ثم فـي رجلـيه، ثم فـي قدميه، قال: فأهلكته. قال: فما هذا؟ قال: أما الذهب فإنه ملكك، وأما الفضة فملك ابنك من بعدك، ثم ملك ابن ابنك، قال: وأما الفخار فملك النساء، فكساه جبة ترثون، وسوّره وطاف به فـي القرية، وأجاز خاتـمه فلـما رأت ذلك فـارس، قالوا: ما الأمر إلا أمر هذا الإسرائيـلـي، فقالوا: ائتوه من نـحو الفتـية الثلاثة، ولا تذكروا له دانـيال، فإنه لا يصدقكم علـيه، فأتوه، فقالوا: إن هؤلاء الفتـية الثلاثة لـيسوا علـى دينك، وآية ذلك أنك إن قرّبت إلـيهم لـحم الـخنزير والـخمر لـم يأكلوا ولـم يشربوا فأمر بحطب كثـير فوضع، ثم أرقاهم علـيه، ثم أوقد فـيه نارا، ثم خرج من آخر اللـيـل يبول، فإذا هم يتـحدّثون، وإذا معهم رابع يروح علـيهم يصلـي، قال: من هذا يا دانـيال؟ قال: هذا جبريـل، إنك ظلـمتهم، قال: ظلـمتهم مُرْ بهم ينزلوا فأمر بهم فنزلوا، قال: ومسخ الله تعالـى بختنصر من الدوابّ كلها، فجعل من كلّ صنف من الدوابّ رأسه رأس سبع من السبـاع الأسد، ومن الطير النسر، وملك ابنه فرأى كفـا خرجت بـين لوحين، ثم كتبت سطرين، فدعا الكهان والعلـماء فلـم يجدوا لهم فـي ذلك علـما، فقالت له أمه: إنك لو أعدت إلـى دانـيال منزلته التـي كانت له من أبـيك أخبرك، وكان قد جفـاه، فدعاه، فقال: إنـي معيد إلـيك منزلتك من أبـي، فأخبرنـي ما هذان السطران؟ قال: أما أن تعيد إلـيّ منزلتـي من أبـيك، فلا حاجة لـي بها، وأما هذان السطران فإنك تقتل اللـيـلة، فأخرج من فـي القصر أجمعين، وأمر بقـفله، فأقـفلت الأبواب علـيه، وأدخـل معه آمنَ أهل القرية فـي نفسه معه سيف، فقال: من جاءك من خـلق الله فـاقتله، وإن قال أنا فلان وبعث الله علـيه البطن، فجعل يـمشي حتـى كان شطر اللـيـل، فرقد ورقد صاحبه ثم نبهه البطن، فذهب يـمشي والاَخر نائم، فرجع فـاستـيقظ به، فقال له: أنا فلان، فضربه بـالسيف فقتله.
16678ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إنْ أحْسَنْتُـمْ أحْسَنْتُـمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإنْ أسأْتُـمْ فَلَها فإذا جاءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ آخر العقوبتـين لِـيَسُوءُوا وُجوهَكمْ وَلِـيَدْخُـلُوا الـمَسْجدَ كمَا دَخَـلُوهُ أوّل مَرّةٍ كما دخـله عدوّهم قبل ذلك وَلـيُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِـيرا فبعث الله علـيهم فـي الاَخرة بختنصر الـمـجوسي البـابلـي، أبغض خـلق الله إلـيه، فسبـا وقتل وخرّب بـيت الـمقدس، وسامهم سوء العذاب.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: فإذَا جاءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ من الـمرتـين لِـيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ قال: لـيقبحوا وجوهكم وَلـيُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِـيرا قال: يدمّروا ما علوا تدميرا، قال: هو بختنصر، بعثه الله علـيهم فـي الـمرّة الاَخرة.
16679ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قال: فلـما أفسدوا بعث الله علـيهم فـي الـمرّة الاَخرة بختنصر، فخرّب الـمساجد وتبّرما علوا تتبـيرا.
16680ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، قال: فـيـما بلغنـي، استـخـلف الله علـى بنـي إسرائيـل بعد ذلك، يعنـي بعد قتلهم شعياء رجلاً منهم يقال له: ناشة بن آموص، فبعث الله الـخضر نبـيا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيـما قد بلغنـي يقول: «إنّـمَا سُمّيَ الـخَضِرُ خَضِرا، لأنَهُ جَلَسَ عَلـى فَرْوَةٍ بَـيْضَاءَ، فَقامَ عَنْها وَهيَ تَهْتَزّ خَضْرَاءَ» قال: واسم الـخضر فـيـما كان وهب بن منبه يزعم عن بنـي إسرائيـل: أرميا بن حلفـيا، وكان من سبط هارون بن عمران.
16681ـ حدثنـي مـحمد بن سهل بن عسكر، ومـحمد بن عبد الـملك بن زنـجويه، قالا: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: حدثنا عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه. وحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق عمن لايتهم، عن وهب بن منبه الـيـمانـي، واللفظ لـحديث ابن حميد أنه كان يقول: قال الله تبـارك وتعالـى لإرميا حين بعثه نبـيا إلـى بنـي إسرائيـل: يا إرميا من قبل أن أخـلقك اخترتك، ومن قبل أن أصوّرك فـي بطن أمك قدّستك، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهّرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبأتك، ومن قبل أن تبلغ الأشدّ اخترتك، ولأمر عظيـم اختبأتك فبعث الله إرميا إلـى ذلك الـملك من بنـي إسرائيـل يسدّده ويرشده، ويأتـيه بـالـخبر من الله فـيـما بـينه وبـين الله قال: ثم عظمت الأحداث فـي بنـي إسرائيـل، وركبوا الـمعاصي، واستـحلّوا الـمـحارم، ونَسوا ما كان الله تعالـى صنع بهم، وما نـجاهم من عدوّهم سنـحاريب وجنوده. فأوحى الله تعالـى إلـى إرمياء: أن ائت قومك من بنـي إسرائيـل، واقصص علـيهم ما آمرك به، وذكّرهم نعمتـي علـيهم، وعرّفهم أحداثهم، فقال إرمياء: إنـي ضعيف إن لـم تقوّنـي، وعاجز إن لـم تبلّغنـي، ومخطىء إن لـم تسدّدنـي، ومخذول إن لـم تنصرنـي، وذلـيـل إن لـم تعزّنـي. قال: الله تبـارك وتعالـى: أوَ لـم تعلـم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتـي، وأن القلوب كلها والألسنة بـيدي، أقلبها كيف شئت، فتطيعنـي، وإنـي أنا الله الذي لا شيء مثلـي، قامت السموات والأرض وما فـيهنّ بكلـمتـي، وأنا كلّـمت البحار، ففهمت قولـي، وأمرتها فعقلت أمري، وحدَدت علـيها بـالبطحاء فلا تَعدّي حدّي، تأتـي بأمواج كالـجبـال، حتـى إذا بلغت حدّي ألبستها مذلّة طاعتـي خوفـا واعترافـا لأمري إنـي معك، ولن يصل إلـيك شيء معي، وإن بعثتك إلـى خـلق عظيـم من خـلقـي، لتبلغهم رسالاتـي، ولتستـحق بذلك مثل أجر من تبعك منهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، وإن تقصّر عنها فلك مثل وزر من تركب فـي عماه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا انطلق إلـى قومك فقل: إن الله ذكر لكم صلاح آبـائكم، فحمله ذلك علـى أن يستتـيبكم يا معشر الأبناء، وسلهم كيف وجد آبـاؤهم مغبّة طاعتـي، وكيف وجدوا هم مغبّة معصيتـي، وهل علـموا أن أحدا قبلهم أطاعنـي فشقـي بطاعتـي، أو عصانـي فسعد بـمعصيتـي، فإن الدّوابّ مـما تذكر أوطانها الصالـحة، فتنتابها، وإن هؤلاء القوم قد رتعوا فـي مروج الهَلَكة. أما أحبـارهم ورهبـانهم فـاتـخذوا عبـادي خوَلاً لـيعبدوهم دونـي وتـحكّموا فـيهم بغير كتابـي حتـى أجهلوهم أمري، وأنسوهم ذكري، وغروهم منـي. أما أمراؤهم وقاداتهم فبطروا نعمتـي، وأمنوا مكري، ونبذوا كتابـي، ونسوا عهدي، وغيروا سنتـي، فـادّان لهم عبـادي بـالطاعة التـي لا تنبغي إلا لـي، فهم يطيعونهم فـي معصيتـي، ويتابعونهم علـى البدع التـي يبتعدعون فـي دينـي جراءة علـيّ وغرّة وفِرْية علـيّ وعلـى رسلـي، فسبحان جلالـي وعلوّ مكانـي، وعظم شأنـي، فهل ينبغي لبشر أن يُطاع فـي معصيتـي، وهل ينبغي لـي أن أخـلق عبـادا أجعلهم أربـابـا من دونـي. وأما قرّاؤهم وفقهاؤهم فـيتعبدون فـي الـمساجد، ويتزيّنون بعمارتها لغيري، لطلب الدنـيا بـالدين، ويتفقّهون فـيها لغير العلـم، ويتعلّـمون فـيها لغير العمل. وأما أولاد الأنبـياء، فمكثرون مقهورون مغيّرون، يخوضون مع الـخائضين، ويتـمنّون علـيّ مثل نُصرة آبـائهم والكرامة التـي أكرمتهم بها، ويزعمون أن لا أحدَ أولـى بذلك منهم منـي بغير صدق ولا تفكر ولا تدبّر، ولا يذكرون كيف كان صبر آبـائهم لـي، وكيف كان جِدّهم فـي أمري حين غير الـمغيّرهن، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا وصَدَقوا حتـى عزّ أمري، وظهر دينـي، فتأنّـيت بهؤلاء القوم لعلهم يستـجيبون، فأطْوَلت لهم، وصفحت عنهم، لعلهم يرجعون، فأكثرت ومددت لهم فـي العمر لعلهم يتذكرون، فأعذرت فـي كل ذلك، أمطر علـيهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم العافـية وأظهرهم علـى العدوّ فلا يزدادون إلا طغيانا وبُعدا منـي، فحتـى متـى هذا؟ أبـي يتـمرّسون أم إياي يخادعون؟ وإنـي أحلف بعزّتـي لأقـيضنّ لهم فتنة يتـحيرُ فـيها الـحلـيـم، ويضلّ فـيها رأي ذي الرأي، وحكمة الـحكيـم، ثم لأسلطنّ علـيهم جبـارا قاسيا عاتـيا، ألبسه الهيبة، وأنتزع من صدره الرأفة والرحمة والبـيان، يتبعه عدد وسواد مثل سواد اللـيـل الـمظلـم، له عساكر مثل قطع السحاب، ومراكب أمثال العجاج، كأن خفـيق راياته طيران النسور، وأن حملة فُرسانه كوبر العقبـان. ثم أوحى الله إلـى إرميا: إنـي مهلك بنـي إسرائيـل بـيافث، ويافث أهل بـابل، وهم من ولد يافث بن نوح. ثم لـما سمع إرميا وحي ربه صاح وبكى وشقّ ثـيابه، ونبذَ الرماد علـى رأسه وقال: ملعون يوم ولدت فـيه، ويوم لقـيت التوراة، ومن شرّ أيامي يوم ولدت فـيه، فما أُبقـيت آخر الأنبـياء إلا لـما هو أشرّ علـيّ لو أراد بـي خيرا ما جعلنـي آخر الأنبـياء من بنـي إسرائيـل، فمن أجلـي تصيبهم الشّقوة والهلاك فلـما سمع الله تضرّع الـخضر وبكاءه، وكيف يقول، ناداه: يا إرميا أشقّ ذلك علـيك فـيـما أوحيت لك؟ قال: نعم يا ربّ أهلكْنـي قبل أن أرى فـي بنـي إسرائيـل ما لا أسرّ به فقال الله: وعزّتـي العزيزة لا أهلك بـيت الـمقدس وبنـي إسرائيـل حتـى يكون الأمر من قِبَلك فـي ذلك ففرح عند ذلك إرميا لـما قال له ربه، وطابت نفسه، وقال: لا، والذي بعث موسى وأنبـياءه بـالـحقّ لا آمر ربـي بهلاك بنـي إسرائيـل أبدا ثم أتـى ملك بنـي إسرائيـل فأخبره ما أوحى الله إلـيه فـاستبشر وفرح وقال: إن يعذّبنا ربنا فبذنوب كثـيرة قدّمناها لأنفسنا، وإن عفـا عنا فبقدرته. ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنـين لـم يزدادوا إلا معصية وتـماديا فـي الشرّ، وذلك حين اقترب هلاكهم فقلّ الوحي حين لـم يكونوا يتذكرون الاَخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنـيا وشأُنها، فقال لهم ملكهم: يا بنـي إسرائيـل، انتهوا عما أنتـم علـيه قبل أن يـمسكم بأس الله، وقبل أن يُبعث علـيكم قوم لا رحمة لهم بكم، وإن ربكم قريب التوبة، مبسوط الـيدين بـالـخير، رحيـم بـمن تاب إلـيه. فأبَوا علـيه أن ينزِعوا عن شيء مـما هم علـيه وإن الله قد ألقـى فـي قلب بختنصر بن نـجور زاذان بن سنـحاريب بن دارياس بن نـمرود بن فـالـخ بن عابر بن نـمرود صاحب إبراهيـم الذي حاجّه فـي ربه، أن يسير إلـى بـيت الـمقدس، ثم يفعل فـيه ما كان جدّه سنـحاريب أراد أن يفعل، فخرج فـي ستّ مئة ألف راية يريد أهل بـيت الـمقدس فلـما فصل سائرا أتـى ملك بنـي إسرائيـل الـخبر أن بختنصر قد أقبل هو وجنوده يريدكم، فأرسل الـملك إلـى إرميا، فجاءه فقال: يا إرميا أين ما زعمت لنا أن ربك أوحى إلـيك أن لا يهلك أهل بـيت الـمقدس، حتـى يكون منك الأمر فـي ذلك؟ فقال إرميا للـملك: إن ربـي لايخـلف الـميعاد، وأنا به وائق. فلـما اقترب الأجل ودنا انقطاع ملكهم وعزم الله علـى هلاكهم، بعث الله مَلَكا من عنده، فقال له: اذهب إلـى إرميا فـاسَتْفتِه، وأمَرَه بـالذي يُستفتَـى فـيه فأقبل الـمَلك إلـى إرمياء، وكان قد تـمثّل له رجلاً من بنـي إسرائيـل، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: رجل من بنـي إسرائيـل أستفتـيك فـي بعض أمري فأذن له، فقال له الـمَلَك: يا نبـيّ الله أتـيتك أستفتـيك فـي أهل رحمي، وصلت أرحامهم بـما أمرنـي الله به، لـم آت إلـيهم إلا حسنا، ولـم آلُهم كرامة، فلا تزيدهم كرامتـي إياهم إلا إسخاطا لـي، فأفتنـي فـيهم يا نبـيّ الله فقال له: أحسن فـيـما بـينك وبـين الله، وصل ما أمرك الله أن تصل، وأبشر بخير وانصرف عنه. فمكث أياما، ثم أقبل إلـيه فـي صورة ذلك الذي جاءه، فقعد بـين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي أتـيتك أستفتـيك فـي شأن أهلـي، فقال له نبـيّ الله: أَوَ ما ظهرت لك أخلاقهم بعد، ولـم تر منهم الذي تـحبّ؟ فقال: يا نبـيّ الله، والذي بعثك بـالـحقّ ما أعلـم كرامة يأتـيها أحد من الناس لأهل رحمه إلا قد أتـيتها إلـيهم وأفضل من ذلك، فقال النبـيّ: ارجع إلـى أهلك فأحسن إلـيهم، أسأل الله الذي يصلـح عبـاده الصالـحين أن يصلـح ذات بـينكم، وأن يجمعكم علـى مرضاته، ويجنبكم سخطه فقال الـمَلك من عنده، فلبث أياما وقد نزل بختنصر وجنوده حول بـيت الـمقدس، ومعه خلائق من قومه كأمثال الـجراد، ففزع منهم بنو إسرائيـل فزعا شديدا، وشق ذلك علـى ملك بنـي إسرائيـل، فدعا إرميا، فقال: يا نبـيّ الله أين ما وعدك الله؟ فقال: إنـي بربـي واثق. ثم إن الـملك أقبل إلـى إرميا وهو قاعد علـى جدار بـيت الـمقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بـين يديه فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الذي كنت أتـيتك فـي شأن أهلـي مرّتـين، فقال له النبـيّ: أَوَ لَـم يأنِ لهم أن يـمتنعوا من الذي هم فـيه مقـيـمون علـيه؟ فقال له الـملك: يا نبـيّ الله، كلّ شيء كان يصيبنـي منهم قبل الـيوم كنت أصبر علـيه، وأعلـم أن مأربهم فـي ذلك سخطي فلـما أتـيتهم الـيوم رأيتهم فـي عمل لا يرضي الله ولا يحبه الله عزّ وجلّ. فقال له نبـيّ الله: علـى أيّ عمل رأيتهم؟ قال: يا نبـيّ الله رأيتهم علـى عمل عظيـم من سخط الله، فلو كانوا علـى مثل ما كانوا علـيه قبل الـيوم لـم يشتدّ علـيهم غضبـي، وصبرت لهم ورجوتهم، ولكن غضبت الـيوم لله ولك، فأتـيتك لأخبرك خبرهم، وإنـي أسألك بـالله الذي بعثك بـالـحقّ إلا ما دعوت علـيهم ربك أن يهلكهم فقال إرميا: يا مالك السموات والأرض، إن كانوا علـى حقّ وصواب فأبقهم، وإن كانوا علـى سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم. فما خرجت الكلـمة مِن فـي إرميا حتـى أرسل الله صاعقة من السماء فـي بـيت الـمقدس، فـالتهب مكان القربـان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها فلـما رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثـيابه، ونبذ الرماد علـى رأسه وقال: يا ملك السموات والأرض بـيدك ملكوت كلّ شيء وأنت أرحم الراحمين أين ميعادك الذي وعدتنـي؟ فنودي إرميا: إنهم لـم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتـياك التـي أفتـيت بها رسولنا فـاستـيقن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنها فتـياه التـي أفتـى بها ثلاث مرّات، وأنه رسول ربه. ثم إن إرميا طار حتـى خالط الوحش، ودخـل بختنصر وجنوده بـيت الـمقدس، فوطىء الشام، وقتل بنـي إسرائيـل حتـى أفناهم، وخرّب بـيت الـمقدس، أمر جنوده أن يـملأ كلّ رجل منهم ترسه ترابـا ثم يقذفه فـي بـيت الـمقدس، فقذفوا فـيه التراب حتـى ملأوه، ثم انصرف راجعا إلـى أرض بـابل، واحتـمل معه سبـايا بنـي إسرائيـل، وأمرهم أن يجمعوا من كان فـي بـيت الـمقدس كلهم، فـاجتـمع عنده كلّ صغير وكبـير من بنـي إسرائيـل، فـاختار منهم سبعين ألف صبـيّ فلـما خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمها فـيهم، قالت له الـملوك الذين كانوا معه: أيها الـملك لك غنائمنا كلها، واقسم بـيننا هؤلاء الصبـيان الذين اخترتهم من بنـي إسرائيـل، ففعل، وأصاب كلّ رجل منهم أربعة أغلـمة، وكان من أولئك الغلـمان دانـيال وحنانـيا وعزاريا وميشائيـل وسبعة آلاف من أهل بـيت داود، وأحد عشر ألفـا من سبط يوسف بن يعقوب، وأخيه بنـيامين، وثمانـية آلاف من سبط أشر بن يعقوب، وأربعة عشر ألفـا من سبط زبـالون بن يعقوب ونفثالـي بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبـيـل ولاوي ابنـي يعقوب. ومن بقـى من بنـي إسرائيـل، وجعلهم بختنصر ثلاث فرق، فثلثا أَقَرّ بـالشام، وثلثا قتل، وذهب بآنـية بـيت الـمقدس حتـى أقدمها بـابل، وذهب بـالصبـيان السبعين الألف حتـى أقدمهم بـابل، فكانت هذه الوقعة الأولـى التـي أنزل الله ببنـي إسرائيـل بـاحداثهم وظلـمهم. فلـما ولّـي بختنصر عنهم راجعا إلـى بـابل بـمن معه من سبـايا بنـي إسرائيـل، أقبل أرميا علـى حمار له معه عصير ثم ذكر قصته حين أماته الله مئة عام، ثم بعثه، ثم خبر رؤيا بختنصر وأمر دانـيال، وهلاك بختنصر، ورجوع من بقـي من بنـي إسرائيـل فـي أيدي أصحاب بختنصر بعد هلاكه إلـى الشام، وعمارة بـيت الـمقدس، وأَمْرَ عُزيرَ وكيف ردّ الله علـيه التوراة.
16682ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة عن ابن إسحاق، قال: ثم عمدت بنو إسرائيـل بعد ذلك يحُدِثون الأحداث، يعنـي بعد مهلك عُزيرَ، ويعود الله علـيهم، ويبعث فـيهم الرسل، ففريقا يكذّبون، وفريقا يقتلون، حتـى كان آخر من بعث الله فـيهم من أنبـيائهم زكريا ويحيى بن زكريا وعيسى ابن مريـم، وكانوا من بـيت آل داود.
16683ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن عمر بن عبد الله بن عروة، عن عبد الله بن الزبـير أنه قال، وهو يحدّث عن قتل يحيى بن زكريا قال: ما قُتل يحيى بن زكريا إلا بسبب امرأة بغيّ من بغايا بنـي إسرائيـل كان فـيهم ملك، وكان يحيى بن زكريا تـحت يدي ذلك الـملك، فهمّت ابنة ذلك الـملك بأبـيها، فقالت: لو أنـي تزوّجت بأبـي فـاجتـمع لـي سلطانه دون النساء، فقالت له: يا أبتِ تزوّجنـي ودعته إلـى نفسها، فقال لها: يا بنـية إن يحيى بن زكريا لا يحل لنا هذا، فقالت: من لـي بـيحيى بن زكريا؟ ضيّق علـيّ، وحال بـينـي وبـين أن أتزوّج بأبـي، فأغلِبَ علـى مُلكه ودنـياه دون النساء قال: فأمرت اللعابـين ومـحلت بذلك لأجل قتل يحيى بن زكريا، فقالت: ادخـلوا علـيه فـالعبوا، حتـى إذا فرغتـم فإنه سيُحَكمكم، فقولوا: دم يحيى بن زكريا، ولا تقبلوا غيره. وكان اسم الـملك رواد، واسم ابنته البغيّ، وكان الـملك فـيهم إذا حدّث فكذب، أو وعد فأخـلف، خـلع فـاستُبدل به غيرهُ فلـما ألعبوه وكثر عجبه منهم، قال: سلونـي أعطكم، فقالوا له: نسألك دم يحيى بن زكريا أعطنا إياه قال: ويحكم سلونـي غير هذا فقالوا: لا نسألك شيئا غيره. فخاف علـى ملكه إن هو أخـلفهم أن يُسْتـحَلّ بذلك خَـلْعه، فبعث إلـى يحيى بن زكريا وهو جالس فـي مـحرابه يصلـي، فذبحوه فـي طست ثم حزّوا رأسه، فـاحتـمله رجل فـي يده والدم يحمل فـي الطّسْت معه. قال: فطلع برأسه يحمله حتـى وقـف به علـى الـملك، ورأسه يقول فـي يدي الذي يحمله لا يحلّ لك ذلك فقال رجل من بنـي إسرائيـل: أيها الـملك لو أنك وهبت لـي هذا الدم؟ فقال: وما تصنع به؟ قال: أطهر منه الأرض، فإنه كان قد ضيقها علـينا، فقال: أعطوه هذا الدم، فأخذه فجعله فـي قلة، ثم عمد به إلـى بـيت فـي الـمذبح، فوضع القلة فـيه، ثم أغلق علـيه، ففـار فـي القُلّة حتـى خرج منها من تـحت البـاب من البـيت الذي هو فـيه فلـما رأى الرجل ذلك، فَظع به، فأخرجه فجعله فـي فلاة من الأرض، فجعل يفور وعظمت فـيهم الأحداث. ومنهم من يقول: أقرّ مكانه فـي القربـان ولـم يحوّل.
16684ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: قال ابن إسحاق: فلـما رفع الله عيسى من بـين أظهرهم وقتلوا يحيى بن زكريا (وبعض الناس يقول: وقتلوا زكريا)، ابتعث الله علـيهم ملكا من ملوك بـابل يقال له خردوس، فسار إلـيه بأهل بـابل حتـى دخـل علـيهم الشام فلـما ظهر علـيهم أمر رأسا من رؤوس جنده يدعى نبور زاذان صاحب القتل، فقال له: إنـي قد كنت حلفت بإلهي لئن أظهرنا علـى أهل بـيت الـمقدس لأقتلنهم حتـى تسيـل دماؤهم فـي وسط عسكري، إلا أن لا أجد أحدا أقتله فأمر أن يقتلهم حتـى يبلغ ذلك منهم نبور زاذان، فدخـل بـيت الـمقدس، فقال فـي البقعة التـي كانوا يقربون فـيها قربـانهم، فوجد فـيها دما يغلـي، فسألهم فقال: يا بنـي إسرائيـل، ما شأن هذا الدم الذي يغلـي، أخبرونـي خبره ولا تكتـمونـي شيئا من أمره؟ فقالوا: هذا دم قربـان كان لنا كنا قرّبناه فلـم يُتَقبّل منا، فلذلك هو يغلـي كما تراه ولقد قرّبنا منذ ثمان مئة سنة القربـان فتقبّل منا إلا هذا القربـان قال: ما صَدَقْتـمونـي الـخبر قالوا له: لو كان كأوّل زماننا لقُبل منا، ولكنه قد انقطع منا الـمُلك والنبوّة والوحي، فلذلك لـم يُتقبل منا فذبح منهم نبور زاذان علـى ذلك الدم سبع مئة وسبعين روحا من رؤوسهم، فلـم يهدأ فأمر بسبع مئة غلام من غلـمانهم فذبحوا علـى الدم فلـم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيعهم وأزواجهم، فذبحهم علـى الدم فلـم يبرد ولـم يهدأ فلـما رأى نبور زاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم: ويْـلكم يا بنـي إسرائيـل، أصدقونـي واصبروا علـى أمر ربكم فقد طال ما ملكتـم فـي الأرض تفعلون فـيها ما شئتـم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار، لا أنثى ولا ذكرا إلا قتلته فلـما رأوا الـجهد وشدّة القتل صدقوه الـخبر، فقالوا له: إن هذا دم نبـيّ منا كان ينهانا عن أمور كثـيرة من سخط الله، فلو أطعناه فـيها لكان أرشد لنا، وكان يخبرنا بأمركم، فلـم نصدّقه، فقتلناه، فهذا دمه فقال لهم نبور زاذان: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكريا، فقال: الاَنَ صَدَقْتـمونـي بـمثل هذا ينتقم ربكم منكم فلـما رأى نبور زاذان أنهم صدقوه خرّ ساجدا وقال لـمن حوله: غلقوا الأبواب، أبواب الـمدينة، وأخرجوا من كان ههنا من جيش خردوس. وخلافـي بنـي إسرائيـل ثم قال: يا يحيى بن زكريا، قد علـم ربـي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، وما قُتل منهم من أجلك، فـاهدأ بإذن الله قبل أن لا أبقـي من قومك أحدا فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله، ورفع نبور زاذان عنهم القتل وقال: آمنت بـما آمنت به بنو إسرائيـل، وصدّقت وأيقنت أنه لا ربّ غيره، ولو كان معه آخر لـم يصلـح، ولو كان له شريك لـم تستـمسك السموات والأرض، ولو كان له ولد لـم يصلـح، فتبـارك وتقدّس، وتسبح وتكبر وتعظم، ملك الـملوك الذي له ملك السموات السبع والأرض وما فـيهنّ، وما بـينهما، وهو علـى كل شيء قدير، فله الـحلـم والعلـم والعزّة والـجبروت، وهو الذي بسط الأرض وألقـى فـيها رواسي لئلا تزول، فكذلك ينبغي لربـي أن يكون ويكون مُلكه. فأوحى الله إلـى رأس من رؤوس بقـية الأنبـياء أن نبور زاذان حَبُور صدوق والـحبور بـالعبرانـية: حديث الإيـمان. وإن نبور زاذان قال لبنـي إسرائيـل: يا بنـي إسرائيـل، إن عدوّ الله خردوس أمرنـي أن أقتل منكم حتـى تسيـل دماؤكم وسط عسكره، وإنـي لست أستطيع أن أعصيه. قالوا له: افعل ما أُمرت به. فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الـخيـل والبغال والـحمير والبقر والغنـم والإبل، فذبحها حتـى سال الدم فـي العسكر، وأمر بـالقتلـى الذين كانوا قبل ذلك، فطُرحوا علـى ما قُتل من مواشيهم حتـى كانوا فوقهم، فلـم يظنّ خردوس إلا أن ما كان فـي الـخندق من بنـي إسرائيـل. فلـما بلغ الدم عسكره، أرسل إلـى نبور زاذان أن ارفع عنهم، فقد بلغتنـي دماؤهم، وقد انتقمت منهم بـما فعلوا. ثم انصرف عنهم إلـى أرض بـابل، وقد أفنى بنـي إسرائيـل أو كاد، وهي الوقعة الاَخرة التـي أنزل الله ببنـي إسرائيـل. يقول الله عزّ ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ فِـي الكِتابِ لتَفْسِدُنّ فِـي الأرْضِ مَرّتَـيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّا كَبِـيرا فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَـيْكمْ عِبـادا لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ وكانَ وَعْدا مَفْعُولاً ثُمّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرّةَ عَلَـيْهِمْ وأمْدَدْناكُمْ بأمْوَالٍ وَبَنِـينَ وَجَعَلْناكُمْ أكْثَرَ نَفِـيرا إنْ أحْسَنْتُـمْ أحْسَنْتُـمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإنْ أسأْتُـمْ فَلَها فإذَا جاءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ لـيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِـيَدْخُـلُوا الـمَسْجدَ كمَا دَخَـلُوهُ أوّلَ مَرّةٍ ولِـيُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبـيرا عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدْتُـمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنّـمَ للكافرِينَ حَصِيرا وعسى من الله حقّ، فكانت الوقعة الأولـى: بختنصرَ وجنوده، ثم ردّ الله لكم الكرّة علـيهم، وكانت الوقعة الاَخرة خردوس وجنوده، وهي كانت أعظم الوقعتـين، فـيها كان خراب بلادهم، وقتل رجالهم، وسبى ذراريهم ونسائهم. يقول الله تبـارك وتعالـى: وَلـيُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِـيرا ثم عاد الله علـيهم، فأكثر عددهم، ونشرهم فـي بلادهم، ثم بَدّلوا وأحدثوا الأحداث، واستبدلوا بكتابهم غيره، وركبوا الـمعاصي، واستـحلوا الـمـحارم وضيّعوا الـحدود.
16685ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن أبـي عَتّاب رجل من تغلب كان نصرانـيا عمرا من دهره، ثم أسلـم بعد، فقرأ القرآن، وفقه فـي الدين، وكان فـيـما ذكر أنه كان نصرانـيا أربعين سنة، ثم عُمّر فـي الإسلام أربعين سنة. قال: كان آخر أنبـياء بنـي إسرائيـل نبـيا بعثه الله إلـيهم، فقال لهم: يا بنـي إسرائيـل إن الله يقول لكم: إنـي قد سلبت أصواتكم، وأبغضتكم بكثرة أحداثكم فهَمّوا به لـيقتلوه، فقال الله تبـارك وتعالـى له: ائتهم واضرب لـي ولهم مثلاً، فقل لهم: إن الله تبـارك وتعالـى يقول لكم: اقضوا بـينـي وبـين كرمي ألـم أختر له البلاد، وطيبت له الـمَدَرة، وحظرته بـالسياج، وعرشته السويق والشوك والسياج والعَوْسَج، وأحطته بردائي، ومنعته من العالـم وفضّلته، فلقـينـي بـالشوك والـجذوع، وكل شجرة لا تؤكل؟ ما لهذا اخترت البلدة، ولا طيّبت الـمَدَرة، ولا حَظَرته بـالسّياج، ولا عَرَشتْه السويق، ولا حُطْته بردائي، ولا منعته من العالـم فضلتكم وأتـمـمت علـيكم نعمتـي، ثم استقبلتـمونـي بكلّ ما أكره من معصيتـي وخلاف أمري لَـمَهْ إن الـحمار لـيعرف مذوده لَـمَهْ إن البقرة لتعرف سيدها وقد حلفت بعزتـي العزيزة، وبذراعي الشديد لاَخذنّ ردائي، ولأمرجنّ الـحائط، ولأجعلنكم تـحت أرجل العالـم. قال: فوثبوا علـى نبـيهم فقتلوه، فضرب الله علـيهم الذلّ، ونزع منهم الـملك، فلـيسوا فـي أمة من الأمـم إلا وعلـيهم ذلّ وصغار وجزية يؤدّونها، والـملك فـي غيرهم من الناس، فلن يزالوا كذلك أبدا، ما كانوا علـى ما هم علـيه.
قال: قال: فهذا ما انتهى إلـينا من جماع أحاديث بنـي إسرائيـل.
16686ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: فإذَا جاءَ وَعْدُ الاَخِرَة لِـيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِـيَدْخُـلُوا الـمَسْجِدَ كمَا دَخَـلُوهُ أوّلَ مَرّةٍ وَلِـيُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِـيرا قال: كانت الاَخرة أشدّ من الأولـى بكثـير، قال: لأن الأولـى كانت هزيـمة فقط، والاَخرة كان التدمير، وأحرق بختنصر التوراة حتـى لـم يبق منها حرف واحد، وخرب الـمسجد.
16687ـ حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن الـمنهال، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس، قال: بعث عيسى ابن مريـم يحيى بن زكريا، فـي اثنـي عشر من الـحواريـين يعلّـمون الناس. قال: فكان فـيـما نهاهم عنه، نكاح ابنة الأخ. قال: وكانت لـملكهم ابنة أخ تعجبه يريد أن يتزوّجها، وكانت لها كل يوم حاجة يقضيها فلـما بلغ ذلك أمها قالت لها: إذا دخـلت علـى الـملك فسألك حاجتك، فقولـي: حاجتـي أن تذبح لـي يحيى بن زكريا فلـما دخـلت علـيه سألها حاجتها، فقالت: حاجتـي أن تذبح يحيى بن زكريا، فقال: سلـي غير هذا فقالت: ما أسألك إلا هذا قال: فلـما أبت علـيه دعا يحيى ودعا بطست فذبحه، فبدرت قطرة من دمه علـى الأرض، فلـم تزل تغلـي حتـى بعث الله بختنصر علـيهم، فجاءته عجوز من بنـي إسرائيـل، فدلّته علـى ذلك الدم. قال: فألقـى الله فـي نفسه أن يقتل علـى ذلك الدم منهم حتـى يسكن، فقتل سبعين ألفـا منهم من سنّ واحد فسكن.
وقوله: وَلِـيَدْخُـلُوا الـمَسْجِدَ كمَا دَخَـلُوهُ أوّلَ مَرّةٍ يقول: ولـيدخـل عدوّكم الذي أبعثه علـيكم مسجد بـيت الـمقدس قهرا منهم لكم وغلبة، كما دخـلوه أوّل مرّة حين أفسدتـم الفساد الأوّل فـي الأرض.
وأما قوله: وَلِـيُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِـيرا فإنه يقول: ولـيدمّروا ما غلبوا علـيه من بلادكم تدميرا. يقال منه: دمّرت البلد: إذا خرّبته وأهلكت أهله. وَتَبَر تَبْرا وَتَبـارا، وتَبّرْتُه أتبّرُه تتبـيرا. ومنه قول الله تعالـى ذكره وَلا تَزِدِ الظّالِـمِينَ إلاّ تَبَـارا يعنـي: هلاكا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16688ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس: وَلِـيُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِـيرا قال: تدميرا.
16689ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وَلِـيُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِـيرا قال: يدمروا ما علوا تدميرا