تفسير الطبري تفسير الصفحة 286 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 286
287
285
 الآية : 39
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {ذَلِكَ مِمّآ أَوْحَىَ إِلَيْكَ رَبّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَـَهاً آخَرَ فَتُلْقَىَ فِي جَهَنّمَ مَلُوماً مّدْحُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: هذا الذي بـيّنا لك يا مـحمد من الأخلاق الـجميـلة التـي أمرناك بجميـلها، ونهيناك عن قبـيحها مِـمّا أوْحَى إلَـيْكَ رَبّكَ مِنَ الـحِكْمَةِ يقول: من الـحكمة التـي أوحيناها إلـيك فـي كتابنا هذا، كما:
16852ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله ذلكَ مِـمّا أوْحَى إلَـيْكَ رَبّكَ مِنَ الـحِكْمَةِ قال: القرآن.
وقد بـيّنا معنى الـحكمة فـيـما مضى من كتابنا هذا، بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
وَلا تَـجْعَلْ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ فَتُلْقَـى فِـي جَهَنّـمَ مَلُوما مَدْحُورا يقول: ولا تـجعل مع الله شريكا فـي عبـادتك، فتُلقـى فـي جهنـم ملوما تلومك نفسك وعارفوك من الناس مَدْحُورا يقول: مُبْعَدا مقصيا فـي النار، ولكن أخـلص العبـادة لله الواحد القهّار، فتنـجوَ من عذابه. وبنـحو الذي قلنا فـي قوله مَلُوما مَدْحُورا قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16853ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد الله بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، فـي قوله: مَلُوما مَدْحُورا يقول: مطرودا.
16854ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة مَلُوما مَدْحُورا قال: ملوما فـي عبـادة الله، مدحورا فـي النار.
الآية : 40
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبّكُم بِالْبَنِينَ وَاتّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً }.
يقول تعالـى ذكره للذين قالوا من مشركي العرب: الـملائكة بنات الله أفأصْفـاكُمْ أيها الناس رَبّكُمْ بـالبَنـينَ يقول: أفخصكم ربكم بـالذكور من الأولاد واتّـخَذَ مِنَ الـمَلائِكَةِ إناثا وأنتـم لا ترضونهن لأنفسكم، بل تئدونهن، وتقتلونهن، فجعلتـم لله ما لا ترضونه لأنفسكم إنّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيـما يقول تعالـى ذكره لهؤلاء الـمشركين الذين قالوا من الفرية علـى الله ما ذكرنا: إنكم أيها الناس لتقولون بقـيـلكم: الـملائكة بنات الله، قولاً عظيـما، وتفترون علـى الله فرية منكم. وكان قتادة يقول فـي ذلك ما:
16855ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة واتّـخَذَ مِنَ الـمَلائِكَةِ إناثا قال: قالت الـيهود: الـملائكة بنات الله.
الآية : 41
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ صَرّفْنَا فِي هَـَذَا الْقُرْآنِ لِيَذّكّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ نُفُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: وَلَقَدْ صَرّفْتا لهؤلاء الـمشركين الـمفترين علـى الله فِـي هَذَا القُرآنِ العِبَر والاَيات والـحجج، وضربنا لهم فـيه الأمثال، وحذّرناهم فـيه وأنذرناهم لِـيَذّكّرُوا يقول: لـيتذكروا تلك الـحجج علـيهم، فـيعقلوا خطأ ما هم علـيه مقـيـمون، ويعتبروا بـالعبر، فـيتعظوا بها، وينـيبوا من جهالتهم، فما يعتبرون بها، ولا يتذكرون بـما يرد علـيهم من الاَيات والنّذر، وما يزيدهم تذكيرنا إياهم إلاّ نُفُورا يقول: إلا ذهابـا عن الـحقّ، وبُعدا منه وهربـا. والنفور فـي هذا الـموضع مصدر من قولهم: نفر فلان من هذا الأمر ينفِر منه نَفْرا ونفورا.

الآية : 42
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ لّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاّبْتَغَوْاْ إِلَىَ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين الذين جعلوا مع الله إلها آخر: لو كان الأمر كما تقولون: من أن معه آلهة، ولـيس ذلك كما تقولون، إذن لابتغت تلك الاَلهة القُربة من الله ذي العرش العظيـم، والتـمست الزّلْفة إلـيه، والـمرتبة منه. كما:
16856ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كمَا يَقُولُونَ إذًا لابْتَغَوْا إلـى ذِي العَرْشِ سَبِـيلاً يقول: لو كان معه آلهة إذن لعرفوا فضله ومرتبته ومنزلته علـيهم، فـابتغوا ما يقرّبهم إلـيه.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة إذًا لابْتَغَوْا إلـى ذِي العَرْشِ سَبِـيلاً قال: لابتغَوا القُرب إلـيه، مع أنه لـيس كما يقولون.

الآية : 43 و44
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً * تُسَبّحُ لَهُ السّمَاوَاتُ السّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـَكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }.
وهذا تنزيه من الله تعالـى ذكره نفسه عما وصفه به الـمشركون، الـجاعلون معه آلهة غيره، الـمضيفون إلـيه البنات، فقال: تنزيها لله وعلوّا له عما تقولون أيها القوم، من الفرية والكذب، فإن ما تضيفون إلـيه من هذه الأمور لـيس من صفته، ولا ينبغي أن يكون له صفة. كما:
16857ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة سُبْحانَهُ وَتَعالـى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّا كَبِـيرا يسبح نفسه إذ قـيـل علـيه البهتان. وقال تعالـى: عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّا ولـم يقل: تعالـيا، كما قال: وَتَبَتّلْ إلَـيْهِ تَبْتِـيلاً كما قال الشاعر:
أنْتَ الفِدَاءُ لكَعْبَةٍ هَدّمْتَهاونَقَرْتَها بـيَدَيْكَ كُلّ مَنَقّرِ
مُنِعَ الـحَمامُ مَقِـيـلَهُ مِنْ سَقْـفِهاومِنَ الـحَطِيـمِ فَطارَ كُلّ مُطَيّرِ
وقوله: تُسَبّحُ لَهُ السّمَواتُ السّبْعُ والأرْضُ وَمَنْ فِـيهِنّ يقول: تنزّه الله أيها الـمشركون عما وصفتـموه به إعظاما له وإجلالاً، السموات السبع والأرض، ومن فـيهنّ من الـمؤمنـين به من الـملائكة والإنس والـجنّ، وأنتـم مع إنعامه علـيكم، وجميـل أياديه عندكم، تفترون علـيه بـما تَفْتَرون.
وقوله: وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ يقول جلّ ثناؤه: وما من شيء من خـلقه إلا يسبح بحمده، كما:
16858ـ حدثنـي به نصر بن عبد الرحمن الأَوْدِيّ، قال: حدثنا مـحمد بن يعلَـى، عن موسى بن عبـيدة، عن زيد بن أسلـم، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ أمَرَ بِهِ نُوحٌ ابْنَهُ؟ إنّ نُوحا قالَ لاِبْنِهِ يا بُنَـيّ آمُرُكَ أنْ تَقُولَ سُبْحانَ اللّهِ وبِحَمْدِهِ فإنّها صَلاةُ الـخَـلْقِ، وَتَسْبِـيحُ الـخَـلْقِ، وبِها تُرْزَقُ الـخَـلْقُ، قالَ اللّهُ وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ».
16859ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عيسى بن عبـيد، قال: سمعت عكرمة يقول: لا يَعِيبنّ أحدكم دابته ولا ثوبه، فإن كلّ شيء يسبح بحمده.
16860ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين، عن يزيد، عن عكرمة وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ قال: الشجرة تسبح، والأُسْطوانة تسبح.
16861ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح وزيد بن حبـاب، قالا: حدثنا جرير أبو الـخطاب، قال: كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الـحسن فـي طعام، فقدّموا الـخوان، فقال يزيد الرقاشي: يا أبـا سعيد يسبح هذا الـخوان: فقال: كان يسبح مرّة.
16862ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، ويونس، عن الـحسن أنهما قالا فـي قوله: وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّح بِحَمْدِهِ قالا: كلّ شيء فـيه الروح.
16863ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الكبـير بن عبد الـمـجيد، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم، قال: الطعام يسبح.
16864ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر عن قتادة وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ قال: كلّ شيء فـيه الروح يسبح، من شجر أو شيء فـيه الروح.
16865ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الله بن أبـيَ، عن عبد الله بن عمرو، أن الرجل إذا قال: لا إله إلا الله، فهي كلـمة الإخلاص التـي لا يقبل الله من أحد عملاً حتـى يقولها، فإذا قال الـحمد لله، فهي كلـمة الشكر التـي لـم يشكر الله عبد قطّ حتـى يقولها: فإذا قال الله أكبر، فهي تـملأ ما بـين السماء والأرض، فإذا قال سبحان الله، فهي صلاة الـخلائق التـي لـم يَدْعُ اللّهَ أحد من خـلقه إلا نوّره بـالصلاة والتسبـيح، فإذا قال لا حول ولا قوّة إلا بـالله، قال: أسلـم عبدي واستسلـم.
وقوله: ولَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِـيحَهُمْ يقول تعالـى ذكره: ولكن لا تفقهون تسبـيح ما عدا تسبـيح من كان يسبح بـمثل ألسنتكم إنّهُ كانَ حَلِـيـما يقول: إن الله كان حلـيـما لا يعجل علـى خـلقه، الذين يخالفون أمره، ويكفرون به، ولولا ذلك لعاجل هؤلاء الـمشركين الذين يدعون معه الاَلهة والأنداد بـالعقوبة غَفُورا يقول: ساترا علـيهم ذنوبهم، إذا هم تابوا منها بـالعفو منه لهم، كما:
16866ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة إنّهُ كانَ حَلِـيـما عن خـلقه، فلا يعجل كعجلة بعضهم علـى بعض غَفُورا لهم إذا تابوا.
الآية : 45
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ حِجَاباً مّسْتُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: وإذا قرأت يا مـحمد القرآن علـى هؤلاء الـمشركين الذين لا يصدّقون بـالبعث، ولا يقرّون بـالثواب والعقاب، جعلنا بـينك وبـينهم حجابـا، يحجب قلوبهم عن أن يفهموا ما تقرؤه علـيهم، فـينتفعوا به، عقوبة منا لهم علـى كفرهم. والـحجاب ههنا: هو الساتر، كما:
16867ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَإذَا قَرأتَ القُرآنَ جَعَلْنا بَـيْنَكَ وبـينَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـالاَخرة حِجابـا مَسْتُورا الـحجاب الـمستور أكنة علـى قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به، أطاعوا الشيطان فـاستـحوذ علـيهم.
حدثنا مـحمد، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة حِجابـا مَسْتُورا قال: هي الأكنة.
16868ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَإذَا قَرأتَ القُرآنَ جَعَلْنا بَـيْنَكَ وبـينَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـالاَخِرَةِ حِجابـا مَسْتُورا قال: قال أُبـيّ: لا يفقهونه، وقرأ قُلُوبُهُمْ فِـي أكِنّةٍ وفِـي آذَانِهِمْ وَقْرٌ لا يخـلص ذلك إلـيهم.
وكان بعض نـحويـيّ أهل البصرة يقول: معنى قوله حِجابـا مَسْتُورا حِجابـا ساترا، ولكنه أخرج وهو فـاعل فـي لفظ الـمفعول، كما يقال: إنك مشئوم علـينا وميـمون، وإنـما هو شائم ويامن، لأنه من شأمهم ويـمنهم. قال: والـحجاب ههنا: هو الساتر. وقال: مستورا. وكان غيره من أهل العربـية يقول: معنى ذلك: حجابـا مستورا عن العبـاد فلا يرونه.
وهذا القول الثانـي أظهر بـمعنى الكلام أن يكون الـمستور هو الـحجاب، فـيكون معناه: أن لله سترا عن أبصار الناس فلا تدركه أبصارهم، وإن كان للقول الأوّل وجه مفهوم.

الآية : 46
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَجَعَلْنَا عَلَىَ قُلُوبِهِمْ أَكِنّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيَ آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلّوْاْ عَلَىَ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: وجعلنا علـى قلوب هؤلاء الذين لا يؤمنون بـالاَخرة عند قراءتك علـيهم القرآن أكنة وهي جمع كِنان، وذلك ما يتغشّاها من خِذلان الله إياهم عن فهم ما يُتلـى علـيهم وفِـي آذانِهمْ وَقْرا يقول: وجعلنا فـي آذانهم وقرا عن سماعه، وصمـما. والوَقر بـالفتـح فـي الأذن: الثقل. والوِقر بـالكسر: الـحِمْل. وقوله: وَإذَا ذَكَرْتَ رَبّكَ فـي القُرْآنِ وَحْدَهُ يقول: وإذا قلت: لا إله إلا الله فـي القرآن وأنت تتلوه وَلّوْا علـى أدْبـارِهِمْ نُفُورا يقول: انفضوا، فذهبوا عنك نفورا من قولك استكبـارا له واستعظاما من أن يوحّد الله تعالـى. وبـما قلنا فـي ذلك، قال بعض أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16869ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَإذَا ذَكَرْتَ رَبّكَ فِـي القُرآنِ وَحْدَهُ وَلّوْا وإن الـمسلـمين لـما قالوا: لا إله إلا الله، أنكر ذلك الـمشركون وكبرت علـيهم، فصافها إبلـيس وجنوده، فأبى الله إلا أن يـمضيها وينصرها ويفلـجها ويظهرها علـى من ناوأها، إنها كلـمة من خاصم بها فلـج، ومن قاتل بها نُصِر، إنـما يعرفها أهل هذه الـجزيرة من الـمسلـمين، التـي يقطعها الراكب فـي لـيال قلائل ويسير الدهر فـي فِئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرّون بها.
16870ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَإذَا ذَكَرْتَ رَبّكَ فِـي القُرآنِ وَحْدَهُ وَلّوْا علـى أدْبـارِهِمْ نُفُورا قال: بغضا لـما تكلـم به لئلا يسمعوه، كما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم فـي آذانهم لئلا يسمعوا ما يأمرهم به من الاستغفـار والتوبة، ويستغشُون ثـيابهم، قال: يـلتفون بثـيابهم، ويجعلون أصابعهم فـي آذانهم لئلا يسمعوا ولا يُنظر إلـيهم.
وقال آخرون: إنـما عُنِـي بقوله وَلّوْا علـى أدْبـارِهِمْ نُفُورا الشياطين، وإنها تهرب من قراءة القرآن، وذكر الله. ذكر من قال ذلك:
16871ـ حدثنـي الـحسين بن مـحمد الذارع، قال: حدثنا روح بن الـمسيب أبو رجاء الكلبـي، قال: حدثنا عمرو بن مالك، عن أبـي الـجوزاء، عن ابن عبـاس، فـي قوله: وَإذَا ذَكَرْتَ رَبّكَ فِـي القُرآنِ وَحْدَهُ وَلّوْا عَلـى أدْبـارِهِمْ نُفُورا هم الشياطين.
والقول الذي قلنا فـي ذلك أشبه بـما دلّ علـيه ظاهر التنزيـل، وذلك أن الله تعالـى أتبع ذلك قوله وَإذَا قَرأتَ القُرآنَ جَعَلْنا بَـيْنَكَ وبـينَ الّذِينَ لا يُؤمِنُونَ بـالاَخِرِةِ حِجابـا مَسْتُورا فأن يكون ذلك خبرا عنهم أولـى إذ كان بخبرهم متصلاً من أن يكون خبرا عمن لـم يجز له ذكر. وأما النفور، فإنها جمع نافر، كما القعود جمع قاعد، والـجلوس جمع جالس وجائز أن يكون مصدرا أخرج من غير لفظه، إذ كان قوله وَلّوْا بـمعنى: نفروا، فـيكون معنى الكلام: نفروا نفورا، كما قال امرؤ القـيس:
رُضْتُ فَذَلّتْ صَعْبَةٌ أيّ إذْلالِ
إذا كان رُضْت بـمعنى: أذللت، فأخرج الإذلال من معناه، لا من لفظه.

الآية : 47
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {نّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىَ إِذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مّسْحُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: نـحن أعلـم يا مـحمد بـما يستـمع به هؤلاء الذين لا يؤمنون بـالاَخرة من مشركي قومك، إذ يستـمعون إلـيك وأنت تقرأ كتاب الله وَإذْ هُمْ نَـجْوَى. وكان بعض أهل العربـية من أهل البصرة يقول: النـجوى: فعلهم، فجعلهم هم النـجوى، كما يقول: هم قوم رضا، وإنـما رضا: فعلهم. وقوله إذْ يَقُولُ الظّالِـمُونَ إنْ تَتّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَسْحُورا يقول: حين يقول الـمشركون بـالله ما تتبعون إلا رجلاً مسحورا. وعنى فـيـما ذُكِر بـالنـجوى: الذين تشاوروا فـي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي دار النّدوة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16872ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد إذْ يَسْتَـمِعُونَ إلَـيْكَ قال: هي مثل قـيـل الولـيد بن الـمُغيرة ومن معه فـي دار الندوة.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، نـحوه.
16873ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة. قوله: إذْ يَسْتَـمِعُونَ إلَـيْكَ وَإذْ هُمْ نَـجْوَى إذْ يَقُولُ الظّالِـمُونَ... الاَية، ونـجواهم أن زعموا أنه مـجنون. وأنه ساحر، وقالوا: أساطِيرُ الأوّلِـينَ.
وكان بعض أهل العربـية من أهل البصرة يذهب بقوله إنْ تَتّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَسْحُورا إلـى معنى: ما تتبعون إلا رجلاً له سَحْر: أي له رثة، والعرب تسمي الرئة سَحْرا، والـمسحّر من قولهم للرجل إذا جبن: قد انتفخ سَحْره، وكذلك يقال لكل ما أكَلَ أو شرب من آدميّ وغيره: مَسحور ومُسَحّر، كما قال لبـيد:
فإنْ تَسأَلَـينا فِـيـم نَـحْنُ فإنّناعَصَافِـيرُ مِنْ هَذَا الأنامِ الـمُسَحّر
وقال آخرون:
(ونُسْحَرُ بـالطعام وبـالشراب )
أي نغذّي بهما. فكأن معناه عنده كان: إن تتبعون إلا رجلاً له رئة، يأكل الطعام، ويشرب الشراب، لا مَلَكا لا حاجة به إلـى الطعام والشراب، والذي قال من ذلك غير بعيد من الصواب.

الآية : 48
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ فَضَلّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً }.
يقول تعالـى ذكره: انظر يا مـحمد بعين قلبك فـاعتبر كيف مثّلوا لك الأمثال، وشبهوا لك الأشبـاه، بقولهم: هو مسحور، وهو شاعر، وهو مـجنون فَضَلّوا يقول: فجاروا عن قصد السبـيـل بقـيـلهم ما قالوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِـيلاً يقول: فلا يهتدون لطريق الـحقّ لضلالهم عنه وبُعدهم منه، وأن الله قد خذلهم عن إصابته، فهم لا يقدرون علـى الـمَخْرَج مـما هم فـيه من كفرهم بتوفقّهم إلـى الإيـمان به، كما:
16874ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِـيلاً قال: مخرجا، الولـيد بن الـمغيرة وأصحابه أيضا.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ فَضَلّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِـيلاً مخرجا الولـيد بن الـمغيرة وأصحابه.
الآية : 49
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالُوَاْ أَإِذَا كُنّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً }.
يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل هؤلاء الذين لا يؤمنون بـالاَخرة من مشركي قريش، وقالوا بعنتهم: أئِذَا كُنّا عِظاما لـم نتـحطم ولـم نتكسّر بعد مـماتنا وبلانا وَرُفـاتا يعنـي ترابـا فـي قبورنا، كما:
16875ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، يقول الله: رُفـاتا قال: ترابـا.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.
16876ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، فـي قوله: وَقالُوا أئذَا كُنّا عِظاما وَرُفـاتا يقول: غُبـارا، ولا واحد للرّفـات، وهو بـمنزلة الدّقاق والـحُطَام، يقال منه: رُفِتَ يُرْفَت رَفْتا فهو مرفوت: إذا صُيّر كالـحُطام والرّضاض.
وقوله: أئِنّا لَـمَبْعُوثُونَ خَـلْقا جَدِيدا قالوا، إنكارا منهم للبعث بعد الـموت: إنا لـمبعوثون بعد مصيرنا فـي القبور عظاما غير منـحطمة، ورفـاتا منـحطمة، وقد بَلِـينا فصرنا فـيها ترابـا، خـلقا مُنْشَأ كما كنا قبل الـمـمات جديدا، نعاد كما بدئنا؟ فأجابهم جلّ جلاله يعرّفهم قُدرته علـى بعثه إياهم بعد مـماتهم، وإنشائه لهم كما كانوا قبل بِلاهُم خـلقا جديدا، علـى أيّ حال كانوا من الأحوال، عظاما أو رُفـاتا، أو حجارة أو حديدا، أو غير ذلك مـما يعظُم عندهم أن يحدث مثله خَـلقْا أمثالَهم أحياء، قل يا مـحمد: كونوا حجارة أو حديدا، أو خـلقا مـما يكبر فـي صدوركم