تفسير الطبري تفسير الصفحة 294 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 294
295
293
 الآية : 4 و 5
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيُنْذِرَ الّذِينَ قَالُواْ اتّخَذَ اللّهُ وَلَداً * مّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لاَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً }.
يقول تعالـى ذكره: ويحذر أيضا مـحمد القوم الّذِين قالُوا اتّـخَذَ اللّهُ وَلَدا من مشركي قومه وغيرهم, بأسَ الله وعاجلَ نقمته, وآجل عذابه, علـى قـيـلهم ذلك, كما:
17243ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق وَيُنْذِرَ الّذِينَ قالُوا اتّـخَذَ اللّهُ وَلَدا يعنـي قريشا فـي قولهم: إنـما نعبد الـملائكة, وهنّ بنات الله.
وقوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْـمٍ يقول: ما لقائلـي هذا القول, يعنـي قولهم اتّـخَذَ اللّهُ وَلَدا بِهِ: يعنـي بـالله من علـم, والهاء فـي قوله بِهِ من ذكر الله. وإنـما معنى الكلام: ما لهؤلاء القائلـين هذا القول بـالله, إنه لا يجوز أن يكون له ولد من علـم, فلـجهلهم بـالله وعظمته قالوا ذلك. وقوله: ولاَ لاَبـائِهِمْ يقول: ولا لأسلافهم الذين مضوا قبلهم علـى مثل الذي هم علـيه الـيوم, كان لهم بـالله وبعظمته علـم. وقوله: كَبُرَتْ كَلِـمَةً تَـخْرُجُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدنـيـين والكوفـيـين والبصريـين: كَبُرَتْ كَلِـمَةً بنصب كلـمةً بـمعنى: كبُرت كلـمتهم التـي قالوها كلـمةً علـى التفسير, كما يقال: نعم رجلاً عمرو, ونعم الرجل رجلاً قام, ونعم رجلاً قام. وكان بعض نـحويّـي أهل البصرة يقول: نُبت كلـمةً لأنها فـي معنى: أكْبِر بها كلـمة, كما قال جلّ ثناؤه وَسَاءتْ مُرْتَفَقا وقال: هي فـي النصب مثل قول الشاعر:
ولقدْ عَلِـمْتُ إذَا اللّقاحُ تَرَوّحتْهَدَجَ الرّئالِ تَكُبّهُنّ شَمالا
أي تكبهنّ الرياح شمالاً. فكأنه قال: كبرت تلك الكلـمة. وذُكِر عن بعض الـمكيـين أنه كان يقرأ ذلك: «كَبُرَتْ كَلِـمَةٌ» رفعا, كما يقال: عَظُم قولُك وكَبُر شأنُك. وإذا قرىء ذلك كذلك لـم يكن فـي قوله كَبُرَتْ كَلِـمَةً مُضمر, وكان صفة للكلـمة.
والصواب من القراءة فـي ذلك عندي, قراءة من قرأ: كَبُرَتْ كَلِـمَةً نصبـا لإجماع الـحجة من القرّاء علـيها, فتأويـل الكلام: عَظُمت الكلـمة كلـمة تـخرج من أفواه هؤلاء القوم الذين قالوا: اتـخذ الله ولدا, والـملائكة بنات الله, كما:
17244ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق كَبُرَتْ كَلِـمَةً تَـخْرُجُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ قولهم: إن الـملائكة بنات الله.
وقوله: إنْ يَقُولُونَ إلاّ كَذِبـا يقول عزّ ذكره: ما يقول هؤلاء القائلون اتـخذ الله ولدا بقـيـلهم ذلك إلا كذبـا وفرية افتروها علـى الله.


الآية : 6 - 8
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَعَلّكَ بَاخِعٌ نّفْسَكَ عَلَىَ آثَارِهِمْ إِن لّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً * إِنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً }.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: فلعلك يا مـحمد قاتلُ نفسك ومهلكها علـى آثار قومك الذين قالوا لك لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتـى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعا تـمرّدا منهم علـى ربهم, إن هم لـم يؤمنوا بهذا الكتاب الذي أنزلته علـيك فـيصدّقوا بأنه من عند الله حزنا وتلهفـا ووجدا, بإدبـارهم عنك, وإعراضهم عما أتـيتهم به وتركهم الإيـمان بك. يقال منه: بخع فلان نفسه يبخعها بَخْعا وبخوعا ومنه قول ذي الرّمة:
ألا أيّهَذَا البـاخِعُ الوَجْدُ نَفْسَهُلِشَيْءٍ نَـحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الـمَقادِرُ
يريد: نـحّته فخفف.
وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل قوله: بـاخِعٌ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17245ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَلَعَلّكَ بـاخِعٌ نَفْسَكَ يقول: قاتل نفسك.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا مَعْمر, عن قتادة, مثله.
وأما قوله: أسَفـا فإنّ أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله, فقال بعضهم: معناه: فلعلك بـاخع نفسك إن لـم يؤمنوا بهذا الـحديث غضبـا. ذكر من قال ذلك:
17246ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إنْ لَـمْ يُؤْمِنُوا بِهَذا الـحَدِيثِ أسَفـا قال: غضبـا.
وقال آخرون: جَزَعا. ذكر من قال ذلك:
17247ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى «ح» وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله أسَفـا قال: جزَعا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
وقال آخرون: معناه: حزنا علـيهم. ذكر من قال ذلك:
17248ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: أسَفـا قال: حزنا علـيهم.
وقد بـيّنا معنى الأسف فـيـما مضى من كتابنا هذا, بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
وهذه معاتبة من الله عزّ ذكره علـى وجده بـمبـاعدة قومه إياه فـيـما دعاهم إلـيه من الإيـمان بـالله, والبراءة من الاَلهة والأنداد, وكان بهم رحيـما.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17249ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق فَلَعَلّكَ بـاخِعٌ نَفْسَكَ عَلـى آثارِهِمْ إنْ لَـمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الـحَدِيثِ أسَفـا يعاتبه علـى حزنه علـيهم حين فـاته ما كان يرجو منهم: أي لا تفعل.
وقوله: إنّا جَعَلْنا ما عَلَـى الأرْضِ زِينَةً لَهَا يقول عزّ ذكره: إنا جعلنا ما علـى الأرض زينة للأرض لِنَبْلُوَهُمْ أيّهُمْ أحْسَنُ عَمَلاً يقول: لنـختبر عبـادنا أيّهم أترك لها وأتبع لأمرنا ونهينا وأعمل فـيها بطاعتنا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17250ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى «ح» وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد ما عَلـى الأرضِ زِينَةً لَهَا قال: ما علـيها من شيء.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
17251ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّا جَعَلْنا ما عَلـى الأرْضِ زِينَةً لَهَا ذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إنّ الدّنـيْا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ, وَإنّ اللّهَ مُسْتَـخْـلِفَكُمْ فِـيها, فَناظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ, فـاتّقُوا الدّنـيْا, واتّقُوا النّساءَ».
وأما قوله: لِنَبْلُوَهُمْ أيّهُمْ أحْسَنُ عَمَلاً فإن أهل التأويـل قالوا فـي تأويـله نـحو قولنا فـيه. ذكر من قال ذلك:
17252ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو عاصم العسقلانـي, قال: لِنَبْلُوَهُمْ أيّهُمْ أحْسَنُ عَمَلاً قال: أترك لها.
17253ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق إنّا جَعَلْنا ما عَلـى الأرْض زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أيّهُمْ أحْسَنُ عَمَلاً اختبـارا لهم أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتـي.
وقوله: وَإنّا لَـجاعلُونَ ما عَلَـيْها صَعِيدا جُرزا يقول عزّ ذكره: وإنـما لـمخرّبوها بعد عمارتناها بـما جعلنا علـيها من الزينة, فمصيروها صعيدا جرزا لا نبـات علـيها ولا زرع ولا غرس. وقد قـيـل: إنه أريد بـالصعيد فـي هذا الـموضع: الـمستوي بوجه الأرض, وذلك هو شبـيه بـمعنى قولنا فـي ذلك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, وبـمعنى الـجرز, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17254ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وإنّا لَـجَاعِلُونَ ما عَلَـيْها صَعِيدا جُرُزا يقول: يهلك كلّ شيء علـيها ويبـيد.
17255ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد صَعِيدا جُرُزا قال: بلقعا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
17256ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَإنّا لَـجاعلُونَ ما عَلَـيْها صَعيدا جُرُزا والصعيد: الأرض التـي لـيس فـيها شجر ولا نبـات.
17257ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سَلَـمة, عن ابن إسحاق وَإنّا لَـجَاعِلُونَ ما عَلَـيْها صَعِيدا جُرُزا يعنـي: الأرض إن ما علـيها لفـانٍ وبـائد, وإن الـمرجع لإلـيّ, فلا تأس, ولا يحزنك ما تسمع وترى فـيها.
17258ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: صَعِيدا جُزُرا قال: الـجزر: الأرض التـي لـيس فـيها شيء, ألا ترى أنه يقول: أوَ لَـمْ يَرَوْا أنّا نَسُوقُ الـماءَ إلـى الأرْضِ الـجُرُزِ فنُـخْرِجُ بِهِ زَرْعا قال: والـجرز: لا شيء فـيها, لا نبـات ولا منفعة. والصعيد: الـمستوي. وقرأ: لاَ تَرَى فِـيها عِوَجا وَلا أمْتا قال: مستوية: يقال: جُرِزت الأرض فهي مـجروزة, وجرزها الـجراد والنعم, وأرَضُون أَجْراز: إذا كانت لا شيء فـيها. ويقال للسنة الـمـجدبة: جُرُز وسنون أجراز لـجدوبها ويبسها وقلّة أمطارها قال الراجز:
قَدْ جَرَفَتْهُنّ السّنُونُ الأجْرَازْ
يقال: أجرز القوم: إذا صارت أرضهم جُرُزا, وجَرَزوا هم أرضهم: إذا أكلوا نبـاتها كله.

الآية : 9
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: أم حسبت يا مـحمد أن أصحاب الكهف والرقـيـم كانوا من آياتنا عَجَبـا, فإن ما خـلقت من السموات والأرض, وما فـيهنّ من العجائب أعجب من أمر أصحاب الكهف, وحجتـي بكل ذلك ثابتة علـى هؤلاء الـمشركين من قومك, وغيرهم من سائر عبـادي. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17259ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبـا قال مـحمد بن عمرو فـي حديثه, قال: لـيسوا عجبـا بأعجب آياتنا. وقال الـحارث فـي حديثه بقولهم: أعجب آياتنا: لـيسوا أعجب آياتنا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قوله: أمْ حَسِبْتَ أنّ أصْحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبـا كانوا يقولون هم عجب.
17260ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ كانْوا مِنْ آياتِنا عَجَبـا يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك.
17261ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبـا. أي وما قدروا من قَدْر فـيـما صنعت من أمر الـخلائق, وما وضعت علـى العبـاد من حججي ما هو أعظم من ذلك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أم حسبت يا مـحمد أن أصحاب الكهف والرقـيـم كانوا من آياتنا عَجَبـا, فإن الذين آتـيتك من العلـم والـحكمة أفضل منه. ذكر من قال ذلك:
17262ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبـا يقول: الذي آتـيتك من العلـم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقـيـم.
وإنـما قلنا: إن القول الأوّل أولـى بتأويـل الاَية, لأنّ الله عزّ وجلّ أنزل قصة أصحاب الكهف علـى نبـيه احتـجاجا بها علـى الـمشركين من قومه علـى ما ذكرنا فـي الرواية عن ابن عبـاس, إذ سألوه عنها اختبـارا منهم له بـالـجواب عنها صدقه, فكان تقريعهم بتكذيبهم بـما هو أوكد علـيهم فـي الـحجة مـما سألوا عنهم, وزعموا أنهم يؤمنون عند الإجابة عنه أشبه من الـخبر عما أنعم الله علـى رسوله من النعم.
وأما الكهف, فإنه كهف الـجبل الذي أوى إلـيه القوم الذين قصّ الله شأنهم فـي هذه السورة.
وأما الرقـيـم, فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي الـمعنىّ به, فقال بعضهم: هو اسم قرية, أو واد علـى اختلاف بـينهم فـي ذلك. ذكر من قال ذلك:
17263ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى بن عبد الأعلـى وعبد الرحمن, قالا: حدثنا سفـيان, عن الشيبـانـيّ, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: يزعم كعب أن الرقـيـم: القرية.
17264ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ قال: الرقـيـم: واد بـين عُسْفـان وأَيـلة دون فلسطين, وهو قريب من أيـلة.
17265ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت أبـي, عن عطية, قال: الرقـيـم: واد.
17266ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ كنّا نـحدّث أن الرقـيـم: الوادي الذي فـيه أصحاب الكهف.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوريّ, عن سمِاك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, فـي قوله الرّقِـيـمِ قال: يزعم كعب: أنها القرية.
17267ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد, فـي قوله: الرّقِـيـمِ قال: يقول بعضهم: الرقـيـم: كتاب تبـانهم. ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فـيه كهفهم.
17268ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول: أما الكهف: فهو غار الوادي, والرقـيـم: اسم الوادي.
وقال آخرون: الرقـيـم: الكتاب. ذكر من قال ذلك:
17269ـ حدثنا علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكهْفِ والرّقِـيـمِ يقول: الكتاب.
17270ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: حدثنا أبـي, عن ابن قـيس, عن سعيد بن جبـير, قال: الرقـيـم: لوح من حجارة كتبوا فـيه قصص أصحاب الكهف, ثم وضعوه علـى بـاب الكهف.
17271ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الرقـيـم: كتاب, ولذلك الكتاب خبر فلـم يخبر الله عن ذلك الكتاب وعما فـيه, وقرأ: وَما أدْرَاكَ ما عِلّـيّونَ كِتِابٌ مرْقُومٌ يَشْهدُهُ الـمُقَرّبُون وَما أدْرَاكَ ما سِجّينٌ كتابٌ مرْقُومٌ.
وقال آخرون: بل هو اسم جبل أصحاب الكهف. ذكر من قال ذلك:
17272ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: الرقـيـم: الـجبل الذي فـيه الكهف.
قال أبو جعفر: وقد قـيـل إن اسم ذلك الـجبل: بنـجلوس.
17273ـ حدثنا بذلك ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن عبد الله بن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس: وقد قـيـل: إن اسمه بناجلوس.
17274ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي وهب بن سلـيـمان عن شعيب الـجَبِئي أن اسم جبل الكهف: بناجلوس. واسم الكهف: حيزم. والكلب: خُمران. وقد رُوي عن ابن عبـاس فـي الرقـيـم ما:
17275ـ حدثنا به الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا إسرائيـل عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عبـاس قال: كلّ القرآن أعلـمه, إلا حنانا, والأوّاه, والرقـيـم.
17276ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي عمرو بن دينار, أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عبـاس: ما أدري ما الرقـيـم, أكتاب, أم بنـيان؟.
وأولـى هذه الأقوال بـالصواب فـي الرقـيـم أن يكون معنـيا به: لوح, أو حجر, أو شيء كُتب فـيه كتاب. وقد قال أهل الأخبـار: إن ذلك لوح كُتب فـيه أسماء أصحاب الكهف وخبرهم حين أوَوْا إلـى الكهف. ثم قال بعضهم: رُفع ذلك اللوح فـي خزانة الـملك. وقال بعضهم: بل جُعل علـى بـاب كهفهم. وقال بعضهم: بل كان ذلك مـحفوظا عند بعض أهل بلدهم. وإنـما الرقم: فعيـل. أصله: مرقوم, ثم صُرف إلـى فعيـل, كما قـيـل للـمـجروح: جريح, وللـمقتول: قتـيـل, يقال منه: رقمت كذا وكذا: إذا كتبته, ومنه قـيـل للرقم فـي الثوب رقم, لأنه الـخطّ الذي يعرف به ثمنه. ومن ذلك قـيـل للـحيّة: أرقم, لـما فـيه من الاَثار والعرب تقول: علـيك بـالرقمة, ودع الضفة: بـمعنى علـيك برقمة الوادي حيث الـماء, ودع الضفة الـجانبة. والضفتان: جانبـا الوادي. وأحسب أن الذي قال الرقـيـم: الوادي, ذهب به إلـى هذا, أعنـي به إلـى رقمة الوادي.
الآية : 10
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبّنَآ آتِنَا مِن لّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبـا حين أوى الفتـية أصحاب الكهف إلـى كهف الـجبل, هربـا بدينهم إلـى الله, فقالوا إذ أووه: رَبّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً رغبة منهم إلـى ربهم, فـي أن يرزقهم من عنده رحمة. وقوله: وَهَيّىءْ لَنا مِنْ أمْرِنا رَشَدا يقول: وقالوا: يسّر لنا بـما نبتغي وما نلتـمس من رضاك والهرب من الكفر بك, ومن عبـادة الأوثان التـي يدعونا إلـيها قومنا, رَشَدا يقول: سَدادا إلـى العمل بـالذي تـحبّ.
وقد اختلف أهل العلـم فـي سبب مصير هؤلاء الفِتـية إلـى الكهف الذي ذكره الله فـي كتابه, فقال بعضهم: كان سبب ذلك, أنهم كانوا مسلـمين علـى دين عيسى, وكان لهم ملك عابد وَثَن, دعاهم إلـى عبـادة الأصنام فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عن دينهم, أو يقتلهم, فـاستـخفَوا منه فـي الكهف. ذكر من قال ذلك:
17277ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا الـحكم بن بشير, قال: حدثنا عمرو فـي قوله: أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ كانت الفِتـية علـى دين عيسى علـى الإسلام, وكان ملكهم كافرا, وقد أخرج لهم صنـما, فأبَوا, وقالوا: رَبّنا رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهه إلها لَقَدْ قُلْنا إذا شَطَطا قال: فـاعتزلوا عن قومهم لعبـادة الله, فقال أحدهم: إنه كان لأبـي كهف يأوي فـيه غنـمه, فـانطلقوا بنا نكن فـيه, فدخـلوه, وفُقدوا فـي ذلك الزمان فطُلبوا, فقـيـل: دخـلوا هذا الكهف, فقال قومهم: لا نريد لهم عقوبة ولا عذابـا أشدّ من أن نردم علـيهم هذا الكهف, فبنوه علـيهم ثم ردموه. ثم إن الله بعث علـيهم ملكا علـى دين عيسى, ورفع ذلك البناء الذي كان ردم علـيهم, فقال بعضهم لبعض: كَمْ لَبِثْتُـمْ؟ ف قالُوا لَبِثنْا يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ... حتـى بلغ فـابْعَثُوا أحدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلـى الـمَدِينَةِ وكان ورِق ذلك الزمان كبـارا, فأرسلوا أحدهم يأتـيهم بطعام وشراب فلـما ذهب لـيخرج, رأى علـى بـاب الكهف شيئا أنكره فأراد أن يرجع, ثم مضى حتـى دخـل الـمدينة, فأنكر ما رأى, ثم أخرج درهما, فنظروا إلـيه فأنكروه, وأنكروا الدرهم, وقالوا: من أين لك هذا؟ هذا من ورق غير هذا الزمان, واجتـمعوا علـيه يسألونه, فلـم يزالوا به حتـى انطلقوا به إلـى ملكهم, وكان لقومهم لوح يكتبون فـيه ما يكون, فنظروا فـي ذلك اللوح, وسأله الـملك, فأخبره بأمره, ونظروا فـي الكتاب متـى فقد, فـاستبشروا به وبأصحابه, وقـيـل له: انطلق بنا فأرنا أصحابك, فـانطلق وانطلقوا معه, لـيريهم, فدخـل قبل القوم, فضرب علـى آذانهم, فقال الذين غلبوا علـى أمرهم: لَنَتّـخِذَنّ عَلَـيْهِمْ مَسْجِدا.
17278ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: مَرِج أمر أهل الإنـجيـل وعظُمت فـيهم الـخطايا وطغت فـيهم الـملوك, حتـى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت, وفـيهم علـى ذلك بقايا علـى أمر عيسى ابن مريـم, متـمسكون بعبـادة الله وتوحيده, فكان مـمن فعل ذلك من ملوكهم, ملك من الروم يقال له: دَقْـيَنوس, كان قد عبد الأصنام, وذبح للطواغيت, وقتل من خالفه فـي ذلك مـمن أقام علـى دين عيسى ابن مريـم. كان ينزل فـي قُرى الروم, فلا يترك فـي قرية ينزلها أحدا مـمن يدين بدين عيسى ابن مريـم إلا قتله, حتـى يعبد الأصنام, ويذبح للطواغيت, حتـى نزل دقـينوس مدينة الفِتـية أصحاب الكهف فلـما نزلها دقـينوس كبر ذلك علـى أهل الإيـمان, فـاستـخْفَوا منه وهربوا فـي كلّ وجه. وكان دقـينوس قد أمر حين قدمها أن يتبع أهل الإيـمان فـيُجمعوا له, واتـخذ شُرَطا من الكفّـار من أهلها, فجعلوا يتبعون أهل الإيـمان فـي أماكنهم التـي يستـخفون فـيها, فـيستـخرجونهم إلـى دقـينوس, فقدمهم إلـى الـمـجامع التـي يذبح فـيها للطواغيت فـيخيرهم بـين القتل, وبـين عبـادة الأوثان والذبح للطواغيت, فمنهم من يرغب فـي الـحياة ويُفْظَع بـالقتل فـيَفتِتن, ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فـيقتل فلـما رأى ذلك أهل الصلابة من أهل الإيـمان بـالله, جعلوا يُسْلـمون أنفسهم للعذاب والقتل, فـيقتلون ويقطعون, ثم يربط ما قطع من أجسادهم, فـيعلّق علـى سور الـمدينة من نواحيها كلها, وعلـى كلّ بـاب من أبوابها, حتـى عظمت الفتنة علـى أهل الإيـمان, فمنهم من كفر فُترك, ومنهم من صُلب علـى دينه فقُتل فلـما رأى ذلك الفِتـية أصحاب الكهف, حزنوا حزنا شديدا, حتـى تغيرت ألوانهم, وَنـحِلت أجسامهم, واستعانوا بـالصلاة والصيام والصدقة, والتـحميد, والتسبـيح, والتهلـيـل, والتكبـير, والبكاء, والتضرّع إلـى الله, وكانوا فتـية أحداثا أحرارا من أبناء أشراف الروم.
17279ـ فحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن عبد الله بن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: لقد حُدّثت أنه كان علـى بعضهم من حداثة أسنانه وضح الورِق. قال ابن عبـاس: فكانوا كذلك فـي عبـادة الله لـيـلهم ونهارهم, يبكون إلـى الله, ويستغيثونه, وكانوا ثمانـية نفر مَكْسِلـمينا, وكان أكبرهم, وهو الذي كلّـم الـملك عنهم, ومَـحْسيـميـلنـينا, ويَـملـيخا, ومَرْطوس, وكشوطوش, وبـيرونس, ودينـموس, ويطونس قالوس فلـما أجمع دقـينوس أن يجمع أهل القرية لعبـادة الأصنام, والذبح للطواغيت, بكوا إلـى الله وتضرّعوا إلـيه, وجعلوا يقولون: اللهمّ ربّ السموات والأرض, لن ندعو من دونك إلها لَقَدْ قُلْنا إذًا شَطَطا اكشف عن عبـادك الـمؤمنـين هذه الفتنة وادفع عنهم البلاء وأنعم علـى عبـادك الذين آمنوا بك, ومِنُعوا عبـادتك إلا سرّا, مستـخفِـينَ بذلك, حتـى يعبدوك علانـية. فبـينـما هم علـى ذلك, عرفهم عُرفـاؤهم من الكفـار, مـمن كان يجمع أهل الـمدينة لعبـادة الأصنام, والذبح للطواغيت, وذكروا أمرهم, وكانوا قد خَـلَوا فـي مُصَلّـى لهم يعبدون الله فـيه, ويتضرّعون إلـيه, ويتوقّعون أن يُذْكَروا لدقـينوس, فـانطلق أولئك الكفرة حتـى دخـلوا علـيهم مُصَلاّهم, فوجدوهم سجودا علـى وجوههم يتضرّعون, ويبكون, ويرغبون إلـى الله أن ينـجيهم من دقـينوس وفتنته فلـما رآهم أولئك الكفرة من عُرفـائهم قالوا لهم: ما خَـلّفكم عن أمر الـملك؟ انطلقوا إلـيه ثم خرجوا من عندهم, فرفعوا أمرهم إلـى دقـينوس, وقالوا: تـجمع الناس للذبح لاَلهتك, وهؤلاء فِتـية من أهل بـيتك, يسخَرون منك, ويستهزئون بك, ويعصُون أمرك, ويتركون آلهتك, يَعمِدون إلـى مُصَلَـى لهم ولأصحاب عيسى ابن مريـم يصلون فـيه, ويتضرّعون إلـى إلههم وإله عيسى وأصحاب عيسى, فلـم تتركهم يصنعون هذا وهم بـين ظَهرانْـي سلطانك ومُلكك, وهم ثمانـية نفر: رئيسهم مكسلـمينا, وهم أبناء عظماء الـمدينة؟ فلـما قالوا ذلك لدقـينوس, بعث إلـيهم, فأتـى بهم من الـمصلّـى الذي كانوا فـيه تفـيض أعينهم من الدموع مُعَفرة وجوههم فـي التراب, فقال لهم: ما منعكم أن تشهدوا الذبح لاَلهتنا التـي تُعبد فـي الأرض, وأن تـجعلوا أنفسكم أُسْوة لسَراة أهل مدينتكم, ولـمن حضر منّا من الناس؟ اختاروا منـي: إما أن تذبحوا لاَلهتنا كما ذبح الناس, وإما أن أقتلكم فقال مكسلـمينا: إن لنا إلها نبعده ملأ السموات والأرض عَظَمتُه, لن ندعو من دونه إلها أبدا, ولن نقرّ بهذا الذي تدعونا إلـيه أبدا, ولكنا نعبد الله ربنا, له الـحمد والتكبـير والتسبـيح من أنفسنا خالصا أبدا, إياه نعبد, وإياه نسأل النـجاة والـخير, فأما الطواغيت وعبـادتها, فلن نقرّ بها أبدا, ولسنا بكائنـين عُبّـادا للشياطين, ولا جاعلـي أنفسنا وأجسادنا عُبـادا لها, بعد إذ هدانا الله له رهبتَك, أو فَرَقا من عبودتك, اصنع بنا ما بدا لك ثم قال أصحاب مكسلـمينا لدقـينوس مثل ما قال. قال: فلـما قالوا ذلك له, أمر بهم فنزع عنهم لبوس كان علـيهم من لبوس عظمائهم, ثم قال: أما إذ فعلتـم ما فعلتـم فإنـي سأؤخركم أن تكونوا من أهل مـملكتـي وبطانتـي, وأهل بلادي, وسأفرُغ لكم, فأنـجز لكم ما وعدتكم من العقوبة, وما يـمنعنـي أن أعجّل ذلك لكم إلا أنـي أراكم فتـيانا حديثة أسنانُكم, ولا أحبّ أن أهلككم حتـى أستأنَـي بكم, وأنا جاعل لكم أجلاً تَذكرون فـيه, وتراجعون عقولكم. ثم أمر بحلـية كانت علـيهم من ذهب وفضة, فُنزعت عنهم ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده. وانطلق دقـينوس مكانه إلـى مدينة سوى مدينتهم التـي هم بها قريبـا منها لبعض ما يريد من أمره.
فلـما رأى الفِتـية دقـينوس قد خرج من مدينتهم بـادروا قدومه, وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكر بهم, فأتـمروا بـينهم أن يأخذ كلّ واحد منهم نفقة من بـيت أبـيه, فـيتصدّقوا منها, ويتزوّدوا بـما بقـي, ثم ينطلقوا إلـى كهف قريب من الـمدينة فـي جبل يقال له: بنـجلوس فـيـمكثوا فـيه, ويعبدوا الله حتـى إذا رجع دقـينوس أتوه فقاموا بـين يديه, فـيصنع بهم ما شاء. فلـما قال ذلك بعضهم لبعض, عمد كلّ فتـى منهم, فأخذ من بـيت أبـيه نفقة, فتصدّق منها, وانطلقوا بـما بقـي معهم من نفقتهم, واتبعهم كلّب لهم, حتـى أتوا ذلك الكهف الذي فـي ذلك الـجبل, فلبثوا فـيه لـيس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبـيح والتكبـير والتـحميد, ابتغاء وجه الله تعالـى, والـحياة التـي لا تنقطع, وجعلوا نفقتهم إلـى فتـى منهم يُقال له يـملـيخا, فكان علـى طعامهم, يبتاع لهم أرزاقهم من الـمدينة سرّا من أهلها وذلك أنه كان من أجملهم وأجلدهم, فكان يـملـيخا يصنع ذلك, فإذا دخـل الـمدينة يضع ثـيابـا كانت علـيه حسانا, ويأخذ ثـيابـا كثـياب الـمساكين الذين يستطعمون فـيها, ثم يأخذ وَرِقَه, فـينطلق إلـى الـمدينة فـيشتري لهم طعاما وشرابـا, ويتسمّع ويتـجسّس لهم الـخبر, هل ذكر هو وأصحابه بشيء من ملإ الـمدينة, ثم يرجع إلـى أصحابه بطعامهم وشرابهم, ويخبرهم بـما سمع من أخبـار الناس, فلبثوا بذلك ما لبثوا.
ثم قدم دقـينوس الـجبّـار الـمدينة التـي منها خرج إلـى مدينته, وهي مدينة أَفْسوس فأمر عظماء أهلها, فذبحوا للطواغيت, ففزع من ذلك أهل الإيـمان, فتـخبأوا من كلّ مخبأ وكان يـملـيخا بـالـمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم ببعض نفقتهم, فرجع إلـى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قلـيـل, فأخبرهم أن الـجبـار دقـينوس قد دخـل الـمدينة, وأنهم قد ذُكروا وافتقدوا والتـمسوا مع عظماء أهل الـمدينة لـيذبحوا للطواغيت فلـما أخبرهم بذلك, فزعوا فزعا شديدا, ووقعوا سجودا علـى وجوههم يدعون الله, ويتضرّعون إلـيه, ويتعوّذون به من الفتنة ثم إن يـملـيخا قال لهم: يا إخوتاه, ارفعوا رؤوسكم, فـاطعَموا من هذا الطعام الذي جئتكم به, وتوكلوا علـى ربكم فرفعوا رؤوسهم, وأعينهم تفـيض من الدمع حذرا وتـخوّفـا علـى أنفسهم, فطعموا منه, وذلك مع غروب الشمس, ثم جلسوا يتـحدثون ويتدارسون, ويذكر بعضهم بعضا علـى حزن منهم, مشفقـين مـما أتاهم به صاحبهم من الـخبر.
فبـيناهم علـى ذلك, إذ ضرب الله علـى آذانهم فـي الكهف سنـين عددا, وكلبهم بـاسط ذراعيه ببـاب الكهف, فأصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون مُوقنون, مصدّقون بـالوعد, ونفقتهم موضوعة عندهم فلـما كان الغد فقدهم دقـينوس, فـالتـمسهم فلـم يجدهم, فقال لعظماء أهل الـمدينة: لقد ساءنـي شأن هؤلاء الفتـية الذين ذهبوا. لقد كانوا يظنون أن بـي غضبـا علـيهم فـيـما صنعوا فـي أوّل شأنهم, لـجهلهم ما جهلوا من أمري, ما كنت لأجهل علـيهم فـي نفسي, ولا أؤاخذ أحدا منهم بشيء إن هم تابوا وعبدوا آلهتـي, ولو فعلوا لتركتهم, وما عاقبتهم بشيء سلف منهم. فقال له عظماء أهل الـمدينة: ما أنت بحقـيق أن ترحم قوما فجرة مرَدة عُصاة, مقـيـمين علـى ظلـمهم ومعصيتهم, وقد كنتَ أجّلتهم أجلاً, وأخّرتهم عن العقوبة التـي أصبت بها غيرهم, ولو شاؤوا لرجعوا فـي ذلك الأجل, ولكنهم لـم يتوبوا ولـم ينزعوا ولـم يندموا علـى ما فعلوا, وكانوا منذ انطلقت يبذّرون أموالهم بـالـمدينة فلـما علـموا بقدومك فرّوا فلـم يُروا بعد. فإن أحببت أن تُؤْتَـى بهم, فأرسل إلـى آبـائهم فـامتـحنهم, واشدُد علـيهم يدُلوك علـيهم, فإنهم مختبئون منك.
فلـما قالوا ذلك لدقـينوس الـجبـار, غضب غضبـا شديدا, ثم أرسل إلـى آبـائهم, فأتـى بهم فسألهم عنهم وقال: أخبرونـي عن أبنائكم الـمردة الذين عصوا أمري, وتركوا آلهتـي ائتونـي بهم, وأنبئونـي بـمكانهم فقال له آبـاؤهم: أما نـحن فلـم نعص أمرك ولـم نـخالفك. قد عبدنا آلهتك وذبحنا لهم, فلـم تقتلنا فـي قوم مَرَدة, قد ذهبوا بأموالنا فبذّروها وأهلكوها فـي أسواق الـمدينة, ثم انطلقوا, فـارتقوا فـي جبل يدعى بنـجلوس, وبـينه وبـين الـمدينة أرض بعيدة هَربـا منك؟ فلـما قالوا ذلك خـلّـى سبـيـلهم, وجعل يأتـمر ماذا يصنع بـالفِتـية, فألقـى الله عزّ وجلّ فـي نفسه أن يأمر بـالكهف فـيُسدّ علـيهم كرامة من الله, أراد أن يكرمهم, ويكرم أجساد الفتـية, فلا يجول, ولا يطوف بها شيء, وأراد أن يحيـيهم, ويجعلهم آية لأمة تُستـخـلف من بعدهم, وأن يبـين لهم أن الساعة آتـية لا ريب فـيها, وأن الله يبعث من فـي القبور. فأمر دقـينوس بـالكهف أن يسدّ علـيهم, وقال: دعوا هؤلاء الفتـية الـمَرَدة الذين تركوا آلهتـي فلـيـموتوا كما هم فـي الكهف عطشا وجوعا, ولـيكن كهفهم الذي اختاروا لأنفسهم قبرا لهم ففعل بهم ذلك عدوّ الله, وهو يظنّ أنهم أيقاظ يعلـمون ما يصنع بهم, وقد تَوّفـى الله أرواحهم وفـاة النوم, وكلبهم بـاسط ذراعيه ببـاب الكهف, قد غَشّاه الله ما غشاهم, يُقلّبون ذات الـيـمين وذات الشمال.
ثم إن رجلـين مؤمنـين كانا فـي بـيت الـملك دقـينوس يكتـمان إيـمانهما: اسم أحدهما بـيدروس, واسم الاَخر: روناس, فأتـمرا أن يكتبـا شأن الفتـية أصحاب الكهف, أنسابهم وأسماءهم وأسماء آبـائهم, وقصة خبرهم فـي لوحين من رَصاص, ثم يصنعا له تابوتا من نـحاس, ثم يجعلا اللوحين فـيه, ثم يكتبـا علـيه فـي فم الكهف بـين ظهرانـي البنـيان, ويختـما علـى التابوت بخاتـمهما, وقالا: لعلّ الله أن يُظْهر علـى هؤلاء الفتـية قوما مؤمنـين قبل يوم القـيامة, فـيعلـم من فتـح علـيهم حين يقرأ هذا الكتاب خبرهم, ففعلا ثم بنـيا علـيه فـي البنـيان, فبقـي دقـينوس وقرنه الذين كانوا منهم ما شاء الله أن يبقوا, ثم هلك دقـينوس والقرن الذي كانوا معه, وقرون بعده كثـيرة, وخـلفت الـخـلوف بعد الـخـلوف.
17280ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثـير, عن مـجاهد, قال: كان أصحاب الكهف أبناء عظماء مدينتهم, وأهل شرفهم, فخرجوا فـاجتـمعوا وراء الـمدينة علـى غير ميعاد, فقال رجل منهم هو أسنهم: إنـي لأجد فـي نفسي شيئا ما أظنّ أن أحدا يجده, قالوا: ماذا تـجد؟ قال: أجد فـي نفسي أن ربـي ربّ السموات والأرض, وقالوا: نـحن نـجد. فقاموا جميعا, فقالوا: رَبّنا رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ لَنْ نَدْعُو مِنْ دُونِهِ إلَها لَقَدْ قُلْنا إذًا شَطَطا, فـاجتـمعوا أن يدخـلوا الكهف, وعلـى مدينتهم إذ ذاك جبـار يقال له دقـينوس, فلبثوا فـي الكهف ثلاث مئة سنـين وازدادوا تسعا رقدا.
17281ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن عبد العزيز بن أبـي روّاد, عن عبد الله بن عبـيد بن عمير, قال: كان أصحاب الكهف فتـيانا ملوكا مُطَوّقـين مُسَوّرين ذوي ذوائب, وكان معهم كلب صيدهم, فخرجوا فـي عيد لهم عظيـم فـي زيّ وموكب, وأخرجوا معهم آلهتـم التـي يعبدون. وقذف الله فـي قلوب الفتـية الإيـمان فآمنوا, وأخفـى كلّ واحد منهم الإيـمان عن صاحبه, فقالوا فـي أنفسهم من غير أن يظهر إيـمان بعضهم لبعض: نـخرج من بـين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم. فخرج شاب منهم حتـى انتهى إلـى ظلّ شجرة, فجلس فـيه, ثم خرج آخر فرآه جالسا وحده, فرجا أن يكون علـى مثل أمره من غير أن يظهر منه, فجاء حتـى جلس إلـيه, ثم خرج الاَخرون, فجاؤوا حتـى جلسوا إلـيهما, فـاجتـمعوا, فقال بعضهم: ما جمعَكم؟ وقال آخر: بل ما جمعكم؟ وكلّ يكتـم إيـمانه من صاحبه مخافة علـى نفسه, ثم قالوا: لـيخرج منكم فَتَـيان, فـيخْـلُوَا, فـيتواثقا أن لا يفشيَ واحد منهما علـى صاحبه, ثم يفشي كلّ واحد منهما لصاحبه أمره, فإنا نرجو أن نكون علـى أمر واحد. فخرج فَتَـيان منهم فتواثقا, ثم تكلـما, فذكر كلّ واحد منهما أمره لصاحبه, فأقبلا مستبشَرين إلـى أصحابهما قد اتفقا علـى أمر واحد, فإذا هم جميعا علـى الإيـمان, وإذا كهف فـي الـجبل قريب منهم, فقال بعضهم لبعض: ائتوا إلـى الكهف يَنْشُرْ لَكُمْ رَبّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ويُهَيّىءْ لَكُمْ مِنْ أمْرِكُمْ مِرْفَقا فدخـلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم فناموا, فجعله الله علـيهم رقدة واحدة, فناموا ثلاث مئة سنـين وازدادوا تسعا. قال: وفقدهم قومُهم فطلبوهم وبعثوا البرد, فعمى الله علـيهم آثارهم وكهفهم. فلـما لـم يقدروا علـيهم كتبوا أسماءهم وأنسابهم فـي لوح: فلان ابن فلان, وفلان ابن فلان أبناء ملوكنا, فَقَدناهم فـي عيد كذا وكذا فـي شهر كذا وكذا فـي سنة كذا وكذا, فـي مـملكة فلان ابن فلان ورفعوا اللوح فـي الـخزانة. فمات ذلك الـملك وغلب علـيهم ملك مسلـم مع الـمسلـمين, وجاء قرن بعد قرن, فلبثوا فـي كهفهم ثلاث مئة سنـين وازدادوا تسعا.
وقال آخرون: بل كان مصيرهم إلـى الكهف هربـا من طلب سلطان كان طلبهم بسبب دَعوى جناية ادّعى علـى صاحب لهم أنه جناها. ذكر من قال ذلك:
17282ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: أخبرنـي إسماعيـل بن شروس, أنه سمع وهب بن منبه يقول: جاء حواريّ عيسى ابن مريـم إلـى مدينة أصحاب الكهف, فأراد أن يدخـلها, فقـيـل له: إن علـى بـابها صنـما لا يدخـلها أحد إلاّ سجد له. فكره أن يدخـلها, فأتـى حَمّاما, فكان فـيه قريبـا من تلك الـمدينة, فكان يعمل فـيه يؤاجر نفسه من صاحب الـحمام. ورأى صاحب الـحمام فـي حمامه البركة ودرّ علـيه الرزق, فجعل يعرض علـيه الإسلام, وجعل يسترسل إلـيه, وعلقه فتـية من أهل الـمدينة, وجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الاَخرة, حتـى آمنوا به وصدّقوه, وكانوا علـى مثل حاله فـي حُسْن الهيئة. وكان يشترط علـى صاحب الـحمّام أن اللـيـل لـي لا تـحول بـينـي وبـين الصلاة إذا حضرت فكان علـى ذلك حتـى جاء ابن الـملك بـامرأة, فدخـل بها الـحمام, فعيّره الـحواريّ, فقال: أنت ابن الـملك, وتدخـل معك هذه النكداء؟ فـاستـحيا, فذهب فرجع مرّة أخرى, فقال له مثل ذلك, فسبه وانتهره ولـم يـلتفت حتـى دخـل ودخـلت معه الـمرأة, فماتا فـي الـحمام جميعا. فأتـى الـملك, فقـيـل له: قتل صاحب الـحمام ابنك فـالتُـمس, فلـم يقدر علـيه هرَبـا, قال: من كان يصحبه؟ فسموا الفتـية, فـالتُـمسوا, فخرجوا من الـمدينة, فمرّوا بصاحب لهم فـي زرع له, وهو علـى مثل أمرهم, فذكروا أنهم التُـمسوا, فـانطلق معهم الكلب, حتـى أواهم اللـيـل إلـى الكهف, فدخـلوه, فقالوا: نبـيت ههنا اللـيـلة, ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم, فضرب علـى آذانهم. فخرج الـملك فـي أصحابه يتبعونهم حتـى وجدوهم قد دخـلوا الكهف فكلـما أراد رجل أن يدخـل أُرعب, فلـم يطق أحد أن يدخـله, فقال قائل: ألـيس لو كنت قدرت علـيهم قتلتهم؟ قال: بلـى قال: فـابن علـيهم بـاب الكهف, ودعهم فـيه يـموتوا عطشا وجوعا, ففعل.
الآية : 11 - 12
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَضَرَبْنَا عَلَىَ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىَ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً }.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: فَضَرَبْنا علـى آذَانِهِمْ فِـي الكَهْفِ: فضربنا علـى آذانهم بـالنوم فـي الكهف: أي ألقـينا علـيهم النوم, كما يقول القائل لاَخر: ضربك الله بـالفـالِـج, بـمعنى ابتلاه الله به, وأرسله علـيه. وقوله: سِنِـينَ عَدَدا يعنـي سنـين معدودة, ونصب العدد بقوله فَضَرَبْنا. وقوله: ثُمّ بَعَثْناهُمْ لنَعْلَـمَ أيّ الـحِزْبَـيْنِ أحْصَى يقول: ثم بعثنا هؤلاء الفتـية الذين أوَوْا إلـى الكهف بعد ما ضربنا علـى آذانهم فـيه سنـين عددا من رقدتهم, لـينظر عبـادي فـيعلـموا بـالبحث, أيّ الطائفتـين اللتـين اختلفتا فـي قدر مبلغ مُكْث الفتـية فـي كهفهم رقودا أحْصَى لِـمَا لَبِثُوا أمَدا يقول: أصوب لقدر لبثهم فـيه أمدا ويعنـي بـالأمد: الغاية, كما قال النابغة:
إلاّ لـمِثْلِكَ أوْ مَنْ أنْتَ سابِقُهُسَبْقَ الـجَوَادِ إذا اسْتَوْلَـى علـى الأمَدِ
وذُكر أن الذين اختلفوا فـي ذلك من أمورهم, قوم من قوم الفتـية, فقال بعضهم: كان الـحزبـان جميعا كافرين. وقال بعضهم: بل كان أحدهما مسلـما, والاَخر كافرا. ذكر من قال: كان الـحزبـان من قوم الفتـية:
17283ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد أيّ الـحِزْبـينِ من قوم الفتـية.
حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, بنـحوه.
حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
17284ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله ثُمّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَـمَ أيّ الـحِزْبَـيْنِ أحْصَى لِـما لَبِثُوا أمَدا يقول: ما كان لواحد من الفريقـين علـم, لا لكفـارهم ولا لـمؤمنـيهم.
وأما قوله: أمَدا فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي معناه, فقال بعضهم: معناه: بعيدا. ذكر من قال ذلك:
17285ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله لِـمَا لَبِثُوا أمَدا يقول: بعيدا.
وقال آخرون: معناه: عددا. ذكر من قال ذلك:
17286ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد أمَدا قال: عددا.
حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
وفـي نصب قوله أمَدا وجهان: أحدهما أن يكون منصوبـا علـى التفسير من قوله أحْصَى كأنه قـيـل: أيّ الـحزبـين أصوب عددا لقدر لبثهم.
وهذا هو أولـى الوجهين فـي ذلك بـالصواب, لأن تفسير أهل التفسير بذلك جاء.
والاَخر: أن يكون منصوبـا بوقوع قوله لَبِثُوا علـيه, كأنه قال: أيّ الـحزبـين أحصى للبثهم غاية.
الآية : 13 - 14
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقّ إِنّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَىَ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبّنَا رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَن نّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـَهاً لّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: نـحن يا مـحمد نقصّ علـيك خبر هؤلاء الفتـية الذين أوَوْا إلـى الكهف بـالـحقّ, يعنـي: بـالصدق والـيقـين الذي لا شكّ فـيه إنّهُمْ فِتْـيَةٌ آمَنُوا بِرَبّهِمْ يقول: إن الفتـية الذين أوَوْا إلـى الكهف الذين سألك عن نبئهم الـملأ من مشركي قومك, فتـية آمنوا بربهم, وَزِدْناهُمْ هُدًى يقول: وزدناهم إلـى إيـمانهم بربهم إيـمانا, وبصيرة بدينهم, حتـى صبروا علـى هجران دار قومهم, والهرب من بـين أظهرهم بدينهم إلـى الله, وفراق ما كانوا فـيه من خفض العيش ولـينه, إلـى خشونة الـمكث فـي كهف الـجبل.
وقوله: وَرَبَطْنا علـى قُلُوبِهمْ يقول عزّ ذكره: وألهمناهم الصبر, وشددنا قلوبهم بنور الإيـمان حتـى عزفت أنفسهم عما كانوا علـيه من خفض العيش, كما:
17287ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد عن قتادة وَرَبَطْنا علـى قُلُوبِهمْ يقول: بـالإيـمان.
وقوله: إذْ قامُوا فقالُوا رَبّنا رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول: حين قاموا بـين يدي الـجبـار دقـينوس, فقالوا له إذ عاتبهم علـى تركهم عبـادة آلهته: ربّنا رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول: قالوا ربنا ملك السموات والأرض وما فـيهما من شيء, وآلهتك مربوبة, وغير جائز لنا أن نترك عبـادة الربّ ونعبد الـمربوب لَنْ نَدْعُوَ منْ دُونِه إلَها يقول: لن ندعو من دون ربّ السموات والأرض إلها, لأنه لا إله غيره, وإن كلّ ما دونه فهو خـلقه لَقَدْ قُلْنا إذا شَططا يقول جلّ ثناؤه: لئن دعونا إلها غير إله السموات والأرض, لقد قلنا إذن بدعائنا غيره إلها, شططا من القول: يعنـي غالـيا من الكذب, مـجاوزا مقداره فـي البطول والغلوّ: كما قال الشاعر:
ألا يا لَقَوْمي قَدْ أشْطَتْ عَوَاذِلـيويزْعُمْنَ أنْ أوْدَى بِحَقّـيَ بـاطلـي
يقال منه: قد أشط فلان فـي السوم إذا جاوز القدر وارتفع, يشطّ إشطاطا وشططا. فأما من البعد فإنـما يقال: شطّ منزل فلان يشطّ شطوطا ومن الطول: شطت الـجارية تشطّ شطاطا وشطاطة: إذا طالت. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل قوله شَطَطا قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17288ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله لَقَدْ قُلْنا إذا شَطَطا يقول كذبـا.
17289ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله لَقَدْ قُلْنا إذا شَطَطا قال: لقد قلنا إذن خطأ, قال: الشطط: الـخطأ من القول.
الآية : 15
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هَـَؤُلآءِ قَوْمُنَا اتّخَذْواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً }.
يقول عزّ ذكره مخبرا عن قـيـل الفتـية من أصحاب الكهف: هؤلاء قومنا اتـخذوا من دون الله آلهة يعبدونها من دونه لَوْلا يَأْتُونَ عَلَـيْهمْ بسُلْطانٍ بَـيّنٍ يقول: هلا يأتون علـى عبـادتهم إياها بحجة بـينة. وفـي الكلام مـحذوف اجتزىء بـما ظهر عما حذف, وذلك فـي قوله: لَوْلا يَأْتُونَ عَلَـيْهمْ بسُلْطانٍ بَـيّنٍ فـالهاء والـميـم فـي علـيهم من ذكر الاَلِهة, والاَلهة لا يؤتـى علـيها بسلطان, ولا يُسأل السلطان علـيها, وإنـما يسأل عابدوها السلطان علـى عبـادتهموها, فمعلوم إذ كان الأمر كذلك, أن معنى الكلام: لولا يأتون علـى عبـادتهموها, واتـخاذهموها آلهة من دون الله بسلطان بـين. وبنـحو ما قلنا فـي معنى السلطان, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17290ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله لَوْلا يَأْتُونَ عَلَـيْهمْ بسُلْطانٍ بَـيّنٍ يقول: بعذر بـين.
وعنى بقوله عزّ ذكره: فَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ افْتَرَى علـى اللّهِ كَذِبـا ومن أشدّ اعتداء وإشراكا بـالله, مـمن اختلق, فتـخرّص علـى الله كذبـا, وأشرك مع الله فـي سلطانه شريكا يعبده دونه, ويتـخده إلها