تفسير الطبري تفسير الصفحة 427 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 427
428
426
 الآية : 63
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَسْأَلُكَ النّاسُ عَنِ السّاعَةِ قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً }.
يقول تعالـى ذكره: يَسْألُكَ النّاسُ يا مـحمد عَنِ السّاعَةِ متـى هي قائمة؟ قلْ لهم: إنـما علـم الساعة عنْدَ اللّهِ لا يعلـم وقت قـيامها غيره وَما يُدْرِيكَ لَعَلّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبـا يقول: وما أشعرك يا مـحمد لعلّ قـيام الساعة يكون منك قريبـا, قد قرب وقت قـيامها, ودنا حين مـجيئها.
الآية : 64 -65
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ اللّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }.
يقول تعالـى ذكره: إن الله أبعد الكافرين به من كل خير, وأقصاهم عنه وأعَدّ لَهُمْ سَعِيرا يقول: وأعدّ لَهم فـي الاَخرة نارا تتقد وتتسعر لـيصلـيهموها خالِدِينَ فِـيها أبَدا يقول: ماكثـين فـي السعير أبدا, إلـى غير نهاية لا يَجِدُونَ وَلِـيّا يتولاهم, فـيستنقذهم من السعير التـي أصلاهموها الله وَلا نَصِيرا ينصرهم, فـينـجيهم من عقاب الله إياهم.

الآية : 66
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَوْمَ تُقَلّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ يَقُولُونَ يَلَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللّهَ وَأَطَعْنَا الرّسُولاَ }.
يقول تعالـى ذكره: لا يجد هؤلاء الكافرون ولـيا ولا نصيرا فـي يوم تقلب وجوههم فـي النار حالاً بعد حال يَقُولُونَ وتلك حالهم فـي النار: يَا لَـيْتَنَا أطَعْنَا اللّهَ فـي الدنـيا وأطعنا رسوله, فـيـما جاءنا به عنه من أمره ونهيه, فكنا مع أهل الـجنة فـي الـجنة, يا لها حسرة وندامةً, ما أعظمها وأجلها.
الآية : 67 -68
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالُواْ رَبّنَآ إِنّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلّونَا السّبِيلاْ * رَبّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً }.
يقول تعالـى ذكره: وقال الكافرون يوم القـيامة فـي جهنـم: ربنا إنا أطعنا أئمتنا فـي الضلالة وكبراءنا فـي الشرك فَأَضَلّونا السّبِـيـلَ يقول: فأزالونا عن مـحجة الـحقّ, وطريق الهدى, والإيـمان بك, والإقرار بوحدانـيتك, وإخلاص طاعتك فـي الدنـيا رَبّنا آتِهِمْ ضِعْفَـيْنِ مِنَ العَذَابِ يقول: عذّبهم من العذاب مِثْلَـى عذابنا الذي تعذّبنا وَالْعَنْهُمْ لَعْنا كَبـيرا يقول: واخزهم خزيا كبـيرا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21870ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: رَبّنا إنّا أطَعْنا سادَتَنا وكُبَراءنَا أي رؤوسنا فـي الشرّ والشرك.
21871ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: إنّا أطَعْنا سادَتَنا وكُبَرَاءَنا قال: هم رؤوس الأمـم الذين أضلوهم, قال: سادتنا وكبراءنا واحد.
وقرأت عامة قرّاء الأمصار: سادَتَنا. ورُوي عن الـحسن البصري: «سادَاتِنا» علـى الـجماع, والتوحيد فـي ذلك هي القراءة عندنا, لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه.
واختلفوا فـي قراءة قوله: لَعْنا كَبِـيرا فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار بـالثاء: «كَثِـيرا» من الكثرة, سوى عاصم, فإنه قرأه لَعْنا كَبِـيرا من الكبر. والقراءة فـي ذلك عندنا بـالثاء لإجماع الـحجة من القراء علـيها.
الآية : 69
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىَ فَبرّأَهُ اللّهُ مِمّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللّهِ وَجِيهاً }.
يقول تعالـى ذكره لأصحاب نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين آمنوا بـالله ورسوله لا تؤذوا رسول الله بقول يكرهه منكم, ولا بفعل لا يحبه منكم, ولا تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبـيّ الله, فرموه بعيب كذبـا وبـاطلاً فَبرّأهُ اللّهُ مِـمّا قالُوا فـيه من الكذب والزور بـما أظهر من البرهان علـى كذبهم وكانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِيها يقول: وكان موسى عند الله مشفعا فـيـما يسأل, ذا وجه ومنزلة عنده بطاعته إياه.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي الأذى الذي أوذي به موسى الذي ذكره الله فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: رموه بأنه آدَر. ورَوَي بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرا. ذكر الرواية التـي رويت عنه, ومن قال ذلك:
21872ـ حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن الـمنهال, عن سعيد بن جبـير, وعبد الله بن الـحارث, عن ابن عبـاس, فـي قوله: لاَ تَكُونُوا كالّذِينَ آذَوْا مُوسَى قال: قال له قومه: إنك آدر, قال: فخرج ذات يوم يغتسل, فوضع ثـيابه علـى صخرة, فخرجت الصخرة تشتدّ بثـيابه, وخرج يتبعها عريانا حتـى انتهت به إلـى مـجالس بنـي إسرائيـل, قال: فرأوه لـيس بآدر, قال: فذلك قوله: فَبرّأهُ اللّهُ مِـمّا قالُوا.
21873ـ حدثنـي يحيى بن داود الواسطي, قال: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق, عن سفـيان, عن جابر, عن عكرمة, عن أبـي هريرة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَكُونُوا كالّذِينَ آذَوْا مُوسَى قال: قالُوا: هُوَ آدَرُ, قال: فذهب موسى يغتسل, فوضع ثـيابه علـى حجر, فمرّ الـحجر بثـيابه, فتبع موسى قـفـاه, فقال: ثـيابـي حجر, فمرّ بـمـجلس بنـي إسرائيـل, فرأوه, فبرأه الله مـما قالوا» وكانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِيها.
21874ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كالّذِينَ آذَوْا مُوسَى... إلـى وَجِيها قال: كان أذاهم موسى أنهم قالوا: والله ما يـمنع موسى أن يضع ثـيابه عندنا إلا أنه آدر, فآذى ذلك موسى فبـينـما هو ذات يوم يغتسل وثوبه علـى صخرة فلـما قضى موسى غسله وذهب إلـى ثوبه لـيأخذه, انطلقت الصخرة تسعى بثوبه, وانطلق يسعى فـي أثرها حتـى مرّت علـى مـجلس بنـي إسرائيـل وهو يطلبها فلـما رأوا موسى صلى الله عليه وسلم متـجرّدا لا ثوب علـيه قالوا: ولله ما نرى بـموسى بأسا, وإنه لبريء مـما كنا نقول له, فقال الله: فَبرّأهُ اللّهُ مِـمّا قالُوا وكانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِيها.
21875ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كالّذِينَ آذَوْا مُوسَى... الاَية, قال: كان موسى رجلاً شديد الـمـحافظة علـى فرجه وثـيابه, قال: فكانوا يقولون: ما يحمله علـى ذلك إلا عيب فـي فرجه يكره أن يُرَى فقام يوما يغتسل فـي الصحراء, فوضع ثـيابه علـى صخرة, فـاشتدّت بثـيابه, قال: وجاء يطلبها عريانا, حتـى اطلع علـيهم عريانا, فرأوه بريئا مـما قالوا, وكان عند الله وجيها. قال: والوجيه فـي كلام العرب: الـمـحبّ الـمقبول.
وقال آخرون: بل وصفوه بأنه أبرص. ذكر من قال ذلك:
21876ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد, قال: قال بنو إسرائيـل: إن موسى آدر وقالت طائفة: هو أبرص من شدّة تستّره, وكان يأتـي كلّ يوم عينا, فـيغتسل ويضع ثـيابه علـى صخرة عندها, فعدت الصخرة بثـيابه حتـى انتهت إلـى مـجلس بنـي إسرائيـل, وجاء موسى يطلبها فلـما رأوه عريانا لـيس به شيء مـما قالوا, لبس ثـيابه ثم أقبل علـى الصخرة يضربها بعصاه, فأثرت العصا فـي الصخرة.
حدثنا بحر بن حبـيب بن عربـي, قال: حدثنا روح بن عبـادة, قال: حدثنا عوف, عن مـحمد, عن أبـي هريرة فـي هذه الاَية لاَ تَكُونُوا كالّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبرّأهُ اللّهُ مِـمّا قالُوا... الاَية, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ مُوسَى كانَ رَجُلاً حَيِـيّا سِتّـيرا, لا يَكادُ يُرَى مِنْ جِلْدهِ شَيْءٌ اسْتِـحْياءً مِنْهُ, فآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنـي إسْرَائِيـلَ, وَقالُوا: ما تَسَتّرَ هَذَا التّسَتّرَ إلاّ مِنْ عَيْبٍ فِـي جِلْدِهِ, إمّا برصٌ, وإمّا أُدْرَةٌ, وإمّا آفَةٌ, وَإنّ اللّهَ أرَادَ أنْ يُبَرّئَهُ مِـمّا قالُوا, وَإنّ مُوسَى خَلا يَوْما وَحْدَهُ, فَوَضَعَ ثِـيابَهُ عَلـى حَجَرٍ, ثُمّ اغْتَسَلَ فَلَـمّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ أقْبَلَ عَلـى ثَوْبهِ لِـيأْخُذَهُ, وَإنّ الـحَجَرَ عَدَا بثَوْبِهِ, فأخَذَ مُوسَى عَصا وَطَلَبَ الـحَجَرَ, وَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِـي حَجَرُ, حتـى انْتَهَى إلـى مِلإٍ مِنْ بَنـي إسْرائِيـلَ, فَرأَوْهُ عُرْيانا كأحْسَنِ النّاسِ خَـلْقا, وَبَرّأهُ اللّهُ مِـمّا قالُوا, وَإنّ الـحَجَرَ قامَ, فأخَذَ ثَوْبَهُ وَلَبِسَهُ, فَطَفِقَ بـالـحَجَرِ ضَرْبـا بذلكَ, فوَاللّهِ إنّ فِـي الـحَجَرِ لَنَدْبـا مِنْ أثَرِ ضَوْبِهِ ثَلاثا أوْ أرْبَعا أوْ خَمْسا».
21877ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن عوف, عن الـحسن, قال: بلغنـي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كانَ مُوسَى رَجُلاً حَيِـيّا سِتـيرا» ثم ذكر نـحوا منه.
21878ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: حدّث الـحسن, عن أبـي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ بَنِـي إسْرَائِيـلَ كانُوا يَغْتَسِلُونَ وَهُمْ عُرَاةٌ, وكانَ نَبِـيّ اللّهُ مُوسَى حَيِـيّا, فكانَ يَتَسَتّرُ إذَا اغْتَسَلَ, فَطَعَنُوا فِـيهِ بعَوْرَةٍ, قال: فَبَـيْنا نَبِـيّ اللّهِ يَغْتَسلُ يَوْما, إذْ وَضَعَ ثِـيابَهُ علـى صَخْرَةٍ, فـانْطَلَقَتِ الصّخْرَةُ وَاتّبَعَها نَبِـيّ اللّهِ ضَرْبـا بِعَصَاهُ: ثَوْبِـي يا حَجَرُ, ثَوْبِـي يا حَجَرُ, حتـى انْتَهَتْ إلـى ملإٍ مِنْ بَنِـي إسْرائِيـلَ, أوْ تَوَسّطهُمْ, فَقامَتْ, فأخَذَ نَبِـيّ اللّهُ ثِـيابَهُ, فَنَظَرُوا إلـى أحْسَنِ النّاسِ خَـلْقا, وأعْدَلِهِ مُرُوءَةً, فقالَ الـمَلأُ: قاتَلَ اللّهُ أفّـاكي بَنِـي إسْرائِيـلَ, فَكانَتْ بَراءَتَهُ التـي بَرّأَهُ اللّهُ مِنْها».
وقال آخرون: بل كان أذاهم إياه ادّعاءهم علـيه قتل هارون أخيه. ذكر من قال ذلك:
21879ـ حدثنـي علـيّ بن مسلـم الطوسي, قال: حدثنا عبـاد, قال: حدثنا سفـيان بن حبـيب, عن الـحكم, عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس, عن علـيّ بن أبـي طالب, رضي الله عنه, فـي قول الله: لاَ تَكُونُوا كالّذِينَ آذَوْا مُوسَى... الاَية, قال: صعد موسى وهارون الـجبل, فمات هارون, فقالت بنو إسرائيـل: أنت قتلته, وكان أشدّ حبـا لنا منك, وألـين لنا منك, فآذوه بذلك, فأمر الله الـملائكة فحملته حتـى مرّوا به علـى بنـي إسرائيـل, وتكلّـمت الـملائكة بـموته, حتـى عرف بنو إسرائيـل أنه قد مات, فبرأه الله من ذلك فـانطلقوا به فدفنوه, فلـم يطلع علـى قبره أحد من خـلق الله إلا الرخم, فجعله الله أصمّ أبكم.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن بنـي إسرائيـل آذوا نبـيّ الله ببعض ما كان يكره أن يؤذي به, فبرأه الله مـما آذوه به. وجائز أن يكون ذلك كان قـيـلهم إنه أبرص, وجائز أن يكون كان ادّعاءهم علـيه قتل أخيه هارون. وجائز أن يكون كلّ ذلك, لأنه قد ذكر كلّ ذلك أنهم قد آذوه به, ولا قول فـي ذلك أولـى بـالـحقّ مـما قال الله إنهم آذوا موسى, فبرأه الله مـما قالوا.
الآية : 70 -71
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً }.
يقول تعالـى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله, اتقوا الله أن تعصوه, فتستـحقوا بذلك عقوبته.
وقوله: وَقولوا قَوْلاً سَدِيدا يقول: قولوا فـي رسول الله والـمؤمنـين قولاً قاصدا غير جائز, حقا غير بـاطل, كما:
21880ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا يقول: سدادا.
21881ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا عنبسة, عن الكلبـي وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا قال: صدقا.
21882ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: اتّقُوا اللّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا أي عدلاً, قال قتادة: يعنـي به فـي منطقه وفـي عمله كله, والسديد: الصدق.
21883ـ حدثنـي سعد بن عبد الله بن عبد الـحكم, قال: حدثنا حفص بن عمر, عن الـحكم بن أبـان, عن عكرمة فـي قول الله: وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا قولوا: لا إله إلا الله.
وقوله: يُصْلِـحْ لَكُمْ أعمالَكُمْ يقول تعالـى ذكره للـمؤمنـين: اتقوا الله وقولوا السداد من القول يوفقكم لصالـح الأعمال, فـيصلـح أعمالكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ يقول: ويعف لكم عن ذنوبكم, فلا يعاقبكم علـيها وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فـيعمل بـما أمره به, وينتهي عما نهاه, ويقل السديد فَقَدْ فـازَ فَوْزا عَظِيـما يقول: فقد ظفر بـالكرامة العظمى من الله.

الآية : 72
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }.
اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك, فقال بعضهم: معناه: إن الله عرض طاعته وفرائضه علـى السموات والأرض والـجبـال علـى أنها إن أحسنت أثـيبت وجوزيت, وإن ضيعت عوقبت, فأبت حملها شفقا منها أن لا تقوم بـالواجب علـيها, وحملها آدم إنّهُ كانَ ظَلُوما لنفسه جَهُولاً بـالذي فـيه الـحظّ له. ذكر من قال ذلك: 21884ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جُبَـير, فـي قوله: إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ علـى السّمَوَاتِ والأرْضِ والـجِبـالِ فَأَبَـيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنْها قال: الأمانة: الفرائض التـي افترضها الله علـى العبـاد.
21885ـ قال: ثنا هشيـم, عن العوّام, عن الضحاك بن مزاحم, عن ابن عبـاس, فـي قوله: إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ علـى السّمَوَاتِ والأرْضِ والـجِبـالِ فَأَبَـيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها قال: الأمانة: الفرائض التـي افترضها الله علـى عبـاده.
21886ـ قال: ثنا هشيـم, قال: أخبرنا العوّام بن حوشب وجويبر, كلاهما عن الضحاك, عن ابن عبـاس, فـي قوله إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ... إلـى قوله جَهُولاً قال: الأمانة: الفرائض. قال جويبر فـي حديثه: فلـما عرضت علـى آدم, قال: أي ربّ وما الأمانة؟ قال: قـيـل: إن أدّيتها جزيت, وإن ضيعتها عوقبت, قال: أي ربّ حملتها بـما فـيها, قال: فما مكث فـي الـجنة إلا قدر ما بـين العصر إلـى غروب الشمس حتـى عمل بـالـمعصية, فأُخرج منها.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي بشر, عن سعيد, عن ابن عبـاس أنه قال فـي هذه الاَية إنّا عَرَضْنا الأَمانَةَ قال: عرضت علـى آدم, فقال: خذها بـما فـيها, فإن أطعت غفرت لك, وإن عصيت عذّبتك, قال: قد قبلت, فما كان إلا قدر ما بـين العصر إلـى اللـيـل من ذلك الـيوم حتـى أصاب الـخطيئة.
حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ علـى السّمَوَاتِ والأرْضِ والـجِبـالِ إن أدّوها أثابهم, وإن ضيّعوها عذّبهم, فكرهوا ذلك, وأشفقوا من غير معصية, ولكن تعظيـما لدين الله أن لا يقوموا بها, ثم عرضها علـى آدم, فقبلها بـما فـيها, وهو قوله: وَحَمَلَها الإنْسانُ إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً غرّا بأمر الله.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ: الطاعة عرضها علـيها قبل أن يعرضها علـى آدم, فلـم تطقها, فقال لاَدم: يا آدم إنـي قد عرضت الأمانة علـى السموات والأرض والـجبـال, فلـم تطقها, فهل أنت آخذها بـما فـيها؟ فقال: يا ربّ: وما فـيها؟ قال: إن أحسنت جُزِيت, وإن أسأت عُوقبت, فأخذها آدم فتـحملها, فذلك قوله: وَحَمَلَها الإنْسانُ إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً.
21887ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان, عن رجل, عن الضحاك بن مزاحم, فـي قوله: إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ علـى السّمَوَاتِ والأرْضِ والـجِبـالِ فَأَبَـيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَها الإنْسانُ إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً قال آدم: قـيـل له: خذها بحقها, قال: وما حقها؟ قـيـل: إن أحسنت جُزيت, وإن أسأت عُوقبت, فما لبث ما بـين الظهر والعصر حتـى أخرج منها.
21888ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ علـى السّمَوَاتِ والأرْضِ والـجِبـالِ فلـم يطقن حمَلها, فهل أنت يا آدم آخذها بـما فـيها قال آدم: وما فـيها يا ربّ؟ قال: إن أحسنت جُزِيت, وإن أسأت عوقبت, فقال: تـحمّلتُها, فقال الله تبـارك وتعالـى: قد حملتكها فما مكث آدم إلا مقدار ما بـين الأولـى إلـى العصر حتـى أخرجه إبلـيس لعنه الله من الـجنة والأمانة: الطاعة.
21889ـ حدثنـي سعيد بن عمرو السكونـي, قال: حدثنا بقـية, قال: ثنـي عيسى بن إبراهيـم, عن موسى بن أبـي حبـيب, عن الـحكم بن عمرو, وكان من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: قال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ الأمانَةَ والوَفـاءَ نَزَلا علـى ابْنِ آدَمَ مَعَ الأنْبِـياءِ, فأُرْسِلُوا بِهِ, فَمِنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ, ومِنْهُمْ نَبِـيّ, وَمِنْهُمْ نَبِـيّ رَسُولٌ. نزل القرآن وهو كلام الله, ونزلت العربـية والعجمية, فعلـموا أمر القرآن, وعلـموا أمر السنن بألسنتهم, ولـم يدع الله شيئا من أمره مـما يأتون ومـما يجتنبون, وهي الـحجج علـيهم, إلا بَـيّنَةُ لهم, فلـيس أهل لسان إلا وهم يعرفون الـحسن من القبـيح. ثم الأمانة أوّل شيء يُرْفع, ويبقـى أثرها فـي جذور قلوب الناس, ثم يُرْفع الوفـاء والعهد والذمـم, وتبقـى الكتب, فعالـم يعمل, وجاهل يعرفها وينكرها حتـى وصل إلـيّ وإلـى أمتـي, فلا يَهْلِك علـى الله إلا هالك, ولا يُغْفِله إلا تارك, والـحذرَ أيها الناس, وإياكم والوسواس الـخناس, وإنـما يبلوكم أيكم أحسن عملا».
21890ـ حدثنـي مـحمد بن خـلف العَسْقلانـي, قال: حدثنا عبـيد بن عبد الـمـجيد الـحنفـيّ, قال: حدثنا العوّام العطار, قال: حدثنا قتادة, وأبـان بن أبـي عياش, عن خَـلِـيد العَصْري, عن أبـي الدرداء, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَمْسٌ مَنْ جاءَ بِهِنّ يَوْمَ القِـيامَةِ مَعَ إيـمانٍ دَخَـلَ الـجَنّةَ: مَن حافَظَ علـى الصّلَوَاتِ الـخَمْسِ, علـى وُضُوئهِنّ وَرُكُوعِهِنّ وَسُجُودِهِنّ وَمَوَاقِـيتِهِنّ, وأعْطَى الزّكاةَ مِنْ مالِهِ طَيّبَ النّفْسِ بِها» وكانَ يَقُولُ: «وَايْـمُ اللّهِ لا يفْعَلُ ذلكَ إلاّ مُؤْمِنٌ, وَصَامَ رَمَضَانَ, وَحَجّ البَـيْتَ إنِ اسْتَطاعَ إلـى ذِلك سَبِـيلاً, وأدّى الأمانَةَ» قالوا: يا أبـا الدرداء: وما الأمانة؟ قال: الغسل من الـجنابة, فإن الله لـم يأمن ابن آدم علـى شيء من دينه غيره.
21891ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن أبـي الضحى, عن مسروق, عن أُبـيّ بن كعب, قال: من الأمانة أن الـمرأة اؤتـمنت علـى فرجها.
21892ـ حدثنـي يونس, قال: حدثنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قول الله: إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ علـى السّمَوَاتِ والأرْضِ والـجِبـالِ فَأَبَـيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنْها قال: إن الله عرض علـيهنّ الأمانة أن يفترض علـيهنّ الدين, ويجعل لهنّ ثوابـا وعقابـا, ويستأمنهنّ علـى الدين, فقلن: لا, نـحن مسخرات لأمرك, لا نريد ثوابـا ولا عقابـا, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَعَرَضَها اللّهُ علـى آدَمَ, فقالَ: بـين أُذُنِـي وَعاتِقـي» قال ابن زيد, فقال الله له: أما إذ تـحملت هذا فسأعينك, أجعل لبصرك حجابـا, فإذا خشيت أن تنظر إلـى ما لا يحلّ لك, فأرْخ علـيه حجابه, وأجعل للسانك بـابـا وغلقا, فإذا خشيت فأغلق, وأجعل لفرجك لبـاسا, فلا تكشفه إلا علـى ما أحللت لك.
21893ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ علـى السّمَوَاتِ والأرْضِ والـجِبـالِ يعنـي به: الدين والفرائض والـحدود فَأَبَـيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنْها قـيـل لهنّ: احملنها تؤَدّين حقها, فقلن: لا نطيق ذلك وَحَمَلَها الإنْسانُ إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً قـيـل له: أتـحملها؟ قال: نعم, قـيـل: أتؤدّي حقها؟ قال: نعم, قال الله: إنه كان ظلوما جهولاً عن حقها.
وقال آخرون: بل عنى بـالأمانة فـي هذا الـموضع: أمانات الناس. ذكر من قال ذلك:
21894ـ حدثنا تـميـم بن الـمنتصر, قال: حدثنا إسحاق, عن شريك, عن الأعمش, عن عبد الله بن السائب, عن زاذان, عن عبد الله بن مسعود, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القَتْلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ يُكَفّرُ الذّنُوبَ كُلّها أو قال: يُكَفّرُ كُلّ شَيْءٍ إلاّ الأمانَةَ يُؤْتَـى بصَاحِبِ الأمانَةِ, فَـيُقالُ لَهُ: أدّ أمانَتَكَ, فَـيَقُولُ: أي ربّ وَقَدْ ذَهَبَتِ الدّنْـيا, ثَلاثا فَـيُقالُ: اذْهَبُوا بِهِ إلـى الهَاوِيَةِ فَـيُذْهَبُ بِهِ إلَـيْها, فَـيَهْوِي فِـيها حتـى يَنْتَهِي إلـى قَعْرِها, فَـيَجِدُها هُناكَ كَهِيْئَتِها, فَـيَحْملُها, فَـيَضَعَها علـى عاتِقِهِ, فَـيَصْعَدُ بِها إلـى شَفِـيرِ جَهَنّـمَ, حتـى إذَا رأى أنّهُ قَدْ خَرَجَ زَلّتْ, فَهَوَى فِـي أثَرِها أبَدَ الاَبِدِينَ». قالوا: والأمانة فـي الصلاة, والأمانة فـي الصوم, والأمانة فـي الـحديث وأشدّ ذلك الودائع, فلقـيت البراء فقلت: ألا تسمع إلـى ما يقول أخوك عبد الله؟ فقال: صدق.
قال: شريك, وثنـي عياش العامري عن زاذان, عن عبد الله بن مسعود, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بنـحوه, ولـم يذكر الأمانة فـي الصلاة, وفـي كلّ شيء.
21895ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: أخبرنـي عمرو بن الـحارث, عن ابن أبـي هلال, عن أبـي حازم, قال: إن الله عرض الأمانة علـى سماء الدنـيا, فأبت ثم التـي تلـيها, حتـى فرغ منها, ثم الأرضين ثم الـجبـال, ثم عرضها علـى آدم, فقال: نعم, بـين أذنـي وعاتقـي. فثلاث آمرك بهنّ, فإنهنّ لك عون: إنـي جعلت لك لسانا بـين لـحسيـين, فكفه عن كلّ شيء نهيتك عنه وجعلت لك فرجا وواريته, فلا تكشفه إلـى ما حرّمت علـيك.
وقال آخرون: بل ذلك إنـما عنى به ائتـمان آدم ابنه قابـيـل علـى أهله وولده, وخيانة قابـيـل أبـاه فـي قتله أخاه. ذكر من قال ذلك:
21896ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مُرّة الهمدانـي, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: كان لا يولد لاَدم مولود إلا وُلد معه جارية, فكان يزوّج غلامَ هذا البطن جارية هذا البطن الاَخر, ويزوّج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الاَخر, حتـى وُلد له اثنان, يقال لهما قابـيـل, وهابـيـل وكان قابـيـل صاحب زرع, وكان هابـيـل صاحب ضرع, وكان قابـيـل أكبرهما, وكان له أخت أحسن من أخت هابـيـل, وإن هابـيـل طلب أن يَنْكِح أخت قابـيـل, فأبى علـيه وقال: هي أختـي وُلدتْ معي, وهي أحسن من أختك, وأنا أحقّ أن أتزوّجها, فأمره أبوه أن يزوّجها هابـيـل فأبى, وإنهما قرّبـا قربـانا إلـى الله أيهما أحقّ بـالـجارية, وكان آدم يومئذ قد غاب عنهما, أي بـمكة ينظر إلـيها, قال الله لاَدم: يا آدم هل تعلـم أن لـي بـيتا فـي الأرض؟ قال: اللهمّ لا, قال: إن لـي بـيتا بـمكة فأته, فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بـالأمانة, فأبت وقال للأرض, فأبت فقال للـجبـال, فأبت فقال لقابـيـل, فقال: نعم, تذهب وترجع وتـجد أهلك كما يسرّك فلـما انطلق آدم وقرّبـا قربـانا, وكان قابـيـل يفخر علـيه فـيقول: أنا أحقّ بها منك, هي أختـي, وأنا أكبر منك, وأنا وصيّ والدي فلـما قرّبـا, قرّب هابـيـل جَذَعة سمينة, وقرّب هابـيـل حُزْمة سُنْبل, فوجد فـيها سنبلة عظيـمة, ففركها فأكلها, فنزلت النار فأكلت قُربـان هابـيـل, وتركت قُربـان قابـيـل, فغضب وقال: لأقتلنك حتـى لا تنكح أختـي, فقال هابـيـل إنّـمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الـمُتّقِـينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إلـيّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِـي ما أنا بِبـاسِطٍ يَدِيَ إلَـيْكَ لأَقْتُلَكَ إنّـي أخافُ اللّهَ رَبّ العالَـمِينَ... إلـى قوله: فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ فطلبه لـيقتله, فراغ الغلام منه فـي رؤوس الـجبـال وأتاه يوما من الأيام, وهو يرْعَى غنـمه فـي جبل, وهو نائم, فرفع صخرة, فشدخ بها رأسه, فمات, وتركه بـالعَراء, ولا يعلـم كيف يُدْفَن, فبعث الله غرابـين أخوين فـاقتتلا, فقتل أحدهما صاحبه, فحفر له, ثم حثا علـيه فلـما رآه قال: يا وَيُـلَتا أعَجَزْتَ أنْ أكونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أخي, فهو قول الله تبـارك وتعالـى: فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابـا يَبْحَثُ فِـي الأرْضِ لِـيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوأَةَ أخِيهِ فرجع آدم فوجد ابنه قد قَتل أخاه, فذلك حين يقول: إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ علـى السّمَوَاتِ والأرْضِ والـجِبـالِ... إلـى آخر الاَية.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب ما قاله الذين قالوا: إنه عُنِـي بـالأمانة فـي هذا الـموضع: جميع معانـي الأمانات فـي الدين, وأمانات الناس, وذلك أن الله لـم يخصّ بقوله: عَرَضنا الأمانَةَ بعضَ معانـي الأمانات لـما وصفنا.
وبنـحو قولنا قال أهل التأويـل فـي معنى قول الله: إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً. ذكر من قال ذلك:
21897ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً يعنـي قابـيـل حين حمل أمانة آدم لـم يحفظ له أهله.
21898ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيريّ, قال: حدثنا سفـيان, عن رجل, عن الضحاك, فـي قوله: وَحَملَها الإنسان قال آدم إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً قال: ظلوما لنفسه, جهولاً فـيـما احتـمل فـيـما بـينه وبـين ربه.
21899ـ حدثنا علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً غَرّ بأمر الله.
21900ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً قال: ظلوما لها, يعنـي للأمانة, جهولاً عن حقها.
الآية : 73
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لّيُعَذّبَ اللّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً }.
يقول تعالـى ذكره: وحمل الإنسان الأمانة كيـما يعذّب الله الـمنافقـين فـيها الذين يظهرون أنهم يؤدّون فرائض الله, مؤمنـين بها, وهم مستسرّون الكفر بها, والـمنافقات والـمشركين بـالله فـي عبـادتهم إياه الاَلهة والأوثان, والـمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللّهُ علـى الـمُؤْمِنِـينَ وَالـمُؤْمِناتِ يرجع بهم إلـى طاعته, وأداء الأمانات التـي ألزمهم إياها حتـى يؤدّوها وكانَ اللّهُ غَفُورا لذنوب الـمؤمنـين والـمؤمنات, بستره علـيها, وتركه عقابهم علـيها رَحِيـما أن يعذّبهم علـيها بعد توبتهم منها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21901ـ حدثنا سوار بن عبد الله العتبري, قال: ثنـي أبـي, قال: حدثنا أبو الأشهب, عن الـحسن أنه كان يقرأ هذه الاَية: إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ علـى السّمَوَاتِ والأرْضِ والـجِبـالِ حتـى ينتهي لِـيُعَذّبَ اللّهُ الـمُنافِقـينَ والـمُنافِقاتِ والـمُشْرِكِينَ والـمُشْرِكاتِ فـيقول: اللذان خاناها, اللذان ظلـماها: الـمنافق والـمشرك.
21902ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة لِـيُعَذّبَ اللّهُ الـمُنافِقِـينَ وَالـمُنافِقاتِ والـمُشْرِكِينَ والـمُشْرِكاتِ هذان اللذان خاناها, ويتوب الله علـى الـمؤمنـين والـمؤمنات, هذان اللذان أدّياها وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيـما.
آخر سورة الأحزاب, ولله الـحمد والـمنة

نهاية تفسير الإمام الطبري لسورة الأحزاب