تفسير الطبري تفسير الصفحة 464 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 464
465
463
 الآية : 48
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَـسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وظهر لهؤلاء المشركين يوم القيامة سَيّئاتُ ما كَسَبُوا من الأعمال في الدنيا, إذ أعطوا كتبهم بشمائلهم وَحاقَ بِهِمْ ما كانوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ووجب عليهم حينئذ, فلزمهم عذاب الله الذي كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا يعدهم على كفرهم بربهم, فكانوا به يسخرون, إنكارا أن يصيبهم ذلك, أو ينالهم تكذيبا منهم به, وأحاط ذلك بهم.
الآية : 49
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَإِذَا مَسّ الإِنسَانَ ضُرّ دَعَانَا ثُمّ إِذَا خَوّلْنَاهُ نِعْمَةً مّنّا قَالَ إِنّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىَ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: فإذا أصاب الإنسان بؤس وشدّة دعانا مستغيثا بنا من جهة ما أصابه من الضرّ, ثُمّ إذَا خَوّلْناهُ نِعْمَةً مِنّا يقول: ثم إذا أعطيناه فرجا مما كان فيه من الضرّ, بأن أبدلناه بالضرّ رخاء وسعة, وبالسقم صحة وعافية, فقال: إنما أعطيت الذي أعطيت من الرخاء والسعة في المعيشة, والصحة في البدن والعافية, على علم عندي, يعني على علم من الله بأني له أهل لشرفي ورضاه بعملي (عندي) يعني: فيما عندي, كما يقال: أنت محسن في هذا الأمر عندي: أي فيما أظنّ وأحسب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23229ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ثُمّ إذَا خَوّلْناهُ نِعْمَةً مِنّا حتى بلغ عَلى عِلْمِ عندي: أي على خير عندي.
23230ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: إذَا خَوّلْناهُ نِعْمَةً مِنّا قال: أعطيناه.
وقوله: أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ: أي على شرف أعطانيه.
وقوله: بَلْ هَيَ فِتْنَةٌ يقول تعالى ذكره: بل عطيتنا إياهم تلك النعمة من بعد الضرّ الذي كانوا فيه فتنة لهم يعني بلاء ابتليناهم به, واختبارا اختبرناهم به وَلَكِنّ أكْثَرَهُمْ لجهلهم, وسوء رأيهم لا يَعْلَمُونَ لأي سبب أعطوا ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23231ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ: أي بلاء.

الآية : 50-51
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قَدْ قَالَهَا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَىَ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَالّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـَؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ }.
يقول تعالى ذكره: قد قال هذه المقالة يعني قولهم: لنعمة الله التي خولهم وهم مشركون: أوتيناه على علم عندنا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: الذي من قبل مشركي قُرَيش من الأمم الخالية لرسلها, تكذيبا منهم لهم, واستهزاء بهم. وقوله: فَمَا أغْنَى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسَبُونَ يقول: فلم يغن عنهم حين أتاهم بأس الله على تكذيبهم رسل الله واستهزائهم بهم ما كانوا يكسبون من الأعمال, وذلك عبادتهم الأوثان. يقول: لم تنفعهم خدمتهم إياها, ولم تشفع آلهتهم لهم عند الله حينئذ, ولكنها أسلمتهم وتبرأت منهم. وقوله: فأَصَابَهُمْ سَيّئاتُ ما كَسَبُوا يقول: فأصاب الذين قالوا هذه المقالة من الأمم الخالية, وبال سيئات ما كسبوا من الأعمال, فعوجلوا بالخزي في دار الدنيا, وذلك كقارون الذي قال حين وعظ إنّمَا أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي فَخَسَفَ اللّهُ بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُون اللّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرينَ يقول الله جل ثناؤه: وَالّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَولاَءِ يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: والذين كفروا بالله يا محمد من قومك, وظلموا أنفسهم وقالوا هذه المقالة سيُصِيبُهُمْ أيضا وبال سيّئَاتُ مَا كَسَبُوا كما أصاب الذين من قبلهم بقيلهموها وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ يقول: وما يفوتون ربهم ولا يسبقونه هربا في الأرض من عذابه إذا نزل بهم, ولكنه يصيبهم سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِد لِسُنةِ اللّهِ تَبْدِيلاً ففعل ذلك بهم, فأحلّ بهم خزيه في عاجل الدنيا فقتلهم بالسيف يوم بدر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23232ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السدي قَدْ قَالَها الّذِينَ مِنَ قَبْلِهِمْ الأمم الماضية وَالّذِينَ ظَلَمُوا من هؤلاء, قال: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

الآية : 52
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }.
يقول تعالى ذكره: أو لم يعلم يا محمد هؤلاء الذين كشفنا عنهم ضرهم, فقالوا: إنما أوتيناه على علم منا, أن الشدة والرخاء والسعة والضيق والبلاء بيد الله, دون كلّ من سواه, يبسط الرزق لمن يشاء, فيوسعه عليه, ويقدر ذلك على من يشاء من عباده, فيضيقه, وأن ذلك من حجج الله على عباده, ليعتبروا به ويتذكروا, ويعلموا أن الرغبة إليه والرهبة دون الاَلهة والأنداد. إنّ فِي ذلك لاَياتٍ يقول: إن في بسط الله الرزق لمن يشاء, وتقتيره على من أراد الاَيات, يعني: دلالات وعلامات لِقَوْمٍ يُوءْمِنُونَ يعني: يصدّقون بالحقّ, فيقرّون به إذا تبيّنوه وعلموا حقيقته أن الذي يفعل ذلك هو الله دون كل ما سواه.
الآية : 53
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
{قُلْ يَعِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رّحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ }.
اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الاَية, فقال بعضهم: عني بها قوم من أهل الشرك, قالوا لما دعوا إلى الإيمان بالله: كيف نؤمن وقد أشركنا وزنينا, وقتلنا النفس التي حرّم الله, والله يعد فاعل ذلك النار, فما ينفعنا مع ما قد سلف منا الإيمان, فنزلت هذه الاَية. ذكر من قال ذلك:
23233ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: قُل يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ وذلك أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أنه من عبد الأوثان, ودعا مع الله إلها آخر, وقتل النفس التي حرّم الله لم يغفر له, فكيف نهاجر ونسلم, وقد عبدنا الاَلهة, وقتلنا النفس التي حرّم الله ونحن أهل الشرك؟ فأنزل الله: يا عِبادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ يقول: لا تيأسوا من رحمتي, إن الله يغفر الذنوب جميعا وقال: وأنِيبُوا إلى رَبّكُمْ وأسْلِمُوا لَهُ وإنما يعاتب الله أولي الألباب وإنما الحلال والحرام لأهل الإيمان, فإياهم عاتب, وإياهم أمر إن أسرف أحدهم على نفسه, أن لا يقنط من رحمة الله, وأن ينيب ولا يبطىء بالتوبة من ذلك الإسراف, والذنب الذي عمل وقد ذكر الله في سورة آل عمران المؤمنين حين سألوا الله المغفرة, فقالوا: رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإسْرافَنا فِي أمْرِنا وَثَبّتْ أقْدَامَنا فينبغي أن يعلم أنهم قد كانوا يصيبون الإسراف, فأمرهم بالتوبة من إسرافهم.
23234ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: الّذِينَ أَسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ قال: قتل النفس في الجاهلية.
23235ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: ثني ابن إسحاق, عن بعض أصحابه, عن عطاء بن يسار, قال: نزلت هذه الاَيات الثلاث بالمدينة في وحشيّ وأصحابه يا عِبادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ إلى قوله: مِنْ قَبْلِ أنْ يَأْتِيكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ.
23236ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني أبو صخر, قال: قال زيد بن أسلم, في قوله: يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ قال: إنما هي للمشركين.
23237ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ حتى بلغ الذّنُوبَ جَمِيعا قال: ذكر لنا أن أناسا أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية, فلما جاء الإسلام أشفقوا أن لا يُتاب عليهم, فدعاهم الله بهذه الاَية: يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ.
23238ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ في قوله: يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ قال: هؤلاء المشركون من أهل مكة, قالوا: كيف نجيبك وأنت تزعم أنه من زنى, أو قتل, أو أشرك بالرحمن كان هالكا من أهل النار؟ فكلّ هذه الأعمال قد عملناها فأنزلت فيهم هذه الاَية: يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ.
23239ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ... الاَية قال: كان قوم مسخوطين في أهل الجاهلية, فلما بعث الله نبيه قالوا: لو أتينا محمدا صلى الله عليه وسلم فآمنا به واتبعناه فقال بعضهم لبعض: كيف يقبلكم الله ورسوله في دينه؟ فقالوا: ألا نبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً؟ فلما بعثوا, نزل القرآن: قُل يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ فقرأ حتى بلغ: فأكُونَ مِنَ المُحْسِنِين.
23240ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن الشعبيّ, قال: تجالس شتير بن شكل ومسروق فقال شتير: إما أن تحدث ما سمعت من ابن مسعود فأصدّقك, وإما أن أحدّث فتصدّقني فقال مسروق: لا بل حدّث فأصدّقك, فقال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أكبر آية فرجا في القرآن يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ فقال مسروق: صدقت.
وقال آخرون: بل عُني بذلك أهل الإسلام, وقالوا: تأويل الكلام: إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء, قالوا: وهي كذلك في مصحف عبد الله, وقالوا: إنما نزلت هذه الاَية في قوم صدّهم المشركون عن الهجرة وفتنوهم, فأشفقوا أن لا يكون لهم توبة. ذكر من قال ذلك:
23241ـ حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري, قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأموي, عن ابن إسحاق, عن نافع, عن ابن عمر قال: قال يعني عمر: كنا نقول: ما لمن افتتن من توبة وكانوا يقولون ما الله بقابل منا شيئا, تركنا الإسلام ببلاء أصابنا بعد معرفته, فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم: يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ... الاَية, قال عمر: فكتبتها بيدي, ثم بعثت بها إلى هشام بن العاص, قال هشام: فلما جاءتني جعلت أقرؤها ولا أفهمها, فوقع في نفسي أنها أنزلت فينا لما كنا نقول, فجلست على بعيري, ثم لحقت بالمدينة.
23242ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: ثني محمد بن إسحاق, عن نافع, عن ابن عمر, قال: إنما أنزلت هذه الاَيات في عياش بن أبي ربيعة, والوليد بن الوليد, ونفر من المسلمين, كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذّبوا, فافتنوا كنا نقول: لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلاً أبدا قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عُذّبوه, فنزلت هؤلاء الاَيات, وكان عمر بن الخطاب كاتبا قال: فكتبها بيده ثم بعث بها إلى عَيّاش بن أبي ربيعة, والوليد بن الوليد, إلى أولئك النفر, فأسلموا وهاجروا.
23243ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, قال: حدثنا يونس, عن ابن سيرين, قال: قال علي رضي الله عنه: أي آية في القرآن أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما ونحوها, فقال علي: ما في القرآن آية أوسع من: يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ... إلى آخر الاَية.
23244ـ حدثنا أبو السائب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن أبي سعيد الأزدي, عن أبي الكنود, قال: دخل عبد الله المسجد, فإذا قاصّ يذكر النار والأغلال, قال: فجاء حتى قام على رأسه, فقال يا مذكّرُ أتقنط الناس يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ... الاَية.
23245ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني أبو صخر, عن القرظي أنه قال في هذه الاَية: يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ قال: هي للناس أجمعين.
23246ـ حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة, قال: حدثنا حجاج, قال: حدثنا ابن لهيعة, عن أبي قنبل, قال: سمعت أبا عبد الرحمن المزني يقول: ثني أبو عبيد الرحمن الجلائي, أنه سمع ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أُحِبّ أنّ لي الدّنْيا وَما فِيها بهَذهِ الاَيَةِ»: يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ... الاَية, فقال رجل: يا رسول الله, ومن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم, ثم قال: «أَلا وَمَنْ أشْرَكَ, ألا وَمَنْ أشْرَكَ» ثلاث مَرّات.
وقال آخرون: نزل ذلك في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار, فأعلمهم الله بذلك أنه يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء. ذكر من قال ذلك:
23247ـ حدثني ابن البرقي, قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة, قال: حدثنا أبو معاذ الخراساني, عن مقاتل بن حيان, عن نافع, عن ابن عمر, قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول: إنه ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة, حتى نزلت هذه الاَية أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وَلا تبْطِلوا أعْمالَكُمْ فلما نزلت هذه الاَية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر والفواحش, قال: فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا: قد هلك, حتى نزلت هذه الاَية إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلكَ لِمَنْ يَشاءُ فلما نزلت هذه الاَية كففنا عن القول في ذلك, فكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه, وإن لم يصب منها شيئا رجونا له.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني تعالى ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك, لأن الله عمّ بقوله يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ جميع المسرفين, فلم يخصص به مسرفا دون مسرف.
فإن قال قائل: فيغفر الله الشرك؟ قيل: نعم إذا تاب منه المشرك. وإنما عني بقوله إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذنُوبَ جَمِيعا لمن يشاء, كما قد ذكرنا قبل, أن ابن مسعود كان يقرؤه: وأن الله قد استثنى منه الشرك إذا لم يتب منه صاحبه, فقال: إن الله لا يغفر أن يشرك به, ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء, فأخبر أنه لا يغفر الشرك إلا بعد توبة بقوله: إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صَالِحا فأما ما عداه فإن صاحبه في مشيئة ربه, إن شاء تفضل عليه, فعفا له عنه, وإن شاء عدل عليه فجازاه به.
وأما قوله: لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ فإنه يعني: لا تيأسوا من رحمة الله. كذلك:
23248ـ حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس.
وقد ذكرنا ما في ذلك من الروايات قبل فيما مضى وبيّنا معناه.
وقوله: إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعا يقول: إن الله يستر على الذنوب كلها بعفوه عن أهلها وتركه عقوبتهم عليها إذا تابوا منها إنّهُ هُوَ الغَفُورُ الرّحِيمُ بهم, أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
الآية : 54-55
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
{وَأَنِـيبُوَاْ إِلَىَ رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمّ لاَ تُنصَرُونَ * وَاتّبِعُـوَاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رّبّكُـمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وأقبلوا أيها الناس إلى ربكم بالتوبة, وارجعوا إليه بالطاعة له, واستجيبوا له إلى ما دعاكم إليه من توحيده, وإفراد الألوهة له, وإخلاص العبادة له, كما:
23249ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وأَنِيبُوا إلى رَبّكُمْ: أي أقبلوا إلى ربكم.
23250ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السدّي وأنِيبُوا قال: أجيبوا.
23251ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وأَنِيبُوا إلى رَبّكُمْ قال: الإنابة: الرجوع إلى الطاعة, والنزوع عما كانوا عليه, ألا تراه يقول: مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتّقُوهُ.
وقوله: وأَسْلِمُوا لَهُ يقول: واخضعوا له بالطاعة والإقرار بالدين الحنيفي مِنْ قَبْلِ أنْ يأْتِيَكُمُ العَذابُ من عنده على كفركم به ثُمّ لا تُنْصَرُونَ يقول: ثم لا ينصركم ناصر, فينقذكم من عذابه النازل بكم.
وقوله: وَاتّبِعُوا أحْسَنَ ما أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبّكُمْ يقول تعالى ذكره: واتبعوا أيها الناس ما أمركم به ربكم في تنزيله, واجتنبوا ما نهاكم فيه عنه, وذلك هو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا.
فإن قال قائل: ومن القرآن شيء وهو أحسن من شيء؟ قيل له: القرآن كله حسن, وليس معنى ذلك ما توهمت, وإنما معناه: واتبعوا مما أنزل إليكم ربكم من الأمر والنهي والخبر, والمثل, والقصص, والجدل, والوعد, والوعيد أحسنه أن تأتمروا لأمره, وتنتهوا عما نهى عنه, لأن النهي مما أنزل في الكتاب, فلو عملوا بما نهوا عنه كانوا عاملين بأقبحه, فذلك وجهه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23252ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ واتّبِعُوا أحْسَن ما أنْزِل إلَيْكمْ مِنْ رَبّكُمْ يقول: ما أمرتم به في الكتاب مِنْ قَبْلِ أنْ يَأْتِيَكُمُ العَذابُ.
وقوله: مِنْ قَبْلِ أنْ يَأْتِيَكُمُ العَذابُ بَغْتَةً يقول: من قبل أن يأتيكم عذاب الله فجأة وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ يقول: وأنتم لا تعلمون به حتى يغشاكم فجأة.
الآية : 56
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَحَسْرَتَا عَلَىَ مَا فَرّطَتُ فِي جَنبِ اللّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ }.
يقول تعالى ذكره: وأنيبوا إلى ربكم, وأسلموا له أنْ تَقُولَ نَفْسٌ بمعنى لئلا تقول نفس: يا حَسْرَتا على ما فَرّطْتُ في جَنْبِ اللّهِ, وهو نظير قوله: وألْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسي أنْ تَمِيدَ بِكُمْ بمعنى: أن لا تميد بكم, فأن, إذ كان ذلك معناه, في موضع نصب.
وقولهّ: يا حَسْرَتا يعني أن تقول: يا ندما, كما:
23253ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: ثني أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي, في قوله: يا حَسْرَتا قال: الندامة.
والألف في قوله يا حَسْرَتا هي كناية المتكلم, وإنما أريد: يا حسرتي ولكن العرب تحوّل الياء في كناية اسم المتكلم في الاستغاثة ألفا, فتقول: يا ويلتا, ويا ندما, فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء, وربما قيل: يا حسرة على العباد, كما قيل: يا لهف, ويا لهفا عليه وذكر الفراء أن أبا ثَرْوانَ أنشده:
تَزُورُونَها وَلا أزُورُ نِساءَكُمْأَلَهْفِ لأَوْلادِ الإماء الحَوَاطِبِ
خفضا كما يخفض في النداء إذا أضافه المتكلم إلى نفسه, وربما أدخلوا الهاء بعد هذه الألف, فيخفضونها أحيانا, ويرفعونها أحيانا وذكر الفراء أن بعض بني أسد أنشد:
يا رَبّ يا رَبّاهِ إيّاكَ أَسَلْعَفْرَاءَ يا رَبّاهُ مِنْ قَبْلِ الأجَلْ
خفضا, قال: والخفض أكثر في كلامهم, إلا في قولهم: يا هَناه, ويا هَنْتاه, فإن الرفع فيها أكثر من الخفض, لأنه كثير في الكلام, حتى صار كأنه حرف واحد.
وقوله: على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ يقول: على ما ضيعت من العمل بما أمرني الله به, وقصرت في الدنيا في طاعة الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23254ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزّة, عن مجاهد, في قوله: يا حَسْرَتَا على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ يقول: في أمر الله.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ قال: في أمر الله.
23255ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ قال: تركت من أمر الله.
وقوله: وَإنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ يقول: وإن كنت لمن المستهزئين بأمر الله وكتابه ورسوله والمؤمنين به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23256ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: أنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتا على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ وَإنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ قال: فلم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل يسخر بأهل طاعة الله, قال: هذا قول صنف منهم.
23257ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَإنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ يقول: من المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالكتاب, وبما جاء به