تفسير الطبري تفسير الصفحة 516 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 516
517
515
 الآية : 6
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوَاْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىَ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ عن قوم فَتَبَيّنُوا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: فَتَبَيّنُوا فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة «فَتَثَبّتُوا» بالثاء, وذُكر أنها في مصحف عبد الله منقوطة بالثاء. وقرأ ذلك بعض القرّاء فتبيّنوا بالباء, بمعنى: أمهلوا حتى تعرفوا صحته, لا تعجلوا بقبوله, وكذلك معنى «فَتَثَبّتُوا».
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وذُكر أن هذه الاَية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط. ذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك:
24528ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا جعفر بن عون, عن موسى بن عبيدة, عن ثابت موْلى أمّ سلمة, عن أمّ سلمة, قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً في صدقات بني المصطلق بعد الوقعة, فسمع بذلك القوم, فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فحدّثه الشيطان أنهم يريدون قتله, قالت: فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم, فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قال: فبلغ القوم رجوعه قال: فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصفوا له حين صلى الظهر فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله بعثت إلينا رجلاً مصدّقا, فسررنا بذلك, وقرّت به أعيننا, ثم إنه رجع من بعض الطريق, فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ومن رسوله, فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال, وأذّن بصلاة العصر قال: ونزلت يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا على ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ.
24529ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ... الاَية, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط, ثم أحد بني عمرو بن أمية, ثم أحد بني أبي معيط إلى بني المصطلق, ليأخذ منهم الصدقات, وإنه لما أتّاهم الخبر فرحوا, وخرجوا لِيَتَلقّوْا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنه لما حدّث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه, رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة, فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا, فبينما هو يحدّث نفسه أن يغزوهم, إذ أتاه الوفد, فقالوا: يا رسول الله, إنا حدّثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق, وإنا خشينا أن يكون إنما ردّه كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا, وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله, فأنزل الله عذرهم في الكتاب, فقال يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبإٍ فَتَبَيّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا على ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ.
24530ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ قال: الوليد بن عقبة بن أبي معيط, بعثه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق, ليصدّقهم, فتلقوه بالهدية فرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم, فقال: إن بني المصطلق جمعت لتقاتلك.
24531ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ... حتى بلغ بِجَهالَةٍ وهو ابن أبي معيط الوليد بن عقبة, بعثه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم مصدّقا إلى بني المصطلق, فلما أبصروه أقبلوا نحوه, فهابهم, فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأخبره أنهم قد ارتدّوا عن الإسلام, فبعث نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد, وأمره أن يتثبّت ولا يعجل, فانطلق حتى أتاهم ليلاً, فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالدا أنهم مستمسكون بالإسلام, وسمعوا أذانهم وصلاتهم, فلما أصبحوا أتاهم خالد, فرأى الذي يعجبه, فرجع إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم, فأخبره الخبر, فأنزل الله عزّ وجلّ ما تسمعون, فكان نبيّ الله يقول: «التّبَيّنُ مِنَ اللّهِ, والعَجَلَةُ مِنَ الشّيْطانِ».
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فذكر نحوه.
24532ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن هلال الوزّان, عن ابن أبي ليلى, في قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيّنُوا قال: نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن حُمَيد, عن هلال الأنصاري, عن عبد الرحمن ابن أبي لَيلى إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ قال: نزلت في الوليد بن عقبة حين أُرسل إلى بني المصطلق.
24533ـ قال: ثنا سلمة, قال: حدثنا محمد بن إسحاق, عن يزيد بن رومان, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم, الوليد بن أبي معيط فلما سمعوا به ركبوا إليه فلما سمع بهم خافهم فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأخبره أن القوم قد همّوا بقتله, ومنعوا ما قِبَلهم من صدقاتهم, فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتى همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يغزوهم, فبينما هم في ذلك قَدِم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا, فخرجنا إليه لنكرمه, ولنؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة, فاستمرّ راجعا, فبلغنا أنه يزعم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خرجنا إليه لنقاتله, ووالله ما خرجنا لذلك فأنزل الله في الوليد بن عقبة وفيهم: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ... الاَية.
24534ـ قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه إلى قوم يصدقهم, فأتاهم الرجل, وكان بينه وبينهم إحنة في الجاهلية فلما أتاهم رحبوا به, وأقرّوا بالزكاة, وأعطوا ما عليهم من الحقّ, فرجع الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, منع بنو فلان الصدقة, ورَجعوا عن الإسلام, فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبعث إليهم فأتوْه فقال: «أمَنَعْتُمُ الزّكاةَ, وَطَرَدْتمْ رَسُولي؟» فقالوا: والله ما فعلنا, وإنا لنعلم أنك رسول الله, ولا بدّ لنا, ولا منعنا حقّ الله في أموالنا, فلم يصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله هذه الاَية, فعذرهم.
وقوله: أنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهالَةٍ يقول تعالى ذكره: فتبيّنوا لئلا تصيبوا قوما برآء مما قُذفوا به بجناية بجهالة منكم فَتُصْبِحُوا على ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ يقول: فتندموا على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها.
الآية : 7-8
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَآعْلَمُوَاْ أَنّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مّنَ الأمْرِ لَعَنِتّمْ وَلَـَكِنّ اللّهَ حَبّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ * فَضْلاً مّنَ اللّهِ وَنِعْمَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: لأصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: واعلموا أيها المؤمنون بالله ورسوله, أنّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ فاتقوا الله أن تقولوا الباطل, وتفتروا الكذب, فإن الله يخبره أخباركم, ويعرّفه أنباءكم, ويقوّمه على الصواب في أموره.
وقوله: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتّمْ يقول تعالى ذكره: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في الأمور بآرائكم ويقبل منكم ما تقولون له فيطيعكم لَعَنِتّمْ يقول: لنالكم عنت, يعني الشدّة والمشقة في كثير من الأمور بطاعته إياكم لو أطاعكم لأنه كان يخطىء في أفعاله كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق: إنهم قد ارتدّوا, ومنعوا الصدقة, وجمعوا الجموع لغزو المسلمين, فغزاهم فقتل منهم, وأصاب من دمائهم وأموالهم كان قد قتل, وقتلتم من لا يحلّ له ولا لكم قتله, وأخذ وأخذتم من المال ما لا يحلّ له ولكم أخذه من أموال قوم مسلمين, فنالكم من الله بذلك عنت وَلَكِنّ اللّهَ حَبّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ بالله ورسوله, فأنتم تطيعون رسول الله, وتأتمون به فيقيكم الله بذلك من العنت ما لو لم تطيعوه وتتبعوه, وكان يطيعكم لنالكم وأصابكم.
وقوله: وَزَيّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ يقول: وحسن الإيمان في قلوبكم فآمنتم وكَرّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ بالله وَالفُسُوقَ يعني الكذب, والعِصْيانَ يعني ركوب ما نهى الله عنه في خلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتضييع ما أمر الله به أُولَئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ يقول: هؤلاء الذين حبّب الله إليهم الإيمان, وزيّنه في قلوبهم, وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون السالكون طريق الحقّ.
وقوله: فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَنِعْمَةً يقول: ولكن الله حبّب إليكم الإيمان, وأنعم عليكم هذه النعمة التي عدّها فضلاً منه, وإحسانا ونعمة منه أنعمها عليكم وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يقول: والله ذو علم بالمحسن منكم من المسيء, ومن هو لنعم الله وفضله أهل, ومن هو لذلك غير أهل, وحكمةٍ في تدبيره خلقه, وصرفه إياهم فيما شاء من قضائه. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: وَاعْلَمُوا أنّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُم فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتّمْ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24535ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَاعْلَمُوا أنّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ... حتى بلغ لَعَنِتّمْ هؤلاء أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم, لو أطاعهم نبيّ الله في كثير من الأمر لعنتم, فأنتم والله أسخف رأيا, وأطيش عقولاً, اتهم رجل رأيه, وانتصح كتاب الله, فإن كتاب الله ثقة لمن أخذ به, وانتهى إليه, وإن ما سوى كتاب الله تغرير.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, قال: قال معمر, تلا قتادة لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتّمْ قال: فأنتم أسخف رأيا وأطيش أحلاما,, فاتهم رجل رأيه, وانتصح كتاب الله وكذلك كما قلنا أيضا في تأويل قوله: وَلَكِنّ الله حَبّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ قالوا. ذكر من قال ذلك:
24536ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: حَبّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ قال: حببه إليهم وحسّنه في قلوبهم. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله وكَرّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ والفُسُوقَ وَالعِصْيانَ أولَئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَنِعْمَةً قالوا أيضا. ذكر من قال ذلك:
24537ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وكَرّهَ الَيْكُمُ الكُفْرَ والفُسُوقَ قال: الكذب والعصيان قال: عصيان النبيّ صلى الله عليه وسلم أُولَئِكَ هُم الرّاشدونَ من أين كان هذا؟ قال: فضل من الله ونعمة قال: والمنافقون سماهم الله أجمعين في القرآن الكاذبين قال: والفاسق: الكاذب في كتاب الله كله.
الآية : 9
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىَ الاُخْرَىَ فَقَاتِلُواْ الّتِي تَبْغِي حَتّىَ تَفِيَءَ إِلَىَ أَمْرِ اللّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوَاْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ }.
يقول تعالى ذكره: وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا, فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله, والرضا بما فيه لهما وعليهما, وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل فإنْ بَغَتْ إحْدَاهُما عَلى الأُخْرَى يقول: فإن أبَت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله له, وعليه وتعدّت ما جعل الله عدلاً بين خلقه, وأجابت الأخرى منهما فَقاتِلُوا الّتِي تَبْغِي يقول: فقاتلوا التي تعتدي, وتأبى الإجابة إلى حكم الله حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّهِ يقول: حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه فإنْ فاءَتْ فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالعَدْلِ يقول: فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياهم إلى الرضا بحكم الله في كتابه, فأصلحوا بينها وبين الطائفة الأخرى التي قاتلتها بالعدل: يعني بالإنصاف بينهما, وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلاً بين خلقه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24538ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأصْلِحُوا بَيْنَهُما فإنْ بَغَت إحْدَاهُما على الأُخُرَى فَقاتِلُوا الّتِي تَبْغِي حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّهِ فإن الله سبحانه أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله, وينصف بعضهم من بعض, فإن أجابوا حكم فيهم بكتاب الله, حتى ينصف المظلوم من الظالم, فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغٍ, فحقّ على إمام المؤمنين أن يجاهدهم ويقاتلهم, حتى يفيئوا إلى أمر الله, ويقرّوا بحكم الله.
24539ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا... إلى آخر الاَية, قال: هذا أمر من الله أمر به الوُلاة كهيئة ما تكون العصبة بين الناس, وأمرهم أن يصلحوا بينهما, فإن أبوْا قاتل الفئة الباغية, حتى ترجع إلى أمر الله, فإذا رجعت أصلحوا بينهما, وأخبروهم أن المؤمنين إخوة, فأصلحوا بين أخويكم قال: ولا يقاتل الفئة الباغية إلا الإمام.
وذُكر أن هذه الاَية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه, مما سأذكره إن شاء الله تعالى. ذكر الرواية بذلك:
24540ـ حدثني محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا معتمر بن سليمان, عن أبيه, عن أنس, قال: قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أُبيّ, قال: فانطلق إليه وركب حمارا, وانطلق المسلمون, وهي أرض سبخة فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني, فوالله لقد آذاني نتن حمارك, فقال رجل من الأنصار: والله لنتن حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك, قال: فغضب لعبد الله بن أُبيّ رجل من قومه قال: فغضب لكل واحد منهما أصحابه, قال: فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال, فبلغنا أنه نزلت فيهم وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما.
24541ـ حدثني أبو حُصَين عبد الله بن أحمد بن يونس, قال: حدثنا عبثر, قال: ثني حصين, عن أبي مالك في قوله: وَإنْ طائِفَتانِ مِنْ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا قال: رجلان اقتتلا فغضب لذا قومه, ولذا قومه, فاجتمعوا حتى اضّربوا بالنعال حتى كاد يكون بينهم قتال, فأنزل الله هذه الاَية.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا هشيم, عن حصين, عن أبي مالك, في قوله: وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا قال: كان بينهم قتال بغير سلاح.
24542ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا حصين, عن أبي مالك, في قوله: وَإن طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما قال: كانا حيين من أحياء الأنصار, كان بينهما تنازع بغير سلاح.
24543ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: أخبرنا جرير, عن منصور, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس, في قوله: وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما قال: كان قتالهم بالنعال والعصيّ, فأمرهم أن يصلحوا بينهم.
24544ـ قال: ثنا مهران, قال: حدثنا المُبارك بن فَضَالة, عن الحسن وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِين اقْتَتَلُوا قال: كانت تكون الخصومة بين الحيين, فيدعوهم إلى الحكم, فيأَبْون أن يجيبوا فأنزل الله: وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِين اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فإنْ بَغَتْ إحْدَاهُما على الأُخْرَى فَقاتِلُوا الّتي تَبْغِي حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّهِ يقول: ادفعوهم إلى الحكم, فكان قتالهم الدفع.
24545ـ قال: ثنا مهران, قال: حدثنا سفيان, عن السديّ وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحوا بَيْنَهُما قال: كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد, تحت رجل, فكان بينها وبين زوجها شيء, فرقاها إلى علية, فقال لهم: احفظوا, فبلغ ذلك قومها, فجاؤوا وجاء قومه, فاقتتلوا بالأيدي والنعال فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم, فجاء ليصلح بينهم, فنزل القرآن وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فإنْ بَغَتْ إحْداهُما على الأُخْرَى قال: تبغي: لا ترضى بصلح رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
24546ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا قال: الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصيّ بينهم.
24547ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا... الاَية, الاَية, ذُكر لنا أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مدارأة في حقّ بينهما, فقال أحدهما للاَخر: لاَخذنه عنوة لكثرة عشيرته, وأن الاَخر دعاه ليحاكمه إلى نبيّ صلى الله عليه وسلم, فأبى أن يتبعه, فلم يزل الأمر حتى تدافعوا, وحتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال, ولم يكن قتال بالسيوف, فأمر الله أن تُقاتل حتى تفيء إلى أمر الله, كتاب الله, وإلى حكم نبيه صلى الله عليه وسلم وليست كما تأوّلها أهل الشبهات, وأهل البدع, وأهل الفراء على الله وعلى كتابه, أنه المؤمن يحلّ لك قتله, فوالله لقد عظّم الله حُرمة المؤمن حتى نهاك أن تظنّ بأخيك إلا خيرا, فقال: إنّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ... الاَية.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الحسن, أن قوما من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالنعال والأيدي, فأنزل الله فيهم وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا قال قتادة: كان رجلان بينهما حقّ, فتدارآ فيه, فقال أحدهما: لاَخذنّه عنوة, لكثرة عشيرته وقال الاَخر: بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالنعال والأيدي.
24548ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, قال: ثني عبد الله بن عباس, قال: قال زيد, في قول الله تعالى: وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما, وذلك الرجلان يقتتلان من أهل الإسلام, أو النفر والنفر, أو القبيل والقبيلة فأمر الله أئمة المسلمين أن يقضوا بينهم بالحقّ الذي أنزله في كتابه: إما القصاص والقود, وإمّا العقل والعير, وإمّا العفو, فإنْ بَغَتْ إحْدَاهُما على الأُخْرَى بعد ذلك كان المسلمون مع المظلوم على الظالم, حتى يفيء إلى أمر الله, ويرضى به.
24549ـ حدثنا ابن البرقي, قال: حدثنا ابن أبي مريم, قال: أخبرنا نافع بن يزيد, قال: أخبرنا ابن جُرَيج, قال: ثني ابن شهاب وغيره: يزيد في الحديث بعضهم على بعض, قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فيه عبد الله بن رواحة, وعبد الله بن أُبيّ ابن سلول: فلما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن أبيّ ابن سلول: لقد آذانا بول حماره, وسدّ علينا الروح, وكان بينه وبين ابن رواحة شيء حتى خرجوا بالسلاح, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأتاهم, فحجز بينهم, فلذلك يقول عبد الله بن أُبيّ:
مَتى ما يَكُنْ مَوْلاكَ خَصْمَكَ جاهداتُظَلّمْ وَيَصْرَعْكَ الّذِينَ تُصَارِعُ
قال: فأنزلت فيهم هذه الاَية وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا.
وقوله: وأَقْسِطُوا يقول تعالى ذكره: واعدلوا أيها المؤمنون في حكمكم بين من حكمتم بينهم بأن لا تتجاوزوا في أحكامكم حكم الله وحكم رسوله إنّ اللّهَ يُحِبّ المُقْسِطِينَ يقول: إن الله يحبّ العادلين في أحكامهم, القاضين بين خلقه بالقسط.
الآية : 10
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ }.
يقول تعالى ذكره لأهل الإيمان به إنّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ في الدين فأَصْلِحُوا بَينَ أخَوَيْكُمْ إذا اقتتلا بأن تحملوهما على حكم الله وحكم رسوله. ومعنى الأخوين في هذا الموضع: كل مقتتلين من أهل الإيمان, وبالتثنية قرأ ذلك قرّاء الأمصار. وذُكر عن ابن سيرين أنه قرأ «بين إخوانكم» بالنون على مذهب الجمع, وذلك من جهة العربية صحيح, غير أنه خلاف لما عليه قرّاء الأمصار, فلا أحبّ القراءة بها وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ يقول تعالى ذكره: وخافوا الله أيها الناس بأداء فرائضه عليكم في الإصلاح بين المقتتلين من أهل الإيمان بالعدل, وفي غير ذلك من فرائضه, واجتناب معاصيه, ليرحمكم ربكم, فيصفح لكم عن سالف إجرامكم إذا أنتم أطعتموه, واتبعتم أمره ونهيه, واتقيتموه بطاعته.
الآية : 11
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَىَ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مّن نّسَآءٍ عَسَىَ أَن يَكُنّ خَيْراً مّنْهُنّ وَلاَ تَلْمِزُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ وَمَن لّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله, لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْرا مِنْهُمْ يقول: المهزوء منهم خير من الهازئين وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ يقول: ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء مؤمنات, عسى المهزوء منهنّ أن يكنْ خيرا من الهازئات.
واختلف أهل التأويل في السخرية التي نهى الله عنها المؤمنين في هذه الاَية, فقال بعضهم: هي سخرية الغنيّ من الفقير, نُهِي أن يُسخر من الفقير لفقره. ذكر من قال ذلك:
24550ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ قال: لا يهزأ قوم بقوم أن يسأل رجل فقير غنيا, أو فقيرا, وإن تفضل رجل عليه بشيء فلا يستهزىء به.
وقال آخرون: بل ذلك نهي من الله من ستر عليه من أهل الإيمان أن يسخر ممن كشف في الدنيا ستره منهم ذكر من قال ذلك:
24551ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْرا مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسَى أنْ يَكُنّ خَيْرا مِنْهُنّ قال: ربما عثر على المرء عند خطيئته عسى أن يكونوا خيرا منهم, وإن كان ظهر على عثرته هذه, وسترت أنت على عثرتك, لعلّ هذه التي ظهرت خير له في الاَخرة عند الله, وهذه التي سترت أنت عليها شرّ لك, ما يدريك لعله ما يغفر لك قال: فنُهي الرجل عن ذلك, فقال: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْرا مِنْهُمْ وقال في النساء مثل ذلك.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله عمّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية, فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره, ولا لذنب ركبه, ولا لغير ذلك.
وقوله: وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ يقول تعالى ذكره: ولا يغتب بعضكم بعضا أيها المؤمنون, ولا يطعن بعضكم على بعض وقال: لا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ فجعل اللامز أخاه لامزا نفسه, لأن المؤمنين كرجل واحد فيما يلزم بعضهم لبعض من تحسين أمره, وطلب صلاحه, ومحبته الخير. ولذلك رُوي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المُؤْمِنُونَ كالجَسَدِ الوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سائِرُ جَسَدِهِ بالحُمّى والسّهَر». وهذا نظير قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالِكُمْ بَيْنَكُمُ بالباطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ بمعنى: ولا يقتل بعضكم بعضا. وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24552ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ قال: لا تطعنوا.
24553ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ يقول: ولا يطعن بعضكم على بعض.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, مثله.
24554ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَلا تَلْمزُوا أنْفُسَكُمْ يقول: لا يطعن بعضكم على بعض.
قوله: وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب يقول: ولا تداعوا بالألقاب والنبز واللقب بمعنى واحد, يُجمع النبز: أنبازا, واللقب: ألقابا.
واختلف أهل التأويل في الألقاب التي نهى الله عن التنابز بها في هذه الاَية, فقال بعضهم: عنى بها الألقاب التي يكره النبز بها الملقّب, وقالوا: إنما نزلت هذه الاَية في قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية, فلما أسلموا نهوا أن يدعو بعضهم بعضا بما يكره من أسمائه التي كان يدعى بها في الجاهلية. ذكر من قال ذلك:
24555ـ حدثنا حميد بن مسعدة, قال: حدثنا بشر بن المفضل, قال: حدثنا داود, عن عامر, قال: قال أبو جبيرة بن الضحاك: فينا نزلت هذه الاَية في بني سلمة, قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة, فكان إذا دعا الرجل بالاسم, قلنا: يا رسول الله إنه يغضب من هذا, فنزلت هذه الاَية وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب... الاَية كلها.
حدثني محمد بن المثنى, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا داود, عن عامر, عن أبي جُبَيرة بن الضحاك, قال: كان أهل الجاهلية يسمون الرجل بالأسماء, فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً باسم من تلك الأسماء, فقالوا: يا رسول الله إنه يغضب من هذا, فأنزل الله وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ.
حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا داود, عن عامر, قال: ثني أبو جُبَيرة بن الضحاك, فذكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, نحوه.
حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن عُليَة, قال: أخبرنا داود عن الشعبيّ, قال: ثني أبو جبيرة بن الضحاك, قال: نزلت في بني سلمة وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال: قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة, فكان يدعو الرجل, فتقول أمه: إنه يغضب من هذا, قال: فنزلت وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ. وقال مرّة: كان إذا دعا باسم من هذا, قيل: يا رسول الله إنه يغضب من هذا, فنزلت الاَية.
وقال آخرون: بل ذلك قول الرجل المسلم للرجل المسلم: يا فاسق, يا زاني. ذكر من قال ذلك:
24556ـ حدثنا هناد بن السريّ, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن حصين, قال: سألت عكرِمة, عن قول الله وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال: هو قول الرجل للرجل: يا منافق, يا كافر.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا حصين, عن عكرِمة, في قوله وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال: هو قول الرجل للرجل: يا فاسق, يا منافق.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن حصين, عن عكرِمة وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال: يا فاسق, يا كافر.
24557ـ قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن خصيف, عن مجاهد أو عكرِمة وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال: يقول الرجل للرجل: يا فاسق, يا كافر.
24558ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال: دُعي رجل بالكفر وهو مسلم.
24559ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ يقول للرجل: لا تقل لأخيك المسلم: ذاك فاسق, ذاك منافق, نهى الله المسلم عن ذلك وقدّم فيه.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب يقول: لا يقولنّ لأخيه المسلم: يا فاسق, يا منافق.
24560ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلا تَنابَزُوا بالألقابِ قال: تسميته بالأعمال السيئة بعد الإسلام زان فاسق.
وقال آخرون: بل ذلك تسمية الرجل الرجل بالكفر بعد الإسلام, وبالفسوق والأعمال القبيحة بعد التوبة ذكر من قال ذلك:
24561ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ... الاَية, قال: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها, وراجع الحقّ, فنهى الله أن يُعيّر بما سلف من عمله.
24562ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, قال: قال الحسن: كان اليهودي والنصرانيّ يسلم, فيلقب, فيقال له: يا يهوديّ, يا نصراني, فنهوا عن ذلك.
والذي هو أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب والتنابز بالألقاب: هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة, وعمّ الله بنهيه ذلك, ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض, فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه, أو صفة يكرهها. وإذا كان ذلك كذلك صحّت الأقوال التي قالها أهل التأويل في ذلك التي ذكرناها كلها, ولم يكن بعض ذلك أولى بالصواب من بعض, لأن كلّ ذلك مما نهى الله المسلمين أن ينبز بعضهم بعضا.
وقوله: بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ يقول تعالى ذكره: ومن فعل ما نهينا عنه, وتقدّم على معصيتنا بعد إيمانه, فسخر من المؤمنين, ولمز أخاه المؤمن, ونبزه بالألقاب, فهو فاسق بِئْسَ الاِسْمْ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ يقول: فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه أن تسموا فساقا, بئس الاسم الفسوق, وترك ذكر ما وصفنا من الكلام, اكتفاء بدلالة قوله: بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ عليه.
وكان ابن زيديقول في ذلك ما:
24563ـ حدثنا به يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, وقرأ بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ قال: بئس الاسم الفسوق حين تسميه بالفسق بعد الإسلام, وهو على الإسلام. قال: وأهل هذا الرأي هم المعتزلة, قالوا: لا نكفره كما كفره أهل الأهواء, ولا نقول له مؤمن, كما قالت الجماعة, ولكنا نسميه باسمه إن كان سارقا فهو سارق, وإن كان خائنا سموه خائنا وإن كان زانيا سموه زانيا قال: فاعتزلوا الفريقين أهل الأهواء وأهل الجماعة, فلا بقول هؤلاء قالوا, ولا بقول هؤلاء, فسموا بذلك المعتزلة.
فوجه ابن زيد تأويل قوله: بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ إلى من دَعي فاسقا, وهو تائب من فسقه, فبئس الاسم ذلك له من أسمائه.. وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام, وذلك أن الله تقدّم بالنهي عما تقدّم بالنهي عنه في أوّل هذه الاَية, فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدّم على بغيه, أو بقبيح ركوبه ما ركب مما نهى عنه, لا أن يخبر عن قُبح ما كان التائب أتاه قبل توبته, إذ كانت الاَية لم تفتتح بالخبر عن ركوبه ما كان ركب قبل التوبة من القبيح, فيختم آخرها بالوعيد عليه أو بالقبيح.
وقوله: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ يقول تعالى ذكره: ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه به من الألقاب, أو لمزه إياه, أو سخرتيه منه, فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم, فأكسبوها عقاب الله بركوبهم ما نهاهم عنه.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما:
24564ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ قال: ومن لم يتب من ذلك الفسوق فأولئك هم الظالمون