تفسير الطبري تفسير الصفحة 68 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 68
069
067
 الآية : 141
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {وَلِـيُـمَـحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُو}: ولـيختبر الله الذين صدقوا الله ورسوله فـيبتلـيهم بإدالة الـمشركين منهم حتـى يتبـين الـمؤمن منهم الـمخـلص الصحيح الإيـمان من الـمنافق. كما:
6408ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله, فـي قوله: {وَلِـيُـمَـحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُو} قال: لـيبتلـي.
حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
6409ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن فـي قوله: {وَلِـيُـمَـحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُو} قال: لـيـمـحص الله الـمؤمن حتـى يصدق.
6410ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {وَلِـيُـمَـحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُو} يقول: يبتلـي الـمؤمنـين.
6411ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: {وَلِـيُـمَـحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُو} قال: يبتلـيهم.
6412ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَلِـيُـمَـحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ويَـمْـحَقَ الكافِرينَ} فكان تـمـحيصا للـمؤمنـين, ومـحقا للكافرين.
6413ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَلِـيُـمَـحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُو}: أي يختبر الذين آمنوا حتـى يخـلصهم بـالبلاء الذي نزل بهم, وكيف صبرهم ويقـينهم.
6414ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَلِـيُـمَـحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ويَـمْـحَقَ الكافِرينَ} قال: يـمـحق من مُـحق فـي الدنـيا, وكان بقـية من يـمـحق فـي الاَخرة فـي النار.
وأما قوله: {ويَـمْـحَقَ الكافِرينَ} فإنه يعنـي به: أنه ينقصهم ويفنـيهم, يقال منه: مـحق فلان هذا الطعام: إذا نقصه أو أفناه, يـمـحقه مـحقا, ومنه قـيـل لـمـحاق القمر: مُـحاق, وذلك نقصانه وفناؤه. كما:
6415ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: {ويَـمْـحَقَ الكافِرينَ} قال: ينقصهم.
6416ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن فـي قوله: {ويَـمْـحَقَ الكافِرينَ} قال: يـمـحق الكافر حتـى يكذبه.
6417ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {ويَـمْـحَقَ الكافِرينَ} أي يبطل من الـمنافقـين قولهم بألسنتهم ما لـيس فـي قلوبهم, حتـى يظهر منهم كفرهم الذي يستترون به منكم.
الآية : 142
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أم حسبتـم يا معشر أصحاب مـحمد, وظننتـم أن تدخـلوا الـجنة, وتنالوا كرامة ربكم, وشرف الـمنازل عنده¹ {وَلـمّا يَعلَـمِ اللّهُ الّذِينَ جاهَدُوا مِنَكُمْ} يقول: ولـما يتبـين لعبـادي الـمؤمنـين, الـمـجاهد منكم فـي سبـيـل الله, علـى ما أمره به. وقد بـينت معنى قوله: {وَلـمّا يَعلَـمِ اللّهُ}: ولـيعلـم الله, وما أشبه ذلك بأدلته فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته وقوله: {وَيَعْلَـمَ الصّابِرِينَ} يعنـي: الصابرين عند البأس علـى ما ينالهم فـي ذات الله من جرح وألـم ومكروه. كما:
6418ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {أمْ حَسِبْتُـمْ أنْ تَدْخُـلُوا الـجَنّةَ} وتصيبوا من ثوابـي الكرامة, ولـم أختبركم بـالشدّة, وأبتلـيكم بـالـمكاره, حتـى أعلـم صدق ذلك منكم الإيـمان بـي, والصبر علـى ما أصابكم فـيّ.
ونصب {وَيَعْلَـمَ الصّابِرِينَ} علـى الصرف, والصرف أن يجتـمع فعلان ببعض حروف النسق, وفـي أوله ما لا يحسن إعادته مع حرف النسق, فـينصب الذي بعد حرف العطف علـى الصرف, لأنه مصروف عن معنى الأوّل, ولكن يكون مع جحد أو استفهام أو نهي فـي أول الكلام, وذلك كقولهم: لا يسعنـي شيء ويضيق عنك, لأن «لا» التـي مع «يسعنـي» لا يحسن إعادتها مع قوله: «ويضيق عنك», فلذلك نصب. والقراء فـي هذا الـحرف علـى النصب¹ وقد روى عن الـحسن أنه كان يقرأ: «وَيَعْلَـمِ الصّابِرِينَ» فـيكسر الـميـم من «يعلـم», لأنه كان ينوي جزمها علـى العطف به علـى قوله: {وَلـمّا يَعْلَـمِ اللّهُ}.
الآية : 143
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ}: ولقد كنتـم يا معشر أصحاب مـحمد تـمنون الـموت يعنـي أسبـاب الـموت وذلك القتال¹ {فقدْ رَأيتـموه} فقد رأيتـم ما كنتـم تـمنونه. والهاء فـي قوله «رأيتـموه», عائدة علـى الـموت, ومعنى: {وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ} يعنـي: قد رأيتـموه بـمرأى منكم ومنظر: أي بقرب منكم. وكان بعض أهل العربـية يزعم أنه قـيـل: {وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ} علـى وجه التوكيد للكلام, كما يقال: رأيته عيانا, ورأيته بعينـي, وسمعته بأذنـي¹ وإنـما قـيـل: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ} لأن قوما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مـمن لـم يشهد بدرا, كانوا يتـمنون قبل أُحد يوما مثل يوم بدر, فـيِبلوا الله من أنفسهم خيرا, وينالوا من الأجر مثل ما نال أهل بدر¹ فلـما كان يوم أُحد فرّ بعضهم وصبر بعضهم, حتـى أوفـى بـما كان عاهد الله قبل ذلك, فعاتب الله من فرّ منهم, فقال: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ}... الاَية, وأثنى علـى الصابرين منهم والـموفـين بعهدهم. ذكر الأخبـار بـما ذكرنا من ذلك:
6419ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فقدْ رَأيْتُـمُوهُ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ} قال: غاب رجال عن بدر, فكانوا يتـمنون مثل يوم بدر أن يـلقوه, فـيصيبوا من الـخير والأجر مثل ما أصاب أهل بدر. فلـما كان يوم أُحد ولـى من ولـى, فعاتبهم الله ـ أو فعابهم, أو فعتبهم ـ علـى ذلك, شك أبو عاصم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد نـحوه, إلا أنه قال: فعاتبهم الله علـى ذلك, ولـم يشكّ.
6420ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فقدْ رَأيْتُـمُوهُ وأنُتـمْ تَنْظُرُونَ}: أناس من الـمؤمنـين لـم يشهدوا يوم بدر والذي أعطى الله أهل بدر من الفضل والشرف والأجر, فكانوا يتـمنون أن يرزقوا قتالاً فـيقاتلوا, فسيق إلـيهم القتال حتـى كان فـي ناحية الـمدينة يوم أُحد, فقال الله عزّ وجلّ كما تسمعون: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ} حتـى بلغ: {الشّاكِرِينَ}.
6421ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قوله: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ} قال: كانوا يتـمنون أن يـلقوا الـمشركين فـيقاتلوهم, فلـما لقوهم يوم أُحد ولّوا.
6422ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: إن أناسا من الـمؤمنـين لـم يشهدوا يوم بدر والذي أعطاهم الله من الفضل, فكانوا يتـمنون أن يروا قتالاً فـيقاتلوا, فسيق إلـيهم القتال, حتـى كان بناحية الـمدينة يوم أُحد, فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ}... الاَية.
6423ـ حدثنـي مـحمد بن بشار, قال: حدثنا هوذة, قال: حدثنا عوف, عن الـحسن, قال: بلغنـي أن رجالاً من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: لئن لقـينا مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم لنفعلنّ ولنفعلنّ! فـابتلوا بذلك, فلا والله ما كلهم صدق, فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فقدْ رَأيْتُـمُوهُ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ}.
6424ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: كان ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم لـم يشهدوا بدرا, فلـما رأوا فضيـلة أهل بدر, قالوا: اللهمّ إنا نسألك أن ترينا يوما كيوم بدر, نبلـيك فـيه خيرا! فرأوا أُحدا, فقال لهم: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فَقدْ رأيْتُـمُوهُ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ}.
6425ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رأيتُـمُوهُ وأنتُـمْ تَنْظُرُونَ}: أي لقد كنتـم تـمنون الشهادة علـى الذي أنتـم علـيه من الـحقّ قبل أن تلقوا عدوكم, يعنـي الذين حملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى خروجه بهم إلـى عدوّهم لـما فـاتهم من الـحضور فـي الـيوم الذي كان قبله ببدر, رغبة فـي الشهادة التـي قد فـاتتهم به يقول: {فقدْ رَأيْتُـمُوهُ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ}: أي الـموت بـالسيوف فـي أيدي الرجال, قد حلّ بـينكم وبـينهم, وأنتـم تنظرون إلـيهم, فصددتـم عنهم.
الآية : 144
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ }
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وما مـحمد إلا رسول كبعض رسل الله الذين أرسلهم إلـى خـلقه داعيا إلـى الله وإلـى طاعته, الذين حين انقضت آجالهم ماتوا وقبضهم الله إلـيه يقول. جلّ ثناؤه: فمـحمد صلى الله عليه وسلم إنـما هو فـيـما الله به صانع من قبضه إلـيه عند انقضاء مدة أجله كسائر مدة رسله إلـى خـلقه الذين مضوا قبله وماتوا عند انقضاء مدة آجالهم. ثم قال لأصحاب مـحمد معاتبهم علـى ما كان منهم من الهلع والـجزع حين قـيـل لهم بـأُحد: إن مـحمدا قتل, ومقبحا إلـيهم انصراف من انصرف منهم عن عدوّهم وانهزامه عنهم: {أفِئنْ مَاتَ} مـحمد أيها القوم لانقضاء مدة أجله, أو قتله عدوّكم, {انْقَلَبْتُـمْ علـى أعْقَابِكُمْ} يعنـي ارتددتـم عن دينكم الذي بعث الله مـحمدا بـالدعاء إلـيه, ورجعتـم عنه كفـارا بـالله بعد الإيـمان به, وبعد ما قد وضحت لكم صحة ما دعاكم مـحمد إلـيه, وحقـيقة ما جاءكم به من عند ربه. {وَمَنْ يَنقَلِبْ علـى عَقِبَـيْهِ} يعنـي بذلك: ومن يرتدد منكم عن دينه ويرجع كافرا بعد إيـمانه, {فَلَنْ يَضُرّ الله شَيْئ} يقول: فلن يوهن ذلك عزّة الله ولا سلطانه, ولا يدخـل بذلك نقص فـي ملكه, بل نفسه يضرّ بردته, وحظّ نفسه ينقص بكفره. {وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين} يقول: وسيثـيب الله من شكره علـى توفـيقه وهدايته إياه لدينه بنبوّته علـى ما جاء به مـحمد صلى الله عليه وسلم إن هو مات أو قتل واستقامته علـى منهاجه, وتـمسكه بدينه وملته بعده. كما:
6426ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن هاشم, قال: أخبرنا سيف بن عمر, عن أبـي روق, عن أبـي أيوب, عن علـيّ فـي قوله: {وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين}: الثابتـين علـى دينهم أبـا بكر وأصحابه. فكان علـيّ رضي الله عنه يقول: كان أبو بكر أمين الشاكرين وأمين أحبـاء الله, وكان أشكرهم وأحبهم إلـى الله.
6427ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن العلاء بن بدر, قال: إن أبـا بكر أمين الشاكرين. وتلا هذه الاَية: {وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين}.
6428ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين}: أي من أطاعه وعمل بأمره.
وذكر أن هذه الاَية أنزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيـمن انهزم عنه بـأُحد من أصحابه. ذكر الأخبـار الواردة بذلك:
6429ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ} إلـى قوله: {وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين} ذاكم يوم أُحد حين أصابهم القرح والقتل, ثم تنازعوا نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم بقـية ذلك, فقال أناس: لو كان نبـيا ما قتل. وقال أناس من علـية أصحاب نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم: قاتلوا علـى ما قاتل علـيه مـحمد نبـيكم, حتـى يفتـح الله لكم, أو تلـحقوا به. فقال الله عزّ وجلّ: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أفِئنْ ماتَ أوْ قُتِل انْقَلَبْتُـمْ علـى أعْقابِكُمْ} يقول: إن مات نبـيكم, أو قتل, ارتددتـم كفـارا بعد إيـمانكم.
6430ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بنـحوه, وزاد فـيه: قال الربـيع: وذكر لنا والله أعلـم أن رجلاً من الـمهاجرين مر علـى رجل من الأنصار وهو يتشحط فـي دمه, فقال: يا فلان أشعرت أن مـحمدا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان مـحمد قد قتل, فقد بلّغ, فقاتلوا عن دينكم! فأنزل الله عز وجل: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أفِئنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُـمْ علـى أعْقابِكُمْ؟} يقول: ارتددتـم كفـارا بعد إيـمانكم.
6431ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: لـما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد إلـيهم ـ يعنـي إلـى الـمشركين ـ أمر الرماة فقاموا بأصل الـجبل فـي وجه خيـل الـمشركين, وقال: «لا تَبْرَحُوا مَكانَكُمْ إنْ رأيْتُـمُونا قَدْ هَزَمْناهُمْ, فإنّا لَنْ نَزَالَ غالِبِـينَ ما ثَبَتّـمْ مَكانَكُمْ» وأمّر علـيهم عبد الله بن جبـير أخا خوات بن جبـير. ثم شد الزبـير بن العوام والـمقداد بن الأسود علـى الـمشركين, فهزماهم, وحمل النبـي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فهزموا أبـا سفـيان¹ فلـما رأى ذلك خالد بن الولـيد وهو علـى خيـل الـمشركين قدم, فرمته الرماة فـانقمع. فلـما نظر الرماة إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فـي جوف عسكر الـمشركين ينتهونه, بـادروا الغنـيـمة, فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم! فـانطلق عامتهم فلـحقوا بـالعسكر¹ فلـما رأى خالد قلة الرماح, صاح فـي خيـله, ثم حمل فقتل الرماة, وحمل علـى أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فلـما رأى الـمشركون أن خيـلهم تقاتل, تبـادروا فشدّوا علـى الـمسلـمين فهزموهم وقتلوهم, فأتـى ابن قميئة الـحارثـي أحد بنـي الـحارث بن عبد مناف بن كنانة, فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه وربـاعيته, وشجّه فـي وجهه فأثقله, وتفرّق عنه أصحابه, ودخـل بعضهم الـمدينة, وانطلق بعضهم فوق الـجبل إلـى الصخرة, فقاموا علـيها, وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: «إلـيّ عبـادَ اللّهِ! إلـيّ عِبـادَ اللّهِ!» فـاجتـمع إلـيه ثلاثون رجلاً, فجعلوا يسيرون بـين يديه, فلـم يقـف أحد إلا طلـحة وسهل بن حنـيف, فحماه طلـحة, فُرمي بسهم فـي يده فـيبست يده, وأقبل أبـيّ بن خـلف الـجمـحيّ ـ وقد حلف لـيقتلنّ النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «بَلْ أنا أقْتُلُكَ» ـ فقال: يا كَذّاب أين تفرّ؟ فحمل علـيه فطعنه النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي جنب الدرع, فجرح جرحا خفـيفـا, فوقع يخور خوران الثور, فـاحتـملوه وقالوا: لـيس بك جراحة, قال: ألـيس قال: لأقتلنك؟ لو كانت لـجميع ربـيعة ومضر لقتلتهم. ولـم يـلبث إلا يوما أو بعض يوم حتـى مات من ذلك الـجرح. وفشا فـي الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل, فقال بعض أصحاب الصخرة: لـيت لنا رسولاً إلـى عبد الله بن أبـيّ, فنأخذ لنا أمنة من أبـي سفـيان! يا قوم إن مـحمدا قد قتل, فـارجعوا إلـى قومكم قبل أن يأتوكم فـيقتلوكم! قال أنس بن النضر: يا قوم إن كان مـحمد قد قتل, فإنّ ربّ مـحمد لـم يقتل, فقاتلوا علـى ما قاتل علـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم! اللهمّ إنـي أعتذر إلـيك مـما يقول هؤلاء, وأبرأ إلـيك مـما جاء به هؤلاء. ثم شدّ بسيفه فقاتل حتـى قتل. وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس حتـى انتهى إلـى أصحاب الصخرة¹ فلـما رأوه وضع رجل سهما فـي قوسه فأراد أن يرميه, فقال: «أنا رَسُولُ الله», ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا, وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أن فـي أصحابه من يـمتنع. فلـما اجتـمعوا وفـيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ذهب عنهم الـحزن, فأقبلوا يذكرون الفتـح وما فـاتهم منه ويذكرون أصحابه الذين قتلوا, فقال الله عزّ وجلّ للذين قالوا: إن مـحمدا قد قتل فـارجعوا إلـى قومكم: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفِئنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُـمْ علـى أعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ علـى عَقِبَـيْهِ فَلَنْ يَضُرّ اللّهَ شَيْئا وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين}.
6432ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ علـى عَقِبَـيْهِ} قال: يرتد.
6433ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن أبـيه¹ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن أبـيه: أن رجلاً من الـمهاجرين مرّ علـى رجل من الأنصار وهو يتشحط فـي دمه, فقال: يا فلان أشعرت أن مـحمدا قد قتل؟ فقال الأنصاريّ: إن كان مـحمد قد قتل فقد بلغ, فقاتلوا عن دينكم.
6434ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي ابن إسحاق, قال: ثنـي القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بنـي عبد النـجار, قال: انتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلـى عمر وطلـحة بن عبـيد الله فـي رجال من الـمهاجرين والأنصار, وقد ألقوا بأيديهم, فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قد قتل مـحمد رسول الله. قال: فما تصنعون بـالـحياة بعده؟ قوموا فموتوا علـى ما مات علـيه رسول الله! واستقبل القوم فقاتل حتـى قتل. وبه سمي أنس بن مالك.
6435ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبوزهير, عن جويبر, عن الضحاك, قال: نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم: ألا إن مـحمدا قد قتل, فـارجعوا إلـى دينكم الأوّل! فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ}... الاَية.
6436ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: ألقـي فـي أفواه الـمسلـمين يوم أُحد أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قد قُتِل, فنزلت هذه الاَية: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ}... الاَية.
6437ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتزل هو وعصابة معه يومئذ علـى أكمة, والناس يفرّون, ورجل قائم علـى الطريق يسألهم: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وجعل كلـما مرّوا علـيه يسألهم, فـيقولون: والله ما ندري ما فعل! فقال: والذي نفسي بـيده لئن كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم قتل لنعطينهم بأيدينا, إنهم لعشائرنا وإخواننا! وقالوا: إن مـحمدا إن كان حيا لـم يهزم, ولكنه قد قتل, فترخصوا فـي الفرار حينئذ, فأنزل الله عزّ وجلّ علـى نبـيه صلى الله عليه وسلم: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ}... الاَية.
حدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ}... الاَية: ناس من أهل الارتـياب والـمرض والنفـاق, قالوا يوم فرّ الناس عن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, وشجّ فوق حاجبه, وكسرت ربـاعيته: قتل مـحمد, فـالـحقوا بدينكم الأوّل! فذلك قوله: {أفَئِنْ ماتَ أوْ قُتِل انْقَلَبْتُـمْ علـى أعْقابِكُمْ}.
6438ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {أفَئِنْ مات أوْ قُتِل انْقَلَبْتُـمْ علـى أعْقابِكُمْ}؟ قال: ما بـينكم وبـين أن تدعو الإسلام وتنقلبوا علـى أعقابكم, إلا أن يـموت مـحمد أو يقتل, فسوق يكون أحد هذين, فسوف يـموت أو يقتل.
6439ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ} إلـى قوله: {وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين}: أي لقول الناس قتل مـحمد, وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوّهم, أي أفَئِنْ مات نبـيكم أو قتل رجعتـم عن دينكم كفـارا كما كنتـم, وتركتـم جهاد عدوكم وكتاب الله, وما قد خـلف نبـيه من دينه معكم وعندكم¹ وقد بـين لكم فـيـما جاءكم عنـي أنه ميت ومفـارقكم؟ {ومَنْ يَنْقَلِبْ علـى عَقِبَـيْهِ}: أي يرجع عن دينه, {فَلَنْ يَضُرّ الله شَيْئ}: أي لن ينقص ذلك من عزّ الله ولا ملكه ولا سلطانه.
6440ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: قال: أهل الـمرض والارتـياب والنفـاق, حين فرّ الناس عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم: قد قتل مـحمد, فألـحقوا بدينكم الأول! فنزلت هذه الاَية.
ومعنى الكلام: وما مـحمد إلا رسول قد خـلت من قبله الرسل, أفتنقلبون علـى أعقابكم إن مات مـحمد أو قتل؟ ومن ينقلب علـى عقبـيه فلن يضرّ الله شيئا! فجعل الاستفهام فـي حرف الـجزاء, ومعناه أن يكون فـي جوابه (خبر) وكذلك كل استفهام دخـل علـى جزاء, فمعناه أن يكون فـي جوابه (خبر) لأن الـجواب خبر يقوم بنفسه والـجزاء شرط لذلك الـخبر ثم يجزم جوابه وهو كذلك, ومعناه الرفع لـمـجيئه بعد الـجزاء, كما قال الشاعر:
حَلَفْتُ لَهُ إنْ تُدلِـجِ اللّـيـلَ لا يَزلْأمامَك بَـيْتٌ مِنْ بَـيُوِتـيَ سائِرُ
فمعنى «لا يزل» رفع, ولكنه جزم لـمـجيئه بعد الـجزاء فصار كالـجواب. ومثله: {أفَئِنْ مُتّ فَهُمُ الـخالدونَ} و{فَكيفَ تتقونَ إنْ كفرتـم} ولو كان مكان فهم الـخالدون يخـلدون¹ وقـيـل: أفَئِنْ متّ يخـلدوا جاز الرفع فـيه والـجزم, وكذلك لو كان مكان «انقلبتـم» «تنقلبوا» جاز الرفع والـجزم لـما وصفت قبل. وتركت إعادة الاستفهام ثانـية مع قوله: «انقلبتـم» اكتفـاء بـالاستفهام فـي أول الكلام, وأن الاستفهام فـي أوله دالّ علـى موضعه ومكانه. وقد كان بعض القراء يختار فـي قوله: {أئِذا مِتْنَا وكُنّا تُرابـا وعظاما أئِنّا لَـمْبعُوثُون} ترك إعادة الاستفهام مع «أئنا», اكتفـاء بـالاستفهام فـي قوله: {أئِذَا مِتْنَا وكُنّا تُراب}, ويستشهد علـى صحة وجه ذلك بـاجتـماع القراء علـى تركهم إعادة الاستفهام مع قوله: «انقلبتـم», اكتفـاء بـالاستفهام فـي قوله: {أفَئِنْ مات} إذا كان دالاّ علـى معنى الكلام وموضع الاستفهام منه, وكان يفعل مثل ذلك فـي جميع القرآن, وسنأتـي علـى الصواب من القول فـي ذلك إن شاء الله إذا انتهينا إلـيه.
الآية : 145
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مّؤَجّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ }
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وما يـموت مـحمد ولا غيره من خـلق الله إلا بعد بلوغ أجله الذي جعله الله غاية لـحياته وبقائه, فإذا بلغ ذلك من الأجل الذي كتبه الله له وأذن له بـالـموت فحينئذ يـموت, فأما قبل ذلك فلن تـموت بكيد كائد ولا بحيـلة مـحتال. كما:
6441ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَما كان لِنَفْسٍ أنْ تَـمُوتَ إلاّ بإذْنِ اللّهِ كِتابـا مُؤَجّل}: أي أن لـمـحمد أجلاً هو بـالغه إذا أذن الله له فـي ذلك كان.
وقد قـيـل: إن معنى ذلك: وما كانت نفس لتـموت إلا بإذن الله.
وقد اختلف أهل العربـية فـي معنى الناصب قوله: {كِتابـا مُؤجّل}¹ فقال بعض نـحويـي البصرة: هو توكيد, ونصبه علـى: كتب الله كتابـا مؤجلاً, قال: وكذلك كل شيء فـي القرآن من قوله «حقّا», إنـما هو: أحقّ ذلك حقّا, وكذلك: {وَعْدَ اللّهِ} و{رحْمَةً مِنْ رَبّكَ} وَ{صُنْعَ اللّهِ الّذِي أتْقَنَ كلّ شيءٍ} و{كِتَابَ اللّهِ عَلَـيكُمْ} إنـما هو: صنع الله هكذا صنعا, فهكذا تفسير كل شيء فـي القرآن من نـحو هذا, فإنه كثـير.
وقال بعض نـحويـي الكوفة فـي قوله: {وَما كان لِنَفْسٍ أنْ تَـمُوتَ إلاّ بإذْنِ اللّهِ} معناه: كتب الله آجال النفوس, ثم قـيـل: كتابـا مؤجلاً, فأخرج قوله: كتابـا مؤجلاً, نصبـا من الـمعنى الذي فـي الكلام, إذ كان قوله: {وَما كان لِنَفْسٍ أنْ تَـمُوتَ إلاّ بـاذْنِ اللّهِ} قد أدّى عن معنى «كتب», قال: وكذلك سائر ما فـي القرآن من نظائر ذلك, فهو علـى هذا النـحو.
وقال آخرون منهم: قول القائل: زيد قائم حقا, بـمعنى: أقول زيد قائم حقا, لأن كل كلام قول, فأدّى الـمقول عن القول, ثم خرج ما بعده منه, كما تقول: أقول قولاً حقّا, وكذلك ظنّا ويقـينا, وكذلك وَعْدَ الله, وما أشبهه.
والصواب من القول فـي ذلك عندي, أن كل ذلك منصوب علـى الـمصدر من معنى الكلام الذي قبله, لأن فـي كل ما قبل الـمصادر التـي هي مخالفة ألفـاظها ألفـاظ ما قبلها من الكلام معانـي ألفـاظ الـمصادر وإن خالفها فـي اللفظ فنصبها من معانـي ما قبلها دون ألفـاظه.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: من يرد منكم أيها الـمؤمنون بعمله جزاء منه بعض أعراض الدنـيا دون ما عند الله من الكرامة, لـمن ابتغى بعمله ما عنده {نُؤْتِهِ مِنْه} يقول: نعطه منها, يعنـي: من الدنـيا, يعنـي: أنه يعطيه منها ما قسم له فـيها من رزق أيام حياته, ثم لا نصيب له فـي كرامة الله التـي أعدّها لـمن أطاعه, وطلب ما عنده فـي الاَخرة. {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الاَخِرَةِ} يقول: ومن يرد منكم بعمله جزاء منه ثواب الاَخرة, يعنـي ما عند الله من كرامته التـي أعدّها للعاملـين له فـي الاَخرة, {نُؤْتِهِ مِنْهَ} يقول: نعطه منها, يعنـي من الاَخرة¹ والـمعنى: من كرامة الله التـي خصّ بها أهل طاعته فـي الاَخرة. فخرج الكلام علـى الدنـيا والاَخرة, والـمعنى ما فـيهما. كما:
6442ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {ومَنْ يُرِدْ ثَواب الدّنـيْا نُؤْتِهِ مِنْها وَمْن يُرِدْ ثَوابَ الاَخِرِةِ نُؤْتِهِ مِنْه}: أي فمن كان منكم يريد الدنـيا لـيست له رغبة فـي الاَخرة, نؤته ما قسم له منها من رزق, ولا حظّ له فـي الاَخرة, ومن يرد ثواب الاَخرة نؤته منها ما وعده مع ما يُجْرَى علـيه من رزقه فـي دنـياه.
وأما قوله: {وَسَنَـجْزِي اللّهُ الشّاكِرِين} يقول: وسأثـيب من شكر لـي ما أولـيته من إحسانـي إلـيه بطاعته إياي وانتهائه إلـى أمري وتـجنبه مـحارمي فـي الاَخرة, مثل الذي وعدت أولـيائي من الكرامة علـى شكرهم إياي. وقال ابن إسحاق فـي ذلك بـما:
6443ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَسَنَـجْزِي اللّهُ الشّاكِرِين} أي ذلك جزاء الشاكرين, يعنى بذلك: إعطاء الله إياه ما وعده فـي الاَخرة مع ما يجرى علـيه من الرزق فـي الدنـيا.
الآية : 146
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكَأَيّن مّن نّبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ }
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأه بعضهم: {وكَأَيّنْ} بهمز الألف وتشديد الـياء وقرأه آخرون: بـمدّ الألف وتـخفـيف الـياء. وهما قراءتان مشهورتان فـي قراءة الـمسلـمين, ولغتان معروفتان لا اختلاف فـي معناهما, فبأيّ القراءتـين قرأ ذلك قارىء فمصيب, لاتفـاق معنى ذلك وشهرتهما فـي كلام العرب. ومعناه: وكم من نبـيّ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ}.
اختلفت القراء فـي قراءة قوله: {قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ}¹ فقرأ ذلك جماعة من قراء الـحجاز والبصرة: «قُتِل» بضم القاف, وقرأه جماعة أخرى بفتـح القاف وبـالألف, وهي قراءة جماعة من قراء الـحجاز والكوفة. فأما من قرأ {قَاتَلَ} فإنه اختار ذلك لأنه قال: لو قتلوا لـم يكن لقوله: {فمَا وهَنُو} وجه معروف, لأنه يستـحيـل أن يوصفوا بأنهم لـم يهنوا ولـم يضعفوا بعد ما قتلوا. وأما الذين قرءوا ذلك: «قتل», فإنهم قالوا: إنـما عنى بـالقتل النبـيّ وبعض من معه من الربـيـين دون جميعهم, وإنـما نفـى الوهن والضعف عمن بقـي من الربـيـين مـمن لـم يقتل.
وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندنا بـالصواب, قراءة من قرأ بضمّ القاف: «قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ» لأن الله عزّ وجلّ إنـما عاتبَ بهذه الاَية, والاَيات التـي قبلها من قوله: {أمْ حَسِبْتُـمْ أنْ تَدْخُـلُوا الـجَنّة ولـمّا يَعْلَـمِ اللّهُ الّذِين جاهَدُوا مِنْكُمْ} الذين انهزموا يوم أُحد, وتركوا القتال, أو سمعوا الصائح يصيح: إن مـحمدا قد قتل, فعذلهم الله عزّ وجلّ علـى فرارهم وتركهم القتال, فقال: أفَئِنْ مات مـحمد أو قتل أيها الـمؤمنون ارتددتـم عن دينكم, وانقلبتـم علـى أعقابكم؟ ثم أخبرهم عما كان من فعل كثـير من أتبـاع الأنبـياء قبلهم وقال لهم: هلا فعلتـم كما كان أهل الفضل والعلـم من أتبـاع الأنبـياء قبلكم يفعلونه إذا قتل نبـيهم من الـمضيّ علـى منهاج نبـيهم والقتال علـى دينه أعداء دين الله علـى نـحو ما كانوا يقاتلون مع نبـيهم, ولـم تهنوا ولـم تضعفوا كما لـم يضعف الذين كانوا قبلكم من أهل العلـم والبصائر من أتبـاع الأنبـياء إذا قتل نبـيهم, ولكنهم صبروا لأعدائهم حتـى حكم الله بـينهم وبـينهم! وبذلك من التأويـل جاء تأويـل الـمتأوّل.
وأما «الرّبّـيّون», فإنهم مرفوعون بقوله: «معه», لا بقوله: «قتل».
وإنـما تأويـل الكلام: وكائن من نبـيّ قتل ومعه ربـيون كثـير, فما وهنوا لـما أصابهم فـي سبـيـل الله. وفـي الكلام إضمار واو, لأنها واو تدلّ علـى معنى حال قتل النبـيّ صلى الله عليه وسلم, غير أنه اجتزأ بدلالة ما ذكر من الكلام علـيها من ذكرها, وذلك كقول القائل فـي الكلام: قتل الأمير معه جيش عظيـم, بـمعنى: قتل ومعه جيش عظيـم.
وأما الرّبّـيّون, فإن أهل العربـية اختلفوا فـي معناه, فقال بعض نـحويـي البصرة: هم الذين يعبدون الربّ واحدهم رِبّـيّ. وقال بعض نـحويـي الكوفة: لو كانوا منسوبـين إلـى عبـادة الربّ لكانوا «رَبّـيون» بفتـح الراء, ولكنه العلـماء والألوف, والرّبّـيّونَ عندنا: الـجماعة الكثـيرة, واحدهم رِبّـي, وهم جماعة.
واختلف أهل التأويـل فـي معناه, فقال بعضهم مثل ما قلنا. ذكر من قال ذلك:
6444ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن عاصم, عن زرّ, عن عبد الله: الربـيون: الألوف.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن الثوري, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله, مثله.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري وابن عيـينة, عن عاصم بن أبـي النـجود, عن زر بن حبـيش, عن عبد الله, مثله.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, قال: حدثنا عمرو بن عاصم, عن زر, عن عبد الله, مثله.
6445ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عوف عمن حدثه, عن ابن عبـاس فـي قوله: {رِبّـيُون كَثِـيرٌ} قال: جموع كثـيرة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: {قاتَلَ مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ} قال: جموع.
حدثنـي حميد بن مسعدة, قال: حدثنا بشر بن الـمفضل, قال: حدثنا شعبة, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله: «وكأيّنْ مِنْ نَبِـيّ قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ» قال: الألوف.
وقال آخرون بـما:
6446ـ حدثنـي به سلـيـمان بن عبد الـجبـار, قال: حدثنا مـحمد بن الصلت, قال: حدثنا أبو كدينة, عن عطاء, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: «وكأيّنْ مِنْ نَبِـيّ قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ» قال: علـماء كثـير.
6447ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عوف, عن الـحسن فـي قوله: «وكأيّنْ مِنْ نَبِـيّ قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ» قال: فقهاء علـماء.
6448ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية. عن أبـي رجاء, عن الـحسن, فـي قوله: «وكأيّنْ مِنْ نَبـيّ قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ» قال: الـجموع الكثـيرة. قال يعقوب: وكذلك قرأها إسماعيـل: «قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ».
6449ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: «وكأيّنْ مِنْ نَبِـيّ قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ» يقول: جموع كثـيرة.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن فـي قوله: «قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ» قال: علـماء كثـيرة. وقال قتادة: جموع كثـيرة.
6450ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيـينة, عن عمرو, عن عكرمة فـي قوله: {رِبّـيُون كَثِـيرٌ} قال: جموع كثـيرة.
«ـ حدثنـي عمرو بن عبد الـحميد الاَملـي, قال: حدثنا سفـيان, عن عمرو, عن عكرمة, مثله.
6451ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: «قُتِل مَعَهُ رِبّـيّون كَثِـيرٌ» قال: جموع كثـيرة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
6452ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: «قُتِل مَعَهُ رِبّـيّون كَثِـيرٌ» يقول: جموع كثـيرة.
6453ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك فـي قوله: «وكأيّنْ مِنْ نَبَـيّ قُتِل مَعَهُ رِبّـيّون كَثِـيرٌ» يقول: جموع كثـيرة قتل نبـيهم.
6454ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن جعفر بن حبـان, والـمبـارك عن الـحسن فـي قوله: «وكأيّنْ مِنْ نَبِـيّ قاتَل مَعَهُ رِبّـيّون كَثِـيرٌ» قال جعفر: علـماء صبروا. وقال ابن الـمبـارك: أتقـياء صبروا.
حدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: «قُتِل مَعَهُ رِبّـيّون كَثِـيرٌ» يعنـي الـجموع الكثـيرة قتل نبـيهم.
6455ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {قاتَلَ مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ} يقول: جموع كثـيرة.
6456ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قوله: «وكأيّنْ مِنْ نَبِـيّ قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ» قال: وكأين من بنـيّ أصابه القتل, ومعه جماعات.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: «وكأيّنْ مِنْ نَبِـيّ قُتِل مَعَهُ رِبّـيّون كَثِـيرٌ» الربـيون: الـجموع الكثـيرة.
وقال آخرون: الربـيون: الإتبـاع. ذكر من قال ذلك:
6457ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: «وكأيّنْ مِنْ نَبِـيّ قُتِلَ مَعَهُ رِبّـيّونَ كَثِـيرٌ» قال: الربـيون: الأتبـاع, والربـانـيون: الولاة, والربّـيون: الرعية. وبهذا عاتبهم الله حين انهزموا عنه, حين صاح الشيطان إن مـحمدا قد قتل, قال: كانت الهزيـمة عند صياحه فـي سنـينة صاح: أيها الناس إن مـحمدا رسول الله قد قتل, فـارجعوا إلـى عشائركم يؤمنوكم.
القول فـي تأويـل قوله: {فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أصَابَهُمْ فـي سَبِـيـلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَما اسْتَكانُوا وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ}.
يعنـي بقوله تعالـى ذكره: {فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أصَابَهُمْ فـي سَبِـيـلِ اللّهِ}: فما عجزوا لـما نالهم من ألـم الـجراح الذي نالهم فـي سبـيـل الله, ولا لقتل من قتل منهم عن حرب أعداء الله, ولا نكلوا عن جهادهم. {وَما ضَعُفُو} يقول: وما ضعفت قواهم لقتل نبـيهم. {وَما اسْتَكانُو} يعنـي: وما ذلوا فـيتـخشعوا لعدوّهم بـالدخول فـي دينهم, ومداهنتهم فـيه, خيفة منهم, ولكن مضوا قدما علـى بصائرهم ومنهاج نبـيهم, صبرا علـى أمر الله وأمر نبـيهم وطاعة الله, واتبـاعا لتنزيـله ووحيه. {وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ} يقول: والله يحبّ هؤلاء وأمثالهم من الصابرين لأمره وطاعته, وطاعة رسوله, فـي جهاد عدوّه, لا من فشل ففرّ عن عدوّه, ولا من انقلب علـى عقبـيه فذلّ لعدوّه لأن قتل نبـيه أو مات, ولا من دخـله وهن عن عدوّه وضعف لفقد نبـيه.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
6458ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أصَابَهُمْ فـي سَبِـيـلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَما اسْتَكانُو} يقول: ما عجزوا, وما تضعضعوا لقتل نبـيهم, {وما اسْتَكَانُو} يقول: ما ارتدّوا عن نصرتهم ولا عن دينهم, بل قاتلوا علـى ما قاتل علـيه نبـيّ الله حتـى لـحقوا بـالله.
6459ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أصَابَهُمْ فـي سَبِـيـلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُو} يقول: ما عجزوا, وما ضعفوا لقتل نبـيهم, {وَما اسْتَكانُو} يقول: وما ارتدّوا عن نصرتهم, قاتلوا علـى ما قاتل علـيه نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم حتـى لـحقوا بـالله.
6460ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {فَمَا وَهَنُو}: فما وهن الربـيون لـما أصابهم فـي سبـيـل الله, من قتل النبـيّ صلى الله عليه وسلم¹ {وَما ضَعُفُو} يقول: ما ضعفوا فـي سبـيـل الله لقتل النبـيّ¹ {وَما اسْتَكانُو} يقول: ما ذلوا حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللّهُمّ لَـيْسَ لَهُمْ أنْ يَعْلُونا», {وَلا تَهِنُوا وَلا تَـحْزَنُوا وأنْتُـمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُـمْ مُؤْمِنِـينَ}.
6461ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {فَمَا وَهَنُو} لفقد نبـيهم, {وَما ضَعُفُو} عن عدوهم, {وَما اسْتَكانُو} لـما أصابهم فـي الـجهاد عن الله, وعن دينهم, وذلك الصبر {وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرين}.
6462ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: {وَما اسْتَكانُو} قال: تـخشعوا.
6463ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: {وَما اسْتَكانُو} قال: ما استكانوا لعدوّهم¹ {وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ}.
الآية : 147
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَن قَالُواْ ربّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيَ أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ}: وما كان قول الربـيـين. والهاء والـميـم من ذكر أسماء الربـيـين. {إلاّ أنْ قالُو} يعنـي ما كان لهم قول سوى هذا القول إذ قتل نبـيهم. وقوله: {رَبّنا اغْفِرْ لنا ذُنُوبَن} يقول: لـم يعتصموا إذ قتل نبـيهم إلا بـالصبر علـى ما أصابهم, ومـجاهدة عدوّهم, وبـمسألة ربهم الـمغفرة والنصر علـى عدوّهم. ومعنى الكلام: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَن}. وأما الإسراف: فإنه الإفراط فـي الشيء, يقال منه: أسرف فلان فـي هذا الأمر إذا تـجاوز مقداره فأفرط, ومعناه ههنا: اغفر لنا ذنوبنا الصغار منها وما أسرفنا فـيه منها فتـخطينا إلـى العظام. وكان معنى الكلام: اغفر لنا ذنوبنا, الصغائر منها والكبـائر. كما:
6464ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس فـي قول الله: {وَإسْرَافَنا فـي أمْرِن} قال: خطايانا.
6465ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أيو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {وَإسْرَافَنا فـي أمْرِن}: خطايانا وظلـمنا أنفسنا.
6466ـ حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد الله بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك فـي قوله: {وَإسْرَافَنا فـي أمْرِن} يعنـي: الـخطايا الكبـار.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو تـميـلة, عن عبـيد بن سلـيـمان, عن الضحاك بن مزاحم, قال: الكبـائر.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: {وَإسْرَافَنا فـي أمْرِن} قال: خطايانا.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: {وَإسْرَافَنا فـي أمْرِن} يقول: خطايانا.
وأما قوله: {وَثَبّتْ أقْدَامَن} فإنه يقول: اجعلنا مـمن يثبت لـحرب عدوّك وقتالهم, ولا تـجعلنا مـمن ينهزم فـيفرّ منهم, ولا يثبت قدمه فـي مكان واحد لـحربهم. {وَانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ} يقول: وانصرنا علـى الذين جحدوا وحدانـيتك ونبوّة نبـيك. وإنـما هذا تأنـيب من الله عزّ وجلّ عبـاده الذين فرّوا عن العدوّ يوم أحد وتركوا قتالهم, وتأديب لهم, يقول الله عزّ وجلّ: هلا فعلتـم إذ قـيـل لكم: قتل نبـيكم, كما فعل هؤلاء الربـيون, الذين كانوا قبلكم من أتبـاع الأنبـياء, إذ قتلت أنبـياؤهم, فصبرتـم لعدوكم صبرهم, ولـم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم, فتـحاولوا الارتداد علـى أعقابكم, كما لـم يضعف هؤلاء الربـيون ولـم يستكينوا لعدوّهم, وسألتـم ربكم النصر والظفر كما سألوا, فـينصركم الله علـيهم كما نصروا, فإن الله يحبّ من صبر لأمره وعلـى جهاد عدوّه, فـيعطيه النصر والظفر علـى عدوّه. كما:
6467ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإسْرَافَنا فـي أمْرِنا وَثَبّتْ أقْدَامَنا وَانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ}: أي فقولوا كما قالوا, واعلـموا أنـما ذلك بذنوب منكم, واستغفروا كما استغفروا, وامضوا علـى دينكم كما مضوا علـى دينهم, ولا ترتدّوا علـى أعقابكم راجعين, واسألوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم, واستنصروه كما استنصروه علـى القوم الكافرين. فكل هذا من قولهم قد كان وقد قتل نبـيهم, فلـم يفعلوا كما فعلتـم.
والقراءة التـي هي القراءة فـي قوله: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ} النصب لإجماع قراء الأمصار علـى ذلك نقلاً مستفـيضا وراثة عن الـحجة. وإنـما اختـير النصب فـي القول, لأن «إلا أن» لا تكون إلا معرفة, فكانت أولـى بأن تكون هي الاسم دون الأسماء التـي قد تكون معرفة أحيانا ونكرة أحيانا, ولذلك اختـير النصب فـي كل اسم ولـي «كان» إذا كان بعده «أن» الـخفـيفة, كقوله: {فَما كانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاّ أنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أوْ حَرّقُوهُ} وقوله: {ثُمّ لَـمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ إلاّ أنْ قالُو}. فأما إذا كان الذي يـلـي كان اسما معرفة, والذي بعده مثله, فسواء الرفع والنصب فـي الذي ولـي «كان», فإن جعلت الذي ولـي «كان» هو الاسم رفعته ونصبت الذي بعده, وإن جعلت الذي ولـي «كان» هو الـخبر نصبته ورفعت الذي بعده, وذلك كقوله جلّ ثناؤه: {ثُمّ كانَ عاقِبَةَ الّذِينَ أساءُوا السّوأى} إن جعلت «العاقبة» الاسم رفعتها, وجعلت «السوأى» هي الـخبر منصوبة, وإن جعلت «العاقبة» الـخبر نصبت, فقلت: وكان عاقبة الذين أساءوا السوأى, وجعلت السوأى هي الاسم, فكانت مرفوعة, وكما قال الشاعر:
لقدْ عَلِـمَ الأقوَامُ ما كانَ دَاءَهابَثهْلانَ إلا الـخِزْيُ مِـمّنْ يَقُودُها
رُوى أيضا: «ما كان داؤها بثهلان إلا الـخزيَ», نصبـا ورفعا, علـى ما قد بـينت, ولو فعل مثل ذلك مع «أن» كان جائزا, غير أن أفصح الكلام ما وصفت عند العرب.
الآية : 148
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ }
يعنـي بذلك تعالـى ذكره: فأعطى الله الذين وصفهم بـما وصفهم من الصبر علـى طاعة الله بعد مقتل أنبـيائهم, وعلـى جهاد عدوّهم, والاستعانة بـالله فـي أمورهم, واقتفـائهم مناهج إمامهم, علـى ما أبلوا فـي الله {ثَوَابَ الدّنْـيَ} يعنـي: جزاء فـي الدنـيا, وذلك النصر علـى عدوّهم وعدوّ الله, والظفر والفتـح علـيهم, والتـمكين لهم فـي البلاد¹ {وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ} يعنـي: وخير جزاء الاَخرة, علـى ما أسلفوا فـي الدنـيا من أعمالهم الصالـحة, وذلك الـجنة ونعيـمها. كما:
6468ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَن} فقرأ حتـى بلغ: {وَاللّهُ يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ}: أي والله لاَتاهم الله الفتـح والظهور والتـمكين والنصر علـى عدوّهم فـي الدنـيا, {وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ} يقول: حسن الثواب فـي الاَخرة: هي الـجنة.
6469ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قوله: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ} ثم ذكر نـحوه.
6470ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, فـي قوله: {فَآتاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدّنْـي} قال: النصر والغنـيـمة, {وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ} قال: رضوان الله ورحمته.
6471ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {فآتاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدّنْـي}: حسن الظهور علـى عدوّهم, {وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ}: الـجنة, وما أعدّ فـيها. وقوله: {وَاللّهُ يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ} يقول تعالـى ذكره: فعل الله ذلك بإحسانهم, فإنه يحب الـمـحسنـين, وهم الذين يفعلون مثل الذي وصف عنهم تعالـى ذكره أنهم فعلوه حين قتل نبـيهم