تفسير الطبري تفسير الصفحة 90 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 90
091
089
 الآية : 75
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـَذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لّنَا مِن لّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لّنَا مِن لّدُنْكَ نَصِيراً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: وما لكم أيها المؤمنون لا تقاتلون في سبيل الله, وفي المستضعفين, يقول: عن المستضعفين منكم من الرجال والنساء والولدان. فأما من الرجال فإنهم كانوا قد أسلموا بمكة, فغلبتهم عشائرهم على أنفسهم بالقهر لهم وآذوهم ونالوهم بالعذاب والمكاره في أبدانهم, ليفتنوهم عن دينهم. فحضّ الله المؤمنين على استنقاذهم من أيدي من قد غلبهم على أنفسهم من الكفار, فقال لهم: وما شأنكم لا تقاتلون في سبيل الله وعن مستضعفي أهل دينكم وملتكم الذين قد استضعفهم الكفار فاستذلوهم ابتغاء فتنتهم وصدّهم عن دينهم من الرجال والنساء؟ والولدان جمع ولد: وهم الصبيان. {الّذِينَ يَقُولونَ رَبّنا أخْرِجْنا مِنَ هذهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُه} يعني بذلك أن هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان يقولون في دعائهم ربهم بأن ينجيهم من فتنة من قد استضعفهم من المشركين: يا ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ـ والعرب تسمي كلّ مدينة قرية يعني: التي قد ظلمتنا وأنفسها وأهلها. وهي في هذا الموضع فيما فسر أهل التأويل مكة وخفض الظالم, لأنه من صفة الأهل, وقد عادت الهاء والألف اللتان فيه على القرية, وكذلك تفعل العرب إذا تقدمت صفة الاسم الذي معه عائد لاسم قبلها أتبعت إعرابها إعراب الاسم الذي قبلها كأنها صفة له, فتقول: مررت بالرجل الكريم أبوه. {وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّ} يعني أنهم يقولون أيضا في دعائهم: يا ربنا واجعل لنا من عندك وليّا, يلي أمرنا بالكفاية مما نحن فيه من فتنة أهل الكفر بك. {وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصير} يقولون: واجعل لنا من عندك من ينصرنا على من ظلمنا من أهل هذه القرية الظالم أهلها, بصدّهم إيانا عن سبيلك, حتى تظفرنا بهم ونُعلي دينك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
7943ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: {مِنَ الرّجالِ والنّساءِ وَالوِلْدانِ الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا أخْرِجْنا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُه} قال: أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفي المؤمنين كانوا بمكة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {وَالمْسْتَضْعفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ والوِلْدانِ} الصبيان {الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا أخْرِجْنا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُه} مكة, أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفين مؤمنين كانوا بمكة.
7944ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ والنّساءِ وَالوِلْدانِ الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا أخْرِجْنا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُه} يقول: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي المستضعفين, وأما القرية: فمكة.
7945ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا المبارك, عن عثمان بن عطاء, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله: {وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ والمُسْتَضْعَفِينَ} قال: وفي المستضعفين.
7946ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرني عبد الله بن كثير, أنه سمع محمد بن مسلم بن شهاب يقول: {وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجال وَالنّساءِ وَالوِلْدَانِ} قال: في سبيل الله وسبيل المستضعفين.
7947ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الحسن وقتادة, في قوله: {أَخْرِجْنا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُه} قالا: خرج رجل من القرية الظالمة إلى القرية الصالحة, فأدركه الموت في الطريق, فنأي بصدره إلى القرية الصالحة, فاحتجّت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب, فأمروا أن يقدّروا أقرب القريتين إليه, فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر. وقال بعضهم: قرّب الله إليه القرية الصالحة, فتوفته ملائكة الرحمة.
7948ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: {وَالُمسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ وَالوِلْدانِ} هم أناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا منها ليهاجروا, فعذرهم الله, وفيهم نزل قوله: {رَبّنا أخْرِجْنا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُه} فهي مكة.
7949ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ والنّساءِ وَالوِلْدانِ الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا أخْرِجْنا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُه} قال: وما لكم لا تفعلون, تقاتلون لهؤلاء الضعفاء المساكين الذين يدعون الله بأن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها, فهم ليس لهم قوّة؟ فما لكم لا تقاتلون حتى يسلم لله هؤلاء ودينهم؟ قال: والقرية الظالم أهلها: مكة.
الآية : 76
القول في تأويل قوله تعالى: {الّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ فَقَاتِلُوَاْ أَوْلِيَاءَ الشّيْطَانِ إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً }..
يعني تعالى ذكره: الذين صدّقوا الله ورسوله وأيقنوا بموعود الله لأهل الإيمان به, {يقاتلونَ فِي سبيلِ اللّهِ} يقول: في طاعة الله ومنهاج دينه وشريعته التي شرعها لعباده. {وَالّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبيلِ الطّاغُوتِ} يقول: والذين جحدوا وحدانية الله وكذّبوا رسوله وما جاءهم به من عند ربهم, {يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ الّطاغُوتِ} يعني: في طاعة الشيطان وطريقه ومنهاجه الذي شرعه لأوليائه من أهل الكفر بالله. يقول الله مقوّيا عزم المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومحرّضهم على أعدائه وأعداء دينه من أهل الشرك به. {فَقاتِلُو} أيها المؤمنون {أوْلِيَاءَ الشّيْطَانِ} يعني بذلك: الذين يتولونه ويطيعون أمره في خلاف طاعة الله والتكذيب به, وينصرونه. {وإنّ كيدَ الشّيْطَانِ كانَ ضعِيف} يعني بكيده: ما كاد به المؤمنين من تحزيبه أولياءه من الكفار بالله على رسوله وأوليائه أهل الإيمان به. يقول: فلا تهابوا أولياء الشيطان, فإنما هم حزبه وأنصاره, وحزب الشيطان أهل وهن وضعف. وإنما وصفهم جلّ ثناؤه بالضعف, لأنهم لا يقاتلون رجاء ثواب, ولا يتركون القتال خوف عقاب, وإنما يقاتلون حمية أو حسدا للمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله, والمؤمنون يقاتل من قاتل منهم رجاء العظيم من ثواب الله, ويترك القتال إن تركه على خوف من وعيد الله في تركه, فهو يقاتل على بصيرة بما له عند الله إن قتل, وبما له من الغنيمة والظفر إن سلم. والكافر يقاتل على حذر من القتل, وإياس من معاد, فهو ذو ضعف وخوف. القول في تأويل قوله تعالى: 7950ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {خُذُوا حِذْرَكُمْ فانْفِرُوا ثُباتٍ} يقول: عصبا, يعني: سرايا متفرّقين, {أوِ انْفِرُوا جَمِيعا يعني كلكم.
7951ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: {فانْفِرُوا ثُباتٍ} قال: فرقا قليلاً قليلاً.
7952ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {فانْفِرُوا ثُباتٍ} قال: الثبات: الفرق.
حدثنا الحسين بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
7953ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {فانْفِرُوا ثُباتٍ} فهي العصبة, وهي الثبة. {أوِ انْفِرُوا جَمِيع} مع النبيّ صلى الله عليه وسلم.
7954ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {فانْفِرُوا ثُباتٍ} يعني: عصبا متفرّقين.
الآية : 77
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوَاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلآ أَخّرْتَنَا إِلَىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِيلٌ وَالاَخِرَةُ خَيْرٌ لّمَنِ اتّقَىَ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً }..
ذكر أن هذه الاَية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قد آمنوا به وصدّقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد, وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة, وكانوا يسألون الله أن يفرض عليهم القتال, فلما فرض عليهم القتال شقّ عليهم ذلك وقالوا ما أخبر عنهم في كتابه.
فتأويل قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ}: ألم تر بقلبك يا محمد فتعلم إلى الذين قيل لهم من أصحابك حين سألوك أن تسأل ربك أن يفرض عليهم القتال: كفوا أيديكم, فأمسكوها عن قتال المشركين وحربهم. {وَأقِيمُوا الصّلاةَ} يقول: وأدوا الصلاة التي فرضها الله عليكم بحدودها. {وآتُوا الزّكاةَ} يقول: وأعطوا الزكاة أهلها, الذين جعلها الله لهم من أموالكم, تطهيرا لأبدانكم وأموالكم¹ كرهوا ما أمروا به من كفّ الأيدي عن قتال المشركين, وشقّ ذلك عليهم. {فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ} يقول: فلما فرض عليهم القتال الذي كانوا سألوا أن يفرض عليهم, {إذَا فرِيقٌ مِنْهُمْ} يعني: جماعة منهم {يَخْشَوْنَ النّاسَ} يقول: يخافون الناس أن يقاتلوهم, {كخَشْيَةِ اللّهِ أوْ أشَدّ خَشْيَةً} أو أشدّ خوفا. {وَقَالُو} جزعا من القتال الذي فرض الله عليهم: {لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ}: لم فرضت علينا القتال, ركونا منهم إلى الدنيا, وإيثارا للدعة فيها والخَفْضَ, على مكروه لقاء العدوّ, ومشقة حربهم وقتالهم. {لَوْلا أخّرْتَن} يخبر عنهم, قالوا: هلا أخرتنا {إلى أجَلٍ قَرِيبٍ} يعني: إلى أن يموتوا على فرشهم وفي منازلهم.
وبنحو الذي قلنا إن هذه الاَية نزلت فيه قال أهل التأويل. ذكر الاَثار بذلك, والرواية عمن قاله:
7955ـ حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق, قال: سمعت أبي, قال: أخبرنا الحسين بن واقد, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة, عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا رسول الله, كنا في عزّ ونحن مشركون, فلما آمنا صرنا أذلة! فقال: «إنّى أُمِرْتُ بالعَفْوِ فَلا تُقاتِلُوا» فلما حوّله الله إلى المدينة أمر بالقتال فكفوا, فأنزل الله تبارك وتعالى: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ}... الاَية.
7956ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ} عن الناس, {فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ} نزلت في أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن جريج: وقوله: {وَقالُوا رَبّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ لَوْلا أخّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ} قال: إلى أن نموت موتا هو الأجل القريب.
7957ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ وأقِيمُوا الصّلاةَ} فقرأ حتى بلغ: {إلى أجَلٍ قَرِيبٍ} قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو يومئذ بمكة قبل الهجرة, تسرعوا إلى القتال, فقالوا لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم: ذرنا نتخذ معاول فنقاتل بها المشركين بمكة! فنهاهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك, قال: «لم أؤمَرْ بذَلِكَ». فلما كانت الهجرة وأمر بالقتال, كره القوم ذلك, فصنعوا فيه ما تسمعون, فقال الله تبارك وتعالى: {قُلْ مَتاعُ الدّنْيا قَلِيلٌ والاَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيل}.
7958ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ وأقِيمُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ} قال: هم قوم أسلموا قبل أن يفرض عليهم القتال, ولم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة, فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال¹ {فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كخَشْيَةِ اللّهِ أوْ أشَدّ خَشْيَةً}... الاَية, إلى: {ألى أجَلٍ قَرِيبٍ} وهو الموت, قال الله: {قُلْ مَتاعُ الدّنْيا قَلِيلٌ والاَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَن اتّقَى}.
وقال آخرون: نزلت هذه وآيات بعدها في اليهود. ذكر من قال ذلك:
7959ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ وأقِيمُوا الصّلاةَ}... إلى قوله: {لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيل} ما بين ذلك في اليهود.
7960ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: {فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إذَا فَرِيقٌ منْهُمْ}... إلى قوله: {لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ}: نهى الله تبارك وتعالى هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ مَتاعُ الدّنْيا قَلِيلٌ والاَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيل}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {قُلْ مَتاعُ الدّنْيا قَلِيلٌ}: قل يا محمد لهؤلاء القوم الذين قالوا {رَبّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ لَوْلا أخّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ} عيشكم في الدنيا وتمتعكم بها قليل, لأنها فانية, وما فيها فان, {والاَخِرَةُ خَيْرٌ} يعني: ونعيم الاَخرة خير, لأنها باقية, ونعيمها باق دائم. وإنما قيل: والاَخرة خير ومعنى الكلام ما وصفت من أنه معنى به نعيمها, لدلالة ذكر الاَخرة بالذي ذكرت به على المعنى المراد منه {لمن اتّقَى} يعني: لمن اتقى الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه, فأطاعه في كل ذلك. {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيل} يعني: ولا ينقصكم الله من أجور أعمالكم فتيلاً¹ وقد بينا معنى الفتيل فيما مضى بما أغنى عن إعادته ههنا.
الآية : 78
القول في تأويل قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مّشَيّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَـَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلّ مّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـَؤُلآءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: حيثما تكونوا ينلكم الموت فتموتوا, {ولَوْ كُنْتُمْ في بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ} يقول: لا تجزعوا من الموت ولا تهربوا من القتال وتضعفوا عن لقاء عدوّكم حذرا على أنفسكم من القتل والموت, فإن الموت بإزائكم أين كنتم, وواصل إلى أنفسكم حيث كنتم ولو تحصنتم منه بالحصون المنيعة.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ} فقال بعضهم: يُعْنَى به: قصور محصنة. ذكر من قال ذلك:
7961ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ} يقول: في قصور محصنة.
7962ـ حدثني عليّ بن سهل,قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل, قال: حدثنا أبو همام, قال: حدثنا كثير أبو الفضل, عن مجاهد, قال: كان فيمن قبلكم امرأة, وكان لها أجير, فولدت جارية فقالت لأجيرها: اقتبس لنا نارا! فخرج فوجد بالباب رجلاً, فقال له الرجل: ما ولدت هذه المرأة؟ قال: جارية, قال: أما إن هذه الجارية لا تموت حتى تبغي بمائة, ويتزوّجها أجيرها, ويكون موتها بالعنكبوت. قال: فقال الأجير في نفسه: فأنا أريد هذه بعد أن تفجر بمائة. فأخذ شفرة فدخل, فشقّ بطن الصبية. وعولجت فبرئت, فشبت, وكانت تبغي, فأتت ساحلاً من سواحل البحر, فأقامت عليه تبغي. ولبث الرجل ما شاء الله, ثم قدم ذلك الساحل ومعه مال كثير, فقال لامرأة من أهل الساحل: أبغيني امرأة من أجمل امرأة في القرية أتزوّجها! فقالت: ههنا امرأة من أجمل الناس, ولكنها تبغي. قال: ائتِني بها! فأتتها فقالت: قد قدم رجل له مال كثير, وقد قال لي كذا, فقلت له كذا. فقالت: إني قد تركت البغاء, ولكن إن أراد تزوّجته. قال: فتزوّجها, فوقعت منه موقعا, فبينا هو يوما عندها, إذ أخبرها بأمره, فقالت: أنا تلك الجارية ـ وأرته الشقّ في بطنها وقد كنت أبغي, فما أدري بمائة أو أقلّ أو أكثر¹ قال: فإنه قال لي: يكون موتها بالعنكبوت. قال: فبني لها برجا بالصحراء وشيده. فبينما هما يوما في ذلك البرج, إذا عنكبوت في السقف فقالت: هذا يقتلني؟ لا يقتله أحد غيري! فحركته فسقط, فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه فشدخته, وساح سمه بين ظفرها واللحم, فاسودّت رجلها فماتت, فنزلت هذه الاَية: {إيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ}.
7963ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ} قال: قصور مشيدة.
وقال آخرون: معنى ذلك: قصور بأعيانها في السماء. ذكر من قال ذلك:
7964ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {إيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ} وهي قصور بيض في سماء الدنيا مبنية.
7965ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد, قال: أخبرنا أبو جعفر, عن الربيع في قوله: {إيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ} يقول: ولو كنتم في قصور في السماء.
واختلف أهل العربية في معنى المشيدة, فقال بعض أهل البصرة منهم: المشيدة: الطويلة. قال: وأما المَشيد بالتخفيف, فإنه المزين.
وقال آخرون منهم نحو ذلك القول, غير أنه قال: المَشيد بالتخفيف: المعمول بالشّيد, والشّيد: الجصّ. وقال بعض أهل الكوفة: المَشِيد والمُشيّد أصلهما واحد, غير أن ما شدّد منه فإنما يشدّد لتردد الفعل فيه في جمع مثل قولهم: هذه ثياب مصبغة, وغنم مذبحة, فشدد لأنها جمع يفرّق فيها الفعل, وكذلك مثله قصور مُشيّدة, لأن القصور كثيرة تردّد فيها التشييد, ولذلك قيل: بروج مشيدة, ومنه قوله: {وَغَلّقَتِ الأبْوَابَ} وكما يقال: كسّرت العود: إذا جعلته قطعا, أي قطعة بعد قطعة. وقد يجوز في ذلك التخفيف, فإذا أفرد من ذلك الواحد, فكان الفعل يتردّد فيه ويكثر تردّده في جمع منه, جاز التشديد عندهم والتخفيف, فيقال منه: هذا ثوب مخّرق وجلد مقطّع, لتردّد الفعل فيه وكثرته بالقطع والخرق. وإن كان الفعل لا يكثر فيه ولا يتردّد لم يجيزوه إلا بالتخفيف, وذلك نحو قولهم: رأيت كبشا مذبوحا, ولا يجيزون فيه «مذبّحا», لأن الذبح لا يتردّد فيه تردّد التخرّق في الثوب. وقالوا: فلهذا قيل: قصر مَشيد, لأنه واحد, فجعل بمنزلة قولهم: كبش مذبوح. وقالوا: جائز في القصر أن يقال قصر مُشيّد بالتشديد, لتردّد البناء فيه والتشييد, ولا يجوز ذلك في «كبش مذبوح» لما ذكرنا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَإنْ تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عْنِدِكَ}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وَإنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ}: وإن ينلهم رخاء وظفر وفتح ويصيبوا غنيمة يقولوا هذه من عند الله, يعني: من قِبَل الله ومن تقديره, وإنْ تصبهم سيئة, يقول: وإن تنلهم شدّة من عيش وهزيمة من عدوّ وجراح وألم, يقولوا لك يا محمد: هذه من عندك بخطئك التدبير. وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن الذين قال فيهم لنبيه: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ}.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
7966ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر قالا: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية, في قوله: {وَإنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَإنْ تُصبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} قال: هذه في السرّاء والضرّاء.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن أبي جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية مثله.
7967ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {وَإنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَإنْ تُصبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} فقرأ حتى بلغ: {وأرْسَلْناكَ للنّاسِ رَسُول} قال: إن هذه الاَيات نزلت في شأن الحرب. فقرأ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فانْفِرُوا ثُباتٍ أوِ انْفِرُوا جَمِيع} فقرأ حتى بلغ: {وَإنْ تُصبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ} من عند محمد عليه الصلاة والسلام, أساء التدبير وأساء النظر, ما أحسن التدبير ولا النظر.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ}.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ} قل يا محمد لهؤلاء القائلين إذا أصابتهم حسنة هذه من عند الله, وإذا أصابتهم سيئة هذه من عندك: كل ذلك من عند الله دوني ودون غيري, من عنده الرخاء والشدّة, ومنه النصر والظفر, ومن عنده القتل والهزيمة. كما:
7968ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة: {قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ} النعم والمصائب.
7969ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: {قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ} النصر والهزيمة.
7970ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيث} يقول: الحسنة والسيئة من عند الله, أما الحسنة فأنعم بها عليك, وأما السيئة فابتلاك بها.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيث}.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ} فما شأن هؤلاء القوم الذين إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله, وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك, {لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيث} يقول: لا يكادون يعلمون حقيقة ما تخبرهم به من أن كلّ ما أصابهم من خير أو شرّ أو ضرّ وشدة أو رخاء, فمن عند الله, لا يقدر على ذلك غيره, ولا يصيب أحدا سيئة إلا بتقديره, ولا ينال رخاء ونعمة إلا بمشيئته. وهذا إعلام من الله عباده أن مفاتح الأشياء كلها بيده, لا يملك شيئا منها أحد غيره.
الآية : 79
القول في تأويل قوله تعالى: {مّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنّاسِ رَسُولاً وَكَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}: ما يصيبك يا محمد من رخاء ونعمة وعافية وسلامة, فمن فضل الله عليك يتفضل به عليك إحسانا منه إليك. وأما قوله: {وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} يعني: وما أصابك من شدّة ومشقة وأذى ومكروه, فمن نفسك, يعني: بذنب استوجبتها به اكتسبته نفسك. كما:
7971ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أما من نفسك, فيقول: من ذنبك.
7972ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} عقوبة يا ابن آدم بذنبك. قال: وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا يُصِيبُ رَجُلاً خَدْشُ عُودٍ وَلا عَثْرَةُ قَدَمٍ وَلا اخْتِلاجُ عِرْقٍ إلاّ بِذَنْبٍ, وَما يَعْفُوا اللّهُ أكْثَرُ».
7973ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} يقول: الحسنة: ما فتح الله عليه يوم بدر وما أصابه من الغنيمة والفتح, والسيئة: ما أصابه يوم أُحد أن شجّ في وجهه وكسرت رباعيته.
7974ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} يقول: بذنبك. ثم قال: {كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ} النعم والمصيبات.
7975ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر, قالا: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية, قوله: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قال: هذه في الحسنات والسيئات.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن أبي جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية مثله.
7976ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: {وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}قال: عقوبة بذنبك.
7977ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} بذنبك, كما قال لأهل أُحد: {أوَ لَمّا أصَابَتْكُمْ مُصِيَبةٌ قَدْ أصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أنّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِكُمْ} بذنوبكم.
7978ـ حدثني يونس, قال: حدثنا سفيان, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح, في قوله: {ماأصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قال: بذنبك, وأنا قدرتها عليك.
حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا يحيـى, عن سفيان, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح, في قوله: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وأنا الذي قدرتها عليك.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي, قال: حدثنا محمد بن بشر, قال: حدثنيه إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح, بمثله.
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما وجه دخول «من» في قوله: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} و{مِنْ سَيّئَةٍ}؟ قيل: اختلف في ذلك أهل العربية, فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت «من», لأن «من» تحسن مع النفي, مثل: ما جاءني من أحد. قال: ودخول الخبر بالفاء لازما بمنزلة «مَنْ». وقال بعض نحويي الكوفة: أدخلت «مِنْ» مع «ما», كما تدخل على «إن» في الجزاء لأنهما حرفا جزاء, وكذلك تدخل مع «مَن» إذا كانت جزاء, فتقول العرب: مَنْ يزرك مِنْ أحد فتكرمه, كما تقول: إنْ يزرك مِنْ أحد فتكرمه. قال: وأدخلوها مع «ما» و«مَنْ», ليعلم بدخولها معهما أنهما جزاء. قالوا: وإذا دخلت معهما لم تحذف, لأنها إذا حذفت صار الفعل رافعا شيئين, وذلك أن «ما» في قوله: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} رفع بقوله: {أصَابَكَ} فلو حذفت «مِنْ» رفع قوله: {أصَابَكَ} السيئة, لأن معناه: إن تصبك سيئة, فلم يجز حذف «من» لذلك, لأن الفعل الذي هو على فعَل أو يَفعل لا يرفع شيئين, وجاز ذلك مع «مَنْ», لأنها تشتبه بالصفات, وهي في موضع اسم, فأما «إن», فإن «من» تدخل معها وتخرج, ولا تخرج مع «أيّ» لأنها تعرب فيبين فيها الإعراب, ودخلت مع «ما» لأن الإعراب لا يظهر فيها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وأرْسَلْناكَ للنّاسِ رَسُولاً وكَفَى باللّهِ شَهيد}.
يعني بقوله جل ثناؤه: {وأرْسَلْناكَ للنّاسِ رَسُول}: إنما جعلناك يا محمد رسولاً بيننا وبين الخلق تبلغهم ما أرسلناك به من رسالة, وليس عليك غير البلاغ وأداء الرسالة إلى من أرسلت, فإن قبلوا ما أرسلت به فلأنفسهم, وإن ردوا فعليها. {وكَفَى بالله} عليك وعليهم {شَهِيد} يقول: حسبك الله تعالى ذكره شاهدا عليك في بلاغك ما أمرتك ببلاغه من رسالته ووحيه, وعلى من أرسلت إليه في قبولهم منك ما أرسلت به إليهم, فإنه لا يخفى عليه أمرك وأمرهم, وهو مجازيك ببلاغك ما وعدك, ومجازيهم ما عملوا من خير وشر جزاء المحسن بإحسانه, والمسيء بإساءته