تفسير الطبري تفسير الصفحة 92 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 92
093
091
 الآية : 87
القول في تأويل قوله تعالى: {اللّهُ لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ لَيَجْمَعَنّكُمْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {اللّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ لَيَجْمَعَنّكُمْ} المعبود الذي لا تنبغي العبودة إلا له هو, الذي له عبادة كل شيء وطاعة كل طائع. وقوله: {لَيَجَمَعَنّكُمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ} يقول: ليبعثنكم من بعد مماتكم, وليحشرنكم جميعا إلى موقف الحساب الذي يجازي الناس فيه بأعمالهم, ويقضي فيه بين أهل طاعته ومعصيته وأهل الإيمان به والكفر. {لا رَيْبَ فِيهِ} يقول: لا شكّ في حقيقة ما أقول لكم من ذلك وأخبركم من خبري: أنّي جامعكم إلى يوم القيامة بعد مماتكم. {وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيث} يعني بذلك: واعلموا حقيقة ما أخبركم من الخبر, فإني جامعكم إلى يوم القيامة للجزاء والعرض والحساب والثواب والعقاب يقينا, فلا تشكوا في صحته, ولا تمتروا في حقيته, فإن قولي الصدق الذي لا كذب فيه, ووعدى الصدق الذي لا خلف له. {وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيث} يقول: وأيّ ناطق أصدق من الله حديثا؟ وذلك أن الكاذب إنما يكذب ليجتلب بكذبه إلى نفسه نفعا أو يدفع به عنها ضرّا, والله تعالى ذكره خالق الضرّ والنفع, فغير جائز أن يكون منه كذب, لأنه لا يدعوه إلى اجتلاب نفع إلى نفسه, أو دفع ضرّ عنها سواه تعالى ذكره, فيجوز أن يكون له في استحالة الكذب منه نظيرا, ومن أصدق من الله حديثا وخبرا.
الآية : 88
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوَاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ}: فما شأنكم أيها المؤمنون في أهل النفاق فئتين مختلفتين, {وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُو} يعني بذلك: والله ردّهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم وسبي ذراريهم. والإركاس: الردّ, ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
فأُرْكِسُوا فِي حَمِيمِ النّارِ إنّهُمُكانُوا عُصَاةً وقالوا الإفْكَ وَالزّورَا
يقال منه: أركسهم وركسهم. وقد ذُكر أنها في قراءة عبد الله وأبيّ: «والله ركسهم» بغير ألف.
واختلف أهل التأويل في الذين نزلت فيهم هذه الاَية, فقال بعضهم: نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد, وانصرفوا إلى المدينة, وقالوا لرسول الله عليه الصلاة والسلام ولأصحابه: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتّبَعْنَاكُمْ}. ذكر من قال ذلك:
8038ـ حدثني الفضل بن زياد الواسطي, قال: حدثنا أبو داود, عن شعبة, عن عديّ بن ثابت, قال: سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاريّ يحدّث عن زيد بن ثابت: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أُحد, رجعت طائفة ممن كان معه, فكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين, فرقة تقول: نقتلهم, وفرقة تقول: لا. فنزلت هذه الاَية: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُو}... الاَية, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة: «أنّها طَيّبَةٌ وإنّها تَنْفِي خَبَشَها كمَا تَنْفِي النّارُ خَبَثَ الفِضّةِ».
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو أسامة, قال: حدثنا شعبة, عن عديّ بن ثابت, عن عبد الله بن يزيد, عن زيد بن ثابت, قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه.
حدثني زريق بن السخت, قال: حدثنا شبابة, عن عديّ بن ثابت, عن عبد الله بن يزيد, عن زيد بن ثابت, قال: ذكروا المنافقين عند النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقال فريق: نقتلهم, وقال فريق: لا نقتلهم فأنزل الله تبارك وتعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ}... إلى آخر الاَية.
وقال آخرون: بل نزلت في اختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا قدموا المدينة من مكة, فأظهروا للمسلمين أنهم مسلمون, ثم رجعوا إلى مكة وأظهروا لهم الشرك. ذكر من قال ذلك:
8039ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن} قال: قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون, ثم ارتدّوا بعد ذلك, فاستأذنوا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها. فاختلف فيهم المؤمنون, فقائل يقول: هم منافقون, وقائل يقول: هم مؤمنون. فبين الله نفاقهم, فأمر بقتالهم. فجاءوا ببضائعهم يريدون المدينة, فلقيهم هلال بن عويمر الأسلمي, وبينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم حلف, وهو الذي حصِر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه, فدفع عنهم بأنهم يؤمنون هلالاً, وبينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله بنحوه, غير أنه قال: فبين الله نفاقهم, وأمر بقتالهم فلم يقاتلوا يومئذ, فجاءوا ببضائعهم يريدون هلال بن عويمر الأسلمي, وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف.
وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا الإسلام بمكة, وكانوا يعينون المشركين على المسلمين. ذكر من قال ذلك:
8040ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن} وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام, وكانوا يظاهرون المشركين, فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم, فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام, فليس علينا منهم بأس! وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة, قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم, فإنهم يظاهرون عليكم عدوّكم! وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله ـ أو كما قالوا أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به؟ من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم تستحلّ دماؤهم وأموالهم لذلك! فكانوا كذلك فئتين, والرسول عليه الصلاة والسلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء¹ فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّهُ}... الاَية.
8041ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن}... الاَية, ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش كانا مع المشركين بمكة, وكانا قد تكلما بالإسلام, ولم يهاجرا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فلقيهما ناس من أصحاب نبيّ الله وهما مقبلان إلى مكة, فقال بعضهم: إن دماءهما وأموالهما حلال, وقال بعضهم: لا تحلّ لكم. فتشاجروا فيهما, فأنزل الله في ذلك: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ واللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُو} حتى بلغ: {وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَسَلّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُم}.
8042ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا أبو سفيان, عن معمر بن راشد, قال: بلغني أن ناسا من أهل مكة كتبوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم قد أسلموا, وكان ذلك منهم كذبا. فلقوهم, فاختلف فيهم المسلمون, فقالت طائفة: دماؤهم حلال, وقالت طائفة: دماؤهم حرام¹ فأنزل الله: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُو}.
8043ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن} هم ناس تخلفوا عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم, وأقاموا بمكة, وأعلنوا الإيمان, ولم يهاجروا. فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتبرأ من ولايتهم آخرون, وقالوا: تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا. فسماهم الله منافقين, وبرأ المؤمنين من ولايتهم, وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا.
وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم كانوا بالمدينة أرادوا الخروج عنها نفاقا. ذكر من قال ذلك:
8044ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُو} قال: كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة, فقالوا للمؤمنين: إنا قد أصابنا أوجاع في المدينة واتّخَمْناها, فلعلنا أن نخرج إلى الظّهْر حتى نتماثل ثم نرجع, فإنا كنا أصحاب برية. فانطلقوا¹ واختلف فيهم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقالت طائفة: أعداء الله المنافقون, وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم! وقالت طائفة: لا, بل إخواننا تخمتهم المدينة فاتّخموها. فخرجوا إلى الظهر يتنزّهون, فإذا برءوا رجعوا. فقال الله: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ} يقول: ما لكم تكونون فيهم فئتين {والله أرْكَسَهُمْ بمَا كَسبو}.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أهل الإفك. ذكر من قال ذلك:
8045ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُو} حتى بلغ: {فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ} قال: هذا في شأن ابن أبيّ حين تكلم في عائشة بما تكلم. فقال سعد بن معاذ: فإنى أبرأ إلى الله وإلى رسوله منه! يريد عبد الله بن أبيّ ابن سلول.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: نزلت هذه الاَية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدّوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب¹ لأن اختلاف أهل ذلك إنما هو على قولين: التأويل في أحدهما أنهم قوم كانوا من أهل مكة على ما قد ذكرنا الرواية عنهم, والاَخر أنهم قوم كانوا من أهل المدينة, وفي قول الله تعالى ذكره: {فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُو} أوضح الدليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر, فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك, فلم يكن عليه فرض هجرة, لأنه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه.
واختلف أهل العربية في نصب قوله: {فِئَتَيْنِ} فقال بعضهم: هو منصوب على الحال, كما تقول: ما لك قائما, يعني ما لك في حال القيام. وهذا قول بعض البصريين¹ وقال بعض نحويي الكوفيين: هو منصوب على فعل «ما لك», قال: ولا يُبالَى كان المنصوب في مالك معرفة أو نكرة. قال: ويجوز في الكلام أن يقول: ما لك السائر معنا, لأنه كالفعل الذي ينصب بكان وأظنّ وما أشبههما. قال: وكل موضع صلحت فيه «فعل» و«يفعل» من المنصوب جاز نصب المعرفة منه والنكرة, كما ينصب كان وأظنّ لأنهنّ نواقص في المعنى وإن ظننت أنهنّ تامات. وهذا القول أولى بالصواب في ذلك, لأن المطلوب في قول القائل: «ما لك قائما» القيام, فهو في مذهب كان وأخواتها وأظنّ وصواحباتها.
القول في تأويل قوله عزّ وجلّ: {وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُو}.
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ} فقال بعضهم: معناه: ردّهم¹ كما قلنا. ذكر من قال ذلك:
8046ـ حدثنا الحسن, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس: {وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُو} ردّهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: والله أوقعهم. ذكر من قال ذلك:
8047ـ حدثني المثنى, قال: ثني عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: {وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُو} يقول: أوقعهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: أضلّهم وأهلكهم. ذكر من قال ذلك:
8048ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة: {وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ} قال: أهلكهم.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة: {وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُو}: أهلكهم بما عملوا.
8049ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُو}: أهلكهم.
وقد أتينا على البيان عن معنى ذلك قبل بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى: {أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيل}.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّهُ} أتريدون أيها المؤمنون أن تهدوا إلى الإسلام, فتوفقوا للإقرار به والدخول فيه من أضله الله عنه, يعني بذلك: من خذله الله عنه فلم يوفقه للإقرار به. وإنما هذا خطاب من الله تعالى ذكره للفئة التي دافعت عن هؤلاء المنافقين الذين وصف الله صفتهم في هذه الاَية, يقول لهم جلّ ثناؤه: أتبغون هداية هؤلاء الذين أضلهم الله فخذلهم عن الحقّ واتباع الإسلام بمدافعتكم عن قتالهم من أراد قتالهم من المؤمنين؟ {وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيل} يقوله: ومن خذله عن دينه واتباع ما أمره به من الإقرار به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عنده, فأضله عنه, فلن تجد له يا محمد سبيلاً, يقول: فلن تجد له طريقا تهديه فيها إلى إدراك ما خذله الله (عنه), ولا منهجا يصل منه إلى الأمر الذي قد حرمه الوصول إليه.
الآية : 89
القول في تأويل قوله تعالى: {وَدّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتّمُوهُمْ وَلاَ تَتّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {وَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كمَا كَفَرُو}: تمنى هؤلاء المنافقون الذين أنتم أيها المؤمنون فيهم فئتان أن تكفروا فتجحدوا وحدانية ربكم وتصديق نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم, {كما كَفَرُو} يقوله: كما جحدوا هم ذلك. {فَتَكُونُونَ سَوَاءً} يقول: فتكونون كفارا مثلهم, وتستوون أنتم وهم في الشرك بالله. {فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ} يقول: حتى يخرجوا من دار الشرك ويفارقوا أهلها الذين هم بالله مشركون إلى دار الإسلام وأهلها {في سَبِيل الله} يعني في ابتغاء دين الله, وهو سبيله, فيصيروا عند ذلك مثلكم, ويكون لهم حينئذ حكمكم. كما:
8050ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: {وَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُو} يقول: حتى يصنعوا كما صنعتم, يعني: الهجرة في سبيل الله.
القول في تأويل قوله: {فإنْ تَوَلّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّا وَلا نَصِير}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: فإن أدبر هؤلاء المنافقون عن الإقرار بالله ورسوله, وتولوا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام, ومن الكفر إلى الإسلام, فخذوهم أيها المؤمنون, واقتلوهم حيث وجدتموهم من بلادهم وغير بلادهم, أين أصبتموهم من أرض الله. {ولا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّ} يقوله: ولا تتخذوا منهم خليلاً يواليكم على أموركم, ولا ناصرا ينصركم على أعدائكم, فإنهم كفار لا يألونكم خبالاً, ودّوا ما عنتّم. وهذا الخبر من الله جلّ ثناؤه إبانة عن صحة نفاق الذين اختلف المؤمنون في أمرهم, وتحذير لمن دافع عنهم عن المدافعة عنهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
8051ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: {فإنْ تَوَلّوْا فخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ}: فإن تولوا عن الهجرة فخذوهم واقتلوهم.
8052ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {فإنْ تَوَلّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} يقول: إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم.
الآية : 90
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَسَلّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}: فإن تولّى هؤلاء المنافقون الذين اختلفتم فيهم عن الإيمان بالله ورسوله, وأبوا الهجرة, فلم يهاجروا في سبيل الله, فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم, سوى من وصل منهم إلى قوم بينكم وبينهم موادعة وعهد وميثاق, فدخلوا فيهم وصاروا منهم ورضوا بحكمهم, فإن لمن وصل إليهم فدخل فيهم من أهل الشرك راضيا بحكمهم في حقن دمائهم بدخوله فيهم, أن لا تسبى نساؤهم وذراريهم, ولا تُغنم أموالهم. كما:
8053ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} يقول: إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم, فإن أحد منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق, فأجروا عليه مثل ما تجرون على أهل الذمة.
8054ـ حدثني يونس, عن ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} يصلون إلى هؤلاء الذين بينكم وبينهم ميثاق من القوم, لهم من الأمان مثل ما لهؤلاء.
8055ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة, قوله: {إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} قال: نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف.
وقد زعم بعض أهل العربية, أن معنى قوله: {إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ}: إلا الذين يتصلون في أنسابهم لقوم بينكم وبينهم ميثاق¹ من قولهم: اتّصل الرجل, بمعنى: انتمى وانتسب, كما قال الأعشى في صفة امرأة انتسبت إلى قوم:
إذا اتّصَلَتْ قالَتْ أبَكْرَ بْنَ وَائِلٍوَبَكْرٌ سَبَتْها والأُنُوفُ رَوَاغِمُ
يعني بقوله: اتصلت: انتسبت. ولا وجه لهذا التأويل في هذا الموضع, لأن الانتساب إلى قوم من أهل الموادعة أو العهد لو كان يوجب للمنتسبين إليهم ما لهم إذا لم يكن لهم من العهد والأمان ما لهم, لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقاتل قريشا, وهم أنسباء السابقين الأوّلين. ولأهل الإيمان من الحقّ بإيمانهم أكثر مما لأهل العهد بعهدهم, وفي قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي قريش بتركها الدخول فيما دخل فيه أهل الإيمان منهم, مع قرب أنسابهم من أنساب المؤمنين منهم, الدليل الواضح أن انتساب من لا عهد له إلى ذي العهد منهم, لم يكن موجبا له من العهد ما لذي العهد من انتسابه.
فإن ظنّ ذو غفلة أن قتال النبيّ صلى الله عليه وسلم من قاتل من أنسباء المؤمنين من مشركي قريش إنما كان بعد ما نسخ قوله: {إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} فإن أهل التأويل أجمعوا على أن ذلك نسخ قراءة نزلت بعد فتح مكة ودخول قريش في الإسلام.
القول في تأويل قوله تعالى: {أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أنْ يُقاتِلُوكُمْ أوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ}.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أنْ يُقاتِلُوكُمْ أوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ} فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم, إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق, أو: إلا الذين جاءوكم منهم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم. ويعني بقوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} ضاقت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو أن يقاتلوا قومهم, والعرب تقول لكل من ضاقت نفسه عن شيء من فعل أو كلام قد حصر, ومنه الحصر في القراءة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
8056ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} يقول: ضاقت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم.
وفي قوله: {أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أنْ يُقاتِلُوكُمْ أوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ} متروك ترك ذكره لدلالة الكلام عليه, وذلك أن معناه: أو جاءوكم قد حصرت صدورهم, فترك ذكر «قد» لأن من شأن العرب فعل مثل ذلك, تقول: أتاني فلان ذهب عقله, بمعنى: قد ذهب عقله¹ ومسموع منهم: أصحبت نظرت إلى ذات التنانير, بمعنى: قد نظرت. ولإضمار «قد» مع الماضي جاز وضع الماضي من الأفعال في موضع الحال, لأن قد إذا دخلت معه أدنته من الحال وأشبه الأسماء. وعلى هذه القراءة, أعني: {حَصِرَتْ} قرأ القرّاء في جميع الأمصار, وبها يقرأ لإجماع الحجة عليها. وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: «أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ» نصبا, وهي صحيحة في العربية فصيحة, غير أنه غير جائز القراءة بها عندي لشذوذها وخروجها عن قراءة قراء الإسلام.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَسَلّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فإنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وألْقَوْا إلَيْكُمُ السّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيل}.
يعني جلّ ثناؤه: {ولو شَاءَ الله لَسلّطُهمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ}: ولو شاء الله لسلط هؤلاء الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق, فيدخلون في جوارهم وذمتهم, والذين يجيئونكم قد حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم عليكم أيها المؤمنون, فقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين, ولكن الله تعالى ذكره كفهم عنكم. يقول جلّ ثناؤه: فأطيعوا الذي أنعم عليكم بكفهم عنكم مع سائر ما أنعم به عليكم فيما أمركم به من الكفّ عنهم إذا وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق, أو جاءوكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم. ثم قال جلّ ثناؤه: {فإنِ اعْتَزَلُوكُمْ} يقول: فإن اعتزلكم هؤلاء الذين أمرتكم بالكفّ عن قتالهم من المنافقين بدخولهم في أهل عهدكم أو مصيرهم إليكم, حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم, فلم يقاتلوكم, {وأَلْقَوْا إلَيْكُمْ السّلَمَ} يقول: وصالحوكم. والسلم: هو الاستسلام, وإنما هذا مثل كما يقول الرجل للرجل: أعطيتك قيادي وألقيت إليك خطامي, إذا استسلم له وانقاد لأمره, فكذلك قوله: {وألْقَوْا إلَيْكُمْ السّلَمَ} إنما هو: ألقوا إليكم قيادهم واستسلموا لكم صلحا منهم لكم وسلما. ومن السلم قول الطرماح:
وَذاكَ أنّ تَمِيما غادَرَتْ سَلَماللأُسْدِ كُلّ حَصَانٍ وَعْثَةِ اللّبَدِ
يعني بقوله سلما: استسلاما.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
8057ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: {فإنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وألْقَوْا إلَيْكُمُ السّلَمَ} قال: الصلح.
وأما قوله: {فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيل} فإنه يقول: إذا استسلم لكم هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم صلحا منهم لكم, فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً: أي فلم يجعل الله لكم على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم طريقا إلى قتل أو سباء أو غنيمة, بإباحة منه ذلك لكم ولا إذن, فلا تعرضوا لهم في ذلك إلا سبيل خير. ثم نسخ الله جميع حكم هذه الاَية والتي بعدها بقوله تعالى ذكره: {فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}... إلى قوله: {فَخَلّوا سَبِيلَهُمْ إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. ذكر من قال في ذلك مثل الذي قلنا:
8058ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيـى بن واضح, عن الحسين, عن يزيد, عن عكرمة والحسن, قالا: قال: {فَإنْ تَوَلّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقُتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتمُوهُمْ وَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّا وَلا نَصِيرا إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَومٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}... إلى قوله: {وأُولَئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطانا مُبِين}. وقال في الممتحنة: {لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أنْ تَبَرّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُقْسِطِينَ} وقال فيها: {إنّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنه الّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدّينِ وأخْرَجُوكُمْ مِنْ دِياركُمْ}... إلى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ}. فنسخ هؤلاء الاَيات الأربعة في شأن المشركين, فقال: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَاْعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مُعْجزِي اللّهِ وأنّ اللّهَ مُخْزِي الكافِرِينَ} فجعل لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض, وأبطل ما كان قبل ذلك. وقال في التي تليها: {فإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصد} ثم نسخ واستثنى فقال: {فإنْ تابُوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتَوْا الزّكاةَ}... إلى قوله: {ثُمّ أبْلِغْهُ مأْمَنَهُ}.
8059ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: {فإنِ اعْتَزَلُوكُمْ} قال: نسختها: {فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتمُوهُمْ}.
8060ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج بن المنهال, قال: حدثنا همام بن يحيـى, قال: سمعت قتادة يقول في قوله: {إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}... إلى قوله: {فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيل} ثم نسخ ذلك بعد في براءة, وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل المشركين بقوله: {اقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصَدٍ}.
8061ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال:قال ابن زيد في قوله: {إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}... الاَية, قال: نُسخ هذا كله أجمع, نسخه الجهاد, ضرب لهم أجل أربعة أشهر, إما أن يسلموا وإما أن يكون الجهاد.
الآية : 91
القول في تأويل قوله تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلّ مَا رُدّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوَاْ إِلَيْكُمُ السّلَمَ وَيَكُفّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مّبِيناً }..
وهؤلاء فريق آخر من المنافقين كانوا يظهرون الإسلام لرسول اللهصلى الله عليه وسلم وأصحابه ليأمنوا به عندهم من القتل والسباء وأخذ الأموال وهم كفار, يعلم ذلك منهم قومهم, إذا لقوهم كانوا معهم وعبدوا ما يبعدونه من دون الله ليأمنوهم على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم, يقول الله: {كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَ} يعني: كلما دعاهم إلى الشرك بالله ارتدوا فصاروا مشركين مثلهم.
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الاَية, فقال بعضهم: هم ناس كانوا من أهل مكة أسلموا على ما وصفهم الله به من التقية وهم كفار, ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم, يقول الله: {كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَ} يعني: كلما دعاهم إلى الشرك بالله ارتدوا, فصاروا مشركين مثلهم ليأمنوا عند هؤلاء وهؤلاء. ذكر من قال ذلك:
8062ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {يُرِيدونَ أنْ يأْمَنُوكُمْ ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} قال ناس كانوا يأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم, فيسلمون رياء, ثم يرجوعن إلى قريش فيرتكسون في الأوثان, يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا, فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
8063ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أنْ يَأْمَنُوكُمْ ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيه} يقول: كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنة أركسوا فيها. وذلك أن الرجل كان يوحد قد تكلم بالإسلام, فيقرّب إلى العود والجحر وإلى العقرب والخنفساء, فيقول المشركون لذلك المتكلم بالإسلام: قل هذا ربي, للخنفساء والعقرب.
وقال آخرون: بل هم قوم من أهل الشرك كانوا طلبوا الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمنوا عنده وعند أصحابه وعند المشركين. ذكر من قال ذلك:
8064ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {سَتَجِدُونَ آخَرينَ يُريدُونَ أنْ يَأْمَنُوكُمْ ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} قال: حيّ كانوا بتهامة, قالوا: يا نبيّ الله لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا, وأرداوا أن يأمنوا نبيّ الله ويأمنوا قومهم. فأبي الله ذلك عليهم, فقال: {كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَة أُرْكِسُوا فِيه} يقول: كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه.
وقال آخرون: نزلت هذه الاَية في نعيم بن مسعود الأشجعي. ذكر من قال ذلك:
8065ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: ثم ذكر نعيم بن مسعود الأشجعي, وكان يأمن في المسلمين والمشركين, ينقل الحديث بين النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُريدُونَ أنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَة} يقول: إلى الشرك.
وأما تأويل قوله: {كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَة أُرْكِسُوا فِيهَ} فإنهم كما:
8066ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: {كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَ} قال: كلما ابتلوا بها عموا فيها.
8067ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه.
والقول في ذلك ما قد بينت قبل, وذلك أن الفتنة في كلام العرب: الاختبار, والإركاس: الرجوع.
فتأويل الكلام: كلما ردوا إلى الاختبار ليرجعوا إلى الكفر والشرك رجعوا إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {فإنْ لَمْ يَعْتَزلُوكُمْ وَيُلْقُوا إلَيْكُمْ السّلَمَ ويَكُفّوا أيْديَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وأُولَئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطانا مُبين}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: فإن لم يعتزلوكم أيها المؤمنون هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم, وهي كلما دعوا إلى الشرك أجابوا إليه, ويلقوا إليكم السلم, ولم يستسلموا إليكم فيعطوكم المقاد ويصالحوكم. كما:
8068ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: {فإنْ لَمْ يَعْتَزلُوكُمْ وَيُلْقُوا إلَيْكُمُ السّلَمَ} قال: الصلح.
{وَيَكُفّوا أيْدِيَهُمْ} يقول: ويكفوا أيديهم عن قتالكم, {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} يقول جلّ ثناؤه: فإن لم يفعلوا فخذوهم أين أصبتموهم من الأرض ولقيتموهم فيها فاقتلوهم, فإن دماءهم لكم حينئذٍ حلال. {وأُولَئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطانا مُبِين} يقول جلّ ثناؤه: وهؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم وهم على ما هم عليه من الكفر, إن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم, جعلنا لكم حجة في قتلهم أينما لقيتموهم, بمقامهم على كفرهم وتركهم هجرة دار الشرك. {مُبِين} يعني أنها تبين عن استحقاقهم ذلك منكم وإصابتكم الحقّ في قتلهم, وذلك قوله: {سُلْطانا مُبِين}. والسلطان: هو الحجة. كما:
8069ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا قبيصة, قال: حدثنا سفيان, عن رجل, عن عكرمة, قال: ما كان في القرآن من سلطان فهو حجة.
8070ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: قوله: {سُلْطانا مُبِين} أما السلطان المبين: فهو الحجة