الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا
قوله عز وجل : ( الرجال قوامون على النساء ) الآية نزلت في سعد بن الربيع وكان من النقباء وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير ، قاله مقاتل ، وقال الكلبي : امرأته حبيبة بنت محمد بن مسلمة ، وذلك أنها نشزت عليه فلطمها ، فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم [ فقال : أفرشته كريمتي فلطمها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لتقتص من زوجها " ، فانصرفت مع أبيها ] لتقتص منه فجاءجبريل عليه السلام [ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ارجعوا هذا جبريل أتاني بشيء " ، فأنزل الله هذه الآية ] ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أردنا أمرا وأراد الله أمرا ، والذي أراد الله خير " ، ورفع القصاص .قوله تعالى : ( الرجال قوامون على النساء ) أي : مسلطون على تأديبهن ، والقوام والقيم بمعنى واحد ، والقوام أبلغ وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب .( بما فضل الله بعضهم على بعض ) يعني : فضل الرجال على النساء بزيادة العقل والدين والولاية ، وقيل: بالشهادة ، لقوله تعالى : " فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان " ( البقرة - 282 ) وقيل: بالجهاد ، وقيل: بالعبادات من الجمعة والجماعة ، وقيل: هو أن الرجل ينكح أربعا ولا يحل للمرأة إلا زوج واحد ، وقيل: بأن الطلاق بيده ، وقيل: بالميراث ، وقيل: بالدية ، وقيل: بالنبوة .( وبما أنفقوا من أموالهم ) يعني : إعطاء المهر والنفقة ، أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، قال : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، أنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي أنا أبو حذيفة ، أنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " .قوله تعالى : ( فالصالحات قانتات ) أي : مطيعات ( حافظات للغيب ) أي : حافظات للفروج في غيبة الأزواج ، وقيل: حافظات لسرهم ( بما حفظ الله ) قرأ أبو جعفر ( بما حفظ الله ) بالنصب ، أي : يحفظن الله في الطاعة ، وقراءة العامة بالرفع ، أي : بما حفظهن الله بإيصاء الأزواج بحقهن وأمرهم بأداء المهر والنفقة .وقيل: حافظات للغيب بحفظ الله ، أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو عبد الله بن فنجويه ، أخبرنا عمر بن الخطاب ، أنا محمد بن إسحاق المسوحي ، أنا الحارث بن عبد الله ، أنا أبو معشر عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها " ، ثم تلا ( الرجال قوامون على النساء ) الآية .( واللاتي تخافون نشوزهن ) عصيانهن ، وأصل النشوز : التكبر والارتفاع ، ومنه النشز للموضع المرتفع ، ( فعظوهن ) بالتخويف من الله والوعظ بالقول ، ( واهجروهن ) يعني : إن لم ينزعن عن ذلك بالقول فاهجروهن ( في المضاجع ) قال ابن عباس : يوليها ظهره في الفراش ولا يكلمها ، وقال غيره : يعتزل عنها إلى فراش آخر ، ( واضربوهن ) يعني : إن لم ينزعن مع الهجران فاضربوهن ضربا غير مبرح ولا شائن ، وقال عطاء : ضربا بالسواك وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " حق المرأة أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت " .( فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ) أي : لا تجنوا عليهن الذنوب ، وقال ابن عيينة : لا تكلفوهن محبتكم فإن القلب ليس بأيديهن . ( إن الله كان عليا كبيرا ) متعاليا من أن يكلف العباد مالا يطيقونه ، وظاهر الآية يدل على أن الزوج يجمع عليها بين الوعظ والهجران والضرب ، فذهب بعضهم إلى ظاهرها وقال : إذا ظهر منها النشوز جمع بين هذه الأفعال ، وحمل الخوف في قوله ( واللاتي تخافون نشوزهن ) على العلم كقوله تعالى : " فمن خاف من موص جنفا " ( البقرة - 182 ) أي : علم ، ومنهم من حمل الخوف على الخشية لا على حقيقة العلم ، كقوله تعالى : " وإما تخافن من قوم خيانة " ( الأنفال - 58 ) ، وقال : هذه الأفعال على ترتيب الجرائم ، فإن خاف نشوزها بأن ظهرت أمارته منها من المخاشنة وسوء الخلق وعظها ، فإن أبدت النشوز هجرها ، فإن أصرت على ذلك ضربها .
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا
قوله تعالى : ( واعبدوا الله ) أي : وحدوه وأطيعوه ، ( ولا تشركوا به شيئا ) [ أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران أنا علي أبو إسماعيل محمد بن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون الأودي ] عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس؟ قال قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال : قلت الله ورسوله أعلم ، قال : فإن حق الناس على الله أن لا يعذبهم ، قال قلت : يا رسول الله ألا أبشر الناس؟ قال : دعهم يعملون " .قوله تعالى : ( وبالوالدين إحسانا ) برا بهما وعطفا عليهما ، ( وبذي القربى ) أي : أحسنوا بذي القربى ، ( واليتامى والمساكين ) [ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمرو بن زرارة ، أنا عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ] " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا " .[ أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنا عبد الله بن محمود ، أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنا عبد الله بن مبارك ، عن يحيى بن أيوب ، عن عبد الله بن زحر ، عن علي بن يزيد عن القاسم ] عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة تمر عليها يده حسنات ، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين أصبعيه "قوله تعالى : ( والجار ذي القربى ) أي : ذي القرابة ، ( والجار الجنب ) أي : البعيد الذي ليس بينك وبينه قرابة . [ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، أنا علي بن الجعد ، أنا شعبة عن أبي عمران الجوني قال : سمعت ] طلحة قال : قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال : " إلى أقربهما منك بابا " .أخبرنا الأستاذ الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفرايني ، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق ، أنا يزيد بن سنان ، أخبرنا عثمان بن عمر ، أخبرنا أبو عامر الخزاز ، عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ، وإذا طبخت مرقة فأكثر ماءها واغرف لجيرانك منها " .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا محمد بن منهال ، أنا يزيد بن زريع ، أنا عمر بن محمد ، عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " .قوله تعالى : ( والصاحب بالجنب ) يعني : الرفيق في السفر ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة وعكرمة وقتادة ، وقال علي وعبد الله والنخعي : هو المرأة تكون معه إلى جنبه ، وقال ابن جريج وابن زيد : هو الذي يصحبك رجاء نفعك .( وابن السبيل ) قيل: هو المسافر لأنه ملازم للسبيل ، والأكثرون : على أنه الضيف ، أخبرنا الأستاذ الإمامأبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الاسفراييني ، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق ، أنا شعيب بن عمرو الدمشقي ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار ، أنه سمع نافع بن جبير ، عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " .أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب ، عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح الكعبي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، جائزته يوم وليلة ، والضيافة ثلاثة أيام ، وما كان بعد ذلك فهو صدقة ، ولا يحل أن يثوي - أي : أن يقيم - عنده حتى يحرجه " .قوله تعالى : ( وما ملكت أيمانكم ) أي : المماليك أحسنوا إليهم ، أخبرنا محمد بن الحسن المروزي أخبرنا أبو العباس الطحان ، أنا أبو أحمد محمد بن قريش ، أنا علي بن عبد العزيز المكي أنا أبو عبيد القاسم بن سلام ، أنا يزيد ، عن همام ، عن قتادة ، عن صالح أبي الخليل ، عن سفينة ، عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في مرضه : " الصلاة وما ملكت أيمانكم " ، فجعل يتكلم وما يفيض بها لسانه .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمر بن حفص ، أنا أبي ، أنا الأعمش ، عن المعرور ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : رأيت عليه بردا وعلى غلامه برد ، فقلت : لو أخذت هذا فلبسته كانا حلة وأعطيته ثوبا آخر ، فقال : كان بيني وبين رجل كلام وكانت أمه أعجمية فنلت منها فذكرني إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لي أساببت فلانا؟ قلت : نعم ، قال : أفنلت أمه؟ قلت : نعم ، قال إنك امرؤ فيك جاهلية ، قلت : على ساعتي هذه من كبر السن؟ قال : نعم ، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه ، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه " .أخبرنا الإمام أبو الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو طاهر الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمرو بن حفص التاجر ، أنا سهل بن عمار ، أنا يزيد بن هارون ، أخبرنا صدقة بن موسى ، عن فرقد السبخي ، عن مرة الطيب ، عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة سيئ الملكة " .( إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) المختال : المتكبر ، والفخور : الذي يفتخر على الناس بغير الحق تكبرا ، ذكر هذا بعدما ذكر من الحقوق ، لأن المتكبر يمنع الحق تكبرا .أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أنا أبو طاهر الزيادي ، أنا محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق أنا معمر ، عن همام بن منبه ، قال : أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينما رجل يتبختر في بردين وقد أعجبته نفسه خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة " .أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء " .
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا
قوله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) الآية ، والمراد من السكر : السكر من الخمر ، عند الأكثرين ، وذلك أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه صنع طعاما ودعا ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوها قبل تحريم الخمر وسكروا فحضرت صلاة المغرب فقدموا رجلا ليصلي بهم فقرأ ( قل يا أيها الكافرون ) أعبد ما تعبدون ، بحذف ( لا ) هكذا إلى آخر السورة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر أوقات الصلوات حتى نزل تحريم الخمر .وقال الضحاك بن مزاحم : أراد به سكر النوم ، نهى عن الصلاة عند غلبة النوم ، أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن المغلس أنا هارون بن إسحاق الهمذاني ، أخبرنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه " .قوله تعالى : ( حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا ) نصب على الحال ، يعني : ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب ، يقال : رجل جنب وامرأة جنب ، ورجال جنب ونساء جنب .وأصل الجنابة : البعد وسمي جنبا لأنه يتجنب موضع الصلاة ، أو لمجانبته الناس وبعده منهم ، حتى يغتسل .قوله تعالى : ( إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) اختلفوا في معناه ، فقالوا : [ إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون الماء فتيمموا ، منع الجنب من الصلاة حتى يغتسل ] إلا أن يكون في سفر ولا يجد ماء فيصلي بالتيمم ، وهذا قول علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد رضي الله عنهم .وقال الآخرون : المراد من الصلاة موضع الصلاة ، كقوله تعالى : " وبيع وصلوات " ( الحج - 40 ) ، ومعناه : لا تقربوا المسجد وأنتم جنب إلا مجتازين فيه للخروج منه ، مثل أن ينام في المسجد فيجنب أو تصيبه جنابة والماء في المسجد أو يكون طريقه عليه ، فيمر فيه ولا يقيم وهذا قول عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والضحاك والحسن وعكرمة والنخعي والزهري ، وذلك أن قوما من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ولا ممر لهم إلا في المسجد ، فرخص لهم في العبور .واختلف أهل العلم فيه : فأباح بعضهم المرور فيه على الإطلاق ، وهو قول الحسن وبه قال مالك والشافعي رحمهم الله ، ومنع بعضهم على الإطلاق وهو قول أصحاب الرأي ، وقال بعضهم : يتيمم للمرور فيه .أما المكث فلا يجوز عند أكثر أهل العلم لما روينا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " ، وجوز أحمد المكث فيه وضعف الحديث لأن راويه مجهول ، وبه قال المزني .ولا يجوز للجنب الطواف كما لا يجوز له الصلاة ولا يجوز له قراءة القرآن ، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا شعبة أخبرني عمرو بن مرة قال سمعت عبد الله بن سلمة يقول : دخلت على علي رضي الله عنه فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي الحاجة ويأكل معنا اللحم ويقرأ القرآن وكان لا يحجبه أو لا يحجزه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة " .وغسل الجنابة يجب بأحد الأمرين : إما بنزول المني أو بالتقاء الختانين ، وهو تغييب الحشفة في الفرج وإن لم ينزل ، وكان الحكم في الابتداء أن من جامع امرأته فأكسل لا يجب عليه الغسل ثم صار منسوخا .أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان ، عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أن أبا موسى الأشعري سأل عائشة رضي الله عنها عن التقاء الختانين فقالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا التقى الختانان ، أو مس الختان الختان فقد وجب الغسل " .قوله تعالى : ( وإن كنتم مرضى ) جمع مريض ، وأراد به مريضا يضره إمساس الماء مثل الجدري ونحوه ، أو كان على موضع طهارته جراحة يخاف من استعمال الماء فيها التلف أو زيادة الوجع ، فإنه يصلي بالتيمم وإن كان الماء موجودا ، وإن كان بعض أعضاء طهارته صحيحا والبعض جريحا غسل الصحيح منها وتيمم للجريح ، لما أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني ، أنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي ، أنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، أنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي ، أنا محمد بن سلمة عن الزبير بن خريق عن جابر بن عبد الله قال : خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ، فاحتلم فسأل أصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال : " قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب - شك الراوي - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده " .ولم يجوز أصحاب الرأي الجمع بين التيمم والغسل ، وقالوا : إن كان أكثر أعضائه صحيحا غسل الصحيح ولا يتيمم عليه ، وإن كان الأكثر جريحا اقتصر على التيمم .والحديث حجة لمن أوجب الجمع بينهما .قوله تعالى : ( أو على سفر ) أراد أنه إذا كان في سفر طويلا كان أو قصيرا ، وعدم الماء فإنه يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه ، لما روي عن أبي ذر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشره " .أما إذا لم يكن الرجل مريضا ولا في سفر لكنه عدم الماء في موضع لا يعدم فيه الماء غالبا بأن كان في قرية انقطع ماؤها فإنه يصلي بالتيمم ثم يعيد إذا قدر على الماء عند الشافعي ، وعند مالك والأوزاعي لا إعادة عليه ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه يؤخر الصلاة حتى يجد الماء .قوله تعالى : ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) أراد به إذا أحدث ، والغائط : اسم للمطمئن من الأرض ، وكانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث فكني عن الحدث بالغائط ، ( أو لامستم النساء ) قرأ حمزة والكسائي " لمستم " هاهنا وفي المائدة ، وقرأ الباقون ( لامستم النساء )واختلفوا في معنى اللمس والملامسة ، فقال قوم : المجامعة ، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ، وكني باللمس [ عن الجماع لأن الجماع لا يحصل إلا باللمس ] .وقال قوم : هما التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو غير جماع ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر ، والشعبي والنخعي .واختلف الفقهاء في حكم الآية فذهب جماعة إلى أنه إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة ولا حائل بينهما ، ينتقض وضوءهما ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ، وبه قال الزهري والأوزاعي والشافعي رضي الله عنهم .وقال مالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق : إن كان اللمس بشهوة نقض الطهر ، وإن لم يكن بشهوة فلا ينتقض .وقال قوم : لا ينتقض الوضوء باللمس بحال ، وهو قول ابن عباس وبه قال الحسن والثوري .وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا ينتقض إلا أن يحدث الانتشار .واحتج من لم يوجب الوضوء باللمس بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبد الله ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي وإذا قام بسطتهما ، قالت والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح .أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته من الليل فلمسته بيدي فوضعت يدي على قدميه وهو ساجد وهو يقول : " أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " .واختلف قول الشافعي رضي الله عنه فيما لو لمس امرأة من محارمه كالأم والبنت والأخت أو لمس أجنبية صغيرة ، أصح القولين أنه لا ينقض الوضوء لأنها ليست بمحل الشهوة كما لو لمس رجلا .واختلف قوله في انتقاض وضوء الملموس على قولين ، أحدهما : ينتقض لاشتراكهما في الالتذاذ كما يجب الغسل عليهما بالجماع ، والثاني : لا ينتقض لحديث عائشة رضي الله عنها حيث قالت : فوضعت يدي على قدميه وهو ساجد .ولو لمس شعر امرأة أو سنها أو ظفرها لم ينتقض وضوءه عنده .واعلم أن المحدث لا تصح صلاته ما لم يتوضأ إذا وجد الماء أو يتيمم إذا لم يجد الماء . أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن همام بن منبه ، أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " .والحدث هو خروج الخارج من أحد الفرجين عينا كان أو أثرا ، والغلبة على العقل بجنون أو إغماء على أي حال كان ، وأما النوم فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يوجب الوضوء إلا أن ينام قاعدا متمكنا فلا وضوء عليه ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا الثقة عن حميد الطويل ، عن أنس رضي الله عنهما قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء فينامون ، أحسبه قال قعودا حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون .وذهب قوم إلى أن النوم يوجب الوضوء بكل حال وهو قول أبي هريرة رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها ، وبه قال الحسن وإسحاق والمزني ، وذهب قوم إلى أنه لو نام قائما أو قاعدا أو ساجدا فلا وضوء عليه حتى ينام مضطجعا وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي .واختلفوا في مس الفرج من نفسه أو من غيره فذهب جماعة إلى أنه يوجب الوضوء وهو قول عمر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنها ، وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير ، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي ، وأحمد وإسحاق ، وكذلك المرأة تمس فرجها ، غير أن الشافعي رضي الله عنه يقول لا ينتقض إلا أن يمس ببطن الكف أو بطون الأصابع .واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر محمد بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول : دخلت على مروان بن الحكم فذكرنا ما يكون منه الوضوء ، فقال مروان : من مس الذكر الوضوء ، فقال عروة : ما علمت ذلك ، فقال مروان : أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ " .وذهب جماعة إلى أنه لا يوجب الوضوء ، روي ذلك عن علي وابن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة وبه قال الحسن ، وإليه ذهب الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي .واحتجوا بما روي عن طلق بن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مس الرجل ذكره ، فقال : " هل هو إلا بضعة منك " ؟ ويروى " هل هو إلا بضعة أو مضغة منه " .ومن أوجب الوضوء منه قال : هذا منسوخ بحديث بسرة لأن أبا هريرة يروي أيضا : أن الوضوء من مس الذكر ، وهو متأخر الإسلام ، وكان قدوم طلق بن علي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول زمن الهجرة حين كان يبني المسجد .واختلفوا في خروج النجاسة من غير الفرجين بالفصد والحجامة وغيرهما من القيء ونحوه ، فذهب جماعة إلى أنه لا يوجب الوضوء ، روي ذلك عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس ، وبه قال عطاء وطاوس والحسن وسعيد بن المسيب وإليه ذهب مالك والشافعي .وذهبت جماعة إلى إيجاب الوضوء بالقيء والرعاف والفصد والحجامة منهم سفيان الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق .واتفقوا على أن القليل منه وخروج الريح من غير السبيلين لا يوجب الوضوء ولو أوجب الوضوء كثيره لأوجب قليله كالفرج .( فلم تجدوا ماء فتيمموا ) اعلم أن التيمم من خصائص هذه الأمة ، روى حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء " .وكان بدء التيمم ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس أبا بكر رضي الله عنه فقالوا ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس معه ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء أبو بكر رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال : أحبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، قالت : فعاتبني أبو بكر رضي الله عنه وقال ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء ، فأنزل الله تعالى آية التيمم ( فتيمموا ) فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء : ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، قالت عائشة رضي الله عنها : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته .وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبيد بن إسماعيل ، أنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها : أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت : فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم . فقال أسيد بن حضير : جزاك الله خيرا فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجا وجعل للمسلمين فيه بركة .( فتيمموا ) أي : اقصدوا ، ( صعيدا طيبا ) أي : ترابا طاهرا نظيفا ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : الصعيد هو التراب .واختلف أهل العلم فيما يجوز به التيمم ، فذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أنه يختص بما يقع عليه اسم التراب مما يعلق باليد منه غبار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وجعلت تربتها لنا طهورا " .وجوز أصحاب الرأي التيمم بالزرنيخ والجص والنورة وغيرها من طبقات الأرض ، حتى قالوا : لو ضرب يديه على صخرة لا غبار عليها أو على التراب ثم نفخ فيه حتى زال كله فمسح به وجهه ويديه صح تيممه ، وقالوا : الصعيد وجه الأرض ، لما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " .وهذا مجمل ، وحديث حذيفة في تخصيص التراب مفسر ، والمفسر من الحديث يقضي على المجمل .وجوز بعضهم التيمم بكل ما هو متصل بالأرض من شجر ونبات ، ونحوهما وقال : إن الصعيد اسم لما تصاعد على وجه الأرض .والقصد إلى التراب شرط لصحة التيمم ، لأن الله تعالى قال : ( فتيمموا ) والتيمم : القصد ، حتى لو وقف في مهب الريح فأصاب الغبار وجهه ونوى لم يصح .قوله تعالى : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا ) اعلم أن مسح الوجه واليدين واجب في التيمم ، واختلفوا في كيفيته : فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يمسح الوجه واليدين مع المرفقين ، بضربتين ، يضرب كفيه على التراب فيمسح جميع وجهه ، ولا يجب إيصال التراب إلى ما تحت الشعور ، ثم يضرب ضربة أخرى فيمسح يديه إلى المرفقين ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد بن الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن أبي الحويرث ، عن الأعرج ، عن أبي الصمة قال : مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلمت عليه فلم يرد علي حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه ، ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ثم رد علي " ففيه دليل على وجوب مسح اليدين إلى المرفقين كما يجب غسلهما في الوضوء إلى المرفقين ، ودليل على أن التيمم لا يصح ما لم يعلق باليد غبار التراب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حت الجدار بالعصا ، ولو كان مجرد الضرب كافيا لما كان حته .وذهب الزهري إلى أنه يمسح اليدين إلى المنكبين ، لما روي عن عمار أنه قال : تيممنا إلى المناكب .وذلك حكاية فعله لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما روي أنه قال : أجنبت فتمعكت في التراب ، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوجه والكفين .وذهب جماعة إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين ، وهو قول علي وابن عباس رضي الله عنهم ، وبه قال الشعبي وعطاء بن أبي رباح ومكحول ، وإليه ذهب الأوزاعي وأحمد وإسحاق ، واحتجوا بما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا آدم ، أنا شعبة ، أخبرنا الحكم ، عن ذر ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : إني أجنبت فلم أصب الماء ، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب : أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت فصليت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما كان يكفيك هكذا ، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ، ثم مسح بهما وجهه وكفيه " .وقال محمد بن إسماعيل أنا محمد بن كثير عن شعبة بإسناده فقال عمار لعمر رضي الله عنه : تمعكت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يكفيك الوجه والكفان " .وفي الحديث دليل على أن الجنب إذا لم يجد الماء يصلي بالتيمم ، وكذا الحائض والنفساء إذا طهرتا وعدمتا الماء .وذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما إلى أن الجنب لا يصلي بالتيمم بل يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء فيغتسل ، وحملا قوله تعالى : ( أو لامستم النساء ) على اللمس باليد دون الجماع ، وحديث عمار رضي الله عنه حجة ، وكان عمر نسي ما ذكر له عمار فلم يقنع بقوله . وروي أن ابن مسعود رضي الله عنه رجع عن قوله وجوز التيمم للجنب ، والدليل عليه أيضا : ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد بن عياد بن منصور ، عن أبي رجاء العطاردي ، عن عمران بن حصين رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا كان جنبا أن يتيمم ثم يصلي فإذا وجد الماء اغتسل .وأخبرنا عمر بن عبد العزيز ، أنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنا أبو علي اللؤلؤي ، أنا أبو داود السجستاني ، أنا مسدد ، أنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن أبي عمرو ، عن بجدان ، عن أبي ذر رضي الله عنهم قال : اجتمعت غنيمة من الصدقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا ذر ابد فيها ، فبدوت إلى الربذة وكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين ، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك فإن ذلك خير " .ومسح الوجه واليدين في التيمم ، تارة يكون بدلا من غسل جميع البدن في حق الجنب والحائض والنفساء والميت ، وتارة يكون بدلا عن غسل الأعضاء الأربع في حق المحدث ، وتارة يكون بدلا عن غسل بعض أعضاء الطهارة ، بأن يكون على بعض أعضاء طهارته جراحة لا يمكنه غسل محلها ، فعليه أن يتيمم بدلا عن غسله .ولا يصح التيمم لصلاة الوقت إلا بعد دخول الوقت ، ولا يجوز أن يجمع بين فريضتين بتيمم واحد ، لأن الله تعالى قال : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) إلى أن قال : ( فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) ظاهر الآية يدل على وجوب الوضوء أو التيمم إذا لم يجد الماء عند كل صلاة ، إلا أن الدليل قد قام في الوضوء فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة الصلوات بوضوء واحد ، فبقي التيمم على ظاهره ، وهذا قول علي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ، وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة ، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق .وذهب جماعة إلى أن التيمم كالطهارة بالماء يجوز تقديمه على وقت الصلاة ، ويجوز أن يصلي به ما شاء من الفرائض ما لم يحدث ، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي .واتفقوا على أنه يجوز أن يصلي بتيمم واحد مع الفريضة ما شاء من النوافل ، قبل الفريضة وبعدها ، وأن يقرأ القرآن إن كان جنبا ، وإن كان تيممه بعذر السفر وعدم الماء فيشترط طلب الماء ، وهو أن يطلبه من رحله ورفقائه .وإن كان في صحراء لا حائل دون نظره ينظر حواليه ، وإن كان دون نظره حائل قريب من تل أو جدار عدل عنه ، لأن الله تعالى قال : ( فلم تجدوا ماء فتيمموا ) ولا يقال : لم يجد الماء : إلا لمن طلب .وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : طلب الماء ليس بشرط ، فإن رأى الماء ولكن بينه وبين الماء حائل من عدو أو سبع يمنعه من الذهاب إليه ، أو كان الماء في البئر وليس معه آلة الاستقاء ، فهو كالمعدوم ، يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه .
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
قوله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ) الآية .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير : أن الزبير رضي الله عنه كان يحدث أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كانا يسقيان به . كلاهما ، فقال رسول الله للزبير : اسق يا زبير ، ثم أرسل إلى جارك ، فغضب الأنصاري ، ثم قال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال للزبير : اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر ، فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد به سعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم .قال عروة : قال الزبير : والله ما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) الآية .وروي أن الأنصاري الذي خاصم الزبير كان اسمه حاطب بن أبي بلتعة فلما خرجا مر على المقداد فقال : لمن كان القضاء ، فقال الأنصاري : قضى لابن عمته ولوى شدقه ففطن له يهودي كان مع المقداد ، فقال : قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم ، وايم الله لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى عليه السلام فدعا موسى إلى التوبة منه ، فقال : اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا ، فقال ثابت بن قيس بن شماس : أما والله إن الله ليعلم مني الصدق ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت ، فأنزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ) .وقال مجاهد والشعبي : نزلت في بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر رضي الله عنه .قوله تعالى : ( فلا ) أي : ليس الأمر كما يزعمون أنهم مؤمنون ثم لا يرضون بحكمك ، ثم استأنف القسم ( وربك لا يؤمنون ) ويجوز أن يكون ( لا ) في قوله ( فلا ) صلة ، كما في قوله ( فلا أقسم ) حتى يحكموك : أي يجعلوك حكما ، ( فيما شجر بينهم ) أي : اختلف واختلط من أمورهم والتبس عليهم حكمه ، ومنه الشجر لالتفاف أغصانه بعضها ببعض ، ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ) قال مجاهد : شكا ، وقال غيره : ضيقا ، ( مما قضيت ) قال الضحاك : إثما ، أي : يأثمون بإنكارهم ما قضيت ، ( ويسلموا تسليما ) أي : وينقادوا لأمرك انقيادا .
وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا
قوله تعالى : ( وما لكم لا تقاتلون ) لا تجاهدون ( في سبيل الله ) في طاعة الله ، يعاتبهم على ترك الجهاد ، ( والمستضعفين ) أي : عن المستضعفين ، وقال ابن شهاب : في سبيل المستضعفين لتخليصهم ، وقيل: في تخليص المستضعفين من أيدي المشركين ، وكان بمكة جماعة ، ( من الرجال والنساء والولدان ) يلقون من المشركين أذى كثيرا ، ( الذين ) يدعون و ( يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ) يعني : مكة ، الظالم أي : المشرك ، أهلها يعني القرية التي من صفتها أن أهلها مشركون ، وإنما خفض ( الظالم ) لأنه نعت للأهل ، فلما عاد الأهل إلى القرية صار كأن الفعل لها ، كما يقال مررت برجل حسنه عينه ، ( واجعل لنا من لدنك وليا ) أي : من يلي أمرنا ، ( واجعل لنا من لدنك نصيرا ) أي : من يمنع العدو عنا ، فاستجاب الله دعوتهم ، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ولى عليهم عتاب بن أسيد وجعله الله لهم نصيرا ينصف المظلومين من الظالمين .
ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا
قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم ) الآية ، قال الكلبي : نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهري ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وقدامة بن مظعون الجمحي ، وسعد بن أبي وقاص ، وجماعة كانوا يلقون من المشركين بمكة أذى كثيرا قبل أن يهاجروا ، ويقولون : يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فإنهم قد آذونا ، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كفوا أيديكم فإني لم أؤمر بقتالهم " .( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله بقتال المشركين شق ذلك على بعضهم ، قال الله تعالى : ( فلما كتب ) فرض ، ( عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس ) يعني : يخشون مشركي مكة ، ( كخشية الله ) أي : كخشيتهم من الله ، ( أو أشد ) أكثر ، ( خشية ) وقيل: معناه وأشد خشية ، ( وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ) الجهاد ( لولا ) هلا ( أخرتنا إلى أجل قريب ) يعني : الموت أي : هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا؟ .واختلفوا في هؤلاء الذين قالوا ذلك ، قيل: قاله قوم من المنافقين لأن قوله : ( لم كتبت علينا القتال ) لا يليق بالمؤمنين .وقيل: قاله جماعة من المؤمنين لم يكونوا راسخين في العلم قالوه خوفا وجبنا لا اعتقادا ، ثم تابوا ، وأهل الإيمان يتفاضلون في الإيمان .وقيل: هم قوم كانوا مؤمنين فلما فرض عليهم القتال نافقوا من الجبن وتخلفوا عن الجهاد ، ( قل ) يا محمد ، ( متاع الدنيا ) أي : منفعتها والاستمتاع بها ( قليل والآخرة ) أي : وثواب الآخرة خير وأفضل ، ( لمن اتقى ) الشرك ومعصية الرسول ، ( ولا تظلمون فتيلا ) قرأ ابن كثير وأبو جعفر وحمزة والكسائي بالياء والباقون تظلمون بالتاء .أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن معاوية الصيدلاني ، أخبرنا الأصم ، أنا عبد الله بن محمد بن شاكر ، أنا محمد بن بشر العبدي ، أنا مسعر بن كدام عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم ، حدثني المستورد بن شداد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع " .
يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا
قوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ) الآية ، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف يقال له مرداس بن نهيك ، وكان من أهل فدك وكان مسلما لم يسلم من قومه غيره ، فسمعوا بسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم ، وكان على السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي ، فهربوا وأقام الرجل لأنه كان على دين المسلمين ، فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من غير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل ، وصعد هو إلى الجبل فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون ، فلما سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكبر ونزل وهو يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، السلام عليكم ، فتغشاه أسامة بن زيد فقتله واستاق غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجدا شديدا ، وكان قد سبقهم قبل ذلك الخبر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قتلتموه إرادة ما معه " ؟ ثم قرأ هذه الآية على أسامة بن زيد ، فقال : يا رسول الله استغفر لي ، فقال فكيف بلا إله إلا الله؟ قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، قال أسامة : فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد ثلاث مرات ، وقال : " اعتق رقبة " .وروى أبو ظبيان عن أسامة رضي الله عنه قال قلت : يا رسول الله إنما قال خوفا من السلاح ، قال : " أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفا أم لا " ؟وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غنم له فسلم عليهم ، قالوا : ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم فقاموا فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله ) . .( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله ) يعني إذا سافرتم في سبيل الله ، يعني : الجهاد .( فتبينوا ) قرأ حمزة والكسائي هاهنا في موضعين وفي سورة الحجرات بالتاء والثاء من التثبيت ، أي : قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر ، وقرأ الآخرون بالياء والنون من التبين ، يقال : تبينت الأمر إذا تأملته ، ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم ) هكذا قراءة أهل المدينة وابن عامر وحمزة ، أي : المقادة ، وهو قول " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، وقرأ الآخرون السلام ، وهو السلام الذي هو تحية المسلمين لأنه كان قد سلم عليهم ، وقيل: السلم والسلام واحد ، أي : لا تقولوا لمن سلم عليكم لست مؤمنا ، ( تبتغون عرض الحياة الدنيا ) يعني : تطلبون الغنم والغنيمة ، و " عرض الحياة الدنيا " منافعها ومتاعها ، ( فعند الله مغانم ) أي غنائم ، ( كثيرة ) وقيل: ثواب كثير لمن اتقى قتل المؤمن ، ( كذلك كنتم من قبل ) قال سعيد بن جبير : كذلك كنتم تكتمون إيمانكم من المشركين ( فمن الله عليكم ) بإظهار الإسلام ، وقال قتادة : كنتم ضلالا من قبل فمن الله عليكم بالإسلام والهداية .وقيل معناه : كذلك كنتم من قبل تأمنون في قومكم بلا إله إلا الله قبل الهجرة فلا تخيفوا من قالها فمن الله عليكم بالهجرة ، فتبينوا أن تقتلوا مؤمنا .( إن الله كان بما تعملون خبيرا ) قلت : إذا رأى الغزاة في بلد أو قرية شعار الإسلام فعليهم أن يكفوا عنهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوما فإن سمع أذانا كف عنهم ، وإن لم يسمع أغار عليهم .أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان ، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق ، عن ابن عصام ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية قال : " إذا رأيتم مسجدا أو سمعتم مؤذنا فلا تقتلوا أحدا " .
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا
قوله عز وجل : ( وإذا ضربتم في الأرض ) أي : سافرتم ، ( فليس عليكم جناح ) أي : حرج وإثم ( أن تقصروا من الصلاة ) يعني من أربع ركعات إلى ركعتين ، وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء ( إن خفتم أن يفتنكم ) أي : يغتالكم ويقتلكم ( الذين كفروا ) في الصلاة ، نظيره قوله تعالى : " على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم " ( يونس - 83 ) أي : يقتلهم .( إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ) أي : ظاهر العداوة .اعلم أن قصر الصلاة في السفر جائز بإجماع الأمة ، واختلفوا في جواز الإتمام : فذهب أكثرهم إلى أن القصر واجب ، وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس رضي الله عنهما ، وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة وهو قول مالك وأصحاب الرأي ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر " .وذهب قوم إلى جواز الإتمام ، روي ذلك عن عثمان وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ، وبه قال الشافعي رضي الله عنه ، إن شاء أتم وإن شاء قصر ، والقصر أفضل .[ أخبرنا الإمام عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : " كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة وأتم " .وظاهر القرآن يدل على هذا ، لأنه قال : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) ولفظ لا جناح إنما يستعمل في الرخص لا فيما يكون حتما ، فظاهر الآية [ يوجب أن القصر ] لا يجوز إلا عند الخوف وليس الأمر على ذلك ، إنما نزلت الآية على غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو .والقصر جائز في السفر في حال الأمن عند عامة أهل العلم ، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا مسلم بن خالد وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن ابن جريج ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار ، عن عبد الله بن باباه ، عن يعلى بن أمية ، قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما قال الله تعالى ( أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) وقد أمن الناس ، فقال عمر رضي الله عنه : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته " .أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا عبد الوهاب ، عن أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سافر رسول الله بين مكة والمدينة آمنا لا يخاف إلا الله فصلى ركعتين " .وذهب قوم إلى أن ركعتي المسافر ليستا بقصر إنما القصر أن يصلي ركعة واحدة في الخوف ، يروى ذلك عنجابر رضي الله عنه وهو قول عطاء وطاوس والحسن ومجاهد ، وجعلوا شرط الخوف المذكور في الآية : باقيا وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الاقتصار على ركعة واحدة لا يجوز خائفا كان أو آمنا .واختلف أهل العلم في مسافة القصر ، فقالت طائفة : يجوز القصر في السفر الطويل والقصير ، روي ذلك عن أنس رضي الله عنه ، وقال عمرو بن دينار : قال لي جابر بن زيد : اقصر بعرفة ، أما عامة الفقهاء فلا يجوزون القصر في السفر القصير .واختلف في حد ما يجوز به القصر ، فقال الأوزاعي : مسيرة يوم ، وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخا ، وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق ، وقول الحسن والزهري قريب من ذلك ، قالا مسيرة يومين ، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه ، قال : مسيرة ليلتين قاصدتين ، وقال في موضع : ستة وأربعون ميلا بالهاشمي ، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي : مسيرة ثلاثة أيام .وقيل: قوله ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) متصل بما بعده من صلاة الخوف منفصل عما قبله ، روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال : نزل قوله ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) هذا القدر ، ثم بعد حول سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الخوف فنزل : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ) وإذا كنت فيهم ) الآية . ومثله في القرآن كثير ، أن يجيء الخبر بتمامه ثم ينسق عليه خبر آخر ، وهو في الظاهر كالمتصل به ، وهو منفصل عنه ، كقوله تعالى : " الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين " ( يوسف - 51 ) ، وهذه حكاية عن امرأة العزيز ، وقوله : " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب " ( يوسف - 52 ) إخبار عن يوسف عليه السلام .
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا
( ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ) يعني : كونوا قائمين بالشهادة بالقسط ، أي : بالعدل لله ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كونوا قوامين بالعدل في الشهادة على من كانت ، ( ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) في الرحم ، أي : قولوا الحق ولو على أنفسكم بالإقرار أو الوالدين والأقربين ، فأقيموها عليهم لله ، ولا تحابوا غنيا لغناه ولا ترحموا فقيرا لفقره ، فذلك قوله تعالى : ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) منكم أي أقيموا على المشهود عليه وإن كان غنيا وللمشهود له وإن كان فقيرا فالله أولى بهما منكم ، أي كلوا أمرهما إلى الله . وقال الحسن : معناه الله أعلم بهما ، ( فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ) أي تجوروا وتميلوا إلى الباطل من الحق ، وقيل: معناه لا تتبعوا الهوى لتعدلوا ، أي : لتكونوا عادلين كما يقال : لا تتبع الهوى لترضي ربك .( وإن تلووا ) أي : تحرفوا الشهادة لتبطلوا الحق ( أو تعرضوا ) عنها فتكتموها ولا تقيموها ، ويقال : تلووا أي تدافعوا في إقامة الشهادة ، يقال : لويته حقه إذا دفعته ، ومطلته ، وقيل: هذا خطاب مع الحكام في ليهم الأشداق ، يقول : وإن تلووا أي تميلوا إلى أحد الخصمين أو تعرضوا عنه ، قرأ ابن عامر وحمزة ( تلوا ) بضم اللام ، قيل: أصله تلووا ، فحذفت إحدى الواوين تخفيفا ، وقيل: معناه وإن تلوا القيام بأداء الشهادة أو تعرضوا فتتركوا أداءها ( فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) .
الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا
( الذين يتربصون بكم ) [ ينتظرون بكم الدوائر ] ، يعني : المنافقين ، ( فإن كان لكم فتح من الله ) يعني : ظفر وغنيمة ، ( قالوا ) لكم ( ألم نكن معكم ) على دينكم في الجهاد ، كنا معكم فاجعلوا لنا نصيبا من الغنيمة ، ( وإن كان للكافرين نصيب ) يعني دولة وظهور على المسلمين ، ( قالوا ) يعني : المنافقين للكافرين ، ( ألم نستحوذ عليكم ) والاستحواذ : هو الاستيلاء والغلبة ، قال تعالى : " استحوذ عليهم الشيطان " ( المجادلة - 19 ) أي : استولى وغلب ، يقول : ألم نخبركم بعورة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونطلعكم على سرهم؟قال المبرد : يقول المنافقون للكفار ألم نغلبكم على رأيكم ( ونمنعكم ) ونصرفكم ، ( من المؤمنين ) أي : عن الدخول في جملتهم ، وقيل: معناه ألم نستول عليكم بالنصرة لكم ونمنعكم من المؤمنين؟ أي : ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلهم عنكم ومراسلتنا إياكم بأخبارهم وأمورهم ، ومراد المنافقين بهذا الكلام إظهار المنة على الكافرين .( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ) يعني : بين أهل الإيمان وأهل النفاق ، ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) قال علي : في الآخرة ، وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم : أي حجة ، وقيل: ظهورا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .