وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون
قوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل في التوراة، والميثاق العهد الشديد. لا تعبدون إلا الله قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (لا يعبدون) بالياء وقرأ الآخرون بالتاء لقوله تعالى: وقولوا للناس حسناً معناه ألا تعبدوا فلما حذف أن صار الفعل مرفوعاً، وقرأ أُبي بن كعب: "لا تعبدوا إلا الله على النهي". وبالوالدين إحساناً أي ووصيناهم بالوالدين إحساناً، براً بهما وعطفاً عليهما ونزولاً عند أمرهما، فيما لا يخالف أمر الله تعالى. وذي القربى أي وبذي القرابة، والقربى مصدر كالحسنى. واليتامى جمع يتيم وهو الطفل الذي لا أب له. والمساكين يعني الفقراء. وقولوا للناس حسناً "صدقاً وحقاً في شأن محمد صلى الله عليه وسلم فمن سألكم عنه فاصدقوه وبينوا صفته ولاتكتموا أمره" هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وابن جريج ومقاتل. وقال سفيان الثوري: "مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر. وقيل: هو اللين في القول والمعاشرة بحسن الخلق. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب: حسناً بفتح الحاء والسين أي قولاً حسناً. وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم أعرضتم عن العهد والميثاق. إلا قليلاً منكم وذلك أن قوماً منهم آمنوا. وأنتم معرضون كإعراض آبائكم.
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم
قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص ) قال الشعبي والكلبي وقتادة : نزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل وكانت بينهما قتلى وجراحات لم يأخذها بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام قال مقاتل بن حيان : كانت بين بني قريظة والنضير وقال سعيد بن جبير : كانت بين الأوس والخزرج وقالوا جميعا كان لأحد الحيين على الآخر طول في الكثرة والشرف وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور فأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين منهم وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمر بالمساواة فرضوا وأسلموا . قوله ( كتب عليكم القصاص ) أي فرض عليكم القصاص ( في القتلى ) والقصاص المساواة والمماثلة في الجراحات والديات وأصله من قص الأثر إذا اتبعه فالمفعول به يتبع ما فعل به فيفعل مثلهثم بين المماثلة فقال ( الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) وجملة الحكم فيه أنه إذا تكافأ الدمان من الأحرار المسلمين أو العبيد من المسلمين أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم قتل من كل صنف منهم الذكر إذا قتل بالذكر وبالأنثى وتقتل الأنثى إذا قتلت بالأنثى وبالذكر ولا يقتل مؤمن بكافر ولا حر بعبد ولا والد بولد ولا مسلم بذمي ويقتل الذمي بالمسلم والعبد بالحر والولد بالوالد هذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهمأخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع بن سليمان أنا الشافعي أخبرنا سفيان بن عيينة عن مطرف عن الشعبي عن أبي جحيفة قال " سألت عليا رضي الله عنه هل عندك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن فقال لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت وما في هذه الصحيفة قال : العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مؤمن بكافر " . وروي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقام الحدود في المساجد ولا يقاد بالولد الوالد " . وذهب الشعبي والنخعي وأصحاب الرأي إلى أن المسلم يقتل بالذمي وإلى أن الحر يقتل بالعبد والحديث حجة لمن لم يوجب القصاص على المسلم بقتل الذمي وتقتل الجماعة بالواحد روي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل سبعة أو خمسة برجل قتلوه غيلة ، وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا " ويجري القصاص في الأطراف كما يجري في النفوس إلا في شيء واحد وهو أن الصحيح السوي يقتل بالمريض الزمن وفي الأطراف لو قطع يدا شلاء أو ناقصة بأصبع لا تقطع بها الصحيحة الكاملة وذهب أصحاب الرأي إلى أن القصاص في الأطراف لا يجري إلا بين حرين أو حرتين ولا يجري بين الذكر والأنثى ولا بين العبيد ولا بين الحر والعبد وعند الآخرين الطرف في القصاص مقيس على النفس . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن منير أنه سمع عبد الله بن بكر السهمي أخبرنا حميد عن أنس بن النضر أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية فطلبوا إليها العفو فأبوا فعرضوا الأرش ، فأبوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا القصاص فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقال أنس بن النضر : يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أنس كتاب الله القصاص فرضي القوم فعفوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره . قوله تعالى ( فمن عفي له من أخيه شيء ) أي ترك له وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد ورضي بالدية هذا قول أكثر المفسرين قالوا العفو أن يقبل الدية في قتل العمد ، وقوله ( من أخيه ) أي من دم أخيه وأراد بالأخ المقتول والكنايتان في قوله ( له ) ( من أخيه ) ترجعان إلى من وهو القاتل وقوله شيء دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا يسقط القود لأن شيئا من الدم قد بطلقوله تعالى : ( فاتباع بالمعروف ) أي على الطالب للدية أن يتبع بالمعروف فلا يطالب بأكثر من حقه( وأداء إليه بإحسان ) أي على المطلوب منه أداء الدية بالإحسان من غير مماطلة أمر كل واحد منهما بالإحسان فيما له وعليه ومذهب أكثر العلماء من الصحابة والتابعين أن ولي الدم إذا عفا عن القصاص على الدية فله أخذ الدية وإن لم يرض به القاتل وقال قوم لا دية له إلا برضاء القاتل وهو قول الحسن والنخعي وأصحاب الرأي وحجة المذهب الأول ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل " . قوله تعالى ( ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ) أي ذلك الذي ذكرت من العفو عن القصاص وأخذ الدية تخفيف من ربكم ورحمة وذلك أن القصاص في النفس والجراح كان حتما في التوراة على اليهود ولم يكن لهم أخذ الدية وكان في شرع النصارى الدية ولم يكن لهم القصاص فخير الله تعالى هذه الأمة بين القصاص وبين العفو عن الدية تخفيفا منه ورحمة( فمن اعتدى بعد ذلك ) فقتل الجاني بعد العفو وقبول الدية ( فله عذاب أليم ) أن يقتل قصاصا قال ابن جريج : يتحتم قتله حتى لا يقبل العفو وفي الآية دليل على أن القاتل لا يصير كافرا بالقتل ، لأن الله تعالى خاطبه بعد القتل بخطاب الإيمان فقال ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص ) وقال في آخر الآية ( فمن عفي له من أخيه شيء ) وأراد به أخوة الإيمان فلم يقطع الأخوة بينهما بالقتل
الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون
قوله تعالى : ( الطلاق مرتان ) روي عن عروة بن الزبير قال : كان الناس في الابتداء يطلقون من غير حصر ولا عدد وكان الرجل يطلق امرأته فإذا قاربت انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها كذلك ثم راجعها يقصد مضارتها فنزلت هذه الآية ( الطلاق مرتان ) يعني الطلاق الذي يملك الرجعة عقيبه مرتان فإذا طلق ثلاثا فلا تحل له إلا بعد نكاح زوج آخر . قوله تعالى : ( فإمساك بمعروف ) قيل: أراد بالإمساك الرجعة بعد الثانية والصحيح أن المراد منه : الإمساك بعد الرجعة يعني إذا راجعها بعد الرجعة الثانية فعليه أن يمسكها بالمعروف والمعروف كل ما يعرف في الشرع من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة ( أو تسريح بإحسان ) أن يتركها بعد الطلاق حتى تنقضي عدتها وقيل الطلقة الثالثة . قوله تعالى : ( أو تسريح بإحسان ) وصريح اللفظ الذي يقع به الطلاق من غير نية ثلاثة : الطلاق والفراق والسراح وعند أبي حنيفة الصريح هو لفظ الطلاق فحسب وجملة الحكم فيه أن الحر إذا طلق زوجته طلقة أو طلقتين بعد الدخول بها يجوز له مراجعتها بغير رضاها ما دامت في العدة وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها أو طلقها قبل الدخول بها أو خالعها فلا تحل له إلا بنكاح جديد بإذنها وإذن وليها فإن طلقها ثلاثا فلا تحل له ما لم تنكح زوجا غيره وأما العبد إذا كانت تحته امرأة فطلقها طلقتين فإنها لا تحل له إلا بعد نكاح زوج آخر . واختلف أهل العلم فيما إذا كان أحد الزوجين رقيقا فذهب أكثرهم إلى أنه يعتبر عدد الطلاق بالزوج فالحر يملك على زوجته الأمة ثلاث طلقات والعبد لا يملك على زوجته الحرة إلا طلقتين قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : الطلاق بالرجال والعدة بالنساء يعني يعتبر في عدد الطلاق حال الرجل وفي قدر العدة حال المرأة وهو قول عثمان وزيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عنهم وبه قال عطاء وسعيد بن المسيب وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وذهب قوم إلى أن الاعتبار بالمرأة في عدد الطلاق فيملك العبد على زوجته الحرة ثلاث طلقات ولا يملك الحر على زوجته الأمة إلا طلقتين وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي . قوله تعالى ( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن ) أعطيتموهن ) ( شيئا ) المهور وغيرها ثم استثنى الخلع فقال ( إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ) نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي أوفى ويقال : حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها فكان بينهما كلام فأتت أباها فشكت إليه زوجها وقالت له : إنه يسيء إلي ويضربني فقال : ارجعي إلى زوجك فإني أكره للمرأة أن لا تزال رافعة يديها تشكو زوجها قال : فرجعت إليه الثانية وبها أثر الضرب فقال لها : ارجعي إلى زوجك فلما رأت أن أباها لا يشكيها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه زوجها وأرته آثارا بها من ضربه وقالت : يا رسول الله لا أنا ولا هو فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثابت فقال : " ما لك ولأهلك؟ " فقال : والذي بعثك بالحق نبيا ما على وجه الأرض أحب إلي منها غيرك فقال لها : ما تقولين؟ فكرهت أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألها فقالت : صدق يا رسول الله ولكن قد خشيت أن يهلكني فأخرجني منه وقالت : يا رسول الله ما كنت لأحدثك حديثا ينزل الله عليك خلافه ، هو من أكرم الناس محبة لزوجته ولكني أبغضه فلا أنا ولا هو قال ثابت : قد أعطيتها حديقة فلتردها علي وأخلي سبيلها فقال لها : " تردين عليه حديقته وتملكين أمرك " ؟ قالت : نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا ثابت خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها " ففعل . أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا زاهر بن جميل أخبرنا عبد الوهاب الثقفي أنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن ثابتا ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر بعد الإسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتردين عليه حديقته " ؟ قالت : نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقبل الحديقة وطلقها تطليقة . قوله تعالى : ( إلا أن يخافا ) أي يعلما ( ألا يقيما حدود الله ) قرأ أبو جعفر وحمزة ويعقوب ( إلا أن يخافا ) بضم الياء أي يعلم ذلك منهما يعني : يعلم القاضي والولي ذلك من الزوجين بدليل قوله تعالى : ( فإن خفتم ) فجعل الخوف لغير الزوجين ولم يقل فإن خافا وقرأ الآخرون ) ( يخافا ) بفتح الياء أي يعلم الزوجان من أنفسهما ( ألا يقيما حدود الله ) تخاف المرأة أن تعصي الله في أمر زوجها ويخاف الزوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها فنهى الله الرجل أن يأخذ من امرأته شيئا مما آتاها إلا أن يكون النشوز من قبلها فقالت : لا أطيع لك أمرا ولا أطأ لك مضجعا ونحو ذلك . قال الله تعالى : ( فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) أي فيما افتدت به المرأة نفسها منه قال الفراء : أراد بقوله ) ( عليهما ) الزوج دون المرأة فذكرهما جميعا لاقترانهما كقوله تعالى " نسيا حوتهما " ( 61 - الكهف )، وإنما الناسي فتى موسى دون موسى وقيل: أراد أنه لا جناح عليهما جميعا لا جناح على المرأة في النشوز إذا خشيت الهلاك والمعصية ولا فيما افتدت به وأعطت به المال لأنها ممنوعة من إتلاف المال بغير الحق ولا على الزوج فيما أخذ منها من المال إذا أعطته طائعة وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الخلع جائزعلى أكثر مما أعطاها وقال الزهري : لا يجوز بأكثر مما أعطاها من المهر . وقال سعيد بن المسيب : لا يأخذ منها جميع ما أعطاها بل يترك منه شيئا ويجوز الخلع على غير حال النشوز غير أنه يكره لما فيه من قطع الوصلة بلا سبب . أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري أنا عبد الله بن محمد بن شيبة أنا أحمد بن جعفر المستملي أنا أبو محمد يحيى بن إسحاق بن شاكر بن أحمد بن خباب أنا عيسى بن يونس أنا عبد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق " أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرني ابن فنجويه أنا ابن أبي أنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة أنا أبي أنا أسامة عن حماد بن زيد عن أبي أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة " . وقال طاوس : الخلع يختص بحالة خوف النشوز لظاهر الآية والآية حرجت على وفق العادة أن الخلع لا يكون إلا في حال خوف النشوز غالبا وإذا طلق الرجل امرأته بلفظ الطلاق على مال فقبلت وقعت البينونة وانتقص به العدد . واختلف أهل العلم في الخلع فذهب أكثرهم إلى أنه تطليقة بائنة ينتقص به عدد الطلاق وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والشعبي والنخعي وإليه ذهب مالك والثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي وهو أظهر قولي الشافعي وذهب قوم إلى أنه فسخ لا ينتقص به عدد الطلاق وهو قول عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وبه قال عكرمة وطاوس وإليه ذهب أحمد وإسحاق واحتجوا بأن الله تعالى ذكر الطلاق مرتين ثم ذكر بعده الخلع ثم ذكر بعده الطلقة الثالثة فقال ، ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) ولو كان الخلع طلاقا لكان الطلاق أربعا ومن قال بالأول جعل الطلقة الثالثة : ( أو تسريح بإحسان ) . قوله تعالى : ( تلك حدود الله ) أي هذه أوامر الله ونواهيه وحدود الله ما منع الشرع من المجاوزة عنه ( فلا تعتدوها ) فلا تجاوزوها ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون )
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا
قوله تعالى : ( واعبدوا الله ) أي : وحدوه وأطيعوه ، ( ولا تشركوا به شيئا ) [ أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران أنا علي أبو إسماعيل محمد بن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون الأودي ] عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس؟ قال قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال : قلت الله ورسوله أعلم ، قال : فإن حق الناس على الله أن لا يعذبهم ، قال قلت : يا رسول الله ألا أبشر الناس؟ قال : دعهم يعملون " . قوله تعالى : ( وبالوالدين إحسانا ) برا بهما وعطفا عليهما ، ( وبذي القربى ) أي : أحسنوا بذي القربى ، ( واليتامى والمساكين ) [ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمرو بن زرارة ، أنا عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ] " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا " . [ أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنا عبد الله بن محمود ، أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنا عبد الله بن مبارك ، عن يحيى بن أيوب ، عن عبد الله بن زحر ، عن علي بن يزيد عن القاسم ] عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة تمر عليها يده حسنات ، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين أصبعيه "قوله تعالى : ( والجار ذي القربى ) أي : ذي القرابة ، ( والجار الجنب ) أي : البعيد الذي ليس بينك وبينه قرابة . [ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، أنا علي بن الجعد ، أنا شعبة عن أبي عمران الجوني قال : سمعت ] طلحة قال : قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال : " إلى أقربهما منك بابا " . أخبرنا الأستاذ الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفرايني ، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق ، أنا يزيد بن سنان ، أخبرنا عثمان بن عمر ، أخبرنا أبو عامر الخزاز ، عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ، وإذا طبخت مرقة فأكثر ماءها واغرف لجيرانك منها " . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا محمد بن منهال ، أنا يزيد بن زريع ، أنا عمر بن محمد ، عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " . قوله تعالى : ( والصاحب بالجنب ) يعني : الرفيق في السفر ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة وعكرمة وقتادة ، وقال علي وعبد الله والنخعي : هو المرأة تكون معه إلى جنبه ، وقال ابن جريج وابن زيد : هو الذي يصحبك رجاء نفعك . ( وابن السبيل ) قيل: هو المسافر لأنه ملازم للسبيل ، والأكثرون : على أنه الضيف ، أخبرنا الأستاذ الإمامأبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الاسفراييني ، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق ، أنا شعيب بن عمرو الدمشقي ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار ، أنه سمع نافع بن جبير ، عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب ، عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح الكعبي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، جائزته يوم وليلة ، والضيافة ثلاثة أيام ، وما كان بعد ذلك فهو صدقة ، ولا يحل أن يثوي - أي : أن يقيم - عنده حتى يحرجه " . قوله تعالى : ( وما ملكت أيمانكم ) أي : المماليك أحسنوا إليهم ، أخبرنا محمد بن الحسن المروزي أخبرنا أبو العباس الطحان ، أنا أبو أحمد محمد بن قريش ، أنا علي بن عبد العزيز المكي أنا أبو عبيد القاسم بن سلام ، أنا يزيد ، عن همام ، عن قتادة ، عن صالح أبي الخليل ، عن سفينة ، عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في مرضه : " الصلاة وما ملكت أيمانكم " ، فجعل يتكلم وما يفيض بها لسانه . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمر بن حفص ، أنا أبي ، أنا الأعمش ، عن المعرور ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : رأيت عليه بردا وعلى غلامه برد ، فقلت : لو أخذت هذا فلبسته كانا حلة وأعطيته ثوبا آخر ، فقال : كان بيني وبين رجل كلام وكانت أمه أعجمية فنلت منها فذكرني إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لي أساببت فلانا؟ قلت : نعم ، قال : أفنلت أمه؟ قلت : نعم ، قال إنك امرؤ فيك جاهلية ، قلت : على ساعتي هذه من كبر السن؟ قال : نعم ، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه ، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه " . أخبرنا الإمام أبو الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو طاهر الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمرو بن حفص التاجر ، أنا سهل بن عمار ، أنا يزيد بن هارون ، أخبرنا صدقة بن موسى ، عن فرقد السبخي ، عن مرة الطيب ، عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة سيئ الملكة " . ( إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) المختال : المتكبر ، والفخور : الذي يفتخر على الناس بغير الحق تكبرا ، ذكر هذا بعدما ذكر من الحقوق ، لأن المتكبر يمنع الحق تكبرا . أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أنا أبو طاهر الزيادي ، أنا محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق أنا معمر ، عن همام بن منبه ، قال : أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينما رجل يتبختر في بردين وقد أعجبته نفسه خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة " . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء " .
فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا
( فكيف إذا أصابتهم مصيبة ) هذا وعيد ، أي : فكيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة ، ( بما قدمت أيديهم ) يعني : عقوبة صدودهم ، وقيل: هي كل مصيبة تصيب جميع المنافقين في الدنيا والآخرة ، وتم الكلام هاهنا ، ثم عاد الكلام إلى ما سبق ، يخبر عن فعلهم فقال : ( ثم جاءوك ) يعني : يتحاكمون إلى الطاغوت ، ( ثم جاءوك ) [ يحيونك ويحلفون ] . وقيل: أراد بالمصيبة قتل عمر رضي الله عنه المنافق ، ثم جاءوا يطلبون ديته ، ( يحلفون بالله إن أردنا ) ما أردنا بالعدول عنه في المحاكمة أو بالترافع إلى عمر ، ( إلا إحسانا وتوفيقا ) قال الكلبي : إلا إحسانا في القول ، وتوفيقا : صوابا ، وقال ابن كيسان : حقا وعدلا نظيره : ليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ، وقيل: هو إحسان بعضهم إلى بعض ، وقيل: هو تقريب الأمر من الحق ، لا القضاء على أمر الحكم ، والتوفيق : هو موافقة الحق ، وقيل: هو التأليف والجمع بين الخصمين .
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون
قوله - عز وجل - : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا ) وذلك أنهم سألوا وقالوا : أي شيء الذي حرم الله تعالى؟ فقال - عز وجل - : " قل تعالوا أتل " أقرأ ما حرم ربكم عليكم حقا يقينا لا ظنا ولا كذبا كما تزعمون . فإن قيل: ما معنى قوله " حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا " والمحرم هو الشرك لا ترك الشرك؟ . قيل: موضع " أن " رفع ، معناه هو أن لا تشركوا ، وقيل: محله نصب ، واختلفوا في وجه انتصابه ، قيل: معناه حرم عليكم أن تشركوا به ، و " لا " صلة كقوله تعالى : ( ما منعك ألا تسجد ) ( الأعراف ، 12 ) ، أي : منعك أن تسجد . وقيل: تم الكلام عند قوله " حرم ربكم ثم قال عليكم ألا تشركوا به شيئا على الإغراء . قال الزجاج : يجوز أن يكون هذا محمولا على المعنى ، أي : أتل عليكم تحريم الشرك ، وجائز أن يكون على معنى : أوصيكم ألا تشركوا به شيئا . ( وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) فقر ، ( نحن نرزقكم وإياهم ) أي : لا تئدوا بناتكم خشية العيلة ، فإني رازقكم وإياهم ، ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ما ظهر يعني العلانية ، وما بطن يعني السر . وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأسا في السر فحرم الله تعالى الزنا في العلانية والسر . وقال الضحاك : ما ظهر : الخمر ، وما بطن : الزنا . ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) حرم الله تعالى قتل المؤمن والمعاهد إلا بالحق ، إلا بما يبيح قتله من ردة أو قصاص أو زنا يوجب الرجم . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ثنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري ثنا حاجب بن أحمد الطوسي ثنا محمد بن حماد ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " . ( ذلكم ) الذي ذكرت ( وصاكم به ) أمركم به ، ( لعلكم تعقلون ) .
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم
( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) الآية . قرأ يعقوب بالرفع عطفا على قوله : " والسابقون " . واختلفوا في السابقين الأولين ، قال سعيد بن المسيب ، وقتادة ، وابن سيرين وجماعة : هم الذين صلوا إلى القبلتين . وقال عطاء بن أبي رباح : هم أهل بدر . وقال الشعبي : هم الذين شهدوا بيعة الرضوان ، وكانت بيعة الرضوان بالحديبية . واختلفوا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته خديجة ، مع اتفاقهم على أنها أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال بعضهم : أول من آمن وصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهو قول جابر ، وبه قال مجاهد وابن إسحاق ، أسلم وهو ابن عشر سنين . وقال بعضهم : أول من آمن بعد خديجة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وهو قول ابن عباس وإبراهيم النخعي والشعبي . وقال بعضهم : أول من أسلم زيد بن حارثة ، وهو قول الزهري وعروة بن الزبير . وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الأقوال فيقول : أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه ، ومن النساء خديجة ، ومن الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ومن العبيد زيد بن حارثة . قال ابن إسحاق : فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله ، وكان رجلا محببا سهلا وكان أنسب قريش وأعلمها بما كان فيها ، وكان تاجرا ذا خلق ومعروف ، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر ؛ لعلمه وحسن مجالسته ، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ، فأسلم على يديه - فيما بلغني - : عثمان بن عفان ، والزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، فجاء بهم إلى رسول صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا ، فكان هؤلاء الثمانية النفر الذين سبقوا إلى الإسلام . ثم تتابع الناس في الدخول في الإسلام ، أما السابقون من الأنصار : فهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ، وكانوا ستة في العقبة الأولى ، وسبعين في الثانية ، والذين آمنوا حين قدم عليهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن ، فأسلم معه خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان . قوله عز وجل : ( والسابقون الأولون من المهاجرين ) الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا أوطانهم . ( والأنصار ) أي : ومن الأنصار ، وهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل المدينة وآووا أصحابه ، ( والذين اتبعوهم بإحسان ) قيل: هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين . وقيل: هم الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة أو النصرة إلى يوم القيامة . وقال عطاء : هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار بالترحم والدعاء . وقال أبو صخر حميد بن زياد : أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له : ما قولك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال : جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة محسنهم ومسيئهم ، فقلت من أين تقول هذا؟ فقال : يا هذا اقرأ قول الله تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) إلى أن قال : ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) وقال : ( والذين اتبعوهم بإحسان ) شرط في التابعين شريطة وهي أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة . قال أبو صخر : فكأني لم أقرأ هذه الآية قط . روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " . ثم جمعهم الله عز وجل في الثواب فقال : ( رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار ) قرأ ابن كثير : ( من تحتها الأنهار ) ، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة ، ( خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ) .
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون
قوله عز وجل : ( إن الله يأمر بالعدل ) بالإنصاف ، ( والإحسان ) إلى الناس . وعن ابن عباس : " العدل " : التوحيد ، و " الإحسان " : أداء الفرائض . وعنه : " الإحسان " : الإخلاص في التوحيد ، وذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " . وقال مقاتل : " العدل " : التوحيد ، و " الإحسان " : العفو عن الناس . ( وإيتاء ذي القربى ) صلة الرحم . ( وينهى عن الفحشاء ) ما قبح من القول والفعل . وقال ابن عباس : الزنا ، ( والمنكر ) ما لا يعرف في شريعة ولا سنة ، ( والبغي ) الكبر والظلم . وقال ابن عيينة : العدل استواء السر والعلانية ، و " الإحسان " أن تكون سريرته أحسن من علانيته ، و " الفحشاء والمنكر " أن تكون علانيته أحسن من سريرته . ( يعظكم لعلكم تذكرون ) تتعظون . قال ابن مسعود : أجمع آية في القرآن هذه الآية . وقال أيوب عن عكرمة : إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد : ( إن الله يأمر بالعدل ) إلى آخر الآية فقال له : يا ابن أخي أعد فأعاد عليه ، فقال : إن له والله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر .
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما
قوله عز وجل ( وقضى ربك ) وأمر ربك قاله ابن عباس وقتادة والحسن . قال الربيع بن أنس : وأوجب ربك . قال مجاهد : وأوصى ربك . وحكي عن الضحاك بن مزاحم أنه قرأ ووصى ربك . وقال : إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافا . ( ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) أي : وأمر بالوالدين إحسانا برا بهما وعطفا عليهما . ( إما يبلغن عندك الكبر ) قرأ حمزة و الكسائي بالألف على التثنية فعلى هذا قوله : ( أحدهما أو كلاهما ) كلام مستأنف كقوله تعالى : " ثم عموا وصموا كثير منهم " ( المائدة - 71 ) وقوله : " وأسروا النجوى الذين ظلموا " ( الأنبياء - 3 ) وقوله : " الذين ظلموا " ابتداء وقرأ الباقون " يبلغن " على التوحيد . ( فلا تقل لهما أف ) فيه ثلاث لغات قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب : بفتح الفاء وقرأ أبو جعفر ونافع وحفص بالكسر والتنوين والباقون بكسر الفاء غير منون ومعناها واحد وهي كلمة كراهية . قال أبو عبيدة : أصل التف والأف الوسخ على الأصابع إذا فتلتها . وقيل: " الأف " : ما يكون في المغابن من الوسخ و " التف " : ما يكون في الأصابع . وقيل: " الأف " : وسخ الأذن و " التف " وسخ الأظافر . وقيل: " الأف " : وسخ الظفر و " التف " : ما رفعته بيدك من الأرض من شيء حقير . ( ولا تنهرهما ) ولا تزجرهما . ( وقل لهما قولا كريما ) حسنا جميلا لينا قال ابن المسيب : كقول العبد المذنب للسيد الفظ . وقال مجاهد : لا تسميهما ولا تكنهما وقل : يا أبتاه [ يا أماه ] . وقال مجاهد في هذه الآية أيضا : إذا بلغا عندك من الكبر ما يبولان فلا تتقذرهما ولا تقل لهما أف حين تميط عنهما الخلاء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيرا .
ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين
قوله - عز وجل - : ( ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ) قرأ أهل الكوفة : " إحسانا " [ كقوله تعالى : " وبالوالدين إحسانا " ( البقرة - 83 ) ] ( حملته أمه كرها ووضعته كرها ) يريد شدة الطلق . قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو " كرها " بفتح الكاف فيهما ، وقرأ الآخرون بضمهما . ( وحمله وفصاله ) فطامه ، وقرأ يعقوب : " وفصله " بغير ألف ( ثلاثون شهرا ) يريد أقل مدة الحمل ، وهي ستة أشهر ، وأكثر مدة الرضاع أربعة وعشرون شهرا . وروى عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : إذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا ، وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا ( حتى إذا بلغ أشده ) نهاية قوته ، وغاية شبابه واستوائه ، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة ، فذلك قوله : ( وبلغ أربعين سنة ) . وقال السدي والضحاك : نزلت في سعد بن أبي وقاص ، وقد مضت القصة . وقال الآخرون : نزلت في أبي بكر الصديق وأبيه أبي قحافة عثمان بن عمرو ، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو . قال علي بن أبي طالب : الآية نزلت في أبي بكر ، أسلم أبواه جميعا ، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره ، أوصاه الله بهما ، ولزم ذلك من بعده . وكان أبو بكر صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثماني عشرة سنة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عشرين سنة ، في تجارة إلى الشام ، فلما بلغ أربعين سنة ونبئ النبي - صلى الله عليه وسلم - آمن به ودعا ربه ف ( قال رب أوزعني ) ألهمني ( أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ) بالهداية والإيمان ( وأن أعمل صالحا ترضاه ) قال ابن عباس : وأجابه الله - عز وجل - ، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه ، ودعا أيضا فقال : ( وأصلح لي في ذريتي ) فأجابه الله ، فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعا ، فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعا ، فأدرك أبو قحافة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وابنه أبو بكر وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر وابن عبد الرحمن أبو عتيق كلهم أدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة . قوله : ( إني تبت إليك وإني من المسلمين ) .