واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين
قوله تعالى : ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) الآية . اختلفوا فيه ، قال ابن عباس : هو بلعم بن باعوراء . وقال مجاهد : بلعام بن باعر . وقال عطية عن ابن عباس : كان من بني إسرائيل . وروي عن علي بن أبي طلحة رضي الله عنه أنه كان من الكنعانيين من مدينة الجبارين وقال مقاتل : هو من مدينة بلقا .وكانت قصته - على ما ذكره ابن عباس وابن إسحاق والسدي وغيرهم - أن موسى لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعم إلى بلعم - وكان عنده اسم الله الأعظم - فقالوا : إن موسى رجل حديد ومعه جند كثير ، وإنه جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل ، وأنت رجل مجاب الدعوة ، فاخرج فادع الله أن يردهم عنا ، فقال : ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم ، وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي ، فراجعوه وألحوا عليه فقال : حتى أؤامر ربي ، وكان لا يدعوه حتى ينظر ما يؤمر به في المنام فآمر في الدعاء عليهم ، فقيل له في المنام : لا تدع عليهم ، فقال لقومه : إني قد آمرت ربي وإني قد نهيت فأهدوا إليه هدية فقبلها ، ثم راجعوه فقال : حتى أؤامر ، فآمر ، فلم يوح إليه شيء ، فقال : قد آمرت فلم يجز إلي شيء ، فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرة الأولى ، فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتانا له متوجها إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له حسبان ، فلما سار عليها غير كثير ربضت به ، فنزل عنها فضربها حتى إذا أذلقها قامت فركبها ، فلم تسر به كثيرا حتى ربضت ، ففعل بها مثل ذلك فقامت ، فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت ، فضربها حتى أذلقها ، أذن الله لها بالكلام فكلمته حجة عليه ، فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب بي؟ ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟ أتذهب بي إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم؟ فلم ينزع ، فخلى الله سبيلها فانطلقت حتى إذا أشرفت به على جبل حسبان جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشيء إلا صرف الله به لسانه إلى قومه ، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل . فقال له قومه : يا بلعم أتدري ماذا تصنع إنما تدعو لهم علينا؟! فقال : هذا ما لا أملكه ، هذا شيء قد غلب الله عليه ، فاندلع لسانه فوقع على صدره ، فقال لهم : قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والحيلة ، فسأمكر لكم وأحتال ، جملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع ، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه ، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها ، فإنهم إن زنا رجل واحد منهم كفيتموهم ، ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين ، اسمها كستى بنت صور ، برجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب ، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى ، فقال : إني أظنك ستقول هذه حرام عليك؟ قال : أجل هي حرام عليك لا تقربها ، قال : فوالله لا أطيعك في هذا ، ثم دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله الطاعون على بني إسرائيل في الوقت ، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى ، وكان رجلا قد أعطي بسطة في الخلق وقوة في البطش ، وكان غائبا حين صنع زمري بن شلوم ما صنع ، فجاء والطاعون يجوس بني إسرائيل ، فأخبر الخبر ، فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ، ثم دخل عليهما القبة ، وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته ، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء ، والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته ، وأسند الحربة إلى لحيته وكان بكر العيزار ، وجعل يقول : اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك ، ورفع الطاعون ، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص ، فوجدوا قد هلك منهم سبعون ألفا في ساعة من النهار ، فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللحي ، لاعتماده بالحربة على خاصرته ، وأخذه إياها بذراعه ، وإسناده إياها إلى لحيته ، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم ، لأنه كان بكر العيزار وفي بلعم أنزل الله تعالى : " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا " الآية .وقال مقاتل : إن ملك البلقاء قال لبلعام : ادع الله على موسى ، فقال : إنه من أهل ديني لا أدعو عليه ، فنحت خشبة ليصلبه فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو عليه ، فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان ووقفت فضربها ، فقالت : لم تضربني؟ إني مأمورة وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي فرجع وأخبر الملك فقال : لتدعون عليه أو لأصلبنك ، فدعا على موسى بالاسم الأعظم : أن لا يدخل المدينة ، فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه ، فقال موسى : يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه؟ فقال : بدعاء بلعام . قال : فكما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه ، فدعا موسى عليه السلام أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان ، فنزع الله عنه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء ، فذلك قوله : " فانسلخ منها " .وقال عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسعيد بن المسيب ، وزيد بن أسلم : نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وكانت قصته : أنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا فرجا أن يكون هو ذلك الرسول ، فلما أرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - حسده وكفر به ، وكان صاحب حكمة وموعظة حسنة ، وكان قصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر ، فسأل عنهم فقيل: قتلهم محمد ، فقال : لو كان نبيا ما قتل أقرباءه ، فلما مات أمية أتت أخته فارعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن وفاة أخيها فقالت : بينما هو راقد أتاه آتيان فكشفا سقف البيت ، فنزلا فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : وعى؟ قال أزكى؟ قال : أبى ، قالت : فسألته عن ذلك فقال : خير أريد بي ، فصرف عني فغشي عليه ، فلما أفاق قال :كل عيش وإن تطاول دهرا صائر مرة إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما قد بدا ليفي قلال الجبال أرعى الوعولا إن يوم الحساب يوم عظيمشاب فيه الصغير يوما ثقيلاثم قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنشديني من شعر أخيك ، فأنشدته بعض قصائده ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " آمن شعره وكفر قلبه " ، فأنزل الله - عز وجل - ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) الآية .وفي رواية عن ابن عباس : أنها نزلت في البسوس ، رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطي له ثلاث دعوات مستجابات ، وكانت له امرأة له منها ولد ، فقالت : اجعل لي منها دعوة ، فقال لك منها واحدة فما تريدين؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فدعا لها فجعلت أجمل النساء في بني إسرائيل ، فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه ، فغضب الزوج ودعا عليها فصارت كلبة نباحة ، فذهبت فيها دعوتان ، فجاء بنوها وقالوا : ليس لنا على هذا قرار ، قد صارت أمنا كلبة نباحة ، والناس يعيروننا بها ، ادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها ، فدعا الله فعادت كما كانت ، فذهبت فيها الدعوات كلها . والقولان الأولان أظهر .وقال الحسن وابن كيسان : نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم .وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله - عز وجل - لمن عرض عليه الهدى فأبى أن يقبله ، فذلك قوله واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا " . قال ابن عباس والسدي : اسم الله الأعظم . قال ابن زيد : كان لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه . وقال ابن عباس في رواية أخرى : أوتي كتابا من كتب الله فانسلخ ، أي : خرج منها كما تنسلخ ، أي : خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها . ( فأتبعه الشيطان ) أي : لحقه وأدركه ، ( فكان من الغاوين )
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين
( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ) عبرنا بهم ( فأتبعهم ) لحقهم وأدركهم ، ( فرعون وجنوده ) يقال : " أتبعه وتبعه " إذا أدركه ولحقه ، و " اتبعه " بالتشديد إذا سار خلفه واقتدى به . وقيل: هما واحد . ( بغيا وعدوا ) أي : ظلما واعتداء . وقيل: بغيا في القول وعدوا في الفعل . وكان البحر قد انفلق لموسى وقومه ، فلما وصل فرعون بجنوده إلى البحر هابوا دخوله فتقدمهم جبريل على فرس وديق وخاض البحر ، فاقتحمت الخيول خلفه ، فلما دخل آخرهم وهم أولهم أن يخرج انطبق عليهم الماء . وقوله تعالى : ( حتى إذا أدركه الغرق ) أي : غمره الماء وقرب هلاكه ، ( قال آمنت أنه ) قرأ حمزة والكسائي " إنه " بكسر الألف أي : آمنت وقلت إنه . وقرأ الآخرون " أنه " بالفتح على وقوع آمنت عليها ( لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ) فدس جبريل عليه السلام في فيه من حمأة البحر .
( إلا من استرق السمع ) لكن من استرق السمع ( فأتبعه شهاب مبين ) والشهاب : الشعلة من النار .وذلك أن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء الدنيا ، ويسترقون السمع من الملائكة ، فيرمون بالكواكب فلا تخطئ أبدا ، فمنهم من تقتله ، ومنهم من تحرق وجهه أو جنبه أو يده أو حيث يشاء الله ، ومنهم من تخبله فيصير غولا يضل الناس في البوادي .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، قال : سمعت عكرمة يقول : سمعت أبا هريرة يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحق ، وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض - ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع أحدهم الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر ، أو الكاهن ، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء " .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن أبي مريم ، حدثنا الليث ، حدثنا ابن جعفر ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الملائكة تنزل في العنان ، وهو السحاب ، فتذكر الأمر الذي قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان ، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم " .واعلم أن هذا لم يكن ظاهرا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكره شاعر من العرب قبل زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما ظهر في بدء أمره وكان ذلك أساسا لنبوته عليه السلام .وقال يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق : إن أول من فزع للرمي بالنجوم هذا الحي من ثقيف وإنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج ، وكان أهدى العرب ، فقالوا له : ألم تر ما حدث في السماء من القذف بالنجوم ؟ قال : بلى ، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس من معايشهم هي التي يرمى بها فهي - والله - طي الدنيا وهلاك الخلق الذي فيها ، وإن كانت نجوما غيرها ، وهي والله ثابتة على حالها فهذا الأمر أراده الله تعالى بهذا الخلق .قال معمر قلت للزهري : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية ؟ قال : نعم ، قلت : أفرأيت قوله تعالى : ( وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع ) [ الآية - 6 ] الجن ؟ قال : غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم .وقال ابن قتيبة : إن الرجم كان قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم - ولكن لم يكن [ مثله ] في شدة الحراسة بعد مبعثه .وقيل: إن النجم ينقض فيرمي الشياطين ، ثم يعود إلى مكانه ، والله أعلم .
﴿فأتبع﴾: أتبع سببا: سارآخذا بالطرق والأسباب التي منحناها إياه. «So he followed»
( فأتبع سببا ) أي : سلك وسار ، قرأ أهل الحجاز ، والبصرة : " فاتبع " و " ثم اتبع " موصولا مشددا ، وقرأ الآخرون بقطع الألف وجزم التاء ، وقيل: معناهما واحد .والصحيح : الفرق بينهما ، فمن قطع الألف فمعناه : أدرك ولحق ، ومن قرأ بالتشديد فمعناه : سار ، يقال : ما زلت أتبعه حتى أتبعته ، أي : ما زلت أسير خلفه حتى لحقته .وقوله : " سببا " أي : طريقا . وقال ابن عباس : منزلا .
( فأتبعهم ) فلحقهم ، ( فرعون بجنوده ) وقيل: معناه أمر فرعون جنوده أن يتبعوا موسى وقومه ، والباء فيه زائدة وكان هو فيهم ، ( فغشيهم ) أصابهم ، ( من اليم ما غشيهم ) وهو الغرق . [ وقيل: غشيهم علاهم وسترهم بعض ماء اليم لا كله ] .وقيل: غشيهم من اليم ما غشيهم قوم موسى فغرقوا هم ، ونجا موسى وقومه .