سورة النساء | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 104 من المصحف
الآية: 163 {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبور}
قوله تعالى: "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح" هذا متصل بقوله: "يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء" [النساء: 153] ، فأعلم تعالى أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأمر من تقدمه من الأنبياء. وقال ابن عباس فيما ذكره ابن إسحاق: نزلت في قوم من اليهود - منهم سكين وعدي بن زيد - قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أوحى الله إلى أحد من بعد موسى فكذبهم الله. والوحي إعلام في خفاء؛ يقال: وحى إليه بالكلام يحي وحيا، وأوحى يوحي إيحاء. "إلى نوح" قدمه لأنه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع. وقيل غير هذا؛ ذكر الزبير بن بكار حدثني أبو الحسن علي بن المغيرة عن هشام بن محمد بن السائب عن أبيه قال: أول نبي بعثه الله تبارك وتعالى في الأرض إدريس واسمه أخنوخ؛ ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وقد كان سام بن نوح نبيا، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبيا واتخذه خليلا؛ وهو إبراهيم بن تارخ واسم تارخ آزر، ثم بعث إسماعيل بن إبراهيم فمات بمكة، ثم إسحاق بن إبراهيم فمات بالشام، ثم لوط وإبراهيم عمه، ثم يعقوب وهو إسرائيل بن إسحاق ثم يوسف بن يعقوب ثم شعيب بن يوبب، ثم هود بن عبدالله، ثم صالح بن أسف، ثم موسى وهارون ابنا عمران، ثم أيوب ثم الخضر وهو خضرون، ثم داود بن إيشا، ثم سليمان بن داود، ثم يونس بن متى، ثم إلياس، ثم ذا الكفل واسمه عويدنا من سبط يهوذا بن يعقوب؛ قال: وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى ألف سنة وسبعمائة سنة وليسا من سبط؛ ثم محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب النبي صلى الله عليه وسلم. قال الزبير: كل نبي ذكر في القرآن من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح ولوط وهود وصالح. ولم يكن من العرب أنبياء إلا خمسة: هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين؛ وإنما سموا عربا لأنه لم يتكلم بالعربية غيرهم.
قوله تعالى: "والنبيين من بعده" هذا يتناول جميع الأنبياء ثم قال: "وأوحينا إلى إبراهيم" فخص أقواما بالذكر تشريفا لهم؛ كقوله تعالى: "وملائكته ورسله وجبريل ومكيال" ثم قال: "وعيسى وأيوب" قدم عيسى على قوم كانوا قبله؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، وأيضا فيه تخصيص عيسى ردا على اليهود. وفي هذه الآية تنبيه على قدر نبينا صلى الله عليه وسلم وشرفه، حيث قدمه في الذكر على أنبيائه؛ ومثله قوله تعالى: "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح" [الأحزاب: 7] ؛ ونوح مشتق من النوح؛ وقد تقدم ذكره موعبا في "آل عمران" وانصرف وهو اسم أعجمي؛ لأنه على ثلاثة أحرف فخف؛ فأما إبراهيم وإسماعيل وإسحاق فأعجمية وهي معرفة ولذلك لم تنصرف، وكذا يعقوب وعيسى وموسى إلا أن عيسى وموسى يجوز أن تكون الألف فيهما للتأنيث فلا ينصرفان في معرفة ولا نكرة؛ فأما يونس ويوسف فروي عن الحسن أنه قرأ "ويونس" بكسر النون وكذا "يوسف" يجعلهما من آنس وآسف، ويجب على هذا أن يصرفا ويهمزا ويكون جمعهما يآنس ويآسف. ومن لم يهمز قال: يونس ويوسف. وحكى أبو زيد: يونس ويوسف بفتح النون والسين؛ قال المهدوي: وكأن "يونس" في الأصل فعل مبني للفاعل، و"يونس" فعل مبني للمفعول، فسمي بهما.
قوله تعالى: "وآتينا داود زبورا" الزبور كتاب داود وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ. والزبر الكتابة، والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب، كالرسول والركوب والحلوب. وقرأ حمزة "زبورا" بضم الزاي جمع زبر كفلس وفلوس، وزبر بمعنى المزبور؛ كما يقال: هذا الدرهم ضرب الأمير أي مضروبه؛ والأصل في الكلمة التوثيق؛ يقال: بئر مزبورة أي مطوية بالحجارة، والكتاب يسمى زبورا لقوة الوثيقة به. وكان داود عليه السلام حسن الصوت؛ فإذا أخذ في قراءة الزبور اجتمع إليه الإنس والجن والطير والوحش لحسن صوته، وكان متواضعا يأكل من عمل يده؛ روى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أن كان داود صلى الله عليه وسلم ليخطب الناس وفي يده القفة من الخوص، فإذا فرغ ناولها بعض من إلى جنبه يبيعها، وكان يصنع الدروع؛ وسيأتي. وفي الحديث: (الزرقة في العين يمن) وكان داود أزرق.
الآية: 164 {ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليم}
قوله تعالى: "ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل" يعني بمكة. "ورسلا" منصوب بإضمار فعل، أي وأرسلنا رسلا؛ لأن معنى "وأوحينا إلى نوح" وأرسلنا نوحا. وقيل: هو منصوب بفعل دل عليه "قصصناهم" أي وقصصنا رسلا؛ ومثله ما أنشد سيبويه:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أي وأخشى الذئب. وفي حرف أبي "ورسل" بالرفع على تقدير ومنهم رسل. ثم قيل: إن الله تعالى لما قص في كتابه بعض أسماء أنبيائه، ولم يذكر أسماء بعض، ولمن ذكر فضل على من لم يذكر. قالت اليهود: ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى؛ فنزلت "وكلم الله موسى تكليما" "تكليما" مصدر معناه التأكيد؛ يدل على بطلان من يقول: خلق لنفسه كلاما في شجرة فسمعه موسى، بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون به المتكلم متكلما. قال النحاس: وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا، وأنه لا يجوز في قول الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني
أن يقول: قال قولا؛ فكذا لما قال: "تكليما" وجب أن يكون كلاما على الحقيقة من الكلام الذي يعقل. وقال وهب بن منبه: إن موسى عليه السلام قال: "يا رب بم اتخذتني كليما" ؟ طلب العمل الذي أسعده الله به ليكثر منه؛ فقال الله تعالى له: أتذكر إذ ند من غنمك جدي فأتبعته أكثر النهار وأتعبك، ثم أخذته وقبلته وضممته إلى صدرك وقلت له: أتعبتني وأتعبت نفسك، ولم تغضب عليه؛ من أجل ذلك اتخذتك كليما.
الآية: 165 {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيم}
قوله تعالى: "رسلا مبشرين ومنذرين" هو نصب على البدل من "ورسلا قد قصصناهم" ويجوز أن يكون على إضمار فعل؛ ويجوز نصبه على الحال؛ أي كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده رسلا. "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولا، وما أنزلت علينا كتابا؛ وفي التنزيل: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" [الإسراء: 15] ، وقوله تعالى: "ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك" [طه: 134] وفي هذا كله دليل واضح أنه لا يجب شيء من ناحية العقل. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: كان الأنبياء ألفي ألف ومائتي ألف. وقال مقاتل: كان الأنبياء ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرين ألفا. وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعثت على أثر ثمانية آلاف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل) ذكره أبو الليث السمرقندي في التفسير له؛ ثم أسند عن شعبة عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن أبي ذر الغفاري قال: قلت يا رسول الله كم كانت الأنبياء وكم كان المرسلون ؟ قال: (كانت الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر).
قلت: هذا أصح ما روي في ذلك؛ خرجه الآجري وأبو حاتم البستي في المسند الصحيح له.
الآية: 166 {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيد}
قوله تعالى: "لكن الله يشهد" رفع بالابتداء، وإن شئت شددت النون ونصبت. وفي الكلام حذف دل عليه الكلام؛ كأن الكفار قالوا: ما نشهد لك يا محمد فيما تقول فمن يشهد لك ؟ فنزل "ولكن الله يشهد". ومعنى "أنزله بعلمه "أي وهو يعلم أنك أهل لإنزاله عليك؛ ودلت الآية على أنه تعالى عالم بعلم. "والملائكة يشهدون" ذكر شهادة الملائكة ليقابل بها نفي شهادتهم. "وكفى بالله شهيدا" أي كفى الله شاهدا، والباء زائدة.
الآية: 167 {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيد}
قوله تعالى: "إن الذين كفروا" يعني اليهود أي ظلموا. "وصدوا عن سبيل الله" أي عن اتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقولهم: ما نجد صفته في كتابنا، وإنما النبوة في ولد هارون وداود، وإن في التوراة أن شرع موسى لا ينسخ. "قد ضلوا ضلالا بعيدا" لأنهم كفروا ومع ذلك منعوا الناس من الإسلام.
الآية: 168 {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا، إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسير}
قوله تعالى: "إن الذين كفروا وظلموا" يعني اليهود؛ أي ظلموا محمدا بكتمان نعته، وأنفسهم إذ كفروا، والناس إذ كتموهم. "لم يكن الله ليغفر لهم" هذا فيمن يموت على كفره ولم يتب.
الآية: 170 {يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيم}
قوله تعالى: "يا أيها الناس" هذا خطاب للكل. "قد جاءكم الرسول" يريد محمدا عليه الصلاة والسلام. "بالحق" بالقرآن. وقيل: بالدين الحق؛ وقيل: بشهادة أن لا إله إلا الله، وقيل: الباء للتعدية؛ أي جاءكم ومعه الحق؛ فهو في موضع الحال. "فآمنوا خيرا لكم" في الكلام إضمار؛ أي وأتوا خيرا لكم؛ هذا مذهب سيبويه، وعلى قول الفراء نعت لمصدر محذوف؛ أي إيمانا خيرا لكم، وعلى قول أبي عبيدة يكن خيرا لكم.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 104
104- تفسير الصفحة رقم104 من المصحفالآية: 163 {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبور}
قوله تعالى: "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح" هذا متصل بقوله: "يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء" [النساء: 153] ، فأعلم تعالى أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأمر من تقدمه من الأنبياء. وقال ابن عباس فيما ذكره ابن إسحاق: نزلت في قوم من اليهود - منهم سكين وعدي بن زيد - قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أوحى الله إلى أحد من بعد موسى فكذبهم الله. والوحي إعلام في خفاء؛ يقال: وحى إليه بالكلام يحي وحيا، وأوحى يوحي إيحاء. "إلى نوح" قدمه لأنه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع. وقيل غير هذا؛ ذكر الزبير بن بكار حدثني أبو الحسن علي بن المغيرة عن هشام بن محمد بن السائب عن أبيه قال: أول نبي بعثه الله تبارك وتعالى في الأرض إدريس واسمه أخنوخ؛ ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وقد كان سام بن نوح نبيا، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبيا واتخذه خليلا؛ وهو إبراهيم بن تارخ واسم تارخ آزر، ثم بعث إسماعيل بن إبراهيم فمات بمكة، ثم إسحاق بن إبراهيم فمات بالشام، ثم لوط وإبراهيم عمه، ثم يعقوب وهو إسرائيل بن إسحاق ثم يوسف بن يعقوب ثم شعيب بن يوبب، ثم هود بن عبدالله، ثم صالح بن أسف، ثم موسى وهارون ابنا عمران، ثم أيوب ثم الخضر وهو خضرون، ثم داود بن إيشا، ثم سليمان بن داود، ثم يونس بن متى، ثم إلياس، ثم ذا الكفل واسمه عويدنا من سبط يهوذا بن يعقوب؛ قال: وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى ألف سنة وسبعمائة سنة وليسا من سبط؛ ثم محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب النبي صلى الله عليه وسلم. قال الزبير: كل نبي ذكر في القرآن من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح ولوط وهود وصالح. ولم يكن من العرب أنبياء إلا خمسة: هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين؛ وإنما سموا عربا لأنه لم يتكلم بالعربية غيرهم.
قوله تعالى: "والنبيين من بعده" هذا يتناول جميع الأنبياء ثم قال: "وأوحينا إلى إبراهيم" فخص أقواما بالذكر تشريفا لهم؛ كقوله تعالى: "وملائكته ورسله وجبريل ومكيال" ثم قال: "وعيسى وأيوب" قدم عيسى على قوم كانوا قبله؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، وأيضا فيه تخصيص عيسى ردا على اليهود. وفي هذه الآية تنبيه على قدر نبينا صلى الله عليه وسلم وشرفه، حيث قدمه في الذكر على أنبيائه؛ ومثله قوله تعالى: "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح" [الأحزاب: 7] ؛ ونوح مشتق من النوح؛ وقد تقدم ذكره موعبا في "آل عمران" وانصرف وهو اسم أعجمي؛ لأنه على ثلاثة أحرف فخف؛ فأما إبراهيم وإسماعيل وإسحاق فأعجمية وهي معرفة ولذلك لم تنصرف، وكذا يعقوب وعيسى وموسى إلا أن عيسى وموسى يجوز أن تكون الألف فيهما للتأنيث فلا ينصرفان في معرفة ولا نكرة؛ فأما يونس ويوسف فروي عن الحسن أنه قرأ "ويونس" بكسر النون وكذا "يوسف" يجعلهما من آنس وآسف، ويجب على هذا أن يصرفا ويهمزا ويكون جمعهما يآنس ويآسف. ومن لم يهمز قال: يونس ويوسف. وحكى أبو زيد: يونس ويوسف بفتح النون والسين؛ قال المهدوي: وكأن "يونس" في الأصل فعل مبني للفاعل، و"يونس" فعل مبني للمفعول، فسمي بهما.
قوله تعالى: "وآتينا داود زبورا" الزبور كتاب داود وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ. والزبر الكتابة، والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب، كالرسول والركوب والحلوب. وقرأ حمزة "زبورا" بضم الزاي جمع زبر كفلس وفلوس، وزبر بمعنى المزبور؛ كما يقال: هذا الدرهم ضرب الأمير أي مضروبه؛ والأصل في الكلمة التوثيق؛ يقال: بئر مزبورة أي مطوية بالحجارة، والكتاب يسمى زبورا لقوة الوثيقة به. وكان داود عليه السلام حسن الصوت؛ فإذا أخذ في قراءة الزبور اجتمع إليه الإنس والجن والطير والوحش لحسن صوته، وكان متواضعا يأكل من عمل يده؛ روى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أن كان داود صلى الله عليه وسلم ليخطب الناس وفي يده القفة من الخوص، فإذا فرغ ناولها بعض من إلى جنبه يبيعها، وكان يصنع الدروع؛ وسيأتي. وفي الحديث: (الزرقة في العين يمن) وكان داود أزرق.
الآية: 164 {ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليم}
قوله تعالى: "ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل" يعني بمكة. "ورسلا" منصوب بإضمار فعل، أي وأرسلنا رسلا؛ لأن معنى "وأوحينا إلى نوح" وأرسلنا نوحا. وقيل: هو منصوب بفعل دل عليه "قصصناهم" أي وقصصنا رسلا؛ ومثله ما أنشد سيبويه:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أي وأخشى الذئب. وفي حرف أبي "ورسل" بالرفع على تقدير ومنهم رسل. ثم قيل: إن الله تعالى لما قص في كتابه بعض أسماء أنبيائه، ولم يذكر أسماء بعض، ولمن ذكر فضل على من لم يذكر. قالت اليهود: ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى؛ فنزلت "وكلم الله موسى تكليما" "تكليما" مصدر معناه التأكيد؛ يدل على بطلان من يقول: خلق لنفسه كلاما في شجرة فسمعه موسى، بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون به المتكلم متكلما. قال النحاس: وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا، وأنه لا يجوز في قول الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني
أن يقول: قال قولا؛ فكذا لما قال: "تكليما" وجب أن يكون كلاما على الحقيقة من الكلام الذي يعقل. وقال وهب بن منبه: إن موسى عليه السلام قال: "يا رب بم اتخذتني كليما" ؟ طلب العمل الذي أسعده الله به ليكثر منه؛ فقال الله تعالى له: أتذكر إذ ند من غنمك جدي فأتبعته أكثر النهار وأتعبك، ثم أخذته وقبلته وضممته إلى صدرك وقلت له: أتعبتني وأتعبت نفسك، ولم تغضب عليه؛ من أجل ذلك اتخذتك كليما.
الآية: 165 {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيم}
قوله تعالى: "رسلا مبشرين ومنذرين" هو نصب على البدل من "ورسلا قد قصصناهم" ويجوز أن يكون على إضمار فعل؛ ويجوز نصبه على الحال؛ أي كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده رسلا. "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولا، وما أنزلت علينا كتابا؛ وفي التنزيل: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" [الإسراء: 15] ، وقوله تعالى: "ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك" [طه: 134] وفي هذا كله دليل واضح أنه لا يجب شيء من ناحية العقل. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: كان الأنبياء ألفي ألف ومائتي ألف. وقال مقاتل: كان الأنبياء ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرين ألفا. وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعثت على أثر ثمانية آلاف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل) ذكره أبو الليث السمرقندي في التفسير له؛ ثم أسند عن شعبة عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن أبي ذر الغفاري قال: قلت يا رسول الله كم كانت الأنبياء وكم كان المرسلون ؟ قال: (كانت الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر).
قلت: هذا أصح ما روي في ذلك؛ خرجه الآجري وأبو حاتم البستي في المسند الصحيح له.
الآية: 166 {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيد}
قوله تعالى: "لكن الله يشهد" رفع بالابتداء، وإن شئت شددت النون ونصبت. وفي الكلام حذف دل عليه الكلام؛ كأن الكفار قالوا: ما نشهد لك يا محمد فيما تقول فمن يشهد لك ؟ فنزل "ولكن الله يشهد". ومعنى "أنزله بعلمه "أي وهو يعلم أنك أهل لإنزاله عليك؛ ودلت الآية على أنه تعالى عالم بعلم. "والملائكة يشهدون" ذكر شهادة الملائكة ليقابل بها نفي شهادتهم. "وكفى بالله شهيدا" أي كفى الله شاهدا، والباء زائدة.
الآية: 167 {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيد}
قوله تعالى: "إن الذين كفروا" يعني اليهود أي ظلموا. "وصدوا عن سبيل الله" أي عن اتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقولهم: ما نجد صفته في كتابنا، وإنما النبوة في ولد هارون وداود، وإن في التوراة أن شرع موسى لا ينسخ. "قد ضلوا ضلالا بعيدا" لأنهم كفروا ومع ذلك منعوا الناس من الإسلام.
الآية: 168 {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا، إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسير}
قوله تعالى: "إن الذين كفروا وظلموا" يعني اليهود؛ أي ظلموا محمدا بكتمان نعته، وأنفسهم إذ كفروا، والناس إذ كتموهم. "لم يكن الله ليغفر لهم" هذا فيمن يموت على كفره ولم يتب.
الآية: 170 {يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيم}
قوله تعالى: "يا أيها الناس" هذا خطاب للكل. "قد جاءكم الرسول" يريد محمدا عليه الصلاة والسلام. "بالحق" بالقرآن. وقيل: بالدين الحق؛ وقيل: بشهادة أن لا إله إلا الله، وقيل: الباء للتعدية؛ أي جاءكم ومعه الحق؛ فهو في موضع الحال. "فآمنوا خيرا لكم" في الكلام إضمار؛ أي وأتوا خيرا لكم؛ هذا مذهب سيبويه، وعلى قول الفراء نعت لمصدر محذوف؛ أي إيمانا خيرا لكم، وعلى قول أبي عبيدة يكن خيرا لكم.
الصفحة رقم 104 من المصحف تحميل و استماع mp3