تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 164 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 164

164- تفسير الصفحة رقم164 من المصحف
الآية: 105 - 106 {حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل، قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين}
قوله تعالى: "حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم
أي واجب. ومن قرأ "على ألا" فالمعنى حريص على ألا أقول. وفي قراءة عبدالله "حقيق ألا أقول" بإسقاط "على". وقيل: "على" بمعنى الباء، أي حقيق بألا أقول. وكذا في قراءة أبي والأعمش "بألا أقول". كما تقول: رميت بالقوس وعلى القوس. فـ "حقيق" على هذا بمعنى محقوق. "فأرسل معي بني إسرائيل" أي خلهم. وكان يستعملهم في الأعمال الشاقة.
الآيات: 107 - 112 {فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون}
قوله تعالى: "فألقى عصاه" يستعمل في الأجسام والمعاني. وقد تقدم. والثعبان: الحية الضخم الذكر، وهو أعظم الحيات. "مبين" أي حية لا لبس فيها. "ونزع يده" أي أخرجها وأظهرها. قيل: من جيبه أو من جناحه؛ كما في التنزيل "وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء" [النمل: 12] أي من غير برص. وكان موسى أسمر شديد السمرة، ثم أعاد يده إلى جيبه فعادت إلى لونها الأول. قال ابن عباس: كان ليده نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض. وقيل: كانت تخرج يده بيضاء كالثلج تلوح، فإذا ردها عادت إلى مل سائر بدنه. ومعنى "عليم" أي بالسحر. "من أرضكم" أي من ملككم معاشر القبط، بتقديمه بني إسرائيل عليكم. "فماذا تأمرون" أي قال فرعون: فماذا تأمرون. وقيل: هو من قول الملأ؛ أي قالوا لفرعون وحده: فماذا تأمرون. كما يخاطب الجبارون والرؤساء: ما ترون في كذا. ويجوز أن يكون قالوا له ولأصحابه. و"ما" في موضع رفع، على أن "ذا" بمعنى الذي. وفي موضع نصب، على أن "ما" و"ذا" شيء واحد.
الآيتان: 111 - 112 {قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين، يأتوك بكل ساحر عليم}
قوله تعالى: "قالوا أرجه" قرأ أهل المدينة وعاصم والكسائي بغير حمزة؛ إلا أن ورشا والكسائي أشبعا كسرة الهاء. وقرأ أبو عمرو بهمزة ساكنة والهاء مضمومة. وهما لغتان؛ يقال: أرجأته وأرجيته، أي أخرته. وكذلك قرأ ابن كثير وابن محيصن وهشام؛ إلا أنهم أشبعوا ضمة الهاء. وقرأ سائر أهل الكوفة "أرجه" بإسكان الهاء. قال الفراء: هي لغة للعرب، يقفون على الهاء المكني عنها في الوصل إذا تحرك ما قبلها، وكذا هذه طلحة قد أقبلت. وأنكر البصريون هذا. قال قتادة:: معنى "أرجه" احبسه. وقال ابن عباس: أخره. وقيل: "أرجه" مأخوذ من رجا يرجو؛ أي أطمعه ودعه يرجو؛ حكاه النحاس عن محمد بن يزيد. وكسر الهاء على الإتباع. ويجوز ضمها على الأصل. وإسكانها لحن لا يجوز إلا في شذوذ من الشعر. "وأخاه" عطف على الهاء. "حاشرين" نصب على الحال. "يأتوك" جزم؛ لأنه جواب الأمر ولذلك حذفت منه النون. قرأ أهل الكوفة إلا عاصما "بكل سحار" وقرأ سائر الناس "ساحر" وهما متقاربان؛ إلا أن فعالا أشد مبالغة.
الآيتان: 113 - 114 {وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين، قال نعم وإنكم لمن المقربين}
قوله تعالى: "وجاء السحرة فرعون" وحذف ذكر الإرسال لعلم السامع. قال ابن عبدالحكم: كانوا اثني عشر نقيبا، مع كل نقيب عشرون عريفا، تحت يدي كل عريف ألف ساحر. وكان رئيسهم شمعون في قول مقاتل بن سليمان. وقال ابن جريج: كانوا تسعمائة من العريش والفيوم والإسكندرية أثلاثا. وقال ابن إسحاق: كانوا خمسة عشر ألف ساحر؛ وروي عن وهب. وقيل: كانوا اثني عشر ألفا. وقال ابن المنكدر: ثمانين ألفا. وقيل: أربعة عشر ألفا. وقيل: كانوا ثلاثمائة ألف ساحر من الريف، وثلاثمائة ألف ساحر من الصعيد، وثلاثمائة ألف ساحر من الفيوم وما والاها. وقيل: كانوا سبعين رجلا. وقيل: ثلاثة وسبعين؛ فالله أعلم. وكان معهم فيما روي حبال وعصي يحملها ثلاثمائة بعير. فالتقمت الحية ذلك كله. قال ابن عباس والسدي: كانت إذا فتحت فاها صار شدقها ثمانين ذراعا؛ واضعة فكها الأسفل على الأرض، وفكها الأعلى على سور القصر. وقيل: كان سعة فمها أربعين ذراعا؛ فالله أعلم. فقصدت فرعون لتبتلعه، فوثب من سريره فهرب منها واستغاث بموسى؛ فأخذها فإذا هي عصا كما كانت. قال وهب: مات من خوف العصا خمسة وعشرون ألفا. "قالوا إن لنا لأجرا" أي جائزة ومالا. ولم يقل فقالوا بالفاء؛ لأنه أراد لما جاؤوا قالوا. وقرئ "إن لنا" على الخبر. وهي قراءة نافع وابن كثير. ألزموا فرعون أن يجعل لهم مالا إن غلبوا. فقال لهم فرعون "نعم وإنكم لمن المقربين" أي لمن أهل المنزلة الرفيعة لدينا، فزادهم على ما طلبوا. وقيل: إنهم إنما قطعوا ذلك لأنفسهم في حكمهم إن غلبوا. أي قالوا: يجب لنا الأجر إن غلبنا. وقرأ الباقون بالاستفهام على جهة الاستخبار. استخبروا فرعون: هل يجعل لهم أجرا إن غلبوا أو لا؛ فلم يقطعوا على فرعون بذلك، إنما استخبروه هل يفعل ذلك؛ فقال لهم "نعم" لكم الأجر والقرب إن غلبتم.
الآيات: 115 - 117 {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين، قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم، وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون}
تأدبوا مع موسى عليه السلام فكان ذلك سبب إيمانهم. و"أن" في موضع نصب عند الكسائي والفراء، على معنى إما أن تفعل الإلقاء. ومثله قول الشاعر:
قالوا الركوب فقلنا تلك عادتنا
"قال ألقوا" قال الفراء: في الكلام حذف. والمعنى: قال لهم موسى إنكم لن تغلبوا ربكم ولن تبطلوا آياته. وهذا من معجز القرآن الذي لا يأتي مثله في كلام الناس، ولا يقدرون عليه. يأتي اللفظ اليسير بجمع المعاني الكثيرة. وقيل: هو تهديد. أي ابتدؤوا بالإلقاء، فسترون ما يحل بكم من الافتضاح؛ إذا لا يجوز على موسى أن يأمرهم بالسحر. وقيل: أمرهم بذلك ليبين كذبهم وتمويههم. "فلما ألقوا" أي الحبال والعصي "سحروا أعين الناس" أي خيلوا لهم وقلبوها عن صحة إدراكها، بما يتخيل من التمويه الذي جرى مجرى الشعوذة وخفة اليد. كما تقدم في "البقرة" بيانه. ومعنى "عظيم" أي عندهم؛ لأنه كان كثيرا وليس بعظيم على الحقيقة. قال ابن زيد: كان الاجتماع بالإسكندرية فبلغ ذنب الحية وراء البحيرة. وقال غيره: وفتحت فاها فجعلت تلقف - أي تلتقم - ما ألقوا من حبالهم وعصيهم. وقيل: كان ما ألقوا حبالا من أدم فيها زئبق فتحركت وقالوا هذه حيات. وقرأ حفص "تلقف" بإسكان اللام والتخفيف. جعله مستقبل لقف يلقف. قال النحاس: ويجوز على هذه القراءة "تلقف" لأنه من لقف. وقرأ الباقون بالتشديد وفتح اللام، وجعلوه مستقبل تلقف؛ فهي تتلقف. يقال: لقفت الشيء وتلقفته إذا أخذته أو بلعته. تلقف وتلقم وتلهم بمعنى واحد. قال أبو حاتم: وبلغني في بعض القراءات "تلقَّم" بالميم والتشديد. قال الشاعر:
أنت عصا موسى التي لم تزل تلقم ما يأفكه الساحر
ويروى: تلقف. "ما يأفكون" أي ما يكذبون، لأنهم جاؤوا بحبال وجعلوا فيها زئبقا حتى تحركت.
الآيات: 118 - 122 {فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وألقي السحرة ساجدين، قالوا آمنا برب العالمين، رب موسى وهارون}
قوله تعالى: "فوقع الحق" قال مجاهد: فظهر الحق. "وانقلبوا صاغرين" نصب على الحال. والفعل منه صغر يصغر صغرا وصغرا وصغارا. أي انقلب قوم فرعون وفرعون معهم أذلاء مقهورين مغلوبين. فأما السحرة فقد آمنوا.