تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 172 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 172

172- تفسير الصفحة رقم172 من المصحف
قوله تعالى: "وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا" أي قال الفاعلون للواعظين حين وعظوهم: إذا علمتم أن الله مهلكنا فلم تعظوننا؟ فمسخهم الله قردة.
قوله تعالى: "قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون" أي قال الواعظون: موعظتنا إياكم معذرة إلى ربكم؛ أي إنما يجب علينا أن نعظكم لعلكم تتقون. أسند هذا القول الطبري عن ابن الكلبي. وقال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق، وهو الظاهر من الضمائر في الآية. فرقة عصمت وصادت، وكانوا نحوا من سبعين ألفا. وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص، وإن هذه الطائفة قالت للناهية: لم تعظون قوما - تريد العاصية - الله مهلكهم أو معذبهم على غلبة الظن، وما عهد من فعل الله تعالى حينئذ بالأمم العاصية. فقالت الناهية: موعظتنا معذرة إلى الله لعلهم يتقون. ولو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية: ولعلكم تتقون، بالكاف. ثم اختلف بعد هذا؛ فقالت فرقة: إن الطائفة التي لم تنه ولم تعص هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي؛ قاله ابن عباس. وقال أيضا: ما أدري ما فعل بهم؛ وهو الظاهر من الآية. وقال عكرمة: قلت لابن عباس لما قال ما أدري ما فعل بهم: ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم فقالوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم؟ فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نحوا؛ فكساني حلة. وهذا مذهب الحسن. ومما يدل على أنه إنما هلكت الفرقة العادية لا غير قوله: "وأخذنا الذين ظلموا" [الأعراف: 165]. وقوله: "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت" [البقرة: 65] الآية. وقرأ عيسى وطلحة "معذرة" بالنصب. ونصبه عند الكسائي من وجهين: أحدهما على المصدر. والثاني على تقدير فعلنا ذلك معذرة. وهي قراءة حفص عن عاصم. والباقون بالرفع: وهو الاختيار؛ لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا من أمر ليموا عليه، ولكنهم قيل لهم: لم تعظون؟ فقالوا: موعظتنا معذرة. ولو قال رجل لرجل: معذرة إلى الله وإليك من كذا، يريد اعتذارا؛ لنصب. هذا قول سيبويه. ودلت الآية على القول بسد الذرائع. وقد مضى في (البقرة). ومضى فيها الكلام في الممسوخ هل ينسل أم لا، مبينا. والحمد لله. ومضى في آل عمران والمائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومضى في (النساء) اعتزال أهل الفساد ومجانبتهم، وأن من جالسهم كان مثلهم؛ فلا معنى للإعادة.
الآية: 165 {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون}
النسيان يطلق على الساهي. والعامد: التارك؛ لقوله تعالى: "فلما نسوا ما ذكروا به" أي تركوه عن قصد؛ ومنه "نسوا الله فنسيهم" [التوبة: 67]. ومعنى "بعذاب بئيس" أي شديد. وفيه إحدى عشرة قراءة: الأولى: قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي "بئيس" على وزن فعيل. الثانية: قراءة أهل مكة "بئيس" بكسر الباء والوزن واحد. والثالثة: قراءة أهل المدينة "بيس" الباء مكسورة بعدها ياء ساكنة بعدها سين مكسورة منونة، وفيها قولان. قال الكسائي: الأصل فيه "بييس" خفيفة الهمزة، فالتقت ياءان فحذفت إحداهما وكسر أوله: كما يقال: رغيف وشهيد. وقيل: أراد "بئس" على وزن فعل؛ فكسر أوله وخفف الهمزة وحذف الكسرة؛ كما يقال: رحم ورحم. الرابعة: قراءة الحسن، الباء مكسورة بعدها همزة ساكنة بعدها سين مفتوحة. الخامسة: قرأ أبو عبدالرحمن المقرئ "بئس" الباء مفتوحة والهمزة مكسورة والسين مكسورة منونة. السادسة: قال يعقوب القارئ: وجاء عن بعض القراء "بعذاب بئس" الباء مفتوحة والهمزة مكسورة والسين مفتوحة. السابعة: قراءة الأعمش "بيئس" على وزن فيعل. وروي عنه "بيأس" على وزن فيعل. وروي عنه "بئس" بباء مفتوحة وهمزة مشددة مكسورة، والسين في كله مكسورة منونة، أعني قراءة الأعمش. العاشرة: قراءة نصر بن عاصم "بعذاب بيس" الباء مفتوحة والياء مشددة بغير همز. قال يعقوب القارئ: وجاء عن بعض القراء "بئيس" الباء مكسورة بعدها همزة ساكنة بعدها ياء مفتوحة. فهذه إحدى عشرة قراءة ذكرها النحاس. قال علي بن سليمان: العرب تقول جاء ببنات بيس أي بشيء رديء. فمعنى "بعذاب بيس" بعذاب رديء. وأما قراءة الحسن فزعم أبو حاتم أنه لا وجه لها، قال: لأنه لا يقال مررت برجل بئس، حتى يقال: بئس الرجل، أو بئس رجلا. قال النحاس: وهذا مردود من كلام أبي حاتم؛ حكى النحويون: إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت. يريدون فيها ونعمت الخصلة. والتقدير على قراءة الحسن: بعذاب بئس العذاب.
الآية: 166 {فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين}
قوله تعالى: "فلما عتوا عن ما نهوا" أي فلما تجاوزوا في معصية الله. "قلنا لهم كونوا قردة خاسئين" يقال: خسأته فخسأ؛ أي باعدته وطردته. ودل على أن المعاصي سبب النقمة: وهذا لا خفاء به. فقيل: قال لهم ذلك بكلام يسمع، فكانوا كذلك. وقيل: المعنى كوناهم قردة.
الآية: 167 {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم}
أي أعلم أسلافهم أنهم إن غيروا ولم يؤمنوا بالنبي الأمي بعث الله عليهم من يعذبهم. وقال أبو علي: "آذن" بالمد، أعلم. و"أذن" بالتشديد، نادى. وقال قوم: آذن وأذن بمعنى أعلم؛ كما يقال: أيقن وتيقن. قال زهير:
فقلت تعلم إن للصيد غرة فإلا تضعيها فإنك قاتلة
وقال آخر:
تعلم إن شر الناس حي ينادى في شعارهم يسار
أي اعلم. ومعنى "يسومهم" يذيقهم؛ وقد تقدم في "البقرة". قيل: المراد بختنصر. وقيل: العرب. وقيل: أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو أظهر؛ فإنهم الباقون إلى يوم القيامة. والله أعلم. قال ابن عباس: "سوء العذاب" هنا أخذ الجزية. فإن قيل: فقد مسخوا، فكيف تؤخذ منهم الجزية؟ فالجواب أنها تؤخذ من أبنائهم وأولادهم، وهم أذل قوم، وهم اليهود. وعن سعيد بن جبير "سوء العذاب" قال: الخراج، ولم يجب نبي قط الخراج، إلا موسى عليه السلام هو أول من وضع الخراج، فجباه ثلاث عشرة سنة، ثم أمسك، ونبينا عليه السلام.
الآية: 168 {وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون}
قوله تعالى: "وقطعناهم في الأرض أمما" أي فرقناهم في البلاد. أراد به تشتيت أمرهم، فلم تجمع لهم كلمة. "منهم الصالحون" رفع على الابتداء. والمراد من آمن بمحمد عليه السلام. ومن لم يبدل منهم ومات قبل نسخ شرع موسى. أو هم الذين وراء الصين؛ كما سبق. "ومنهم دون ذلك" منصوب على الظرف. قال النحاس: ولا نعلم أحدا رفعه. والمراد الكفار منهم. "وبلوناهم" أي اختبرناهم. "بالحسنات" أي بالخصب والعافية. "والسيئات" أي الجدب والشدائد. "لعلهم يرجعون" ليرجعوا عن كفرهم.
الآية: 169 {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون}
قوله تعالى: "فخلف من بعدهم خلف" يعني أولاد الذين فرقهم في الأرض. قال أبو حاتم: "الخلف" بسكون اللام: الأولاد، الواحد والجميع فيه سواء. و"الخلف" بفتح اللام البدل، ولدا كان أو غريبا. وقال ابن الأعرابي: "الخلف" بالفتح الصالح، وبالجزم الطالح. قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنه قيل للرديء من الكلام: خلف. ومنه المثل السائر "سكت ألفا ونطق خلفا". فخلف في الذم بالإسكان، وخلف بالفتح في المدح. هذا هو المستعمل المشهور. قال صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله". وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. قال حسان بن ثابت:
لنا القدم الأولى إليك وخلقنا لأولنا في طاعة الله تابع
وقال آخر.
إنا وجدنا خلفا بئس الخلف أغلق عنا بابه ثم حلف
لا يدخل البواب إلا من عرف عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف
ويروى: خضف؛ أي ردم. والمقصود من الآية الذم. "ورثوا الكتاب" قال المفسرون: هم اليهود، ورثوا كتاب الله فقرؤوه وعلموه، وخالفوا حكمه وأتوا محارمه مع دراستهم له. فكان هذا توبيخا لهم وتقريعا. "يأخذون عرض هذا الأدنى" ثم أخبر عنهم أنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم ونهمهم. "ويقولون سيغفر لنا" وهم لا يتوبون. ودل على أنهم لا يتوبون.
قوله تعالى: "وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه" والعرض: متاع الدنيا؛ بفتح الراء. وبإسكانها ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير. والإشارة في هذه الآية إلى الرشا والمكاسب الخبيثة. ثم ذمهم باغترارهم في قولهم وأنهم بحال إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها، فقطعوا باغترارهم بالمغفرة وهم مصرون، وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم.
قلت: وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا. أسند الدارمي أبو محمد: حدثنا محمد بن المبارك حدثنا صدقة بن خالد عن ابن جابر عن شيخ يكنى أبا عمرو عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا سنبلغ، وإن أساؤوا قالوا سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئا. وقيل: إن الضمير في "يأتهم" ليهود المدينة؛ أي وإن يأت يهود يثرب الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عرض مثله يأخذوه كما أخذه أسلافهم.
قوله تعالى: "ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب" يريد التوراة. وهذا تشديد في لزوم قول الحق في الشرع والأحكام، وألا يميل الحكام بالرشا إلى الباطل.
قلت: وهذا الذي لزم هؤلاء وأخذ عليهم به الميثاق في قول الحق، لازم لنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم وكتاب ربنا، ولا خلاف فيه في جميع الشرائع، والحمد لله.
قوله تعالى: "ودرسوا ما فيه" أي قرؤوه، وهم قريبو عهد به. وقرأ أبو عبدالرحمن "وادارسوا ما فيه" فأدغم التاء في الدال. قال ابن زيد: كان يأتيهم المحق برشوة فيخرجون له كتاب الله فيحكمون له به، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له. وقال ابن عباس: "ألا يقولوا على الله إلا الحق" وقد قالوا الباطل في غفران ذنوبهم الذي يوجبونه ويقطعون به. وقال ابن زيد: يعني في الأحكام التي يحكمون بها؛ كما ذكرنا. وقال بعض العلماء: إن معنى "ودرسوا ما فيه" أي محوه بترك العمل به والفهم له؛ من قولك: درست الريح الآثار، إذا محتها. وخط دارس وربع دارس، إذا امحى وعفا أثره. وهذا المعنى مواطئ - أي موافق - لقوله تعالى: "نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم" [البقرة: 101] الآية. وقوله: "فنبذوه وراء ظهورهم" [آل عمران: 187]. حسب ما تقدم بيانه.
الآية: 170 {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين}
قوله تعالى: "والذين يمسكون بالكتاب" أي بالتوراة، أي بالعمل بها؛ يقال: مسك به وتمسك به أي استمسك به. وقرأ أبو العالية وعاصم في رواية أبي بكر "يمسكون" بالتخفيف من أمسك يمسك. والقراءة الأولى أولى؛ لأن فيها معنى التكرير والتكثير للتمسك بكتاب الله تعالى وبدينه فبذلك يمدحون. فالتمسك بكتاب الله والدين يحتاج إلى الملازمة والتكرير لفعل ذلك. وقال كعب بن زهير:
فما تمسك بالعهد الذي زعمت إلا كما تمسك الماء الغرابيل
فجاء به على طبعه يذم بكثرة نقض العهد.