تفسير الطبري تفسير الصفحة 172 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 172
173
171
 الآية : 164
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا قَالَتْ أُمّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىَ رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ }..
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: واذكر أيضا يا مـحمد, إذ قالت أمة منهم, جماعة منهم لـجماعة كانت تعظ الـمعتدين فـي السبت وتنهاهم عن معصية الله فـيه: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكهُمْ فـي الدنـيا بـمعصيتهم إياه, وخلافهم أمره, واستـحلالهم ما حرّم علـيهم. أوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابـا شَدِيدا فـي الاَخرة, قال الذين كانوا ينهونهم عن معصية الله مـجيبـيهم عن قولهم: عظتنا إياهم مَعْذِرَةً إلـى رَبّكُمْ نؤدّي فرضه علـينا فـي الأمر بـالـمعروف والنهي عن الـمنكر. وَلَعَلّهُمْ يَتّقونَ يقول: ولعلهم أن يتقوا الله فـيخافوه, فـينـيبوا إلـى طاعته ويتوبوا من معصيتهم إياه وتعدّيه علـى ما حرّم علـيهم من اعتدائهم فـي السبت. كما:
11929ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن داود بن الـحصين, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: قالُوا مَعْذِرَةً إلـى رَبّكُمْ لسخطنا أعمالهم. وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ: أي ينزعون عما هم علـيه.
11930ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَلَعلّهُمْ يَتّقُونَ قال: يتركون هذا العمل الذي هم علـيه.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: قالُوا مَعْذِرَةً فقرأ ذلك عامة قرّاء الـحجاز والكوفة والبصرة: «مَعْذِرَةٌ» بـالرفع علـى ما وصفت من معناها. وقرأ ذلك بعض أهل الكوفة: مَعْذِرَةً نصبـا, بـمعنى: إعذارا وعظناهم وفعلنا ذلك.
واختلف أهل العلـم فـي هذه الفرقة التـي قالت: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ هل كانت من الناجية, أم من الهالكة؟ فقال بعضهم: كانت من الناجية, لأنها كانت من الناهية الفرقةَ الهالكة عن الاعتداء فـي السبت. ذكر من قال ذلك.
11931ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَإذْ قالَتْ أُمّةٌ مِنْهُمْ لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابـا شَدِيدا هي قرية علـى شاطىء البحر بـين مكة والـمدينة يقال لها أيـلة, فحرّم الله علـيهم الـحيتان يوم سبتهم, فكانت الـحيتان تأتـيهم يوم سبتهم شرّعا فـي ساحل البحر, فإذا مضى يوم السبت لـم يقدروا علـيها, فمكثوا بذلك ما شاء الله. ثم إن طائفة منهم أخذوا الـحيتان يوم سبتهم, فنهتهم طائفة وقالوا: تأخذونها وقد حرّمها الله علـيكم يوم سبتكم فلـم يزدادوا إلاّ غيّا وعتوّا, وجعلت طائفة أخرى تنهاهم. فلـما طال ذلك علـيهم قالت طائفة من النهاة: تعلـمون أن هؤلاء قوم قد حقّ علـيهم العذاب لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكهُمْ؟ وكانوا أشدّ غضبـا لله من الطائفة الأخرى, فقالوا: معذِرَةً إلـى رَبّكُمْ وَلَعلّهُمْ يَتّقُونَ وكلّ قد كانوا ينهون. فلـما وقع علـيهم غضب الله, نـجت الطائفتان اللتان قالوا: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ, والذين قالوا: مَعْذِرَةً إلـى رَبّكُمْ, وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الـحيتان, فجعلهم قردة وخنازير.
11932ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التـي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ... إلـى قوله: وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأتِـيهِم وذلك أن أهل قرية كانت حاضرة البحر كانت تأتـيهم حيتانهم يوم سبتهم, يقول: إذا كانوا يوم يسبتون تأتـيهم شرّعا, يعنـي من كلّ مكان, ويَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأتِـيهِمْ. وأنهم قالوا: لو أنا أخذنا من هذه الـحيتان يوم تـجيء ما يكفـينا فـيـما سوى ذلك من الأيام. فوعظهم قوم مؤمنون ونهوهم. وقالت طائفة من الـمؤمنـين: إن هؤلاء قوم قد هموا بأمر لـيسوا بـمنتهين دونه, والله مخزيهم ومعذّبهم عذابـا شديدا. قال الـمؤمنون بعضهم لبعض: مَعْذِرَةً إلـى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ إن كان هلاك فلعلنا ننـجو وإما أن ينتهوا فـيكون لنا أجرا. وقد كان الله جعل علـى بنـي إسرائيـل يوما يعبدونه ويتفرّغون له فـيه, وهو يوم الاثنـين, فتعدّى الـخبثاء من الاثنـين إلـى السبت, وقالوا: هو يوم السبت. فنهاهم موسى, فـاختلفوا فـيه, فجعل علـيهم السبت, ونهاهم أن يعملوا فـيه وأن يعتدوا فـيه. وإن رجلاً منهم ذهب لـيحتطب, فأخذه موسى علـيه السلام, فسأله: هل أمرك بهذا أحد؟ فلـم يجد أحدا أمره, فرجمه أصحابه.
11933ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: قال بعض الذين نهوهم لبعض: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابـا شَدِيدا؟ يقول: لـم تعظونهم وقد وعظتـموهم فلـم يطيعوكم؟ فقال بعضهم: مَعْذِرَةً إلـى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ.
11934ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا معاذ بن هانىء, قال: حدثنا حماد, عن داود, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: وَإذْ قالَتْ أُمّةٌ مِنْهُمْ لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابـا شَدِيدا قال: ما أدري أنـجا الذين قالوا: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أم لا؟ قال: فلـم أزل به حتـى عرّفته أنهم قد نـجوا, فكسانـي حُلّة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا حماد, عن داود, عن عكرمة, قال: قرأ ابن عبـاس هذه الاَية, فذكر نـحوه, إلا أنه قال فـي حديثه: فما زلت أبصّره حتـى عرف أنهم قد نـجوا.
حدثنـي سلام بن سالـم الـخزاعي, قال: حدثنا يحيى بن سلـيـم الطائفـي, قال: حدثنا ابن جريج, عن عكرمة, قال: دخـلت علـى ابن عبـاس والـمصحف فـي حجره وهو يبكي, فقلت: ما يبكيك جعلنـي الله فداءك؟ قال: فقرأ: وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التـي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ... إلـى قوله: بِـمَا كانُوا يَفْسُقُونَ قال ابن عبـاس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت نـخاف أن نكون مثلهم. فقلت: أما تسمع الله يقول: فَلَـمّا عَتَوْا عَمّا نُهوا عَنْه؟ فسرّي عنه وكسانـي حُلّة.
11935ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: ثنـي رجل, عن عكرمة, قال: جئت ابن عبـاس يوما وهو يبكي, وإذا الـمصحف فـي حجره, فأعظمت أن أدنو, ثم لـم أزل علـى ذلك حتـى تقدمت فجلست, فقلت: ما يبكيك يا ابن عبـاس جعلنـي الله فداءك؟ فقال: هؤلاء الورقات. قال: وإذا هو فـي سورة الأعراف. قال: تعرف أيـلة؟ قلت: نعم. قال: فإنه كان حيّ من يهود سيقت الـحيتان إلـيهم يوم السبت ثم غاصت لا يقدرون علـيها حتـى يغوصوا بعد كدّ ومؤنة شديدة, كانت تأتـيهم يوم السبت شرّعا بـيضا سمانا كأنها الـماخض, تنتطح ظهورها لبطونها بأفنـيتهم وأبنـيتهم. فكانوا كذلك برهة من الدهر, ثم إن الشيطان أوحى إلـيهم, فقال: إنـما نهيتـم عن أكلها يوم السبت, فخذوها فـيه وكلوها فـي غيره من الأيام فقالت ذلك طائفة منهم, وقالت طائفة منهم: بل نهيتـم عن أكلها وأخذها وصيدها فـي يوم السبت. وكانوا كذلك حتـى جاءت الـجمعة الـمقبلة, فعدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها, واعتزلت طائفة ذات الـيـمين وتنـحت, واعتزلت طائفة ذات الـيسار وسكتت, وقال الأيـمنون: الله ينهاكم عن أن تعترضوا لعقوبة الله, وقال الأيسرون: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابـا شَدِيدا؟ قال الأيـمنون: مَعْذِرَةً إلـى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ أي ينتهون, فهو أحبّ إلـينا أن لا يصابوا ولا يهلكوا, وإن لـم ينتهوا فمعذرة إلـى ربكم. فمضوا علـى الـخطيئة, فقال الأيـمنون: قد فعلتـم يا أعداء الله, والله لا نبـايتكم اللـيـلة فـي مدينتكم, والله ما نراكم تصبحون حتـى يصيبكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده بـالعذاب فلـما أصبحوا ضربوا علـيهم البـاب ونادوا, فلـم يجابوا, فوضعوا سلـما وأعلوا سور الـمدينة رجلاً, فـالتفت إلـيهم فقال: أي عبـاد الله قردة والله تعاوى لها أذناب قال: ففتـحوا فدخـلوا علـيهم, فعرفت القردة أنسابها من الإنس, ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة, فجعلت القرود تأتـي نسيبها من الإنس, فتشمّ ثـيابه وتبكي, فتقول لهم: ألـم ننهكم عن كذا؟ فتقول برأسها نعم. ثم قرأ ابن عبـاس: فَلَـمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ أنْـجَيْنا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ وأخَذْنا الّذِينَ ظَلَـمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِـمَا كانُوا يَفْسُقُونَ قال: فأرى الـيهود الذين نهوا قد نـجوا, ولا أرى الاَخرين ذكروا, ونـحن نرى أشياء ننكرها, فلا نقول فـيها, قال: قلت: أي جعلنـي الله فداك, ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم علـيه وخالفوهم وقالوا: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ؟ قال: فأمر بـي فكسيت بردين غلـيظين.
11936ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التـي كانَتْ حاضِرَةَ البَحرِ ذكر لنا أنه إذا كان يوم السبت أقبلت الـحيتان حتـى تنتطح علـى سواحلهم وأفنـيتهم لـما بلغها من أمر الله فـي الـماء, فإذا كان فـي غير يوم السبت بعُدت فـي الـماء حتـى يطلبها طالبهم, فأتاهم الشيطان, فقال: إنـما حرم علـيكم أكلها يوم السبت, فـاصطادوها يوم السبت وكلوها فـيـما بعد... قوله: وَإذْ قالَتْ أُمّةٌ مِنْهُمْ لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابـا شَدِيدا قالُوا مَعْذِرَةً إلـى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ فصار القوم ثلاثة أصناف: أما صنف, فأمسكوا عن حرمة الله ونهوا عن معصية الله. وأما صنف فأمسك عن حرمة الله هيبة لله. وأما صنف فـانتهك الـحرمة ووقع فـي الـخطيئة.
11937ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس فـي قول الله: حاضِرَةَ البَحْرِ قال: حرمت علـيهم الـحيتان يوم السبت, وكانت تأتـيهم يوم السبت شرّعا, بلاء ابتلوا به, ولا تأتـيهم فـي غيره إلا أن يطلبوها, بلاء أيضا بـما كانوا يفسقون. فأخذوها يوم السبت استـحلالاً ومعصية, فقال الله لهم: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ إلا طائفة منهم لـم يعتدوا ونهوهم, فقال بعضهم لبعض: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما.
11938ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَإذْ قالَتْ أُمّةٌ مِنْهُمْ لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ... حتـى بلغ: وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ لعلهم يتركون ما هم علـيه. قال: كانوا قد بلوا بكفّ الـحيتان عنهم, وكانوا يسبتون فـي يوم السبت, ولا يعملون فـيه شيئا, فإذا كان يوم السبت أتتهم الـحيتان شرّعا, وإذا كان غير يوم السبت لـم يأت حوت واحد. قال: وكانوا قوما قد قرنوا بحبّ الـحيتان, ولقوا منه بلاء, فأخذ رجل منهم حوتا, فربط فـي ذنبه خيطا, ثم ربطه إلـى خَشَفَة, ثم تركه فـي الـماء, حتـى إذا غربت الشمس من يوم الأحد اجترّه بـالـخيط, ثم شواه. فوجد جار له ريح حوت, فقال: يا فلان إنـي أجد فـي بـيتك ريح نون فقال: لا. قال: فتطلع فـي تنوره فإذا هو فـيه فأخبره حينئذ الـخبر, فقال: إنـي أرى الله سيعذّبك. قال: فلـما لـم يره عجل عذابـا, فلـما أتـى السبت الاَخر أخذ اثنـين فربطهما, ثم اطلع جار له علـيه. فلـما رآه لـم يعجل عذابـا جعلوا يصيدونه, فـاطلع أهل القرية علـيهم, فنهاهم الذين ينهون عن الـمنكر, فكانوا فرقتـين: فرقة تنهاهم وتكفّ, وفرقة تنهاهم ولا تكفّ, فقال الذين نهوا وكفوا للذين ينهون ولا يكفون: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابـا شَدِيدا فقال الاَخرون: مَعْذِرَةً إلـى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ فقال الله: فَلَـمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ أنْـجَيْنا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ... إلـى قوله: بِـمَا كانُوا يَفْسُقُونَ قال الله: فَلَـمّا عَتَوْا عَمّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ وقال لهم أهل تلك القرية: عملتـم بعمل سوّء, من كان يريد يعتزل ويتطهر فلـيعتزل هؤلاء قال: فـاعتزل هؤلاء وهؤلاء فـي مدينتهم, وضربوا بـينهم سورا, فجعلوا فـي ذلك السور أبوابـا يخرج بعضهم إلـى بعض. قال: فلـما كان اللـيـل طرقهم الله بعذابه, فأصبح أولئك الـمؤمنون لا يرون منهم أحدا, فدخـلوا علـيهم, فإذا هم قردة, الرجل وأزواجه وأولاده. فجعلوا يدخـلون علـى الرجل يعرفونه, فـيقولون: يا فلان ألـم نـحذّرك سطوات الله؟ ألـم نـحذرك نقِمات الله؟ ونـحذّرك ونـحذرك؟ قال: فلـيس إلا بكاء. قال: وأنـما عذّب الله الذين ظلـموا الذين أقاموا علـى ذلك. قال: وأما الذين نهوا فكلهم قد نَهَى, ولكن بعضهم أفضل من بعض فقرأ: أنْـجَيْنا الّذينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ وأخَذْنا الّذِين ظَلَـمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِـمَا كانُوا يَفْسُقُونَ.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا الـمـحاربـي, عن داود, عن عكرمة, قال: قرأ ابن عبـاس هذه الاَية: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابـا شَدِيدا قال: لا أدري أنـجا القوم أو هلكوا؟ فما زلت أبصّره حتـى عرف أنهم نـجوا, وكسانـي حُلّة.
11939ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنـي أشهب بن عبد العزيز, عن مالك, قال: زعم ابن رومان أن قوله: تَأتِـيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِـيهِمْ قال: كانت تأتـيهم يوم السبت, فإذا كان الـمساء ذهبت فلا يرى منها شيء إلـى السبت, فـاتـخذ لذلك رجل منهم خيطا ووتدا, فربط حوتا منها فـي الـماء يوم السبت, حتـى إذا أمسوا لـيـلة الأحد أخذه فـاشتواه, فوجد الناس ريحه, فأتوه فسألوه عن ذلك, فجحدهم, فلـم يزالوا به حتـى قال لهم: فإنه جلد حوت وجدناه فلـما كان السبت الاَخر فعل مثل ذلك, ولا أدري لعله قال: ربط حوتـين, فلـما أمسى من لـيـلة الأحد أخذه فـاشتواه, فوجدوا ريحه, فجاءوا فسألوه, فقال لهم: لو شئتـم صنعتـم كما أصنع, فقالوا له: وما صنعت؟ فأخبرهم, ففعلوا مثل ما فعل, حتـى كثر ذلك. وكانت لهم مدينة لها ربَض, فغلّقوها علـيهم, فأصابهم من الـمسخ ما أصابهم, فغدا إلـيهم جيرانهم مـمن كان يكون حولهم, يطلبون منهم ما يطلب الناس, فوجدوا الـمدينة مغلقة علـيهم, فنادوا فلـم يجيبوهم, فتسوّروا علـيهم, فإذا هم قردة, فجعل القرد يدنو يتـمسح بـمن كان يعرف قبل ذلك ويدنو منه ويتـمسح به.
وقال آخرون: بل الفرقة التـي قالت: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ كانت من الفرقة الهالكة. ذكر من قال ذلك:
11940ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن إدريس, عن مـحمد بن إسحاق, عن داود بن حصين, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التـي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ... إلـى قوله: شُرّعا قال: قال ابن عبـاس: ابتدعوا السبت, فـابتلوا فـيه, فحرّمت علـيهم فـيه الـحيتان, فكانوا إذا كان يوم السبت شرَعت لهم الـحيتان ينظرون إلـيها فـي البحر, فإذا انقضى السبت ذهبت, فلـم تر حتـى السبت الـمقبل, فإذا جاء السبت جاءت شرّعا. فمكثوا ما شاء الله أن يـمكثوا كذلك, ثم إن رجلاً منهم أخذ حوتا فخزم أنفه, ثم ضرب له وتدا فـي الساحل وربطه وتركه فـي الـماء, فلـما كان الغد أخذه فشواه فأكله. ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون, ولا ينهاه منهم أحد إلا عصبة منهم نهوه, حتـى ظهر ذلك فـي الأسواق وفعل علانـية, قال: فقالت طائفة للذين ينهون: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابـا شَدِيدا قالُوا مَعْذرَةً إلـى رَبّكُمْ فـي سخطنا أعمالهم وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ فَلَـمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ... إلـى قوله: قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ. قال ابن عبـاس: كانوا أثلاثا: ثلث نهوا, وثلث قالوا: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ, وثلث أصحاب الـخطيئة. فلـما نـجا إلا الذين نهوا, وهلك سائرهم, فأصبح الذين نهوا عن السوء ذات يوم فـي مـجالسهم يتفقدون الناس لا يرونهم, فغلقوا علـيهم دورهم, فجعلوا يقولون: إن للناس لشأنا, فـانظروا ما شأنهم فـاطلعوا فـي دورهم, فإذا القوم قد مسخوا فـي ديارهم قردة, يعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد, ويعرفون الـمرأة بعينها وإنها لقردة, قال الله: فجَعَلْناها نَكالاً لِـمَا بـينَ يَدَيْها وما خَـلْفَها وَمَوْعِظَةً للْـمُتّقِـينَ.
11941ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن أبـي بكر الهذلـيّ, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: أنْـجَيْنا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ... الاَية, قال ابن عبـاس: نـجا الناهون, وهلك الفـاعلون, ولا أدري ما صنع بـالساكتـين.
11942ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, عن ابن عبـاس: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ قال: هم ثلاث فرق: الفرقة التـي وعظت, والـموعوظة التـي وُعِظت, والله أعلـم ما فعلت الفرقة الثالثة, وهم الذين قالوا: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ.
وقال الكلبـي: هما فرقتان: الفرقة التـي وعظت, والفرقة التـي قالت: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ قال: هي الـموعوظة.
11943ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمران بن عيـينة, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: لأن أكون علـمتُ مَنْ هؤلاء الذين قالوا: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابـا شَدِيدا أحبّ إلـيّ مـما عدل به.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, قال: قال ابن عبـاس: وَإذْ قالَتْ أُمّةٌ مِنْهُمْ لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ قال: أسمع الله يقول: أنْـجَيْنا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ وأخَذْنا الّذِينَ ظَلَـمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ فلـيت شعري ما فعل بهؤلاء الذين قالوا: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ.
11944ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن ماهان الـحنفـيّ أبـي صالـح, فـي قوله: تَأتِـيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِـيهِمْ قال: كانوا فـي الـمدينة التـي علـى ساحل البحر, وكانت الأيام ستة, الأحد إلـى الـجمعة, فوضعت الـيهود يوم السبت, وسَبَتوه علـى أنفسهم, فسبته الله علـيهم, ولـم يكن السبت قبل ذلك, فوكّده الله علـيهم, وابتلاهم فـيه بـالـحيتان, فجعلت تشرع يوم السبت, فـيتقون أن يصيبوا منها, حتـى قال رجل منهم: والله ما السبت بـيوم وكّده الله علـينا, ونـحن وكدناه علـى أنفسنا, فلو تناولت من هذا السمك فتناول حوتا من الـحيتان, فسمع بذلك جاره, فخاف العقوبة فهرب من منزله. فلـما مكث ما شاء الله ولـم تصبه عقوبة تناول غيره أيضا فـي يوم السبت. فلـما لـم تصبهم العقوبة كثر من تناول فـي يوم السبت, واتـخذوا يوم السبت ولـيـلة السبت عيدا يشربون فـيه الـخمور ويـلعبون فـيه بـالـمعازف, فقال لهم خيارهم وصلـحاؤهم: ويحكم, انتهوا عما تفعلون, إن الله مهلككم أو معذّبكم عذابـا شديدا أفلا تعقلون؟ ولا تعدوا فـي السبت فأبوا, فقال خيارهم: نضرب بـيننا وبـينهم حائطا ففعلوا. وكان إذا كان لـيـلة السبت تأذّوا بـما يسمعون من أصواتهم وأصوات الـمعازف. حتـى إذا كانت اللـيـلة التـي مسخوا فـيها, سكنت أصواتهم أوّل اللـيـل, فقال خيارهم: ما شأن قومكم قد سكنت أصواتهم اللـيـلة؟ فقال بعضهم: لعلّ الـخمر غلبتهم فناموا. فلـما أصبحوا لـم يسمعوا لهم حسّا, فقال بعضهم لبعض: ما لنا لا نسمع من قومكم حسّا؟ فقالوا لرجل: اصعد الـحائط وانظر ما شأنهم فصعد الـحائط فرآهم يـموج بعضهم فـي بعض, قد مسخوا قردة, فقال لقومه: تعالوا فـانظروا إلـى قومكم ما لقوا فصعدوا, فجعلوا ينظرون إلـى الرجل, فـيتوسمون فـيه, فـيقولون: أي فلان أنت فلان؟ فـيومىء بـيده إلـى صدره: أي نعم بـما كسبت يداي.
11945ـ حدثنـي يعقوب وابن وكيع, قالا: حدثنا ابن علـية, عن أيوب قال: تلا الـحسن ذات يوم: وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التـي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ إذْ يَعْدُونَ فِـي السّبْتِ إذْ تَأتِـيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِـيهِمْ كذلكَ نَبْلُوهُمْ بِـمَا كانُوا يَفْسُقُونَ فقال: كان حوتا حرّمه الله علـيهم فـي يوم وأحله لهم فـيـما سوى ذلك, فكان يأتـيهم فـي الـيوم الذي حرّمه الله علـيهم كأنه الـمخاض لا يـمتنع من أحد, وقلّـما رأيت أحدا يكثر الاهتـمام بـالذنب إلا واقعه. قال: فجعلوا يهمون ويـمسكون حتـى أخذوه, فأكلوا أوخم أكلة أكلها قوم قطّ, أثقله خزيا فـي الدنـيا وأشدّه عقوبة فـي الاَخرة, وايـمُ الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مؤمن, وللـمؤمن أعظم حرمة عند الله من حوت, ولكن الله جعل موعد قوم الساعة والسّاعَةُ أدْهَى وأَمَرّ.
11946ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا سفـيان, عن أبـي موسى, عن الـحسن, قال: جاءتهم الـحيتان تشرع فـي حياضهم كأنها الـمخاض, فأكلوا والله أوخم أكلة أكلها قوم قطّ, أسوأه عقوبة فـي الدنـيا وأشدّه عذابـا فـي الاَخرة. وقال الـحسن: وقتل الـمؤمن والله أعظم من أكل الـحيتان.
11947ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, قال: كنت جالسا فـي الـمسجد, فإذا شيخ قد جاء وجلس الناس إلـيه, فقالوا: هذا من أصحاب عبد الله بن مسعود, فقال: قال ابن مسعود: وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التـي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ... الاَية, قال: لـما حرّم علـيهم السبت كانت الـحيتان تأتـي يوم السبت, وتأمن وتـجيء فلا يستطيعون أن يـمسّوها, وكان إذا ذهب السبت ذهبت, فكانوا يتصيّدُونَ كما يتصيّد الناس. فلـما أرادوا أن يعدوا فـي السبت, اصطادوا, فنهاهم قوم من صالـحيهم, فأبوا, وكثّرهم الفجار, فأراد الفجار قتالهم, فكان فـيهم من لا يشتهون قتاله, أبو أحدهم وأخوه أو قريبه. فلـما نهوهم وأبوا, قال الصالـحون: إنا نبـاينهم, وإنا نـجعل بـيننا وبـينهم حائطا ففعلوا, فلـما فقدوا أصواتهم, قالوا: لو نظرتـم إلـى إخوانكم ما فعلوا فنظروا فإذا هم قد مسخوا قردة, يعرفون الكبـير بكبره والصغير بصغره, فجعلوا يبكون إلـيهم. وكان هذا بعد موسى صلى الله عليه وسلم.
الآية : 165
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَماّ نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوَءِ وَأَخَذْنَا الّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: فلـما تركت الطائفة التـي اعتدت فـي السبت ما أمرها الله به من ترك الاعتداء فـيه وضيعت ما وعظتها الطائفة الواعظة وذكرتها ما ذكرتها به من تـحذيرها عقوبة الله علـى معصيتها فتقدمت علـى استـحلال ما حرّم الله علـيها, أنـجى الله الذين ينهون منهم عن السوء, يعنـي عن معصية الله, واستـحلال حرمه. وأخَذْنا الّذِينَ ظَلَـمُوا يقول: وأخذ الله الذين اعتدوا فـي السبت فـاستـحلوا فـيه ما حرّم الله من صيد السمك وأكله, فأحلّ بهم بأسه وأهلكهم. بِعَذَابٍ شديد بِئِيسٍ بِـمَا كانُوا يَفْسُقونَ يخالفون أمر الله, فـيخرجون من طاعته إلـى معصيته, وذلك هو الفسق.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
11948ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن جريج, فـي قوله: فَلـمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ أنْـجَيْنا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ قال: فلـما نسوا موعظة الـمؤمنـين إياهم, الذين قالوا: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما.
11949ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا حرميّ, قال: ثنـي شعبة, قال: أخبرنـي عمارة, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: أنْـجَيْنا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ قال: يا لـيت شعري ما السوء الذي نهوا عنه.
وأما قوله: بِعَذَابٍ بَئِيسٍ فإن القرّاء اختلفت فـي قراءته, فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة: «بِعَذَابٍ بِـيسٍ» بكسر البـاء وتـخفـيف الـياء بغير همز, علـى مثال «فِعْل». وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة والبصرة: بِعَذَابِ بَئِيسٍ علـى مثل «فعيـل» من البؤس, بنصب البـاء وكسر الهمزة ومدّها. وقرأ ذلك كذلك بعض الـمكيـين, غير أنه كسر بـار: «بِئِيسٍ» علـى مثال «فِعِيـل». وقرأه بعض الكوفـيـين: «بَـيْئِسٍ» بفتـح البـاء, وتسكين الـياء, وهمزة بعدها مكسورة علـى مثال «فَـيْعِلٍ». وذلك شاذّ عند أهل العربـية, لأن «فـيعل» إذا لـم يكن من ذوات الـياء والواو, فـالفتـح فـي عينه الفصيح فـي كلام العرب, وذلك مثل قولهم فـي نظيره من السالـم: صيقل, ونـيرب, وإنـما تكسر العين من ذلك فـي ذوات الـياء والواو, كقولهم: سيد, وميت. وقد أنشد بعضهم قول امرىء القـيس بن عابس الكنديّ:
كِلاهُما كانَ رَئِيسا بَـيْئِسَايَضْرِبُ فِـي يَوْمِ الهِياجِ القَوْنَسا
بكسر العين من «فَـيْعِل», وهي الهمزة من بـيئِس. فلعلّ الذي قرأ ذلك كذلك قرأه علـى هذه. وذكر عن آخر من الكوفـيـين أيضا أنه قرأه: بَـيْئَس نـحو القراءة التـي ذكرناها قبل هذه, وذلك بفتـح البـاء وتسكين الـياء وفتـح الهمزة بعد الـياء علـى مثال «فَـيْعَل» مثل «صَيْقَل». وروي عن بعض البصريـين أنه قرأه: «بَئِس» بفتـح البـاء وكسر الهمزة علـى مثال «فَعِل», كما قال ابن قـيس الرقـيات:
لَـيْتَنِـي ألْقَـي رُقَـيّةَ فِـيخَـلْوَةٍ مِنْ غيرِ ما بَئِسِ
وروى عن آخر منهم أنه قرأ: «بِئْسَ» بكسر البـاء وفتـح السين علـى معنى بئس العذاب.
وأولـى هذه القراءات عندي بـالصواب قراءة من قرأه: بَئِيس بفتـح البـاء وكسر الهمزة ومدّها علـى مثال فَعِيـل, كما قال ذو الأصبع العدوانـي:
حَنَقا عَلـيّ وَلَنْ تَرَىلـي فِـيهِمُ أثَرا بَئِيسا
لأن أهل التأويـل أجمعوا علـى أن معناه شديد, فدلّ ذلك علـى صحة ما اخترنا. ذكر من قال ذلك:
11950ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: أخبرنـي رجل عن عكرمة, عن ابن عبـاس, فـي قوله: وأخَذْنا الّذِينَ ظَلَـمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ: ألـيـم وجيع.
11951ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: بِعَذَابٍ بَئِيسٍ قال: شديد.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: بِعَذَابٍ بَئِيسٍ: ألـيـم شديد.
11952ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: بِعَذَابٍ بَئِيسٍ قال: موجع.
11953ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: بِعَذَابٍ بَئِيسٍ قال: بعذاب شديد.
الآية : 166
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَماّ عَتَوْاْ عَن مّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ }..
يقول تعالـى ذكره: فلـما تـمرّدوا فـيـما نهوا عنه من اعتدائهم فـي السبت, واستـحلالهم ما حرّم الله علـيهم من صيد السمك وأكله وتـمادوا فـيه قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ: أي بُعداء من الـخير.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
11954ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: فَلَـمّا عَتَوْا عَمّا نُهُوا عَنْهُ يقول: لـما مرد القوم علـى الـمعصية. قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فصاروا قردة لها أذناب تَعَاوَى بعد ما كانوا رجالاً ونساء.
11955ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: فَلَـمّا عَتَوْا عَمّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فجعل الله منهم القردة والـخنازير. فزعم أن شبـاب القوم صاروا قردة, وأن الـمشيخة صاروا خنازير.
11956ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحمانـيّ, قال: حدثنا شريك, عن السديّ, عن أبـي مالك أو سعيد بن جبـير, قال: رأى موسى علـيه السلام رجلاً يحمل قصبـا يوم السبت, فضرب عنقه.
الآية : 167
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذْ تَأَذّنَ رَبّكَ لَيَبْعَثَنّ عَلَيْهِمْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ إِنّ رَبّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنّهُ لَغَفُورٌ رّحِيمٌ }..
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: وَإذْ تَأذّنَ واذكر يا مـحمد إذ آذن ربك فأعلـم. وهو تفعل من الإيذان, كما قال الأعشى ميـمون بن قـيس:
آذَنَ الـيَوْمَ جِيرَتِـي بِخُفُوفِصَرَمُوا حَبْلَ آلِفٍ مَأْلُوفِ
يعنـي بقوله آذن: أعلـم, وقد بـينا ذلك بشواهده فـي غير هذا الـموضع.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
11957ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ قال: أمر ربك.
حدثنا الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز. قال: حدثنا أبو سعد, عن مـجاهد: وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ قال: أمر ربك.
وقوله: لَـيَبْعَثَنّ عَلَـيْهِمْ يعنـي: أعلـم ربك لـيبعثنّ علـى الـيهود من يسومهم سوء العذاب, قـيـل: إن ذلك العرب بعثهم الله علـى الـيهود يقاتلون من لـم يسلـم منهم ولـم يعط الـجزية, ومن أعطى منهم الـجزية كان ذلك له صَغَارا وذلة.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
11958ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم وعلـيّ بن داود قالا: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَـيَبْعَثَنّ عَلَـيْهِمْ إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ مَنْ يَسُومهُمْ سُوءَ العَذَابِ قال: هي الـجزية, والذين يسومونهم: مـحمد صلى الله عليه وسلم وأمته إلـى يوم القـيامة.
11959ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَـيَبْعَثَنّ عَلَـيْهِمْ إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ فهي الـمسكنة, وأخذ الـجزية منهم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال ابن عبـاس: وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَـيَبْعَثَنّ عَلَـيْهِمْ إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ قال: يهود, وما ضرب علـيهم من الذلة والـمسكنة.
11960ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَـيَبْعَثَنّ عَلَـيْهِمْ إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ قال: فبعث الله علـيهم هذا الـحيّ من العرب, فهم فـي عذاب منهم إلـى يوم القـيامة.
11961ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: لَـيَبْعَثَنّ عَلَـيْهِمْ إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ قال: بعث علـيهم هذا الـحيّ من العرب, فهم فـي عذاب منهم إلـى يوم القـيامة. وقال عبد الكريـم الـجزري: يُستـحبّ أن تبعث الأنبـاط فـي الـجزية.
11962ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيـل, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد: وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَـيَبْعَثَنّ عَلَـيْهِمْ إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ قال: العرب. سُوءَ العَذَابِ قال: الـخراج. وأوّل من وضع الـخراج موسى علـيه السلام, فجبى الـخراج سبع سنـين.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد: وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَـيَبْعَثَنّ عَلَـيْهِمْ إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ قال: العرب. سُوءَ العَذَابِ قال: الـخراج. قال: وأوّل من وضع الـخراج موسى, فجبى الـخراج سبع سنـين.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد: وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَـيَبْعَثَنّ عَلَـيْهِمْ إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ قال: هم أهل الكتاب, بعث الله علـيهم العرب يجبونهم الـخراج إلـى يوم القـيامة, فهو سوء العذاب, ولـم يجب نبـيّ الـخراج قطّ إلا موسى صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة ثم أمسك, وإلا النبـيّ صلى الله عليه وسلم.
11963ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَـيَبْعَثَنّ عَلَـيْهِمْ إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ قال: يبعث علـيهم هذا الـحيّ من العرب, فهم فـي عذاب منهم إلـى يوم القـيامة.
11964ـ قال: أخبرنا معمر, قال: أخبرنـي عبد الكريـم, عن ابن الـمسيب, قال: يستـحبّ أن تبعث الأنبـاط فـي الـجزية.
11965ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَـيَبْعَثَنّ عَلَـيْهِمْ إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ يقول: إن ربك يبعث علـى بنـي إسرائيـل العرب, فـيسومونهم سوء العذاب: يأخذون منهم الـجزية ويقتلونهم.
11966ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَـيَبْعَثَنّ عَلَـيْهِمْ إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ لـيبعثنّ علـى يهود.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّ رَبّكَ لَسَرَيعُ العِقابِ وَإنّهُ لَغَفُورٌ رَحِيـمٌ.
يقول تعالـى ذكره: إن ربك يا مـحمد لسريع عقابه إلـى من استوجب منه العقوبة علـى كفره به ومعصيته له. وإنّهُ لَغَفُورٌ رَحِيـمٌ يقول: وإنه لذو صفح عن ذنوب من تاب من ذنوبه فأناب وراجع طاعته, يستر علـيها بعفوه عنها, رحيـم له أن يعاقبه علـى جرمه بعد توبته منها, لأنه يقبل التوبة ويُقـيـل العثرة.
الآية : 168
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَطّعْنَاهُمْ فِي الأرْضِ أُمَماً مّنْهُمُ الصّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسّيّئَاتِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: وفرّقنا بنـي إسرائيـل فـي الأرض أمـما, يعنـي جماعات شتـى متفرّقـين. كما:
11967ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيـل, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد بن حبـير, عن ابن عبـاس: وَقَطّعناهُمْ فِـي الأرْضِ أُمَـما قال: فـي كلّ أرض يدخـلها قوم من الـيهود.
11968ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَقَطّعناهُمْ فِـي الأرْضِ أُمَـما قال: يهود.
وقوله: مِنْهُمُ الصّالِـحُونَ يقول: من هؤلاء القوم الذين وصفهم الله من بنـي إسرائيـل الصالـحون, يعنـي: من يؤمن بـالله ورسله. وَمِنْهُمْ دُونَ ذلكَ يعنـي: دون الصالـح. وإنـما وصفهم الله جلّ ثناؤه بأنهم كانوا كذلك قبل ارتدادهم عن دينهم وقبل كفرهم بربهم, وذلك قبل أن يُبعث فـيهم عيسى ابن مريـم صلوات الله علـيه.
وقوله: وَبَلَوْناهُمْ بـالـحَسَناتِ وَالسّيّئاتِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول: واختبرناهم بـالرخاء فـي العيش, والـخفض فـي الدنـيا, والدعة والسعة فـي الرزق, وهي الـحسنات التـي ذكرها جلّ ثناؤه. ويعنـي بـالسيئات: الشدّة فـي العيش, والشظف فـيه, والـمصائب والرزايا فـي الأموال. لَعلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول: لـيرجعوا إلـى طاعة ربهم, وينـيبوا إلـيها, ويتوبوا من معاصيه.
الآية : 169
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـَذَا الأدْنَىَ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ لّلّذِينَ يَتّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: فخـلف من بعد هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم خـلْف يعنـي خـلف سَوْء, يقول: حدث بعدهم وخلافهم, وتبدّل منهم بدل سوء, يقال منه: هو خَـلَفُ صدق, وخَـلْفُ سَوْءٍ, وأكثر ما جاء فـي الـمدح بفتـح اللام وفـي الذمّ بتسكينها, وقد تـحرّك فـي الذمّ وتسكن فـي الـمدح, ومن ذلك فـي تسكينها فـي الـمدح قول حسان:
لنا القَدَمُ الأُولـى إلـيكَ وخَـلْفُنالاِءَوّلِنا فـي طاعَةِ اللّهِ تابِعُ
وأحسب أنه إذا وجه إلـى الفساد مأخوذ من قولهم: خـلف اللبن: إذا حمض من طول تركه فـي السقاء حتـى يفسد, فكأنّ الرجل الفـاسد مشبّه به, وقد يجوز أن يكون منه قولهم: خَـلَف فم الصائم: إذا تغيرت ريحه. وأما فـي تسكين اللام فـي الذمّ, فقول لبـيد:
ذَهَبَ الّذِينَ يُعاشُ فِـي أكْنافِهِمْوَبَقِـيتُ فِـي خَـلْفِ كَجِلْدِ الأجْرَبِ
وقـيـل: إن الـخـلْف الذي ذكر الله فـي هذه الاَية أنهم خـلَفوا من قبلهم هم النصارى. ذكر من قال ذلك:
11969ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: فَخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ قال: النصارى.
والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالـى إنـما وصف أنه خـلَف القوم الذي قصّ قصصهم فـي الاَيات التـي مضت خـلف سوْء رديء, ولـم يذكر لنا أنهم نصارى فـي كتابه, وقصتهم بقصص الـيهود أشبه منها بقصص النصارى. وبعدُ, فإن ما قبل ذلك خبر عن بنـي إسرائيـل وما بعده كذلك, فما بـينهما بأن يكون خبرا عنهم أشبه, إذ لـم يكن فـي الاَية دلـيـل علـى صرف الـخبر عنهم إلـى غيرهم, ولا جاء بذلك دلـيـل يوجب صحة القول به.
فتأويـل الكلام إذن: فتبدّل من بعدهم بَدَلُ سوْء, ورثوا كتاب الله: تعلـموه, وضيعوا العمل به فخالفوا حكمه, يُرْشَوْنَ فـي حكم الله, فـيأخذون الرشوة فـيه من عرض هذا العاجل الأدنى, يعنـي بـالأدنى: الأقرب من الاَجل الأبعد, ويقولون إذا فعلوا ذلك: إن الله سيغفر لنا ذنوبنا تـمنـيا علـى الله الأبـاطيـل, كما قال جلّ ثناؤه فـيهم: فَوَيْـلٌ للّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بِأيْدِيهِمْ ثّم يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِـيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِـيلاً فَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبونَ. وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ يقول: وإن شرع لهم ذنب حرام مثله من الرشوة بعد ذلك أخذوه واستـحلوه, ولـم يرتدعوا عنه. يخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم أهل إصرار علـى ذنوبهم, ولـيسوا بأهل إنابة ولا توبة.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل وإن اختلفت عنه عبـاراتهم. ذكر من قال ذلك:
11970ـ حدثنا أحمد بن الـمقدام, قال: حدثنا فضيـل بن عياض, عن منصور, عن سعيد بن جبـير, فـي قوله: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ. قال: يعملون الذنب ثم يستغفرون الله, فإن عرض ذلك الذنب أخذوه.
11971ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن سعيد بن جبـير: وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ قال: من الذنوب.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن سعيد بن جبـير: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا قال: يعملون بـالذنوب. وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ: قال: ذنب آخر يعملون به.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن منصور, عن سعيد بن جبـير: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال: الذنوب. وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ قال: الذنوب.
11972ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال: ما أشرف لهم من شيء فـي الـيوم من الدنـيا حلال أو حرام يشتهونه أخذوه, ويبتغون الـمغفرة, فإن يجدوا الغد مثله يأخذوه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, بنـحوه, إلا أنه قال: يتـمنون الـمغفرة.
حدثنا الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو سعد, عن مـجاهد: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال: لا يشرف لهم شيء من الدنـيا إلا أخذوه حلالاً كان أو حراما, ويتـمنون الـمغفرة, وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وإن يجدوا عرضا مثله يأخذوه.
11973ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَخَـلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَـلْفٌ: أي والله لـخـلْف سَوْء ورثوا الكتاب بعد أنبـيائهم ورسلهم, ورّثهم الله وعهد إلـيهم, وقال الله فـي آية أخرى: فَخَـلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَـلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ وَاتّبَعُوا الشّهَوَاتِ قال: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا تـمنوا علـى الله أمانـي وغرّة يغترّون بها. وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه لا يشغلهم شيء عن شيء ولا ينهاهم عن ذلك, كلـما أشرف لهم شيء من الدنـيا أكلوه لا يبـالون حلالاً كان أو حراما.
11974ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال: يأخذونه إن كان حلالاً وإن كان حراما. وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه قال: إن جاءهم حلال أو حرام أخذوه.
11975ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: فَخَـلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَـلْفٌ... إلـى قوله: وَدَرَسُوا ما فِـيهِ قال: كانت بنو إسرائيـل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى فـي الـحكم. وإن خيارهم اجتـمعوا فأخذ بعضهم علـى بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا, فجعل الرجل منهم إذا استُقْضِي ارتشى, فقال له: ما شأنك ترتشي فـي الـحكم؟ فـيقول: سيغفر لـي فـيطعن علـيه البقـية الاَخرون من بنـي إسرائيـل فـيـما صنع. فإذا مات أو نُزِع, وجُعل مكانه رجل مـمن كان يطعن علـيه فـيرتشي, يقول: وإن يأت الاَخرين عرض الدنـيا يأخذوه. وأما عَرَض الأدنى, فعرض الدنـيا من الـمال.
11976ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: فَخَـلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَـلْفٌ وَرِثُوا الكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا يقول: يأخذون ما أصابوا, ويتركون ما شاءوا من حلال أو حرام, ويقولون: سيغفر لنا.
11977ـ وحدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال: الكتاب الذي كتبوه, ويقولون: سَيُغْفَرُ لَنا لا نشرك بـالله شيئا. وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ يأتهم الـمـحقّ برشوه, فـيخرجوا له كتاب الله ثم يحكموا له بـالرشوة. وكان الظالـم إذا جاءهم برشوة أخرجوا له الـمثناة, وهو الكتاب الذي كتبوه, فحكموا له بـما فـي الـمثناة بـالرشوة, فهو فـيها مـحقّ, وهو فـي التوراة ظالـم, فقال الله: ألَـمْ يُؤخَذْ عَلَـيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا عَلـى اللّهِ إلاّ الـحَقّ وَدَرَسوا ما فِـيهِ.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن سعيد بن جبـير, قوله: فَخَـلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَـلْفٌ ورِثُوا الكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال: يعملون الذنوب.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ألَـمْ يُؤخَذْ عَلَـيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا علـى اللّهِ إلاّ الـحَقّ وَدَرَسُوا ما فِـيهِ والدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ للّذِينَ يَتّقُونَ أفَلا تَعْقِلُونَ.
يقول تعالـى ذكره: ألـم يؤخذ علـى هؤلاء الـمرتشين فـي أحكامهم, القائلـين: سيغفر الله لنا فعلنا هذا, إذا عوتبوا علـى ذلك ميثاقُ الكتاب, وهو أخذ الله العهود علـى بنـي إسرائيـل بإقامة التوراة والعمل بـما فـيها. فقال جلّ ثناؤه لهؤلاء الذين قصّ قصتهم فـي هذه الاَية موبخا لهم علـى خلافهم أمره ونقضهم عهده وميثاقه: ألـم يأخذ الله علـيهم ميثاق كتابه ألاّ يَقُولُوا علـى اللّهِ إلاّ الـحَقّ ولا يضيفوا إلـيه إلا ما أنزله علـى رسوله موسى صلى الله عليه وسلم فـي التوراة, وأن لا يكذبوا علـيه؟ كما:
11978ـ حدثنا القاسم,قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: ألَـمْ يُؤخَذْ عَلَـيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا علـى اللّهِ إلاّ الـحَقّ قال: فـيـما يوجبون علـى الله من غفران ذنوبهم التـي لا يزالون يعودون فـيها ولا يتوبون منها.
وأما قوله: وَدَرَسُوا ما فِـيهِ فإنه معطوف علـى قوله: وَرِثُوا الكِتابَ ومعناه: فخـلف من بعدهم خـلف ورثوا الكتاب, ودرسوا ما فـيه. ويعنـي بقوله: وَدَرَسُوا ما فِـيهِ قرءوا ما فـيه. يقول: ورثوا الكتاب فعلـموا ما فـيه ودرسوه, فضيعوه وتركوا العمل به, وخالفوا عهد الله إلـيهم فـي ذلك. كما:
11979ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَدَرَسُوا ما فِـيهِ قال: علـموه وعلـموا ما فـي الكتاب الذي ذكر الله وقرأ: بِـمَا كُنْتُـمْ تُعَلّـمُونَ الكِتابَ وَبِـمَا كُنْتُـمْ تَدْرُسُونَ.
والدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ للّذِينَ يَتّقُونَ يقول جلّ ثناؤه: وما فـي الدار الاَخرة, وهو ما فـي الـمعاد عند الله مـما أعدّ لأولـيائه والعاملـين بـما أنزل فـي كتابه الـمـحافظين علـى حدوده, خير للذين يتقون الله ويخافون عقابه, فـيراقبونه فـي أمره ونهيه, ويطيعونه فـي ذلك كله فـي دنـياهم. أفَلا تَعْقِلونَ يقول: أفلا يعقل هؤلاء الذين يأخذون عرض هذا الأدنى علـى أحكامهم, ويقولون سيغفر لنا, أن ما عند الله فـي الدار الاَخرة للـمتقـين العادلـين بـين الناس فـي أحكامهم, خير من هذا العرض القلـيـل الذي يستعجلونه فـي الدنـيا علـى خلاف أمر الله والقضاء بـين الناس بـالـجوار؟
الآية : 170
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ يُمَسّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ إِنّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ }..
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأه بعضهم: «يُـمْسِكُونَ» بتـخفـيف الـميـم وتسكينها, من أمسك يـمسك. وقرأه آخرون: يُـمَسّكُونَ بفتـح الـميـم وتشديد السين, من مسّك يـمسّك. ويعنـي بذلك: والذين يعملون بـما فـي كتاب الله, وأقاموا الصلاة بحدودها, ولـم يضيعوا أوقاتها إنّا لا نُضِيعُ أجْرَ الـمُصْلِـحِينَ يقول تعالـى ذكره: فمن فعل ذلك من خـلقـي, فإنـي لا أضيع أجر عمله الصالـح. كما:
11980ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وَالّذِينَ يُـمَسّكُونَ بـالكِتابِ قال: كتاب الله الذي جاء به موسى صلى الله عليه وسلم.
11981ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال مـجاهد, قوله: والّذِينَ يُـمَسّكُونَ بـالكِتابِ من يهود أو نصارى إنّا لا نُضِيعُ أجْرَ الـمُصْلِـحِينَ