تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 270 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 270

270- تفسير الصفحة رقم270 من المصحف
الآية: 27 {ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين}
قوله تعالى: "ثم يوم القيامة يخزيهم" أي يفضحهم بالعذاب ويذلهم به ويهينهم "ويقول أين شركائي" أي بزعمكم وفي دعواكم، أي الآلهة التي عبدتم دوني، وهو سؤال توبيخ. "الذين كنتم تشاقون فيهم" أي تعادون أنبيائي بسببهم، فليدفعوا عنكم هذا العذاب. وقرأ ابن كثير "شركاي" بياء مفتوحة من غير همز، والباقون بالهمز. وقرأ نافع "تشاقون" بكسر النون على الإضافة، أي تعادونني فيهم. وفتحها الباقون. "قال الذين أوتوا العلم" قال ابن عباس: أي الملائكة. وقيل المؤمنون. "إن الخزي اليوم" أي الهوان والذل يوم القيامة. "والسوء" أي العذاب. "على الكافرين".
الآية: 28 {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون}
قوله تعالى: "الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" هذا من صفة الكافرين. و"ظالمي أنفسهم" نصب على الحال؛ أي وهم ظالمون أنفسهم إذ أوردوها موارد الهلاك. "فألقوا السلم" أي الاستسلام. أي أقروا لله بالربوبية وانقادوا عند الموت وقالوا: "ما كنا نعمل من سوء" أي من شرك. فقالت لهم الملائكة: "بلى" قد كنتم تعملون الأسواء. "إن الله عليم بما كنتم تعملون" وقال عكرمة. نزلت هذه الآية بالمدينة في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا، فأخرجتهم قريش إلى بدر كرها فقتلوا بها؛ فقال: "الذين تتوفاهم الملائكة" بقبض أرواحهم. "ظالمي أنفسهم" في مقامهم بمكة وتركهم الهجرة. "فألقوا السلم" يعني في خروجهم معهم. وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الصلح؛ قال الأخفش. الثاني: الاستسلام؛ قال قطرب. الثالث: الخضوع؛ قاله مقاتل. "ما كنا نعمل من سوء" يعني من كفر. "بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون" يعني أن أعمالهم أعمال الكفار. وقيل: إن بعض المسلمين لما رأوا قلة المؤمنين رجعوا إلى المشركين؛ فنزلت فيهم. وعلى القول الأول فلا يخرج كافر ولا منافق من الدنيا حتى ينقاد ويستسلم، ويخضع ويذل، ولا تنفعهم حينئذ توبة ولا إيمان؛ كما قال: "فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا" [غافر: 85].
الآية: 29 {فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين}
قوله تعالى: "فادخلوا أبواب جهنم" أي يقال لهم ذلك عند الموت. وقيل: هو بشارة لهم بعذاب القبر؛ إذ هو باب من أبواب جهنم للكافرين. وقيل: لا تصل أهل الدركة الثانية إليها مثلا إلا بدخول الدركة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة هكذا. وقيل: لكل دركة باب مفرد، فالبعض يدخلون من باب والبعض يدخلون من باب آخر. فالله أعلم. "خالدين فيها" أي ماكثين فيها. "فلبئس مثوى" أي مقام "المتكبرين" الذين تكبروا عن الإيمان وعن عبادة الله تعالى، وقد بينهم بقوله الحق: "إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون" [الصافات: 35].
الآيتان: 30 - 31 {وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين، جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي الله المتقين}
قوله تعالى: "وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا" أي قالوا: أنزل خيرا؛ وتم الكلام. و"ماذا" على هذا اسم واحد. وكان يرد الرجل من العرب مكة في أيام الموسم فيسأل المشركين عن محمد عليه السلام فيقولون: ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون. ويسأل المؤمنين فيقولون: أنزل الله عليه الخير والهدى، والمراد القرآن. وقيل: إن هذا يقال لأهل الإيمان يوم القيامة. قال الثعلبي: فإن قيل: لم ارتفع الجواب في قوله: "أساطير الأولين" [النحل: 24] وانتصب في قوله: "خيرا" فالجواب أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل، فكأنهم قالوا: الذي يقوله محمد هو أساطير الأولين. والمؤمنين آمنوا بالنزول فقالوا: أنزل خيرا، وهذا مفهوم معناه من الإعراب، والحمد لله.
قوله تعالى: "للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة" قيل: هو من كلام الله عز وجل. وقيل: هو من جملة كلام الذين اتقوا. والحسنة هنا: الجنة؛ أي من أطاع الله فله الجنة غدا. وقيل: "للذين أحسنوا" اليوم حسنة في الدنيا من النصر والفتح والغنيمة "ولدار الآخرة خير" أي ما ينالون في الآخرة من ثواب الجنة خير وأعظم من دار الدنيا؛ لفنائها وبقاء الآخرة. "ولنعم دار المتقين" فيه وجهان: قال الحسن: المعنى ولنعم دار المتقين الدنيا؛ لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة ودخول الجنة. وقيل: المعنى ولنعم دار المتقين الآخرة؛ وهذا قول الجمهور. وعلى هذا تكون "جنات عدن" بدلا من الدار فلذلك ارتفع. "جنات عدن" بدلا من الدار فلذلك ارتفع. وقيل: ارتفع على تقدير هي جنات، فهي مبينة لقوله: "دار المتقين". أو تكون مرفوعة بالابتداء، التقدير: جنات عدن نعم دار المتقين. "يدخلونها" في موضع الصفة، أي مدخولة. وقيل: "جنات" رفع بالابتداء، وخبره "يدخلونها" وعليه يخرج قول الحسن. والله أعلم. "تجري من تحتها الأنهار" تقدم. "لهم فيها ما يشاؤون" أي مما تمنوه وأرادوه. "كذلك يجزي الله المتقين" أي مثل هذا الجزاء يجزي الله المتقين.
الآية: 32 {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون}
قوله تعالى: "الذين تتوفاهم الملائكة طيبين" قرأ الأعمش وحمزة "يتوفاهم الملائكة" في الموضعين بالياء، واختاره أبو عبيد؛ لما روي عن ابن مسعود أنه قال: إن قريشا زعموا أن الملائكة إناث فذكروهم أنتم. الباقون بالتاء؛ لأن المراد به الجماعة من الملائكة. و"طيبين" فيه ستة أقوال: الأول: "طيبين" طاهرين من الشرك. الثاني: صالحين. الثالث: زاكية أفعالهم وأقوالهم. الرابع: طيبين الأنفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله تعالى. الخامس: طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله. السادس: "طيبين" أن تكون وفاتهم طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم؛ بخلاف ما تقبض به روح الكافر والمخلط. والله أعلم. "يقولون سلام عليكم" يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون السلام إنذارا لهم بالوفاة. الثاني: أن يكون تبشيرا لهم بالجنة؛ لأن السلام أمان. وذكر ابن المبارك قال: حدثني حيوة قال أخبرني أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال: السلام عليك وليّ الله الله يقرأ عليك السلام. ثم نزع بهذه الآية "الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم". وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال: ربك مقرئك السلام. وقال مجاهد: إن المؤمن ليبشر بصلاح ولده من بعده لتقر عينه. وقد أتينا على هذا في كتاب التذكرة وذكرنا هناك الأخبار الواردة في هذا المعنى، والحمد لله. "ادخلوا الجنة" يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معناه أبشروا بدخول الجنة. الثاني: أن يقولوا ذلك لهم في الآخرة "بما كنتم تعملون" يعني في الدنيا من الصالحات.
الآية: 33 {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}
قوله تعالى: "هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة" هذا راجع إلى الكفار، أي ما ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وهم ظالمون لأنفسهم. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وخلف "يأتيهم الملائكة" بالياء. والباقون بالتاء على ما تقدم. "أو يأتي أمر ربك" أي بالعذاب من القتل كيوم بدر، أو الزلزلة والخسف في الدنيا. وقيل: المراد يوم القيامة. والقوم لم ينتظروا هذه الأشياء لأنهم ما آمنوا بها، ولكن امتناعهم عن الإيمان أوجب عليهم العذاب، فأضيف ذلك إليهم، أي عاقبتهم العذاب. "كذلك فعل الذين من قبلهم" أي أصروا على الكفر فأتاهم أمر الله فهلكوا. "وما ظلمهم الله" أي ما ظلمهم الله بتعذيبهم وإهلاكهم، ولكن ظلموا أنفسهم بالشرك.
الآية: 34 {فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}
قوله تعالى: "فأصابهم سيئات ما عملوا" قيل: فيه تقديم وتأخير؛ التقدير: كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم سيئات ما عملوا، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، فأصابهم عقوبات كفرهم وجزاء الخبيث من أعمالهم. "وحاق بهم" أي أحاط بهم ودار. "ما كانوا به يستهزئون" أي عقاب استهزائهم.