تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 271 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 271

271- تفسير الصفحة رقم271 من المصحف
الآية: 35 {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين}
قوله تعالى: "وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء" أي شيئا، و"من" صلة. قال الزجاج: قالوه استهزاء، ولو قالوه عن اعتقاد لكانوا مؤمنين. وقد مضى. "كذلك فعل الذين من قبلهم" أي مثل هذا التكذيب والاستهزاء فعل من كان قبلهم بالرسل فأهلكوا. "فهل على الرسل إلا البلاغ المبين" أي ليس عليهم إلا التبليغ، وأما الهداية فهي إلى الله تعالى.
الآية: 36 {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}
قوله تعالى: "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله" أي بأن اعبدوا الله ووحدوه. "واجتنبوا الطاغوت" أي اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم، وكل من دعا إلى الضلال. "فمنهم من هدى الله" أي أرشده إلى دينه وعبادته. "ومنهم من حقت عليه الضلالة" أي بالقضاء السابق عليه حتى مات على كفره، وهذا يرد على القدرية؛ لأنهم زعموا أن الله هدى الناس كلهم ووفقهم للهدى، والله تعالى يقول: "فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة" وقد تقدم. "فسيروا في الأرض" أي فسيروا معتبرين في الأرض "فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين" أي كيف صار آخر أمرهم إلى الخراب والعذاب والهلاك.
الآية: 37 {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين}
قوله تعالى: "إن تحرص على هداهم" أي إن تطلب يا محمد بجهدك هداهم. "فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين" أي لا يرشد من أضله، أي من سبق له من الله الضلالة لم يهده. وهذه قراءة ابن مسعود وأهل الكوفة. "فيهدي" فعل مستقبل وماضيه هدى. و"من" في موضع نصب "بيهدي" ويجوز أن يكون هدى يهدي بمعنى اهتدى يهتدي، رواه أبو عبيد عن الفراء قال: كما قرئ "أمن لا يهدي إلا أن يهدى" [يونس: 35] بمعنى يهتدي. قال أبو عبيد. ولا نعلم أحدا روى هذا غير الفراء، وليس بمتهم فيما يحكيه. النحاس: حكي لي عن محمد بن يزيد كأن معنى "لا يهدي من يضل" من علم ذلك منه وسبق ذلك له عنده، قال: ولا يكون يهدي بمعنى يهتدي إلا أن يكون يهدي أو يهدي. وعلى قول الفراء "يهدي" بمعنى يهتدي، فيكون "من" في موضع رفع، والعائد إلى "من" الهاء المحذوفة من الصلة، والعائد إلى اسم "إن" الضمير المستكن في "يضل". وقرأ الباقون "لا يهدى" بضم الياء وفتح الدال، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، على معنى من أضله الله لم يهده هاد؛ دليله قوله: "من يضلل الله فلا هادي له" [الأعراف: 186] و"من" في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسم فاعله، وهي بمعنى الذي، والعائد عليها من صلتها محذوف، والعائد على اسم إن من "فإن الله" الضمير المستكن في "يضل".
الآية: 38 {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون}
قوله تعالى: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم" هذا تعجيب من صنعهم، إذ أقسموا بالله وبالغوا في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت. ووجه التعجيب أنهم يظهرون تعظيم الله فيقسمون به ثم يعجزونه عن بعث الأموات. وقال أبو العالية: كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه، وكان في بعض كلامه: والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا، فأقسم المشرك بالله: لا يبعث الله من يموت؛ فنزلت الآية. وقال قتادة : ذكر لنا أن ابن عباس قال له رجل: يا ابن عباس، إن ناسا يزعمون أن عليا مبعوث بعد الموت قبل الساعة، ويتأولون هذه الآية. فقال ابن عباس: كذب أولئك! إنما هذه الآية عامة للناس، لو كان علي مبعوثا قبل القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه. "بلى" هذا رد عليهم؛ أي بلى ليبعثنهم. "وعدا عليه حقا" مصدر مؤكد؛ لأن قوله "يبعثهم" يدل على الوعد، أي وعد البعث وعدا حقا. "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" أنهم مبعوثون. وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد). وقد تقدم.
الآية: 39 {ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين}
قوله تعالى: "ليبين لهم" أي ليظهر لهم. "الذي يختلفون فيه" أي من أمر البعث. "وليعلم الذين كفروا" بالبعث وأقسموا عليه "أنهم كانوا كاذبين" وقيل: المعنى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ليبين لهم الذي يختلفون فيه، والذي اختلف فيه المشركون والمسلمون أمور: منها البعث، ومنها عبادة الأصنام، ومنها إقرار قوم بأن محمدا حق ولكن منعهم من اتباعه التقليد؛ كأبي طالب.
الآية: 40 {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}
أعلمهم سهولة الخلق عليه، أي إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائهم، ولا في غير ذلك مما نحدثه؛ لأنا إنما نقول له كن فيكون. قراءة ابن عامر والكسائي "فيكون" نصبا عطفا على أن نقول. وقال الزجاج: يجوز أن يكون نصبا على جواب "كن". الباقون بالرفع على معنى فهو يكون. وقال ابن الأنباري: أوقع لفظ الشيء على المعلوم عند الله قبل الخلق لأنه بمنزلة ما وجد وشوهد. وفي الآية دليل على أن القرآن غير مخلوق؛ لأنه لو كان قوله: "كن" مخلوقا لاحتاج إلى قول ثان، والثاني إلى ثالث وتسلسل وكان محالا. وفيها دليل على أن الله سبحانه مريد لجميع الحوادث كلها خيرها وشرها نفعها وضرها؛ والدليل على ذلك أن من يرى في سلطانه ما يكرهه ولا يريده فلأحد شيئين: إما لكونه جاهلا لا يدري، وإما لكونه مغلوبا لا يطيق، ولا يجوز ذلك في وصفه سبحانه، وقد قام الدليل على أنه خالق لاكتساب العباد، ويستحيل أن يكون فاعلا لشيء وهو غير مريد له؛ لأن أكثر أفعالنا يحصل على خلاف مقصودنا وإرادتنا، فلو لم يكن الحق سبحانه مريدا لها لكانت تلك الأفعال تحصل من غير قصد؛ وهذا قول الطبيعيين، وقد أجمع الموحدون على خلافه وفساده.
الآية: 41 {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}
قوله تعالى: "والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا" قد تقدم في "النساء" معنى الهجرة، وهي ترك الأوطان والأهل والقرابة في الله أو في دين الله، وترك السيئات. وقيل: "في" بمعنى اللام، أي لله. "من بعد ما ظلموا" أي عذبوا في الله. نزلت في صهيب وبلال وخباب وعمار، عذبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا، فلما خلوهم هاجروا إلى المدينة؛ قاله الكلبي. وقيل: نزلت في أبي جندل بن سهيل. وقال قتادة: المراد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة؛ ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة وجعل لهم أنصارا من المؤمنين. والآية تعم الجميع. "لنبوئنهم في الدنيا حسنة" في الحسنة ستة أقوال: الأول: نزول المدينة؛ قاله ابن عباس والحسن والشعبي وقتادة. الثاني: الرزق الحسن؛ قاله مجاهد. الثالث: النصر على عدوهم؛ قاله الضحاك. الرابع: إنه لسان صدق؛ حكاه ابن جريج. الخامس: ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات. السادس: ما بقي لهم في الدنيا من الثناء، وما صار فيها لأولادهم من الشرف. وكل ذلك اجتمع لهم بفضل الله، والحمد لله. "ولأجر الآخرة أكبر" أي ولأجر دار الآخرة أكبر، أي أكبر من أن يعلمه أحد قبل أن يشاهده؛ "وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا" [الإنسان: 20] "لو كانوا يعلمون" أي لو كان هؤلاء الظالمون يعلمون ذلك. وقيل: هو راجع إلى المؤمنين. أي لو رأوا ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه أكبر من حسنة الدنيا. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا دفع إلى المهاجرين العطاء قال: هذا ما وعدكم الله في الدنيا وما أدخر لكم في الآخرة أكثر؛ ثم تلا عليهم هذه الآية.
الآية: 42 {الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}
قيل: "الذين" بدل من "الذين" الأول. وقيل: من الضمير في "لنبوئنهم" وقيل: هم الذين صبروا على دينهم. "وعلى ربهم يتوكلون" في كل أمورهم. وقال بعض أهل التحقيق: خيار الخلق من إذا نابه أمر صبر، وإذا عجز عن أمر توكل؛ قال الله تعالى: "الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون".