تفسير الطبري تفسير الصفحة 270 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 270
271
269
 الآية : 27
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقّونَ فِيهِمْ قَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسّوَءَ عَلَى الْكَافِرِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: فعل الله بهؤلاء الذين مكروا الذين وصف الله جلّ ثناؤه أمرهم ما فعل بهم فـي الدنـيا من تعجيـل العذاب لهم والانتقام بكفرهم وجحودهم وحدانـيته، ثم هو مع ذلك يوم القـيامة مخزيهم فمذلهم بعذاب ألـيـم وقائل لهم عند ورودهم علـيه: أيْنَ شُرَكائيَ الّذِينَ كُنْتُـمْ تُشاقّونَ فِـيهم؟ أصله: من شاققت فلانا فهو يشاقّنـي، وذلك إذا فعل كلّ واحد منهما بصاحبه ما يشقّ علـيه. يقول تعالـى ذكره يوم القـيامة تقريعا للـمشركين بعبـادتهم الأصنام: أين شركائي؟ يقول: أين الذين كنتـم تزعمون فـي الدنـيا أنهم شركائي الـيوم؟ ما لهم لا يحضرونكم فـيدفعوا عنكم ما أنا مـحلّ بكم من العذاب، فقد كنتـم تعبدونهم فـي الدنـيا وتتولونهم والولـيّ ينصر ولـيه؟ وكانت مشاقتهم الله فـي أوثانهم مخالفتهم إياه فـي عبـادتهم، كما:
16293ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـي، عن ابن عبـاس، قوله: أيْنَ شُرَكائيَ الّذِينَ كُنْتُـمْ تُشاقّونَ فِـيهم يقول: تـخالفونـي.
وقوله: قالَ الّذِينَ أُتُوا العلْـمَ إنّ الـخِزْي الـيَوْمَ والسّوءَ علـى الكافرِينَ يعنـي: الذلة والهوان، والسّوءَ يعنـي: عذاب الله علـى الكافرين.

الآية : 28
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السّلَمَ مَا كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوَءٍ بَلَىَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: قال الذين أوتوا العلـم: إن الـخزي الـيوم والسوء علـى من كفر بـالله فجحد وحدانـيته، الّذِينَ تَتَوَفّـاهُمُ الـمَلائِكَةُ يقول: الذين تقبض أرواحهم الـملائكة، ظالِـمِي أنْفُسِهمْ يعنـي: وهم علـى كفرهم وشركهم بـالله. وقـيـل: إنه عنى بذلك من قتل من قريش ببدر وقد أخرج إلـيها كرها.
16294ـ حدثنـي الـمثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا يعقوب بن مـحمد الزهري، قال: ثنـي سفـيان بن عيـينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة، قال: كان ناس بـمكة أقرّوا بـالإسلام ولـم يهاجروا، فأخرج بهم كرها إلـى بدر، فقتل بعضهم، فأنزل الله فـيهم: الّذِينَ تَتَوَفّـاهُمُ الـمَلائكَةُ ظالِـمِي أنْفُسِهمْ.
وقوله: فَألْقُوا السّلَـمَ يقول: فـاستسلـموا لأمره، وانقادوا له حين عاينوا الـموت قد نزل بهم. ما كُنّا نَعْمَلُ منْ سُوءٍ وفـي الكلام مـحذوف استعنـي بفهم سامعيه ما دلّ علـيه الكلام عن ذكره، وهو: قالوا ما كنا نعمل من سوء. يخبر عنهم بذلك أنهم كذّبوا وقالوا: ما كنا نعصِي الله اعتصاما منهم بـالبـاطل رجاء أن ينـجوا بذلك،، فكذّبهم الله فقال: بل كنتـم تعملون السوء وتصدّون عن سبـيـل الله. إنّ اللّهَ عَلِـيـمٌ بِـمَا كُنْتُـمْ تَعْمَلُونَ يقول: إن الله ذو علـم بـما كنتـم تعملون فـي الدنـيا من معاصيه وتأتون فـيها ما يسخطه.
الآية : 29
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ }.
يقول تعالـى ذكره، يقول لهؤلاء الظلـمة أنفسهم حين يقولون لربهم: ما كنا نعمل من سوء: ادخـلوا أبواب جهنـم، يعنـي: طبقات جهنـم، خالدِينَ فـيها يعنـي: ماكثـين فـيها، فَلَبِئْسَ مَثْوَى الـمُتَكَبّرِين يقول: فلبئس منزل من تكبر علـى الله ولـم يقرّ بربوبـيته ويصدّق بوحدانـيته جهنـم.
الآية : 30
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقِيلَ لِلّذِينَ اتّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الْدّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتّقِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: وقـيـل للفريق الاَخر الذين هم أهل إيـمان وتقوى لله: ماذَا أنْزَل رَبّكُمْ قالُوا خَيْرا يقول: قالوا: أنزل خيرا. وكان بعض أهل العربـية من الكوفـيـين يقول: إنـما اختلف الأعراب فـي قوله: قالُوا أساطِيرُ الأوّلِـينَ، وقوله: خَيْرا، والـمسئلة قبل الـجوابـين كلـيهما واحدة، وهي قوله: ماذَا أنْزَل رَبّكُمْ لأن الكفـار جحدوا التنزيـل، فقالوا حين سمعوه: أساطير الأوّلـين، أي هذا الذي جئت به أساطير الأوّلـين ولـم ينزل الله منه شيئا. وأما الـمؤمنون فصدّقوا التنزيـل، فقالوا خيرا بـمعنى أنه أنزل خيرا، فـانتصب بوقوع الفعل من الله علـى الـخير، فلهذا افترقا ثم ابتدأ الـخبر فقال: لِلّذِينَ أحْسَنُوا فِـي هَذِهِ الدّنْـيا حَسَنَةٌ. وقد بـيّنا
القول فـي ذلك فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته.
وقوله: لِلّذِينَ أحْسَنُوا فِـي هَذِهِ الدّنْـيا حَسَنَةٌ يقول تعالـى ذكره: للذين آمنوا بـالله فـي هذه الدنـيا ورسوله وأطاعوه فـيها ودعوا عبـاد الله إلـى الإيـمان والعمل بـما أمر الله به حَسَنَةٌ يقول: كرامة من الله، وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ يقول: ولدار الاَخرة خير لَهُمْ مِنْ دَارِ الدّنْـيا، وكرامة الله التـي أعدّها لهم فـيها أعظم من كرامته التـي عجلها لهم فـي الدنـيا وَلَنِعْمَ دَارُ الـمُتّقـينَ يقول: ولنعم دار الذين خافوا الله فـي الدنـيا فـاتقوا عقابه بأداء فرائضه وتـجنب معاصيه دار الاَخرة.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16295ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَقِـيـلَ لِلّذِينَ اتّقُوا ماذَا أنْزَل رَبّكُمْ قالُوا خَيْرا لِلّذِينَ أحْسَنُوا فِـي هَذِهِ الدّنْـيا حَسَنَةٌ وهؤلاء مؤمنون، فـيقال لهم: ماذَا أنْزَل رَبّكُمْ فـيقولون خَيْرا لِلّذِينَ أحْسَنُوا فِـي هَذِهِ الدّنْـيا حَسَنَةٌ: أي آمنوا بـالله وأمروا بطاعة الله، وحثوا أهل طاعة الله علـى الـخير ودعوهم إلـيه.
الآية : 31
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتّقِينَ }.
يعنـي تعالـى ذكر بقوله: جَنّاتُ عَدْنٍ بساتـين للـمقام، وقد بـيّنا اختلاف أهل التأويـل فـي معنى عدن فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته. يَدْخُـلُونَها يقول: يدخـلون جنات عدن. وفـي رفع «جناتٌ» أوجه ثلاث: أحدها: أن يكون مرفوعا علـى الابتداء، والاَخر: بـالعائد من الذكر فـي قوله: «يَدْخُـلُونَها»، والثالث: علـى أن يكون خبر النعم، فـيكون الـمعنى إذا جعلت خبر النعم: ولنعم دار الـمتقـين جنات عدن، ويكون «يَدْخُـلُونَها» فـي موضع حال، كما يقال: نعم الدار دار تسكنها أنت. وقد يجوز أن يكون إذا كان الكلام بهذا التأويـل «يدخـلونها» من صلة «جنات عدن». وقوله: تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهَارُ يقول: تـجري من تـحت أشجارها الأنهار. لَهُمْ فِـيها ما يشاءُونَ يقول: للذين أحسنوا فـي هذه الدنـيا فـي جنات عدن ما يشاءون مـما تشتهي أنفسهم وتلذّ أعينهم. كَذلكَ يَجْزِي اللّهُ الـمُتّقِـينَ يقول: كما يجزي الله هؤلاء الذين أحسنوا فـي هذه الدنـيا بـما وصف لكم أيها الناس أنه جزاهم به فـي الدنـيا والاَخرة، كذلك يجزي الذين اتقوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
الآية : 32
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: كذلك يجزي الله الـمتقـين الذين تَقْبِض أرواحَهم ملائكةُ الله، وهم طيبون بتطيبب الله إياهم بنظافة الإيـمان، وطهر الإسلام فـي حال حياتهم وحال مـماتهم. كما:
16296ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: ثنـي عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء وحدثنـي الـمثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شبل وحدثنـي الـمثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: الّذِينَ تَتَوَفّـاهُمُ الـمَلائِكَةُ طَيّبِـينَ قال: أحياء وأمواتا، قدّر الله ذلك لهم.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.
وقوله: يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَـيْكُمْ يعنـي جلّ ثناؤه أن الـملائكة تقبض أرواح هؤلاء الـمتقـين، وهي تقول لهم: سلام علـيكم صيروا إلـى الـجنة بشارة من الله تبشرهم بها الـملائكة. كما:
16297ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي أبو صخر، أنه سمع مـحمد بن كعب القُرَظيّ يقول: إذا استنقعت نفس العبد الـمؤمن جاءه ملك فقال: السلام علـيك ولـيّ الله، الله يقرأ علـيك السلام. ثم نزع بهذه الاَية: الّذِينَ تَتَوَفّـاهُمُ الـمَلائِكَةُ طَيّبِـينَ... إلـى آخر الاَية.
16298ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أصحَابِ الـيَـمِينِ قال: الـملائكة يأتونه بـالسلام من قِبَل الله، وتـخبره أنه من أصحاب الـيـمين.
16299ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا الأشبّ أبو علـيّ، عن أبـي رجاء، عن مـحمد بن مالك، عن البراء، قال: قوله: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ ربّ رَحِيـمٍ قال: يسلـم علـيه عند الـموت.
وقوله: بِـمَا كُنْتُـمْ تَعْمَلُونَ يقول: بـما كنتـم تصيبون فـي الدنـيا أيام حياتكم فـيها طاعة الله طلب مرضاته.
الآية : 33
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلـَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: هل ينتظر هؤلاء الـمشركون إلا أن تأتـيهم الـملائكة لقبض أرواحهم، أو يأتـي أمر ربك بحشرهم لـموقـف القـيامة. كَذلكَ فَعَلَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يقول جلّ ثناؤه: كما يفعل هؤلاء من انتظارهم ملائكة الله لقبض أرواحهم أو إتـيان أمر الله فعل أسلافهم من الكفرة بـالله لأن ذلك فـي كلّ مشرك بـالله. وَما ظَلَـمَهُمُ اللّهُ يقول جلّ ثناؤه: وما ظلـمهم الله بإحلال سُخْطه، ولكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِـمُونَ بـمعصيتهم ربهم وكفرهم به، حتـى استـحقوا عقابه، فعجّل لهم.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16300ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ تَأْتِـيهُمُ الـمَلائِكَةُ قال: بـالـموت، وقال فـي آية أخرى: وَلَوْ تَرَى إذْ يَتَوَفّـى الّذِينَ كَفَرُوا الـمَلائِكَةُ وهو ملك الـموت وله رسل، قال الله تعالـى: أوْ يَأْتِـيَ أمْرُ رَبّكَ ذاكم يوم القـيامة.
16301ـ حدثنـي الـمثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ تَأْتِـيَهُمُ الـمَلائِكَةُ يقول: عند الـموت حين تتوفـاهم، أو يأتـي أمر ربك ذلك يوم القـيامة.
الآية : 34
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأَصَابَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: فأصاب هؤلاء الذين فعلوا من الأمـم الـماضية فعل هؤلاء الـمشركين من قريش سيئات ما عملوا يعنـي عقوبـات ذنوبهم ونقم معاصيه التـي اكتسبوها. وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ يقول: وحلّ بهم من عذاب الله ما كانوا يستهزئون منه ويسخرون عند إنذارهم ذلك رُسل الله، ونزل ذلك بهم دون غيرهم من أهل الإيـمان بـالله