تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 273 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 273

273- تفسير الصفحة رقم273 من المصحف
"ليكفروا بما آتيناهم" أي ليجحدوا نعمة الله التي أنعم بها عليهم من كشف الضر والبلاء. أي أشركوا ليجحدوا، فاللام لام كي. وقيل لام العاقبة. وقيل: "ليكفروا بما آتيناهم" أي ليجعلوا النعمة سببا للكفر، وكل هذا فعل خبيث؛ كما قال:
والكفر مخبثة لنفس المنعم
"فتمتعوا" أمر تهديد. وقرأ عبدالله "قل تمتعوا". "فسوف تعلمون" أي عاقبة أمركم.
الآية: 56 {ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون}
قوله تعالى: "ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم" ذكر نوعا آخر من جهالتهم، وأنهم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضر وينفع - وهي الأصنام - شيئا من أموالهم يتقربون به إليه؛ قال مجاهد وقتادة وغيرهما. فـ "يعلمون" على هذا للمشركين. وقيل هي للأوثان، وجرى بالواو والنون مجرى من يعقل، فهو رد على "ما" ومفعول يعلم محذوف، والتقدير: ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعلم شيئا نصيبا. وقد مضى في "الأنعام:136" تفسير هذا المعنى، ثم رجع من الخبر إلى الخطاب فقال: "تالله لتسئلن" وهذا سؤال توبيخ. "عما كنتم تفترون" أي تختلقونه من الكذب على الله أنه أمركم بهذا.
الآية: 57 {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون}
قوله تعالى: "ويجعلون لله البنات" نزلت في خزاعة وكنانة؛ فإنهم زعموا أن الملائكة بنات الله، فكانوا يقولون الحقوا البنات بالبنات. "سبحانه" نزه نفسه وعظمها عما نسبوه إليه من اتخاذ الأولاد. "ولهم ما يشتهون" أي يجعلون لأنفسهم البنين ويأنفون من البنات. وموضع "ما" رفع بالابتداء، والخبر "لهم" وتم الكلام عند قوله: "سبحانه". وأجاز الفراء كونها نصبا، على تقدير: ويجعلون لهم ما يشتهون. وأنكره الزجاج وقال: العرب تستعمل في مثل هذا ويجعلون لأنفسهم.
الآية: 58 {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم}
قوله تعالى: "وإذا بشر أحدهم بالأنثى" أي أخبر أحدهم بولادة بنت. "ظل وجهه مسودا"
أي متغيرا، وليس يريد السواد الذي هو ضد البياض، وإنما هو كناية عن غمه بالبنت. والعرب تقول لكل من لقي مكروها: قد اسود وجهه غما وحزنا؛ قال الزجاج. وحكى الماوردي أن المراد سواد اللون قال: وهو قول الجمهور. "وهو كظيم" أي ممتلئ من الغم. وقال ابن عباس: حزين. وقال الأخفش: هو الذي يكظم غيظه فلا يظهره. وقيل: إنه المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلم من الغم؛ مأخوذ من الكظامة وهو شد فم القربة؛ قاله علي بن عيسى. وقد تقدم.
الآية: 59 {يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون}
قوله تعالى: "يتوارى من القوم" أي يختفي ويتغيب. "من سوء ما بشر به" أي من سوء الحزن والعار والحياء الذي يلحقه بسبب البنت. "أيمسكه" ذكر الكناية لأنه مردود على "ما". "على هون" أي هوان. وكذا قرأ عيسى الثقفي "على هوان" والهون الهوان بلغة قريش؛ قاله اليزيدي وحكاه أبو عبيد عن الكسائي. وقال الفراء: هو القليل بلغة تميم. وقال الكسائي: هو البلاء والمشقة. وقالت الخنساء:
نهين النفوس وهون النفو س يوم الكريهة أبقى لها
وقرأ الأعمش "أيمسكه على سوء" ذكره النحاس، قال: وقرأ الجحدري "أم يدسها في التراب" يرده على قوله: "بالأنثى" ويلزمه أن يقرأ "أيمسكها". وقيل: يرجع الهوان إلى البنت؛ أي أيمسكها وهي مهانة عنده. وقيل: يرجع إلى المولود له؛ أيمسكه على رغم أنفه أم يدسه في التراب، وهو ما كانوا يفعلونه من دفن البنت حية. قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء؛ وأشدهم في هذا تميم. زعموا خوف القهر عليهم وطمع غير الأكفاء فيهن. وكان صعصعة ابن ناجية عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت إبلا يستحييها بذلك. فقال الفرزدق يفتخر:
وعمي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يوأد
وقيل: دسها إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف، كالمدسوس في التراب لإخفائه عن الأبصار؛ وهذا محتمل.
مسألة: ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئا، ثم قامت فخرجت وابنتاها، فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته حديثها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار). ففي هذا الحديث ما يدل على أن البنات بلية، ثم أخبر أن في الصبر عليهن والإحسان إليهن ما يقي من النار. وعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما؛ فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله عز وجل قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار). وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو) وضم أصابعه، خرجهما أيضا مسلم رحمه الله وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت له بنت فأدبها فأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه كانت له سترا أو حجابا من النار). وخطب إلى عقيل بن علفة ابنته الجرباء فقال:
إني وإن سيق إلي المهر ألف وعبدان وخور عشر
أحب أصهاري إلي القبر
وقال عبدالله بن طاهر:
لكل أبي بنت يراعي شؤونها ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر
فبعل يراعيها وخدر يكنها وقبر يواريها وخيرهم القبر
"ألا ساء ما يحكمون" أي في إضافة البنات إلى خالقهم وإضافة البنين إليهم. نظيره "ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذا قسمة ضيزى" [النجم: 21] أي جائرة، وسيأتي.
الآية: 60 {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم}
قوله تعالى: "للذين لا يؤمنون بالآخرة" أي لهؤلاء الواصفين لله البنات "مثل السوء" أي صفة السوء من الجهل والكفر. وقيل: هو وصفهم الله تعالى بالصاحبة والولد. وقيل: أي العذاب والنار. "ولله المثل الأعلى" أي الوصف الأعلى من الإخلاص والتوحيد؛ قاله قتادة. وقيل: أي الصفة العليا بأنه خالق رازق قادر ومجاز. وقال ابن عباس: "مثل السوء" النار، و"المثل الأعلى "شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: ليس كمثله شيء. وقيل: "ولله المثل الأعلى" كقوله: "الله نور السماوات والأرض مثل نوره" [النور: 35]. فإن قيل: كيف أضاف المثل هنا إلى نفسه وقد قال: "فلا تضربوا لله الأمثال" [النحل: 74] فالجواب أن قوله: "فلا تضربوا لله الأمثال" أي الأمثال التي توجب الأشباه والنقائص؛ أي لا تضربوا لله مثلا يقتضي نقصا وتشبيها بالخلق. والمثل الأعلى وصفه بما لا شبيه له ولا نظير، جل وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. "وهو العزيز الحكيم" تقدم.
الآية: 61 {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}
قوله تعالى: "ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم" أي بكفرهم وافترائهم، وعاجلهم. "ما ترك عليها" أي على الأرض، فهو كناية عن غير مذكور، لكن دل عليه قوله: "من دابة" فإن الدابة لا تدب إلا على الأرض. والمعنى المراد من دابة كافرة، فهو خاص. وقيل: المعنى أنه لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء. وقيل: المراد بالآية العموم؛ أي لو أخذ الله الخلق بما كسبوا ما ترك على ظهر هذه الأرض من دابة من نبي ولا غيره؛ وهذا قول الحسن. وقال ابن مسعود وقرأ هذه الآية: لو أخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان في حجرها، ولأمسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فمات الدواب، ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل؛ كما قال: "ويعفو عن كثير" [الشورى: 30]. "فإذا جاء أجلهم" أي أجل موتهم ومنتهى أعمارهم. أو الوقت المعلوم عند الله عز وجل. وقرأ ابن سيرين "جاء آجالهم" بالجمع وقيل: "فإذا جاء أجلهم" أي فإذا جاء يوم القيامة. والله أعلم. "لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" وقد تقدم. فإن قيل: فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم؟ قيل: يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة. وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم). وعن أم سلمة وسئلت عن الجيش الذي يخسف به وكان ذلك في أيام ابن الزبير، فقالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعوذ بالبيت عائذ فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم) فقلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارها؟ قال: (يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته). وقد أتينا على هذا المعنى مجودا في "كتاب التذكرة" وتقدم في "المائدة" وآخر "الأنعام" ما فيه كفاية، والحمد لله. وقيل "فإذا جاء أجلهم" أي فإذا جاء يوم القيامة. والله أعلم.
الآية: 62 {ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون}
قوله تعالى: "ويجعلون لله ما يكرهون" أي من البنات. "وتصف ألسنتهم الكذب" أي وتقول ألسنتهم الكذب. "الكذب" مفعول "تصف" و"أن" في محل نصب بدل من الكذب؛ لأنه بيان له. وقيل: "الحسنى" الجزاء الحسن؛ قال الزجاج. وقرأ ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وابن محيصن "الكذب" برفع الكاف والذال والباء نعتا للألسنة؛ وكذا "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب" [النحل: 116]. والكذب جمع كذوب؛ مثل رسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر. "أن لهم الحسنى" قال مجاهد: هو قولهم أن لهم البنين ولله البنات. "لا جرم أن لهم النار" قال الخليل: "لا جرم" كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا؛ يقال: فعلوا ذلك؛ فيقال: لا جرم سيندمون. أي حقا أن لهم النار. "وأنهم مفرطون" متركون منسيون في النار؛ قاله ابن الأعرابي وأبو عبيدة والكسائي والفراء، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد. وقال ابن عباس وصعيد بن جبير أيضا: مبعدون. قتادة والحسن: معجلون إلى النار مقدمون إليها. والفارط: الذي يتقدم إلى الماء؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا فرطكم على الحوض) أي متقدمكم. وقال القطامي:
فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فراط لوراد
والفراط: المتقدمون في طلب الماء. والوراد: المتأخرون. وقرأ نافع في رواية ورش "مفرطون" بكسر الراء وتخفيفها، وهي قراءة عبدالله بن مسعود وابن عباس، ومعناه مسرفون في الذنوب والمعصية، أي أفرطوا فيها. يقال: أفرط فلان على فلان إذا أربى عليه، وقال له أكثر مما قال من الشر. وقرأ أبو جعفر القارئ "مفرطون" بكسر الراء وتشديدها، أي مضيعون أمر الله؛ فهو من التفريط في الواجب.
الآية: 63 {تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم}
قوله تعالى: "تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم" أي أعمالهم الخبيثة. هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن من تقدمه من الأنبياء قد كفر بهم قومهم. "فهو وليهم اليوم" أي ناصرهم في الدنيا على زعمهم. وقيل: "فهو وليهم" أي قرينهم في النار. "اليوم" يعني يوم القيامة، وأطلق عليه اسم اليوم لشهرته. وقيل يقال لهم يوم القيامة: هذا وليكلم فاستنصروا به لينجيكم من العذاب، على جهة التوبيخ لهم. "ولهم عذاب أليم" في الآخرة.
الآية: 64 {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}
قوله تعالى: "وما أنزلنا عليك الكتاب" أي القرآن "إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه" من الدين والأحكام فتقوم الحجة عليهم ببيانك. وعطفك "هدى ورحمة" على موضع قوله: "لتبين" لأن محله نصب. ومجاز الكلام: وما أنزلنا عليك الكتاب إلا تبيانا للناس. "وهدى ورحمة لقوم يؤمنون" أي رشدا ورحمة للمؤمنين.