تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 272 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 272

272- تفسير الصفحة رقم272 من المصحف
الآيتان: 43 - 44 {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}
قوله تعالى: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم" قراءة العامة "يوحى" بالياء وفتح الحاء. وقرأ حفص عن عاصم "نوحي إليهم" بنون العظمة وكسر الحاء. نزلت في مشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فهلا بعث إلينا ملكا؛ فرد الله تعالى عليهم بقوله: "وما أرسلنا من قبلك" إلى الأمم الماضية يا محمد "إلا رجالا" آدميين. "فاسألوا أهل الذكر" قال سفيان: يعني مؤمني أهل الكتاب. وقيل: المعنى فاسألوا أهل الكتاب فإن لم يؤمنوا فهم معترفون بأن الرسل كانوا من البشر. روي معناه عن ابن عباس ومجاهد. وقال ابن عباس: أهل الذكر أهل القرآن. وقيل: أهل العلم، والمعنى متقارب. "إن كنتم لا تعلمون" يخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشرا. "بالبينات والزبر" قيل: "بالبينات، متعلق "بأرسلنا". وفي الكلام تقديم وتأخير، أي ما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا - أي غير رجال، "فإلا" بمعنى غير؛ كقوله: لا إله إلا الله، وهذا قول الكلبي - نوحي إليهم. وقيل: في الكلام حذف دل عليه "أرسلنا" أي أرسلناهم بالبينات والزبر. ولا يتعلق "بالبينات" بـ "أرسلنا" الأول على هذا القول؛ لأن ما قبل "إلا" لا يعمل فيما بعدها، وإنما يتعلق بأرسلنا المقدرة، أي أرسلناهم بالبينات. وقيل: مفعول "بتعلمون" والباء زائدة، أو نصب بإضمار أعني؛ كما قال الأعشى:
وليس مجيرا إن أتى الحي خائف ولا قائلا إلا هو المتعيبا
أي أعني المتعيب. والبينات: الحجج والبراهين. والزبر: الكتب. وقد تقدم. "وأنزلنا إليك الذكر" يعني القرآن. "لتبين للناس ما نزل إليهم" في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم مبين عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة، وغير ذلك مما لم يفصله. "ولعلهم يتفكرون" فيتعظون.
الآيات: 45 - 47 {أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين، أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم}
قوله تعالى: "أفأمن الذين مكروا السيئات" أي بالسيئات، وهذا وعيد للمشركين الذين احتالوا في إبطال الإسلام. "أن يخسف الله بهم الأرض" قال ابن عباس: كما خسف بقارون، يقال: خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسوفا أي غاب به فيها؛ ومنه قوله: "فخسفنا به وبداره الأرض" [القصص: 81]. وخسف هو في الأرض وخسف به. والاستفهام بمعنى الإنكار؛ أي يجب ألا يأمنوا عقوبة تلحقهم كما لحقت المكذبين. "أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون" كما فعل بقوم لوط وغيرهم. يريد يوم بدر؛ فإنهم أهلكوا ذلك اليوم، ولم يكن شيء منه في حسابهم. "أو يأخذهم في تقلبهم" أي في أسفارهم وتصرفهم؛ قاله قتادة. وقيل: "في تقلبهم" على فراشهم أينما كانوا. وقال الضحاك: بالليل والنهار. "فما هم بمعجزين" أي مسابقين الله ولا فائتيه. "أو يأخذهم على تخوف" قال ابن عباس ومجاهد وغيرهم أي على تنقص من أموالهم ومواشيهم وزروعهم. وكذا قال ابن الأعرابي: أي على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى أهلكهم كلهم. وقال الضحاك: هو من الخوف؛ المعنى: يأخذ طائفة ويدع طائفة، فتخاف الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها. وقال الحسن: "على تخوف" أن يأخذ القرية فتخافه القرية الأخرى، وهذا هو معنى القول الذي قبله بعينه، وهما راجعان إلى المعنى الأول، وأن التخوف التنقص؛ تخوفه تنقصه، وتخوفه الدهر وتخونه - بالفاء والنون - بمعنى؛ يقال: تخونني فلان حقي إذا تنقصك. قال ذو الرمة:
لا، بل هو الشوق من دار تخونها مرا سحاب ومرا بارح ترب
وقال لبيد:
تخونها نزولي وارتحالي
أي تنقص لحمها وشحمها. وقال الهيثم بن عدي: التخوف "بالفاء" التنقص، لغة لأزد شنوءة. وأنشد:
تخوف غدرهم مالي وأهدى سلاسل في الحلوق لها صليل
وقال سعيد بن المسيب: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: يا أيها الناس، ما تقولون في قول الله عز وجل: "أو يأخذهم على تخوف" فسكت الناس، فقال شيخ من بني هذيل: هي لغتنا يا أمير المؤمنين، التخوف التنقص. فخرج رجل فقال: يا فلان، ما فعل دينك؟ قال: تخوفته، أي تنقصته؛ فرجع فأخبر عمر فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال نعم؛ قال شاعرنا أبو كبير الهذلي يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه:
تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر: يا أيها الناس، عليكم بديوانكم شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. تمك السنام يتمك تمكا، أي طال وارتفع، فهو تامك. والسفن والمسفن ما يُنجر به الخشب. وقال الليث بن سعد: "على تخوف" على عجل. وقال: على تقريع بما قدموه من ذنوبهم، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. وقال قتادة: "على تخوف" أن يعاقب أو يتجاوز. "فإن ربكم لرؤوف رحيم" أي لا يعاجل بل يمهل.
الآية: 48 {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون}
قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والأعمش "تروا" بالتاء، على أن الخطاب لجميع الناس. الباقون بالياء خبرا عن الذين يمكرون السيئات؛ وهو الاختيار. "من شيء" يعني من جسم قائم له ظل من شجرة أو جبل؛ قاله ابن عباس. وإن كانت الأشياء كلها سميعة مطيعة لله تعالى. "يتفيأ ظلاله" قرأ أبو عمرو ويعقوب وغيرهما بالتاء لتأنيث الظلال. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد. أي يميل من جانب إلى جانب، ويكون أول النهار على حال ويتقلص ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى؛ فدورانها وميلانها من موضع إلى موضع سجودها؛ ومنه قيل للظل بالعشي: فيء؛ لأنه فاء من المغرب إلى المشرق، أي رجع. والفيء الرجوع؛ ومنه "حتى تفيء إلى أمر الله" [الحجرات: 9]. روي معنى هذا القول عن الضحاك وقتادة وغيرهما، وقال الزجاج: يعني سجود الجسم، وسجوده انقياده وما يرى فيه من أثر الصنعة، وهذا عام في كل جسم. ومعنى "وهم داخرون" أي خاضعون صاغرون. والدخور: الصغار والذل. يقال: دخر الرجل - بالفتح - فهو داخر، وأدخره الله. وقال ذو الرمة:
فلم يبق إلا داخر في مخيس ومنجحر في غير أرضك في جحر
كذا نسبه الماوردي لذي الرمة، ونسبه الجوهري للفرزدق وقال: المخيس اسم سجن كان بالعراق؛ أي موضع التذلل، وقال.
أما تراني كيسا مكيسا بنيت بعد نافع مخيسا
ووحد اليمين في قوله: "عن اليمين" وجمع الشمال؛ لأن معنى اليمين وإن كان واحدا الجمع. ولو قال: عن الأيمان والشمائل، واليمين والشمائل، أو اليمين والشمال، أو الأيمان والشمال لجاز؛ لأن المعنى للكثرة. وأيضا فمن شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شيء واحد أن تجمع إحداهما وتفرد الأخرى؛ كقوله تعالى: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم" [البقرة: 7] وكقوله: "ويخرجهم من الظلمات إلى النور" [المائدة: 16] ولو قال على أسماعهم وإلى الأنوار لجاز. ويجوز أن يكون رد اليمين على لفظ "ما" والشمال على معناها. ومثل هذا في الكلام كثير. فال الشاعر:
الواردون وتيم في ذرا سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس
ولم يقل جلود. وقيل: وحد اليمين لأن الشمس إذا طلعت وأنت متَوجّه إلى القبلة انبسط الظل عن اليمين ثم في حال يميل إلى جهة الشمال ثم حالات، فسماها شمائل.
الآيتان: 49 - 50 {ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون، يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون}
قوله تعالى: "ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة" أي من كل ما يدب على الأرض. "والملائكة" يعني الملائكة الذين في الأرض، وإنما أفردهم بالذكر لاختصاصهم بشرف المنزلة، فميزهم من صفة الدبيب بالذكر وإن دخلوا فيها؛ كقوله: "فيهما فاكهة ونخل ورمان" [الرحمن: 68]. وقيل: لخروجهم من جملة ما يدب لما جعل الله لهم من الأجنحة، فلم يدخلوا في الجملة فلذلك ذكروا. وقيل: أراد "ولله يسجد من في السماوات" من الملائكة والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب، "وما في الأرض من دابة" وتسجد ملائكة الأرض. "وهم لا يستكبرون" عن عبادة ربهم. وهذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله. ومعنى "يخافون ربهم من فوقهم" أي عقاب ربهم وعذابه، لأن العذاب المهلك إنما ينزل من السماء. وقيل: المعنى يخافون قدرة ربهم التي هي فوق قدرتهم؛ ففي الكلام حذف. وقيل: معنى "يخافون ربهم من فوقهم" يعني الملائكة، يخافون ربهم وهي من فوق ما في الأرض من دابة ومع ذلك يخافون؛ فلأن يخاف من دونهم أولى؛ دليل هذا القول قوله تعالى: "ويفعلون ما يؤمرون" يعني الملائكة.
الآية: 51 {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون}
قوله تعالى: "وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين" قيل: المعنى لا تتخذوا اثنين إلهين. وقيل: جاء قوله "اثنين" توكيدا. ولما كان الإله الحق لا يتعدد وأن كل من يتعدد فليس بإله، اقتصر على ذكر الاثنين؛ لأنه قصد نفي التعديد. "إنما هو إله واحد" يعني ذاته المقدسة. وقد قام الدليل العقلي والشرعي على وحدانيته والحمد لله. "فإياي فارهبوني" أي خافون. وقد تقدم.
الآية: 52 {وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون}
قوله تعالى: "وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا" الدين: الطاعة والإخلاص. و"واصبا" معناه دائما؛ قال الفراء، حكاه الجوهري. وصب الشيء يصب وصوبا، أي دام. ووصب الرجل على الأمر إذا واظب عليه. والمعنى: طاعة الله واجبة أبدا. وممن قال واصبا دائما: الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك. ومنه قوله تعالى: "ولهم عذاب واصب" [الصافات:9] أي دائم. وقال الدولي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه بدم يكون الدهر أجمع واصبا
أنشد الغزنوي والثعلبي وغيرهما:
ما أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وقيل: الوصب التعب والإعياء؛ أي تجب طاعة الله وإن تعب العبد فيها. ومنه قول الشاعر:
لا يمسك الساق من أين ولا وصب ولا يعض على شرسوفه الصفر
وقال ابن عباس: "واصبا" واجبا. الفراء والكلبي: خالصا. "أفغير الله تتقون" أي لا ينبغي أن تتقوا غير الله. "فغير" نصب بـ "تتقون".
الآيات: 53 - 55 {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون، ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون، ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون}
قوله تعالى: "وما بكم من نعمة فمن الله" قال الفراء. "ما" بمعنى الجزاء. والباء في "بكم" متعلقة بفعل مضمر، تقديره: وما يكن بكم. "من نعمة" أي صحة جسم وسعة رزق وولد فمن الله. وقيل: المعنى وما بكم من نعمة فمن الله هي. "ثم إذا مسكم الضر" أي السقم والبلاء والقحط. "فإليه تجأرون" أي تضجون بالدعاء. يقال: جأر يجار جؤارا. والجؤار مثل الخوار؛ يقال: جأر الثور يجأر، أي صاح. وقرأ بعضهم "عجلا جسدا له جؤار"؛ حكاه الأخفش. وجأر الرجل إلى الله، أي تضرع بالدعاء. وقال الأعشى يصف بقرة:
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة وكان النكير أن تضيف وتجأرا
"ثم إذا كشف الضر عنكم" أي البلاء والسقم. "إذا فريق منكم بربهم يشركون" بعد إزالة البلاء وبعد الجؤار. فمعنى الكلام التعجيب من الإشراك بعد النجاة من الهلاك، وهذا المعنى مكرر في القرآن، وقال الزجاج: هذا خاص بمن كفر. "ليكفروا بما آتيناهم" أي ليجحدوا نعمة الله التي أنعم بها عليهم من كشف الضر والبلاء. أي أشركوا ليجحدوا، فاللام لام كي. وقيل لام العاقبة. وقيل: "ليكفروا بما آتيناهم" أي ليجعلوا النعمة سببا للكفر، وكل هذا فعل خبيث؛ كما قال:
والكفر مخبثة لنفس المنعم
"فتمتعوا" أمر تهديد. وقرأ عبدالله "قل تمتعوا". "فسوف تعلمون" أي عاقبة أمركم.