تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 273 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 273

273 : تفسير الصفحة رقم 273 من القرآن الكريم

** وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مّا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاُنْثَىَ ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىَ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوَءِ مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىَ هُونٍ أَمْ يَدُسّهُ فِي التّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ مَثَلُ السّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان والأنداد بغير علم, وجعلوا للأوثان نصيباً مما رزقهم الله فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون} أي جعلوا لاَلهتهم نصيباً مع الله وفضلوها على جانبه, فأقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه وائتفكوه وليقابلنهم عليه وليجازينهم أوفر الجزاء في نار جهنم, فقال: {تالله لتسألن عما كنتم تفترون} ثم أخبر تعالى عنهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً, وجعلوها بنات الله فعبدوها معه, فأخطأوا خطأ كبيراً في كل مقام من هذه المقامات الثلاث, فنسبوا إليه تعالى أن له ولداً ولا ولد له, ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات, وهم لا يرضونها لأنفسهم, كما قال: {ألكم الذكر وله الأنثى ؟ تلك إذاً قسمة ضيزى}.
وقوله ههنا: {ويجعلون لله البنات سبحانه} أي عن قولهم وإفكهم {ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون * أصطفى البنات على البنين ؟ ما لكم كيف تحكمون}. وقوله: {ولهم ما يشتهون} أي يختارون لأنفسهم الذكور ويأنفون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى الله, تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً, فإنه {إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسود} أي كئيباً من الهم {وهو كظيم} ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن, {يتوارى من القوم} أي يكره أن يراه الناس {من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب} أي إن أبقاها أبقاها مهانة لا يورثها ولا يعتني بها, ويفضل أولاده الذكور عليها {أم يدسه في التراب} أي يئدها وهو أن يدفنها فيه حية كما كانوا يصنعون في الجاهلية, أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون لأنفسهم عنه يجعلونه لله ؟ {ألا ساء ما يحكمون} أي بئس ما قالوا, وبئس ما قسموا, وبئس ما نسبوه إليه, كقوله تعالى: {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم}. وقوله ههنا: {للذين لا يؤمنون بالاَخرة مثل السوء} أي النقص إنما ينسب إليهم { ولله المثل الأعلى} اي الكمال المطلق من كل وجه وهو منسوب إليه {وهو العزيز الحكيم}.

** وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ مّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبّةٍ وَلَكِن يُؤَخّرُهُمْ إلَىَ أَجَلٍ مّسَمّىَ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنّ لَهُمُ الْحُسْنَىَ لاَ جَرَمَ أَنّ لَهُمُ الْنّارَ وَأَنّهُمْ مّفْرَطُونَ
يخبر تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة أي لأهلك جميع دواب الأرض تبعاً لإهلاك بني آدم, ولكن الرب جل جلاله يحلم ويستر, وينظر إلى أجل مسمى أي لا يعاجلهم بالعقوبة, إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحداً. قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص أنه قال: كاد الجعل أن يعذب بذنب بني آدم, وقرأ الاَية {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة} وكذا روى الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة قال: قال عبد الله: كاد الجعل أن يهلك في جحره بخطيئة بني آدم. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى, حدثنا إسماعيل بن حكيم الخزاعي, حدثنا محمد بن جابر الحنفي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة قال: سمع أبو هريرة رجلاً وهو يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه, قال: فالتفت إليه, فقال: بلى والله حتى إن الحباري لتموت في وكرها بظلم الظالم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, أنبأنا الوليد بن عبد الملك, حدثنا عبيد الله بن شرحبيل, حدثنا سليمان بن عطاء عن مسلمة بن عبد الله عن عمه أبي مشجعة بن ربيعة عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله لا يؤخر شيئاً إذا جاء أجله, وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحه يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة العمر».
وقوله: {ويجعلون لله ما يكرهون} أي من البنات ومن الشركاء الذين هم عبيده وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله.
وقوله: {وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى} إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا وإن كان ثم معاد ففيه أيضاً لهم الحسنى, وإخبار عن قيل من قال منهم, كقوله: {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور} وقوله: {ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ}. وقوله: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولد} وقال إخباراً عن أحد الرجلين أنه {دخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً * وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلب} فجمع هؤلاء بين عمل السوء وتمني الباطل بأن يجازوا على ذلك حسناً وهذا مستحيل, كما ذكر ابن إسحاق إنه وجد حجر في أساس الكعبة حين نقضوها ليجددوها مكتوب عليه حكم ومواعظ, فمن ذلك: تعلمون السيئات وتجوزن الحسنات ؟ أجل كما يجتنى من الشوك العنب.
وقال مجاهد وقتادة: {وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى} أي الغلمان. وقال ابن جرير: {أن لهم الحسنى} أي يوم القيامة كما قدمنا بيانه, وهو الصواب, ولله الحمد, ولهذا قال تعالى راداً عليهم في تمنيهم ذلك: {لا جرم} أي حقاً لا بد منه {أن لهم النار} أي يوم القيامة {وأنهم مفرطون} قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم: منسيون فيها مضيعون وهذا كقوله تعالى: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذ}. وعن قتادة أيضا: مفرطون أي معجلون إلى النار من الفرط, وهو السابق إلى الورد, ولا منافاة لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار وينسون فيها أي يخلدون. )

** تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىَ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ الّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَاللّهُ أَنْزَلَ مِنَ الْسّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
يذكر تعالى أنه أرسل إلى الأمم الخالية رسلاً فكذبت الرسل, فلك يا محمد في إخوانك من المرسلين أسوة فلا يهيدنك تكذيب قومك لك, وأما المشركون الذين كذبوا الرسل فإنما حملهم على ذلك تزيين الشيطان لهم ما فعلوه. {فهو وليهم اليوم} أي هم تحت العقوبة والنكال, والشيطان وليهم ولا يملك لهم خلاصا ولا صريخ لهم, ولهم عذاب أليم. ثم قال تعالى لرسوله: إنه إنما أنزل عليه الكتاب ليبين للناس الذي يختلفون فيه ؟ فالقرآن فاصل بين الناس في كل ما يتنازعون فيه {وهدى} أي للقلوب {ورحمة} أي لمن تمسك به {لقوم يؤمنون} وكما جعل سبحانه القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها, كذلك يحيي الأرض بعد موتها بما أنزله عليها من السماء من ماء {إن في ذلك لاَية لقوم يسمعون} أي يفهمون الكلام ومعناه.