تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 293 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 293

293- تفسير الصفحة رقم293 من المصحف
الآية: 105 {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذير}
قوله تعالى: "وبالحق أنزلناه وبالحق نزل" هذا متصل بما سبق من ذكر المعجزات والقرآن. والكناية ترجع إلى القرآن. ووجه التكرير في قوله "وبالحق نزل" يجوز أن يكون معنى الأول: أوجبنا إنزاله بالحق. ومعنى الثاني: ونزل وفيه الحق؛ كقوله خرج بثيابه، أي وعليه ثيابه. وقيل الباء في "وبالحق" الأول بمعنى مع، أي مع الحق؛ كقولك ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه. "وبالحق نزل" أي بمحمد صلى الله عليه وسلم، أي نزل عليه، كما تقول نزلت بزيد. وقيل: يجوز أن يكون المعنى وبالحق قدرنا أن ينزل، وكذلك نزل.
الآية: 106 {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيل}
قوله تعالى: "وقرآنا فرقناه" مذهب سيبويه أن "قرآنا" منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر. وقرأ جمهور الناس "فرقناه" بتخفيف الراء، ومعناه بيناه وأوضحناه، وفرقنا فيه بين الحق والباطل؛ قاله الحسن. وقال ابن عباس: فصلناه. وقرأ ابن عباس وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة وأبو رجاء والشعبي "فرقناه" بالتشديد، أي أنزلناه شيئا بعد شيء لا جملة واحدة؛ إلا أن في قراءة ابن مسعود وأبي "فرقناه عليك".
واختلف في كم نزل القرآن من المدة؛ فقيل: في خمس وعشرين سنة. ابن عباس: في ثلاث وعشرين. أنس: في عشرين. وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف أنه نزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة. وقد مضى هذا في "البقرة". "على مكث" أي تطاول في المدة شيئا بعد شيء. ويتناسق هذا القرآن على قراءة ابن مسعود، أي أنزلناه آية آية وسورة سورة. وأما على القول الأول فيكون "على مكث" أي على ترسل في التلاوة وترتيل؛ قاله مجاهد وابن عباس وابن جريج. فيعطي القارئ القراءة حقها من ترتيلها وتحسينها وتطييبها بالصوت الحسن ما أمكن من غير تلحين ولا تطريب مؤد إلى تغيير لفظ القرآن بزيادة أو نقصان فإن ذلك حرام على ما تقدم أول الكتاب. وأجمع القراء على ضم الميم من "مكث" إلا ابن محيصن فإنه قرأ "مكث" بفتح الميم. ويقال: مكث ومكت ومكث؛ ثلاث لغات. قال مالك: "على مكث" على تثبت وترسل. "ونزلناه تنزيلا" مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم، أي أنزلناه نجما بعد نجم؛ ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا.
الآية: 107 {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجد}
قوله تعالى: "قل آمنوا به أو لا تؤمنوا" يعني القرآن. وهذا من الله عز وجل على وجه التبكيت لهم والتهديد لا على وجه التخيير. "إن الذين أوتوا العلم من قبله" أي من قبل نزول القرآن وخروج النبي صلى الله عليه وسلم، وهم مؤمنو أهل الكتاب؛ في قول ابن جريج وغيره. قال ابن جريج: معنى "إذا يتلى عليهم" كتابهم. وقيل القرآن. "يخرون للأذقان سجدا" وقيل: هم قوم من ولد إسماعيل تمسكوا بدينهم إلى أن بعث الله تعالى النبي عليه السلام، منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل. وعلى هذا ليس يريد أوتوا الكتاب بل يريد أوتوا علم الدين. وقال الحسن: الذين أوتوا العلم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: إنهم ناس من اليهود؛ وهو أظهر لقوله "من قبله". "إذا يتلى عليهم" يعني القرآن في قول مجاهد. كانوا إذا سمعوا ما أنزل الله تعالى من القرآن سجدوا وقالوا: "سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا". وقيل: كانوا إذا تلوا كتابهم وما أنزل عليه من القرآن خشعوا وسجدوا وسبحوا، وقالوا: هذا هو المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة، وجنحوا إلى الإسلام؛ فنزلت الآية فيهم. وقالت فرقة: المراد بالذين أوتوا العلم من قبله محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في "قبله" عائد على القرآن حسب الضمير في قوله "قل آمنوا به". وقيل: الضميران لمحمد صلى الله عليه وسلم، واستأنف ذكر القرآن في قوله: "إذا يتلى عليهم".
الآية: 108 {ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعول}
دليل على جواز التسبيح في السجود. وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في سجوده وركوعه (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي).
الآية: 109 {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوع}
قوله تعالى: "ويخرون للأذقان يبكون" هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم. وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه المرتبة، فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل. وفي مسند الدارمي أبي محمد عن التيمي قال: من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتي علما؛ لأن الله تعالى نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية. ذكره الطبري أيضا. والأذقان جمع ذقن، وهو مجتمع اللحيين. وقال الحسن: الأذقان عبارة عن اللحى؛ أي يضعونها على الأرض في حال السجود، وهو غاية التواضع. واللام بمعنى على؛ تقول سقط لفيه أي على فيه. وقال ابن عباس: "ويخرون للأذقان سجدا" أي للوجوه، وإنما خص الأذقان بالذكر لأن الذقن أقرب شيء من وجه الإنسان. قال ابن خويز منداد: ولا يجوز السجود على الذقن؛ لأن الذقن ها هنا عبارة عن الوجه، وقد يعبر بالشيء عما جاوره وببعضه عن جميعه؛ فيقال: خر لوجهه ساجدا وإن كان لم يسجد على خده ولا عينه. ألا ترى إلى قوله:
فخر صريعا لليدين وللفم
فإنما أراد: خر صريعا على وجهه ويديه.
قوله تعالى: "يبكون" فيه دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالي، أو على معصيته في دين الله، وأن ذلك لا يقطعها ولا يضرها. ذكر ابن المبارك عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن مطرف بن عبدالله بن الشخير عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وفي كتاب أبي داود: وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء.
واختلف الفقهاء في الأنين؛ فقال مالك: الأنين لا يقطع الصلاة للمريض، وأكرهه للصحيح؛ وبه قال الثوري. وروى ابن الحكم عن مالك: التنحنح والأنين والنفخ لا يقطع الصلاة. وقال ابن القاسم: يقطع. وقال الشافعي: إن كان له حروف تسمع وتفهم يقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة: إن كان من خوف الله لم يقطع، وإن كان من وجع قطع. وروي عن أبي يوسف أن صلاته في ذلك كله تامة؛ لأنه لا يخلو مريض ولا ضعيف من أنين. "ويزيدهم خشوعا" تقدم.
الآية: 110 {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيل}
قوله تعالى: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" سبب نزول هذه الآية أن المشركين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا (يا الله يا رحمن) فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين؛ قاله ابن عباس. وقال مكحول: تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال في دعائه: (يا رحمن يا رحيم) فسمعه رجل من المشركين، وكان باليمامة رجل يسمى الرحمن، فقال ذلك السامع: ما بال محمد يدعو رحمان اليمامة. فنزلت الآية مبينة أنهما اسمان لمسمى واحد؛ فإن دعوتموه بالله فهو ذاك، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك. وقيل: كانوا يكتبون في صدر الكتب: باسمك اللهم؛ فنزلت "إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم" [النمل: 30] فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال المشركون: هذا الرحيم نعرفه فما الرحمن؛ فنزلت الآية. وقيل: إن اليهود قالت: ما لنا لا نسمع في القرآن اسما هو في التوراة كثير؛ يعنون الرحمن؛ فنزلت الآية. وقرأ طلحة بن مصرف "أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى" أي التي تقتضي أفضل الأوصاف وأشرف المعاني. وحسن الأسماء إنما يتوجه بتحسين الشرع؛ لإطلاقها والنص عليها. وانضاف إلى ذلك أنها تقتضي معاني حسانا شريفة، وهي بتوقيف لا يصح وضع اسم لله ينظر إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث أو الإجماع. حسبما بيناه في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى).
قوله تعالى: "ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا" اختلفوا في سبب نزولها على خمسة أقوال: الأول: ما روى ابن عباس في قوله تعالى: "ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها" قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به؛ فقال الله تعالى "ولا تجهر بصلاتك" فيسمع المشركون قراءتك. "ولا تخافت بها" عن أصحابك. أسمعهم القرآن ولا تجهر ذلك الجهر. "وابتغ بين ذلك سبيلا" قال: يقول بين الجهر والمخافتة؛ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم. واللفظ لمسلم. والمخافتة: خفض الصوت والسكون؛ يقال للميت إذا برد: خفت. قال الشاعر:
لم يبق إلا نفس خافت ومقلة إنسانها باهت
رثى لها الشامت مما بها يا ويح من يرثى له الشامت
الثاني: ما رواه مسلم أيضا عن عائشة في قوله عز وجل: "ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها" قالت: أنزل هذا في الدعاء. الثالث: قال ابن سيرين: كان الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك.
قلت: وعلى هذا فتكون الآية متضمنة لإخفاء التشهد، وقد قال ابن مسعود: من السنة أن تخفي التشهد؛ ذكره ابن المنذر. الرابع: ما روي عن ابن سيرين أيضا أن أبا بكر رضي الله عنه كان يِسُر قراءته، وكان عمر يجهر بها، فقيل لهما في ذلك؛ فقال أبو بكر: إنما أناجي ربي، وهو يعلم حاجتي. إليه. وقال عمر: أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان؛ فلما نزلت هذه الآية قيل لأبي بكر: ارفع قليلا، وقيل لعمر اخفض أنت قليلا؛ ذكره الطبري وغيره. [الخامس] ما روي عن ابن عباس أيضا أن معناها ولا تجهر بصلاة النهار، ولا تخافت بصلاة الليل؛ ذكره يحيى بن سلام والزهراوي. فتضمنت أحكام الجهر والإسرار بالقراءة في النوافل والفرائض، فأما النوافل فالمصلي مخير في الجهر والسر في الليل والنهار، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل الأمرين جميعا. وأما الفرائض فحكمها في القراءة معلوم ليلا ونهارا. [وقول سادس] قال الحسن: يقول الله لا ترائي بصلاتك تحسنها في العلانية ولا تسيئها في السر. وقال ابن عباس: لا تصل مرائيا للناس ولا تدعها مخافة الناس.
عبر تعالى بالصلاة هنا عن القراءة كما عبر بالقراءة عن الصلاة في قوله: "وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا" [الإسراء: 78] لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر؛ لأن الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود فهي من جملة أجزائها؛ فعبر بالجزء عن الجملة وبالجملة عن الجزء على عادة العرب في المجاز وهو كثير؛ ومنه الحديث الصحيح: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي) أي قراءة الفاتحة على ما تقدم.
الآية: 111 {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبير}
قوله تعالى: "وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا" هذه الآية رادة على اليهود والنصارى والعرب في قولهم أفذاذا: عزيز وعيسى والملائكة ذرية الله سبحانه؛ تعالى الله عن أقوالهم. "ولم يكن له شريك في الملك" لأنه واحد لا شريك له في ملكه ولا في عبادته. "ولم يكن له ولي من الذل" قال مجاهد: المعنى لم يحالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد؛ أي لم يكن له ناصر يجيره من الذل فيكون مدافعا. وقال الكلبي: لم يكن له ولي من اليهود والنصارى؛ لأنهم أذل الناس، ردا لقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وقال الحسن بن الفضل: "ولم يكن له ولي من الذل" يعني لم يذل فيحتاج إلى ولي ولا ناصر لعزته وكبريائه. "وكبره تكبيرا" أي عظمه عظمة تامة. ويقال: أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال: الله أكبر؛ أي صفة بأنه أكبر من كل شيء. قال الشاعر:
رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأكثرهم جنودا
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة قال: (الله أكبر) وقد تقدم أول الكتاب. وقال عمر بن الخطاب. قولُ العبدِ "الله أكبر" خير من الدنيا وما فيها. وهذا الآية هي خاتمة التوراة. روى مطرف عن عبدالله بن كعب قال: افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام وختمت بخاتمة هذه السورة. وفي الخبر أنها آية العز؛ رواه معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبدالمطلب علمه "وقل الحمد لله الذي" الآية. وقال عبدالحميد. بن واصل: سمعت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ وقل الحمد لله الآية كتب الله له من الأجر مثل الأرض والجبل لأن الله تعالى يقول فيمن زعم أن له ولدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا). وجاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجل شكا إليه الدين بأن يقرأ "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن" [الإسراء: 110] - إلى آخر السورة ثم يقول: توكلت على الحي الذي لا يموت؛ ثلاث مرات.
تمت سورة الإسراء، والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
سورة الكهف
مقدمة السورة
سورة الكهف وهي مكية في قول جميع المفسرين. روي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله "جرزا" [الكهف: 8]، والأول أصح. وروي في فضلها من حديث أنس أنه قال: من قرأ بها أعطي نورا بين السماء والأرض ووقي بها فتنة القبر. وقال إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك ملأ عظمها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك). قالوا: بلى يا رسول الله؟ قال: (سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطي نورا يبلغ السماء ووقي فتنة الدجال) ذكره الثعلبي، والمهدوي أيضا بمعناه. وفي مسند الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال: من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق. وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال). وفي رواية (من آخر الكهف). وفي مسلم أيضا من حديث النواس بن سمعان (فمن أدركه - يعني الدجال - فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف). وذكره الثعلبي. قال: سمرة بن جندب قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضره فتنة الدجال). ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة.
الآيات: 1 - 3 {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا، ماكثين فيه أبد}
ذكر ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما: سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم أنبياء؛ فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم؛ فإنه قد كان لهم حديث عجب. سلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح، ما هي؛ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبي، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم. فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ قال فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبركم بما سألتم عنه غدا) ولم يستثن. فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه؛ وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف والروح. قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: (لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا" فقال له جبريل: "وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا" [مريم: 64].
فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده، وذكر نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم لما أنكروا عليه من ذلك فقال: "الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب" يعني محمدا، إنك رسول مني، أي تحقيق لما سألوا عنه من نبوتك. "ولم يجعل له عوجا قيما" أي معتدلا لا اختلاف فيه. "لينذر بأسا شديدا من لدنه" أي عاجل عقوبته في الدنيا، وعذابا أليما في الآخرة، أي من عند ربك الذي بعثك رسولا. "ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات، أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا" أي دار الخلد لا يموتون فيها، الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال. "وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا" [الكهف: 4] بعني قريشا في قولهم: إنا نعبد الملائكة وهي بنات الله. "ما لهم به من علم ولا لآبائهم" [الكهف: 5] الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم. "كبرت كلمة تخرج من أفواههم" [الكهف: 5] أي لقولهم إن الملائكة بنات الله. "إن يقولون إلا كذبا. فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا" [الكهف: 6] لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجوه منهم، أي لا تفعل. فال ابن هشام: "باخع نفسك" مهلك نفسك؛ فيما حدثني أبو عبيدة. قال ذو الرمة:
ألا أي هذا الباخع الوجد نفسه بشيء نحته عن يديه المقادر
وجمعها باخعون وبخعه. وهذا البيت في قصيدة له. وقول العرب: قد بخعت له نصحي ونفسي، أي جهدت له. "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا" [الكهف: 7] قال ابن إسحاق: أي أيهم اتبع لأمري وأعمل بطاعتي: "وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا" [الكهف: 8] أي الأرض، وإن ما عليها لفان وزائل، وإن المرجع إلي فأجزي كلا بعمله؛ فلا تأس ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها. قال ابن هشام: الصعيد وجه الأرض، وجمعه صعد. قال ذو الرمة يصف ظبيا صغيرا:
كأنه بالضحى ترمي الصعيد به دبابة في عظام الرأس خرطوم
وهذا البيت في قصيدة له. والصعيد أيضا: الطريق، وقد جاء في الحديث: (إياكم والقعود على الصعدات) يريد الطرق. والجرز: الأرض التي لا تنبت شيئا، وجمعها أجراز. ويقال: سنة جرز وسنون أجراز؛ وهي التي لا يكون فيها مطر. وتكون فيها جدوبة ويبس وشدة. قال ذو الرمة يصف إبلا:
طوى النحز والأجراز ما في بطونها فما بقيت إلا الضلوع الجراشع
قال ابن إسحاق: ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال: "أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا" [الكهف: 9] أي قد كان من آياتي فيه وضعت على العباد من حجتي ما هو أعجب من ذلك. قال ابن هشام: والرقيم الكتاب الذي رقم بخبرهم، وجمعه رقم. قال العجاج:
ومستقر المصحف المرقم
وهذا البيت في أرجوزة له. قال ابن إسحاق: ثم قال "إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا. فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا. ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا" [الكهف: 12]. ثم قال: "نحن نقص عليك نبأهم بالحق" [الكهف: 13] أي بصدق الخبر "إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى. وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا" [الكهف: 14] أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم. قال ابن هشام: والشطط الغلو ومجاوزة الحق. قال أعشى بن قيس بن ثعلبة:
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وهذا البيت في قصيدة له. قال ابن إسحاق: "هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين" [الكهف: 15]. قال ابن إسحاق: أي بحجة بالغة. "فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا. وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا. وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الحال وهم في فجوة منه" [الكهف: 17]. قال ابن هشام: تزاور تميل؛ وهو من الزور. وقال أبو الزحف الكليبي يصف بلدا:
جدب المندي عن هوانا أزور ينضي المطايا خمسه العشنزر
وهذان البيتان في أرجوزة له. و"تقرضهم ذات الشمال" تجاوزهم وتتركهم عن شمالها. قال ذو الرمة:
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف شمالا وعن أيمانهن الفوارس
وهذا البيت في قصيدة له. والفجوة: السعة، وجمعها الفجاء. قال الشاعر:
ألبست قومك مخزاة ومنقصة حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار
"ذلك من آيات الله" أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم. "من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد" [الكهف: ] قال ابن هشام: الوصيد الباب. قال العبسي واسمه عبد بن وهب:
بأرض فلاة لا يسد وصيلاها علي ومعروفي بها غير منكر
وهذا البيت في أبيات له. والوصيد أيضا الفناء، وجمعه وصائد ووصد وصدان. "لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا - إلى قوله - الذين غلبوا على أمرهم" [الكهف: ] أهل السلطان والملك منهم. "لنتخذن عليهم مسجدا. سيقولون" [الكهف:21] يعني أحبار اليهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم. "ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي اعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم" [أي لا تكابرهم. "إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا" [الكهف:22] فإنهم لا علم لهم بهم. "ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا. إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا" [الكهف:24] أي لا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا إني مخبركم غدا، واستثن مشيئة الله، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لخبر ما سألتموني عنه رشدا، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك. "ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا" [الكهف: ] أي سيقولون ذلك. "قل الله اعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به واسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا" [الكهف:26] أي لم يخف عليه شيء ما سألوك عنه.
قلت: هذا ما وقع في السيرة من خبر أصحاب الكهف ذكرناه على نسقه. ويأتي خبر ذي القرنين، ثم نعود إلى أول السورة فنقول:
قد تقدم معنى الحمد لله. وزعم الأخفش والكسائي والفراء وأبو عبيد وجمهور المتأولين أن في أول هذه السورة تقديما وتأخيرا، وأن المعنى: الحمد لله الزي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. و"قيما" نصب على الحال. وقال قتادة: الكلام على سياقه من غير تقديم ولا تأخير، ومعناه: ولم يجعل له عوجا ولكن جعلناه قيما. وقول الضحاك فيه حسن، وأن المعنى: مستقيم، أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض. وقيل: "قيما" على الكتب السابقة يصدقها. وقيل: "قيما" بالحجج أبدا. "عوجا" مفعول به؛ والعوج (بكسر العين) في الدين والرأي والأمر والطريق. وبفتحها في الأجسام كالخشب والجدار؛ وقد تقدم. وليس في القرآن عوج، أي عيب، أي ليس متناقضا مختلقا؛ كما قال تعالى: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" [النساء:82] وقيل: أي لم يجعله مخلوقا؛ كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى "قرآنا عربيا غير ذي عوج" [الزمر:28] قال: غير مخلوق. وقال مقاتل: "عوجا" اختلافا. قال الشاعر: أدوم بودي للصديق تكرما ولا خير فيمن كان في الود أعوجا
"لينذر بأسا شديدا" أي لينذر محمد أو القرآن. وفيه إضمار، أي لينذر الكافرين عقاب الله. وهذا العذاب الشديد قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة. "من لدنه" أي من عنده وقرأ أبو بكر عن عاصم "من لدنه" بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون، والهاء موصولة بياء. والباقون "لدنه" بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء. قال الجوهري: وفي "لدن" ثلاث لغات: لدن، ولدي، ولد. وقال:
من لد لحييه إلى منحوره
المنحور لغة المنحر.
قوله تعالى: "ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم" أي بأن لهم "أجرا حسنا" وهي الجنة. "ماكثين" دائمين. "فيه أبدا" لا إلى غاية. وإن حملت التبشير على البيان لم يحتج إلى الباء في "بأن". والأجر الحسن: الثواب العظيم الذي يؤدي إلى الجنة.
الآيتان: 4 - 5 {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا، ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذب}
وهم اليهود، قالوا عزير ابن الله، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، وقريش قالت الملائكة بنات الله. فالإنذار في أول السورة عام، وهذا خاص فيمن قال لله ولد. "ما لهم به من علم" "من" صلة، أي ما لهم بذلك القول علم؛ لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل. "ولا لآبائهم" أي أسلافهم. "كبرت كلمة" "كلمة" نصب على البيان؛ أي كبرت تلك الكلمة كلمة. وقرأ الحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق "كلمة" بالرفع؛ أي عظمت كلمة؛ يعني قولهم اتخذ الله ولدا. وعلى هذه القراءة فلا حاجة إلى إضمار. يقال: كبر الشيء إذا عظم. وكبر الرجل إذا أسن. "تخرج من أفواههم" في موضع الصفة. "إن يقولون إلا كذبا" أي ما يقولون إلا كذبا.