سورة الإسراء | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 292 من المصحف
الآية: 97 {ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعير}
قوله تعالى: "ومن يهد الله فهو المهتدي" أي لو هداهم الله لاهتدوا. "ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه" أي لا يهديهم أحد. "ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم" فيه وجهان: أحدهما: أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم؛ من قول العرب: قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا. الثاني: أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه. وهذا هو الصحيح؛ لحديث أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، الذين يحشرون على وجوههم، أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أليس الذي أمشاه على الرجلين قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة): قال قتادة حين بلغه: بلى وعزة ربنا. أخرجه البخاري ومسلم. وحسبك. "عميا وبكما وصما" قال ابن عباس والحسن: أي عمي عما يسرهم، بكم عن التكلم بحجة، صم عما ينفعهم؛ وعلى هذا القول حواسهم باقية على ما كانت عليه. وقيل: إنهم يحشرون على الصفة التي وصفهم الله بها؛ ليكون ذلك زيادة في عذابهم، ثم يخلق ذلك لهم في النار، فأبصروا؛ لقوله تعالي: "ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها" [الكهف: 53]، وتكلموا، لقوله تعالى: "دعوا هنالك ثبورا" [الفرقان: 13]، وسمعوا؛ لقوله تعالى: "سمعوا لها تغيظا وزفيرا" [الفرقان: 12]. وقال مقاتل بن سليمان: إذا قيل لهم "اخسؤوا فيها ولا تكلمون" [المؤمنون: 108] صاروا عميا لا يبصرون صما لا يسمعون بكما لا يفقهون. وقيل: عموا حين دخلوا النار لشدة سوادها، وانقطع كلامهم حين قيل لهم: اخسؤوا فيها ولا تكلمون. وذهب الزفير والشهيق بسمعهم فلم يسمعوا شيئا. "مأواهم جهنم" أي مستقرهم ومقامهم. "كلما خبت" أي سكنت؛ عن الضحاك وغيره. مجاهد طفئت. يقال: خبت النار تخبو خبوا أي طفئت، وأخبيتها أنا. "زدناهم سعيرا" أي نار تتلهب. وسكون التهابها من غير نقصان في آلامهم ولا تخفيف عنهم من عذابهم. وقيل: إذا أرادت أن تخبو. كقوله: "وإذا قرأت القرآن" [الإسراء: 45].
الآيتان: 98 - 99 {ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا، أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفور}
قوله تعالى: "ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا" أي ذلك العذاب جزاء كفرهم. "وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا" أي ترابا. "أئنا لمبعوثون خلقا جديدا" فأنكروا البعث فأجابهم الله تعالى فقال: "أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه" قيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل لهم أجلا لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم. والأجل: مدة قيامهم في الدنيا ثم موتهم، وذلك ما لا شك فيه إذ هو مشاهد. وقيل: هو جواب قولهم: "أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا" [الإسراء: 92]. وقيل: وهو يوم القيامة. "فأبى الظالمون إلا كفورا" أي أبى المشركون إلا جحودا بذلك الأجل وبآيات الله. وقيل: ذلك الأجل هو وقت البعث، ولا ينبغي أن يشك فيه.
الآية: 100 {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتور}
قوله تعالى: "قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي" أي خزائن الأرزاق. وقيل: خزائن النعم، وهذا أعم. "إذا لأمسكتم خشية الإنفاق" من البخل، وهو جواب قولهم: "لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا" [الإسراء: 90] حتى نتوسع في المعيشة. أي لو توسعتم لبخلتم أيضا. وقيل: المعنى لو ملك أحد المخلوقين خزائن الله لما جاد بها كجود الله تعالى؛ لأمرين: أحدهما: أنه لا بد أن يمسك منها لنفقته وما يعود بمنفعته. الثاني: أنه يخاف الفقر ويخشى العدم. والله تعالى يتعالى في جوده عن هاتين الحالتين. والإنفاق في هذه الآية بمعنى الفقر؛ قاله ابن عباس وقتادة. وحكى أهل اللغة أنفق وأصرم وأعدم وأقتر إذا قل ماله. "وكان الإنسان قتورا" أي بخيلا مضيقا. يقال: قتر على عياله يقتر ويقتر قترا وقتورا إذا ضيق عليهم في النفقة، وكذلك التقتير والإقتار، ثلاث لغات. واختلف في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها نزلت في المشركين خاصة؛ قاله الحسن. والثاني: أنها عامة، وهو قول الجمهور؛ وذكره الماوردي.
الآية: 101 {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحور}
قوله تعالى: "ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات" اختلف في هذه الآيات؛ فقيل: هي بمعنى آيات الكتاب؛ كما روى الترمذي والنسائي عن صفوان بن عسال المرادي أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله؛ فقال: لا تقل له نبي فإنه إن سمعنا كان له أربعة أعين؛ فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن قول الله تعالى: "ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف - شك شعبة - وعليكم يا معشر اليهود خاصة ألا تعدوا في السبت) فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي. قال: (فما يمنعكما أن تسلما) قالا: إن داود دعا الله ألا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقد مضى في "البقرة". وقيل: الآيات بمعنى المعجزات والدلالات. قال ابن عباس والضحاك: الآيات التسع العصا واليد واللسان والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم؛ آيات مفصلات. وقال الحسن والشعبي: الخمس المذكورة في "الأعراف"؛ يعنيان الطوفان وما عطف عليه، واليد والعصا والسنين والنقص من الثمرات. وروي نحوه عن الحسن؛ إلا أنه يجعل السنين والنقص من الثمرات واحدة، وجعل التاسعة تلقف العصا ما يأفكون. وعن مالك كذلك؛ إلا أنه جعل مكان السنين والنقص من الثمرات؛ البحر والجبل. وقال محمد بن كعب: هي الخمس التي في "الأعراف" والبحر والعصا والحجر والطمس على أموالهم. وقد تقدم شرح هذه الآيات مستوفى والحمد لله. "فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم" أي سلهم يا محمد إذ جاءهم موسى بهذه الآيات، حسبما تقدم بيانه في "يونس". وهذا سؤال استفهام ليعرف اليهود صحة ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم. "فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا" أي ساحرا بغرائب أفعالك؛ قاله الفراء وأبو عبيدة. فوضع المفعول موضع الفاعل؛ كما تقول: هذا مشؤوم وميمون، أي شائم ويامن. وقيل مخدوعا. وقيل مغلوبا؛ قاله مقاتل. وقيل غير هذا؛ وقد تقدم. وعن ابن عباس وأبي نهيك أنهما قرآ "فسأل بني إسرائيل" على الخبر؛ أي سأل موسى فرعون أن يخلي بني إسرائيل ويطلق سبيلهم ويرسلهم معه.
الآية: 102 {قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبور}
قوله تعالى: "قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء" يعني الآيات التسع. و"أنزل" بمعنى أوجد. "إلا رب السماوات والأرض بصائر" أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته. وقراءة العامة "علمت" بفتح التاء، خطابا لفرعون. وقرأ الكسائي بضم التاء، وهي قراءة علي رضي الله عنه؛ وقال: والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي يعلم، فبلغت ابن عباس فقال: إنها "لقد علمتَ"، واحتج بقوله تعالى: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا" [النمل: 14]. ونسب فرعون إلى العناد. وقال أبو عبيد: والمأخوذ به عندنا فتح التاء، وهو الأصح للمعنى الذي احتج به ابن عباس؛ ولأن موسى لا يحتج بقوله: علمت أنا، وهو الرسول الداعي، ولو كان مع هذا كله تصح به القراءة عن علي لكانت حجة، ولكن لا تثبت عنه، إنما هي عن كلثوم المرادي وهو مجهول لا يعرف، ولا نعلم أحدا قرأ بها غير الكسائي. وقيل: إنما أضاف موسى إلى فرعون العلم بهذه المعجزات؛ لأن فرعون قد علم مقدار ما يتهيأ للسحرة فعله، وأن مثل ما فعل موسى لا يتهيأ لساحر، وأنه لا يقدر على فعله إلا من يفعله، الأجسام ويملك السماوات والأرض. وقال مجاهد: دخل موسى على فرعون في يوم شات وعليه قطيفة له، فألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان، فرأى فرعون جانبي البيت بين فُقميها، ففزع وأحدث في قطيفته. "وإني لأظنك يا فرعون مثبورا" الظن هنا بمعنى التحقيق. والثبور: الهلال والخسران أيضا. قال الكميت:
ورأت قضاعة في الأيا من رأي مثبور وثابر
أي مخسور وخاسر، يعني في انتسابها إلى اليمن. وقيل: ملعونا. رواه المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقال أبان بن تغلب. وأنشد:
يا قومنا لا تروموا حربنا سقها إن السفاه وإن البغي مثبور
أي ملعون. وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس: "مثبورا" ناقص العقل. ونظر المأمون رجلا فقال له: يا مثبور؛ فسأل عنه قال. قال الرشيد قال المنصور لرجل: مثبور؛ فسألته فقال: حدثني ميمون بن مهران... فذكره. وقال قتادة هالكا. وعنه أيضا والحسن ومجاهد. مهلكا. والثبور: الهلاك؛ يقال: ثبر الله العدو ثبورا أهلكه. وقيل: ممنوعا من الخير حكى أهل اللغة: ما ثبرك عن كذا أي ما منعك منه. وثبره الله ثبرا. قال ابن الزبعرى:
إذ أجاري الشيطان في سنن الغـ ـي ومن مال ميله مثبور
الضحاك: "مثبورا" مسحورا. رد عليه مثل ما قال له باختلاف اللفظ. وقال ابن زيد: "مثبورا" مخبولا لا عقل له.
الآيتان: 103 - 104 {فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا، وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيف}
قوله تعالى: "فأراد أن يستفزهم من الأرض" أي أراد فرعون أن يخرج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر بالقتل أو الإبعاد؛ فأهلكه الله عز وجل. "وقلنا من بعده لبني إسرائيل" أي من بعد إغراقه "اسكنوا الأرض" أي أرض الشام ومصر. "فإذا جاء وعد الآخرة" أي القيامة. "جئنا بكم لفيفا" أي من قبوركم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن بالكافر لا يتعارفون ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيه. وقال ابن عباس وقتادة: جئنا بكم جميعا من جهات شتى. والمعنى واحد. قال الجوهري: واللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى؛ يقال: جاء القوم بلفهم ولفيفهم، أي وأخلاطهم. وقوله تعالى "جئنا بكم لفيفا" أي مجتمعين مختلطين. وطعام لفيف إذا كان مخلوطا من جنسين فصاعدا. وفلان لفيف فلان أي صديقه. قال الأصمعي: اللفيف جمع وليس له واحد، وهو مثل الجميع. والمعنى: أنهم يخرجون وقت الحشر من القبور كالجراد المنتشر، مختلطين لا يتعارفون. وقال الكلبي: "فإذا جاء وعد الآخرة" يعني مجيء عيسى عليه السلام من السماء.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 292
292- تفسير الصفحة رقم292 من المصحفالآية: 97 {ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعير}
قوله تعالى: "ومن يهد الله فهو المهتدي" أي لو هداهم الله لاهتدوا. "ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه" أي لا يهديهم أحد. "ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم" فيه وجهان: أحدهما: أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم؛ من قول العرب: قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا. الثاني: أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه. وهذا هو الصحيح؛ لحديث أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، الذين يحشرون على وجوههم، أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أليس الذي أمشاه على الرجلين قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة): قال قتادة حين بلغه: بلى وعزة ربنا. أخرجه البخاري ومسلم. وحسبك. "عميا وبكما وصما" قال ابن عباس والحسن: أي عمي عما يسرهم، بكم عن التكلم بحجة، صم عما ينفعهم؛ وعلى هذا القول حواسهم باقية على ما كانت عليه. وقيل: إنهم يحشرون على الصفة التي وصفهم الله بها؛ ليكون ذلك زيادة في عذابهم، ثم يخلق ذلك لهم في النار، فأبصروا؛ لقوله تعالي: "ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها" [الكهف: 53]، وتكلموا، لقوله تعالى: "دعوا هنالك ثبورا" [الفرقان: 13]، وسمعوا؛ لقوله تعالى: "سمعوا لها تغيظا وزفيرا" [الفرقان: 12]. وقال مقاتل بن سليمان: إذا قيل لهم "اخسؤوا فيها ولا تكلمون" [المؤمنون: 108] صاروا عميا لا يبصرون صما لا يسمعون بكما لا يفقهون. وقيل: عموا حين دخلوا النار لشدة سوادها، وانقطع كلامهم حين قيل لهم: اخسؤوا فيها ولا تكلمون. وذهب الزفير والشهيق بسمعهم فلم يسمعوا شيئا. "مأواهم جهنم" أي مستقرهم ومقامهم. "كلما خبت" أي سكنت؛ عن الضحاك وغيره. مجاهد طفئت. يقال: خبت النار تخبو خبوا أي طفئت، وأخبيتها أنا. "زدناهم سعيرا" أي نار تتلهب. وسكون التهابها من غير نقصان في آلامهم ولا تخفيف عنهم من عذابهم. وقيل: إذا أرادت أن تخبو. كقوله: "وإذا قرأت القرآن" [الإسراء: 45].
الآيتان: 98 - 99 {ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا، أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفور}
قوله تعالى: "ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا" أي ذلك العذاب جزاء كفرهم. "وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا" أي ترابا. "أئنا لمبعوثون خلقا جديدا" فأنكروا البعث فأجابهم الله تعالى فقال: "أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه" قيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل لهم أجلا لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم. والأجل: مدة قيامهم في الدنيا ثم موتهم، وذلك ما لا شك فيه إذ هو مشاهد. وقيل: هو جواب قولهم: "أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا" [الإسراء: 92]. وقيل: وهو يوم القيامة. "فأبى الظالمون إلا كفورا" أي أبى المشركون إلا جحودا بذلك الأجل وبآيات الله. وقيل: ذلك الأجل هو وقت البعث، ولا ينبغي أن يشك فيه.
الآية: 100 {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتور}
قوله تعالى: "قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي" أي خزائن الأرزاق. وقيل: خزائن النعم، وهذا أعم. "إذا لأمسكتم خشية الإنفاق" من البخل، وهو جواب قولهم: "لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا" [الإسراء: 90] حتى نتوسع في المعيشة. أي لو توسعتم لبخلتم أيضا. وقيل: المعنى لو ملك أحد المخلوقين خزائن الله لما جاد بها كجود الله تعالى؛ لأمرين: أحدهما: أنه لا بد أن يمسك منها لنفقته وما يعود بمنفعته. الثاني: أنه يخاف الفقر ويخشى العدم. والله تعالى يتعالى في جوده عن هاتين الحالتين. والإنفاق في هذه الآية بمعنى الفقر؛ قاله ابن عباس وقتادة. وحكى أهل اللغة أنفق وأصرم وأعدم وأقتر إذا قل ماله. "وكان الإنسان قتورا" أي بخيلا مضيقا. يقال: قتر على عياله يقتر ويقتر قترا وقتورا إذا ضيق عليهم في النفقة، وكذلك التقتير والإقتار، ثلاث لغات. واختلف في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها نزلت في المشركين خاصة؛ قاله الحسن. والثاني: أنها عامة، وهو قول الجمهور؛ وذكره الماوردي.
الآية: 101 {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحور}
قوله تعالى: "ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات" اختلف في هذه الآيات؛ فقيل: هي بمعنى آيات الكتاب؛ كما روى الترمذي والنسائي عن صفوان بن عسال المرادي أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله؛ فقال: لا تقل له نبي فإنه إن سمعنا كان له أربعة أعين؛ فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن قول الله تعالى: "ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف - شك شعبة - وعليكم يا معشر اليهود خاصة ألا تعدوا في السبت) فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي. قال: (فما يمنعكما أن تسلما) قالا: إن داود دعا الله ألا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقد مضى في "البقرة". وقيل: الآيات بمعنى المعجزات والدلالات. قال ابن عباس والضحاك: الآيات التسع العصا واليد واللسان والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم؛ آيات مفصلات. وقال الحسن والشعبي: الخمس المذكورة في "الأعراف"؛ يعنيان الطوفان وما عطف عليه، واليد والعصا والسنين والنقص من الثمرات. وروي نحوه عن الحسن؛ إلا أنه يجعل السنين والنقص من الثمرات واحدة، وجعل التاسعة تلقف العصا ما يأفكون. وعن مالك كذلك؛ إلا أنه جعل مكان السنين والنقص من الثمرات؛ البحر والجبل. وقال محمد بن كعب: هي الخمس التي في "الأعراف" والبحر والعصا والحجر والطمس على أموالهم. وقد تقدم شرح هذه الآيات مستوفى والحمد لله. "فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم" أي سلهم يا محمد إذ جاءهم موسى بهذه الآيات، حسبما تقدم بيانه في "يونس". وهذا سؤال استفهام ليعرف اليهود صحة ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم. "فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا" أي ساحرا بغرائب أفعالك؛ قاله الفراء وأبو عبيدة. فوضع المفعول موضع الفاعل؛ كما تقول: هذا مشؤوم وميمون، أي شائم ويامن. وقيل مخدوعا. وقيل مغلوبا؛ قاله مقاتل. وقيل غير هذا؛ وقد تقدم. وعن ابن عباس وأبي نهيك أنهما قرآ "فسأل بني إسرائيل" على الخبر؛ أي سأل موسى فرعون أن يخلي بني إسرائيل ويطلق سبيلهم ويرسلهم معه.
الآية: 102 {قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبور}
قوله تعالى: "قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء" يعني الآيات التسع. و"أنزل" بمعنى أوجد. "إلا رب السماوات والأرض بصائر" أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته. وقراءة العامة "علمت" بفتح التاء، خطابا لفرعون. وقرأ الكسائي بضم التاء، وهي قراءة علي رضي الله عنه؛ وقال: والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي يعلم، فبلغت ابن عباس فقال: إنها "لقد علمتَ"، واحتج بقوله تعالى: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا" [النمل: 14]. ونسب فرعون إلى العناد. وقال أبو عبيد: والمأخوذ به عندنا فتح التاء، وهو الأصح للمعنى الذي احتج به ابن عباس؛ ولأن موسى لا يحتج بقوله: علمت أنا، وهو الرسول الداعي، ولو كان مع هذا كله تصح به القراءة عن علي لكانت حجة، ولكن لا تثبت عنه، إنما هي عن كلثوم المرادي وهو مجهول لا يعرف، ولا نعلم أحدا قرأ بها غير الكسائي. وقيل: إنما أضاف موسى إلى فرعون العلم بهذه المعجزات؛ لأن فرعون قد علم مقدار ما يتهيأ للسحرة فعله، وأن مثل ما فعل موسى لا يتهيأ لساحر، وأنه لا يقدر على فعله إلا من يفعله، الأجسام ويملك السماوات والأرض. وقال مجاهد: دخل موسى على فرعون في يوم شات وعليه قطيفة له، فألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان، فرأى فرعون جانبي البيت بين فُقميها، ففزع وأحدث في قطيفته. "وإني لأظنك يا فرعون مثبورا" الظن هنا بمعنى التحقيق. والثبور: الهلال والخسران أيضا. قال الكميت:
ورأت قضاعة في الأيا من رأي مثبور وثابر
أي مخسور وخاسر، يعني في انتسابها إلى اليمن. وقيل: ملعونا. رواه المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقال أبان بن تغلب. وأنشد:
يا قومنا لا تروموا حربنا سقها إن السفاه وإن البغي مثبور
أي ملعون. وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس: "مثبورا" ناقص العقل. ونظر المأمون رجلا فقال له: يا مثبور؛ فسأل عنه قال. قال الرشيد قال المنصور لرجل: مثبور؛ فسألته فقال: حدثني ميمون بن مهران... فذكره. وقال قتادة هالكا. وعنه أيضا والحسن ومجاهد. مهلكا. والثبور: الهلاك؛ يقال: ثبر الله العدو ثبورا أهلكه. وقيل: ممنوعا من الخير حكى أهل اللغة: ما ثبرك عن كذا أي ما منعك منه. وثبره الله ثبرا. قال ابن الزبعرى:
إذ أجاري الشيطان في سنن الغـ ـي ومن مال ميله مثبور
الضحاك: "مثبورا" مسحورا. رد عليه مثل ما قال له باختلاف اللفظ. وقال ابن زيد: "مثبورا" مخبولا لا عقل له.
الآيتان: 103 - 104 {فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا، وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيف}
قوله تعالى: "فأراد أن يستفزهم من الأرض" أي أراد فرعون أن يخرج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر بالقتل أو الإبعاد؛ فأهلكه الله عز وجل. "وقلنا من بعده لبني إسرائيل" أي من بعد إغراقه "اسكنوا الأرض" أي أرض الشام ومصر. "فإذا جاء وعد الآخرة" أي القيامة. "جئنا بكم لفيفا" أي من قبوركم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن بالكافر لا يتعارفون ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيه. وقال ابن عباس وقتادة: جئنا بكم جميعا من جهات شتى. والمعنى واحد. قال الجوهري: واللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى؛ يقال: جاء القوم بلفهم ولفيفهم، أي وأخلاطهم. وقوله تعالى "جئنا بكم لفيفا" أي مجتمعين مختلطين. وطعام لفيف إذا كان مخلوطا من جنسين فصاعدا. وفلان لفيف فلان أي صديقه. قال الأصمعي: اللفيف جمع وليس له واحد، وهو مثل الجميع. والمعنى: أنهم يخرجون وقت الحشر من القبور كالجراد المنتشر، مختلطين لا يتعارفون. وقال الكلبي: "فإذا جاء وعد الآخرة" يعني مجيء عيسى عليه السلام من السماء.
الصفحة رقم 292 من المصحف تحميل و استماع mp3