تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 372 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 372

372- تفسير الصفحة رقم372 من المصحف
قوله تعالى: "قال وما علمي بما كانوا يعملون" "كان" زائدة؛ والمعنى: وما علمي بما يعملون؛ أي لم أكلف العلم بأعمالهم إنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان، والاعتبار بالإيمان لا بالحرف والصنائع؛ وكأنهم قالوا: إنما اتبعك هؤلاء الضعفاء طمعا في العزة والمال. فقال: إني لم أقف على باطن أمرهم وإنما إلي ظاهرهم. وقيل: المعنى إني لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم ويرشدهم ويغويكم ويوفقهم ويخذلكم. "إن حسابهم" أي في أعمالهم وإيمانهم "إلا على ربي لو تشعرون" وجواب "لو" محذوف؛ أي لو شعرتم أن حسابهم على ربهم لما عبتموهم بصنائعهم. وقراءة العامة: "تشعرون" بالتاء على المخاطبة للكفار وهو الظاهر وقرأ ابن أبي عبلة ومحمد بن السميقع: "لو يشعرون" بالياء كأنه خبر عن الكفار وترك الخطاب لهم؛ نحو قوله: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم" [يونس: 22]. وروي أن رجلا سأل سفيان عن امرأة زنت وقتلت ولدها وهي مسلمة هل يقطع لها بالنار ؟ فقال: "إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون". "وما أنا بطارد المؤمنين" أي لخساسة أحوالهم وأشغالهم. وكأنهم طلبوا منه طرد الضعفاء كما طلبته قريش. "إن أنا إلا نذير مبين" يعني: إن الله ما أرسلني أخص ذوي الغني دون الفقراء، إنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به، فمن أطاعني فذلك السعيد عند الله وإن كان فقيرا.
قوله تعالى: "قالوا لئن لم تنته يانوح" أي عن سب آلهتنا وعيب ديننا "لتكونن من المرجومين" أي بالحجارة؛ قال قتادة. وقال ابن عباس ومقاتل: من المقتولين. قال الثمالي: كل مرجومين في القرآن فهو القتل إلا في مريم: "لئن لم تنته لأرجمنك" [مريم: 46] أي لأسبنك. وقيل: "من المرجومين" من المشتومين؛ قاله السدي. ومنه قول أبي دؤاد. "قال رب إن قومي كذبون، فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين" قال ذلك لما يئس من إيمانهم. والفتح الحكم وقد تقدم. "فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون" يريد السفينة وقد مضى ذكرها. والمشحون المملوء، والشحن ملء السفينة بالناس والدواب وغيرهم. ولم يؤنث الفلك ها هنا؛ لأن الفلك ها هنا واحد لا جمع "ثم أغرقنا بعد الباقين" أي بعد إنجائنا نوحا ومن آمن. "إن في ذلك لآية. وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم}
الآية: 123 - 140 {كذبت عاد المرسلين، إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون، واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون، أمدكم بأنعام وبنين، وجنات وعيون، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين، إن هذا إلا خلق الأولين، وما نحن بمعذبين، فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم}
قوله تعالى: "كذبت عاد المرسلين" التأنيث بمعنى القبيلة والجماعة. وتكذيبهم المرسلين كما تقدم. "إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين" تقدم.
قوله تعالى: "أتبنون بكل ريع آية تعبثون" الريع ما ارتفع من الأرض في قول ابن عباس وغيره، جمع ريعة. وكم ريع أرضك أي كم ارتفاعها. وقال قتادة: الريع الطريق. وهو قول الضحاك والكلبي ومقاتل والسدي. وقال ابن عباس أيضا. ومنه قول السيب بن علس:
في الآل يخفضها ويرفعها ريع يلوح كأنه سحل
شبه الطريق بثوب أبيض. النحاس: ومعروف في اللغة أن يقال لما ارتفع من الأرض ريع وللطريق ريع. قال الشاعر:
طراق الخوافي مشرق فوق ريعة ندى ليله في ريشه يترقرق
وقال عمارة: الريع الجبل الواحد ريعة والجمع رياع. وقال مجاهد: هو الفج بين الجبلين. وعنه: الثنية الصغيرة. وعنه: المنظرة. وقال عكرمة ومقاتل: كانوا يهتدون بالنجوم إذا سافروا، فبنوا على الطريق أمثالا طوالا ليهتدوا بها: يدل عليه قوله تعالى: "آية" أي علامة. وعن مجاهد: الريع بنيان الحمام دليله "تعبثون" أي تلعبون؛ أي تبنون بكل مكان مرتفع آية. علما تلعبون بها على معنى أبنية الحمام وبروجها. وقيل: تعبثون بمن يمر في الطريق. أي تبنون بكل موضع مرتفع لتشرفوا على السابلة فتسخروا منهم. وقال الكلبي: إنه عبث العشارين بأموال من يمر بهم؛ ذكره الماوردي. وقال ابن الأعرابي: الربع الصومعة، والريع البرج من الحمام يكون في الصحراء. والريع التل العالي. وفي الريع لغتان: كسر الراء وفتحها وجمعها أرياع، ذكره الثعلبي.
قوله تعالى: "وتتخذون مصانع" أي منازل؛ قاله الكلبي. وقيل: حصونا مشيدة؛ قال ابن عباس ومجاهد. ومنه قول الشاعر:
تركنا ديارهم منهم قفارا وهدمنا المصانع والبروجا
وقيل: قصورا مشيدة؛ وقاله مجاهد أيضا. وعنه: بروج الحمام؛ وقاله السدي. قلت: وفيه بعد عن مجاهد؛ لأنه تقدم عنه في الريع أنه بنيان الحمام فيكون تكرارا في الكلام. وقال قتادة: مآجل للماء تحت الأرض. وكذا قال الزجاج: إنها مصانع الماء، واحدتها مصنعة ومصنع. ومنه قول لبيد:
بلينا وما تبلي النجوم الطوالع وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
الجوهري: المصنعة كالحوض يجتمع فيها ماء المطر، وكذلك المصنعة بضم النون. والمصانع الحصون. وقال أبو عبيدة: يقال لكل بناء مصنعة. حكاه المهدوي. وقال عبدالرزاق: المصانع عندنا بلغة اليمن القصور العادية. "لعلكم تخلدون" أي كي تخلدوا. وقيل: لعل استفهام بمعنى التوبيخ أي فهل "تخلدون" كقولك: لعلك تشتمني أي هل تشتمني. روي معناه عن ابن زيد. وقال الفراء: كيما تخلدون لا تتفكرون في الموت. وقال ابن عباس وقتادة: كأنكم خالدون باقون فيها. وفي بعض القراءات "كأنكم تخلدون" ذكره النحاس. وحكى قتادة: أنها كانت في بعض القراءات "كأنكم خالدون".
قوله تعالى: "وإذا بطشتم بطشتم جبارين" البطش السطوة والأخذ بالعنف وقد بطش به يبطش ويبطش بطشا. وباطشه مباطشة. وقال ابن عباس ومجاهد: البطش العسف قتلا بالسيف وضربا بالسوط. ومعنى ذلك فعلتم ذلك ظلما. وقال مجاهد أيضا: هو ضرب بالسياط ؛ ورواه مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر فيما ذكر ابن العربي. وقيل: هو القتل بالسيف في غير حق. حكاه يحيى بن سلام. وقال الكلبي والحسن: هو القتل على الغصب من غير تثبت. وكله يرجع إلى قول ابن عباس. وقيل: إنه المؤاخذة على العمد والخطأ من غير عفو ولا إبقاء. قال ابن العربي: ويؤيد ما قال مالك قول الله تعالى عن موسى: "فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض" [القصص: 19] وذلك أن موسى عليه السلام لم يسل عليه سيفا ولا طعنه برمح، وإنما وكزه وكانت منيته في وكزته. والبطش يكون باليد وأقله الوكز والدفع، ويليه السوط والعصا، ويليه الحديد، والكل مذموم إلا بحق. والآية نزلت خبرا عمن تقدم من الأمم، ووعظا من الله عز وجل لنا في مجانبة ذلك الفعل الذي ذمهم به وأنكره عليهم.
قلت: وهذه الأوصاف المذمومة قد صارت في كثير من هذه الأمة، لا سيما بالديار المصرية منذ وليتها البحرية؛ فيبطشون بالناس بالسوط والعصا في غير حق. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك يكون. كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا). وخرج أبو دواد من حديث ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم). "جبارين" قتالين. والجبار القتال في غير حق. وكذلك قوله تعالى: "إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض" [القصص: 19] قاله الهروي. وقيل: الجبار المتسلط العاتي؛ ومنه قوله تعالى: "وما أنت عليهم بجبار" [ق: 45] أي بمسلط. وقال الشاعر:
سلبنا من الجبار بالسيف ملكه عشيا وأطراف الرماح شوارع
قوله تعالى: "فاتقوا الله وأطيعون" تقدم. "واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون" أي من الخيرات؛ ثم فسرها بقوله: "أمدكم بأنعام وبنين. وجنات وعيون" أي سخر ذلك لكم وتفضل بها عليكم، فهو الذي يجب أن يعبد ويشكر ولا يكفر. "إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" إن كفرتم به وأصررتم على ذلك. "قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين" كل ذلك عندنا سواء لا نسمع منك ولا نلوي على ما تقوله. وروى العباس عن أبي عمرو وبشر عن الكسائي: "أوعظتَّ" مدغمة الظاء في التاء وهو بعيد؛ لأن الظاء حرف إطباق إنما يدغم فيما قرب منه جدا وكان مثله ومخرجه. "إن هذا إلا خلق الأولين" أي دينهم؛ عن ابن عباس وغيره. وقال الفراء: عادة الأولين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: "خلق الأولين". الباقون "خلق". قال الهروي: وقول عز وجل: "إن هذا إلا خلق الأولين" أي اختلافهم وكذبهم، ومن قرأ: "خلق الأولين" فمعناه عادتهم، والعرب تقول: حدثنا فلان بأحاديث الخلق أي بالخرافات والأحاديث المفتعلة. وقال ابن الأعرابي: الخلق الدين والخلق الطبع والخلق المروءة. قال النحاس: "خلق الأولين" عند الفراء يعني عادة الأولين. وحكى لنا محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد قال: "خلق الأولين" مذهبهم وما جرى عليه أمرهم؛ قال أبو جعفر: والقولان متقاربان، ومنه الحديث عن النبي صلى الله عليه (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا) أي أحسنهم مذهبا وعادة وما يجري عليه الأمر في طاعة الله عز وجل، ولا يجوز أن يكون من كان حسن الخلق فاجرا فاضلا، ولا أن يكون أكمل إيمانا من السيئ الحلق الذي ليس بفاجر. قال أبو جعفر: حكي لنا عن محمد بن يزيد أن معنى "خلق الأولين" تكذيبهم وتخرصهم غير أنه كان يميل إلى القراءة الأولى؛ لأن فيها مدح آبائهم، وأكثر ما جاء القرآن في صفتهم مدحهم لآبائهم، وقولهم: "إنا وجدنا آباءنا على أمة" [الزخرف: 23]. وعن أبي قلابة: أنه قرأ: خلق" بضم الخاء وإسكان اللام تخفيف "خلق". ورواها ابن جبير عن أصحاب نافع عن نافع. وقد قيل: إن معنى "خلق الأولين" دين الأولين. ومنه قوله تعالى: "فليغيرن خلق الله" [النساء: 119] أي دين الله. و"خلق الأولين" عادة الأولين: حياة ثم موت ولا بعث. وقيل: ما هذا الذي أنكرت علينا من البنيان والبطش إلا عادة من قبلنا فنحن نقتدي بهم. "وما نحن بمعذبين" على ما نفعل. وقيل: المعنى خلق أجسام الأولين؛ أي ما خلقنا إلا كخلق الأولين الذين خلقوا قبلنا وماتوا، ولم ينزل بهم شيء مما تحذرنا به من العذاب. "فكذبوه فأهلكناهم" أي بريح صرصر عاتية على ما يأتي في "الحاقة". "إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين" قال بعضهم: أسلم معه ثلاثمائة ألف ومئون وهلك باقيهم. "وإن ربك لهو العزيز الرحيم".