تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 372 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 372

372 : تفسير الصفحة رقم 372 من القرآن الكريم

** قَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتّبَعَكَ الأرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاّ عَلَىَ رَبّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مّبِينٌ
يقولون: لا نؤمن لك, ولا نتبعك ونتساوى في ذلك بهؤلاء الأراذل, الذين اتبعوك وصدقوك وهم أراذلنا, ولهذا {قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون * قال وما علمي بما كانوا يعملون} أي وأي شيء يلزمني من اتباع هؤلاء لي ؟ ولو كانوا على أي شيء كانوا عليه, لا يلزمني التنقيب عنهم والبحث والفحص, إنما علي أن أقبل منهم تصديقهم إياي, وأكل سرائرهم إلى الله عز وجل {إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون * وما أنا بطارد المؤمنين} كأنهم سألوا منه أن يبعدهم عنه ويتابعوه, فأبى عليهم ذلك وقال {وما أنا بطارد المؤمنين * إن أنا إلا نذير مبين} أي إنما بعثت نذيراً, فمن أطاعني واتبعني وصدقني كان مني وأنا منه, سواء كان شريفاً أو وضيعاً, أو جليلاً أو حقيراً.

** قَالُواْ لَئِنْ لّمْ تَنْتَهِ يَنُوحُ لَتَكُونَنّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ * قَالَ رَبّ إِنّ قَوْمِي كَذّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجّنِي وَمَن مّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ
لما طال مقام نبي الله بين أظهرهم, يدعوهم إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً, وسراً وجهاراً, وكلما كرر عليهم الدعوة صمموا على الكفر الغليظ والامتناع الشديد, وقالوا في الاَخر {لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين} أي لئن لم تنته من دعوتك إيانا إلى دينك, {لتكونن من المرجومين} أي لنرجمنك, فعند ذلك دعا عليهم دعوة استجاب الله منه, فقال {رب إن قومي كذبون * فافتح بيني وبينهم فتح} الاَية, كما قال في الاَية الأخرى {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر} إلى آخر الاَية. وقال ههنا {فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين} والمشحون هو المملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فيها من كل زوجين اثنين, أي أنجينا نوحاً ومن اتبعه كلهم, وأغرقنا من كفر به وخالف أمره كلهم أجمعين {إن في ذلك لاَية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم}.

** كَذّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتّقُونَ * إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَىَ رَبّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارِينَ * فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتّقُواْ الّذِيَ أَمَدّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
وهذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله هود عليه السلام, أنه دعا قومه عاداً, وكان قومه يسكنون الأحقاف, وهي جبال الرمل قريباً من حضرموت, من جهة بلاد اليمن, وكان زمانهم بعد قوم نوح, كما قال في سورة الأعراف {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة} وذلك أنهم كانوا في غاية من قوة التركيب والقوة والبطش الشديد, والطول المديد, والأرزاق الدارة, والأموال والجنات والأنهار, والأبناء والزروع والثمار, وكانوا مع ذلك يعبدون غير الله معه, فبعث الله هوداً إليهم رجلاً منهم رسولاً وبشيراً ونذيراً, فدعاهم إلى الله وحده, وحذرهم نقمته وعذابه في مخالفته وبطشه, فقال لهم كما قال نوح لقومه إلى أن قال {أتبنون بكل ريع آية تعبثون} اختلف المفسرون في الريع بما حاصله أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة, يبنون هناك بنياناً محكماً هائلاً باهراً, ولهذا قال {أتبنون بكل ريع آية} أي معلماً بناء مشهوراً {تعبثون} أي وإنما تفعلون ذلك عبثاً لا للاحتياج إليه بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة, ولهذا أنكر عليه نبيهم عليهم السلام ذلك, لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة, واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الاَخرة, ولهذا قال {وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} قال مجاهد: والمصانع البروج المشيدة والبنيان المخلد, وفي رواية عنه: بروج الحمام. وقال قتادة: هي مأخذ الماء.
قال قتادة: وقرأ بعض الكوفيين {وتتخذون مصانع كأنكم خالدون}. وفي القراءة المشهورة {وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} أي لكي تقيموا فيها أبداً وذلك ليس بحاصل لكم بل زائل عنكم, كما زال عمن كان قبلكم. وروى ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبي, حدثنا الحكم بن موسى, حدثنا الوليد, حدثنا ابن عجلان, حدثني عون بن عبد الله بن عتبة أن أبا الدرداء رضي الله عنه لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من البنيان ونصب الشجر, قام في مسجدهم فنادى: يا أهل دمشق, فاجتمعوا إليه, فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: ألا تستحيون, ألا تستحيون, تجمعون ما لا تأكلون, وتبنون ما لا تسكنون, وتأملون ما لا تدركون, إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون, ويبنون فيوثقون, ويأملون فيطيلون, فأصبح أملهم غروراً, وأصبح جمعهم بوراً, وأصبحت مساكنهم قبوراً, ألا إن عاداً ملكت ما بين عدن وعمان خيلاً وركاباً, فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين ؟.
وقوله {وإذا بطشتم بطشتم جبارين} أي يصفهم بالقوة والغلظة والجبروت {فاتقوا الله وأطيعون} أي اعبدوا ربكم وأطيعوا رسولكم, ثم شرع يذكرهم نعم الله عليهم, فقال {واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون, أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون * إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} أي إن كذبتم وخالفتم, فدعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب, فما نفع فيهم.