تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 407 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 407

407- تفسير الصفحة رقم407 من المصحف
"ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره" "أن" في محل رفع كما تقدم؛ أي قيامها واستمساكها بقدرته بلا عمد. وقيل: بتدبيره وحكمته؛ أي يمسكها بغير عمد لمنافع الخلق. وقيل: "بأمره" بإذنه؛ والمعنى واحد. "ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون" أي الذي فعل هذه الأشياء قادر على أن يبعثكم من قبوركم؛ والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا تلبث؛ كما يجيب الداعي المطاع مدعوه؛ كما قال القائل:
دعوت كليبا باسمه فكأنما دعوت برأس الطود أو هو أسرع
يريد برأس الطود: الصدى أو الحجر إذا تدهده. وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض بـ "ثم" لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يأهل القبور قوموا؛ فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر؛ كما قال تعالى: "ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" [الزمر: 68]. "وإذا" الأولى في قوله تعالى: "إذا دعاكم" للشرط، والثانية في قوله تعالى: "إذا أنتم" للمفاجأة، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط. وأجمع القراء على فتح التاء هنا في "تخرجون". واختلفوا في التي في "الأعراف" فقرأ أهل المدينة: "ومنها تخرجون" [الأعراف: 25] بضم التاء، وقرأ أهل العراق: بالفتح، وإليه يميل أبو عبيد. والمعنيان متقاربان، إلا أن أهل المدينة فرقوا بينهما لنسق الكلام، فنسق الكلام في التي في "الأعراف" بالضم أشبه؛ إذ كان الموت ليس من فعلهم، وكذا الإخراج. والفتح في سورة الروم أشبه بنسق الكلام؛ أي إذا دعاكم خرجتم أي أطعتم؛ فالفعل بهم أشبه. وهذا الخروج إنما هو عند نفخة إسرافيل النفخة الآخرة؛ على ما تقدم ويأتي. وقرئ "تخرجون" بضم التاء وفتحها، ذكره الزمخشري ولم يزد على هذا شيئا، ولم يذكر ما ذكرناه من الفرق، والله أعلم. "وله من في السماوات والأرض" خلقا وملكا وعبدا. "كل له قانتون" روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل قنوت في القرآن فهو طاعة). قال النحاس: مطيعون طاعة انقياد. وقيل: "قانتون" مقرون بالعبودية، إما قالة وإما دلالة؛ قاله عكرمة وأبو مالك والسدي. وقال ابن عباس: "قانتون" مصلون. الربيع بن أنس: "كل له قانتون" أي قائم يوم القيامة؛ كما قال: "يوم يقوم الناس لرب العالمين" [المطففين: 6] أي للحساب. الحسن: كل له قائم بالشهادة أنه عبد له. سعيد بن جبير "قانتون" مخلصون.
الآية: 27 {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}
قوله تعالى: "وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده" أما بدء خلقه فبعلوقه في الرحم قبل ولادته، وأما إعادته فإحياؤه بعد الموت بالنفخة الثانية للبعث؛ فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلا على ما يخفى من إعادته؛ استدلالا بالشاهد على الغائب، ثم أكد ذلك بقوله "وهو أهون عليه" وقرأ ابن مسعود وابن عمر: "يبدئ الخلق" من أبدأ يبدئ؛ دليله قوله تعالى: "إنه هو يبدئ ويعيد" [البروج: 13]. ودليل قراءة العامة قوله سبحانه: "كما بدأكم تعودون" [الأعراف: 29]. و"أهون" بمعنى هين؛ أي الإعادة هين عليه؛ قاله الربيع بن خثيم والحسن. فأهون بمعنى هين؛ لأنه ليس شيء أهون على الله من شيء. قال أبو عبيدة: ومن جعل أهون يعبر عن تفضيل شيء على شيء فقوله مردود بقوله تعالى: "وكان ذلك على الله يسيرا" [النساء:30] وبقوله: "ولا يؤوده حفظهما" [البقرة: 255].
والعرب تحمل أفعل على فاعل، ومنه قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
أي دعائمه عزيزة طويلة. وقال آخر:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أول
أراد: إني لوجل. وأنشد أبو عبيدة أيضا:
إني لأمنحك الصدود وإنني قسما إليك مع الصدود لأميل
أراد لمائل. وأنشد أحمد بن يحيى:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أراد بواحد. وقال آخر:
لعمرك إن الزبرقان لباذل لمعروفه عند السنين وأفضل
أي وفاضل. ومنه قولهم: الله أكبر؛ إنما معناه الله الكبير. وروى معمر عن قتادة قال: في قراءة عبدالله بن مسعود "وهو عليه هين". وقال مجاهد وعكرمة والضحاك: إن المعنى أن الإعادة أهون عليه - أي على الله - من البداية؛ أي أيسر، وإن كان جميعه على الله تعالى هينا؛ وقاله ابن عباس. ووجهه أن هذا مثل ضربه الله تعالى لعباده؛ يقول: إعادة الشيء على الخلائق أهون من ابتدائه؛ فينبغي أن يكون البعث لمن قدر على البداية عندكم وفيما بينكم أهون عليه من الإنشاء. وقيل: الضمير في "عليه" للمخلوقين؛ أي وهو أهون عليه، أي على الخلق، يصاح بهم صيحة واحدة فيقومون ويقال لهم: كونوا فيكونون؛ فذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم أجنة ثم أطفالا ثم غلمانا ثم شبانا ثم رجالا أو نساء. وقاله ابن عباس وقطرب. وقيل أهون أسهل؛ قال:
وهان على أسماء أن شطت النوى يحن إليها واله ويتوق
أي سهل عليها، وقال الربيع بن خثيم في قوله تعالى: "وهو أهون عليه" قال: ما شيء على الله بعزيز. عكرمة: تعجب الكفار من إحياء الله الموتى فنزلت هذه الآية. "وله المثل الأعلى" أي ما أراده جل وعز كان. وقال الخليل: المثل الصفة؛ أي وله الوصف الأعلى "في السموات والأرض" كما قال: "مثل الجنة التي وعد المتقون" [الرعد: 35] أي صفتها. وقد مضى الكلام في ذلك. وعن مجاهد: "المثل الأعلى" قول لا إله إلا الله؛ ومعناه: أي الذي له الوصف الأعلى، أي الأرفع الذي هو الوصف بالوحدانية. وكذا قال قتادة: إن المثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ ويعضده قوله تعالى: "ضرب لكم مثلا من أنفسكم" على ما نبينه آنفا إن شاء الله تعالى. وقال الزجاج: "وله المثل الأعلى في السموات والأرض" أي قوله: "وهو أهون عليه" قد ضربه لكم مثلا فيما يصعب ويسهل؛ يريد التفسير الأول. وقال ابن عباس: أي ليس كمثله شيء "وهو العزيز الحكيم" تقدم.
الآية: 28 {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون}
قوله تعالى: "من أنفسكم" ثم قال: "من شركاء"؛ ثم قال: "مما ملكت أيمانكم" فـ "من" الأولى للابتداء؛ كأنه قال: أخذ مثلا وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم. والثانية للتبعيض، والثالثة زائدة لتأكيد الاستفهام. والآية نزلت في كفار قريش، كانوا يقولون في التلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك؛ قال سعيد بن جبير. وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله للمشركين؛ والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه في ماله ونفسه مثله، فإذا لم ترضوا بهذا لأنفسكم فكيف جعلتم لله شركاء.
قال بعض العلماء: هذه الآية أصل في الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض ونفيها عن الله سبحانه، وذلك أنه لما قال جل وعز: "ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم" الآية، فيجب أن يقولوا: ليس عبيدنا شركاءنا فيما رزقتنا، فيقال لهم: فكيف يتصور أن تنزهوا نفوسكم عن مشاركة عبيدكم وتجعلوا عبيدي شركائي في خلقي؛ فهذا حكم فاسد وقلة نظر وعمى قلب، فإذا بطلت الشركة بين العبيد وسادتهم فيما يملكه السادة والخلق كلهم عبيد لله تعالى فيبطل أن يكون شيء من العالم شريكا لله تعالى في شيء من أفعاله؛ فلم يبق إلا أنه واحد يستحيل أن يكون له شريك، إذ الشركة تقتضي المعاونة، ونحن مفتقرون إلى معاونة بعضنا بعضا بالمال والعمل؛ والقديم الأزلي منزه عن ذلك جل وعز.
وهذه المسألة أفضل للطالب من حفظ ديوان كامل في الفقه؛ لأن جميع العبادات البدنية لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب، فافهم ذلك.
الآية: 29 {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين}
قوله تعالى: "بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم" لما قامت عليهم الحجة ذكر أنهم يعبدون الأصنام باتباع أهوائهم في عبادتها وتقليد الأسلاف في ذلك. "فمن يهدي من أضل الله" أي لا هادي لمن أضله الله تعالى. وفي هذا رد على القدرية. "وما لهم من ناصرين".
الآية: 30 {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}
قوله تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها" قال الزجاج: "فطرة" منصوب بمعنى اتبع فطرة الله. قال: لأن معنى "فأقم وجهك للدين" اتبع الدين الحنيف واتبع فطرة الله. وقال الطبري: "فطرة الله" مصدر من معنى: "فأقم وجهك" لأن معنى ذلك: فطر الله الناس ذلك فطرة. وقيل: معنى ذلك اتبعوا دين الله الذي خلق الناس له؛ وعلى هذا القول يكون الوقف على "حنيفا" تاما. وعلى القولين الأولين يكون متصلا، فلا يوقف على "حنيفا". وسميت الفطرة دينا لأن الناس يخلقون له، قال جل وعز: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" [الذاريات: 56]. ويقال: "عليها" بمعنى لها؛ كقوله تعالى: "وإن أسأتم فلها" [الإسراء: 7]. والخطاب بـ "أقم وجهك" للنبي صلى الله عليه وسلم، أمره بإقامة وجهه للدين المستقيم؛ كما قال: "فأقم وجهك للدين القيم" [الروم: 43] وهو دين الإسلام. وإقامة الوجه هو تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين؛ وخص الوجه بالذكر لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه. ودخل في هذا الخطاب أمته باتفاق من أهل التأويل. و"حنيفا" معناه معتدلا مائلا عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة.
في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة - في رواية على هذه الملة - أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء) ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم؛ "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله"، في رواية: (حتى تكونوا أنتم تجدعونها) قالوا: يا رسول الله؛ أفرأيت من يموت صغيرا؟ قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين). لفظ مسلم.
واختلف العلماء في معنى الفطرة المذكورة في الكتاب والسنة على أقوال متعددة؛ منها الإسلام؛ قاله أبو هريرة وابن شهاب وغيرهما؛ قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف من أهل التأويل؛ واحتجوا بالآية وحديث أبي هريرة، وعضدوا ذلك بحديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوما: (ألا أحدثكم بما حدثني الله في كتابه، أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين، وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه فجعلوا مما أعطاهم الله حلالا وحراما..) الحديث. وبقوله صلى الله عليه وسلم: (خمس من الفطرة...) فذكر منها قص الشارب، وهو من سنن الإسلام، وعلى هذا التأويل فيكون معنى الحديث: أن الطفل خلق سليما من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه، وأنهم إذا ماتوا قبل أن يدركوا في الجنة؛ أولاد مسلمين كانوا أو أولاد كفار. وقال آخرون: الفطرة هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها؛ أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ. قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة. والفاطر: المبتدئ؛ واحتجوا بما روي عن ابن عباس أنه قال: لم أكن أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ أي ابتدأتها. قال المروزي: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه. قال أبو عمر في كتاب التمهيد له: ما رسمه مالك في موطئه وذكر في باب القدر فيه من الآثار - يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا، والله أعلم. ومما احتجوا به ما روي عن كعب القرظي في قول الله تعالى: "فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة" [الأعراف: 30] قال: من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة وإن عمل بأعمال الهدى، ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى وإن عمل بأعمال الضلالة، ابتدأ الله خلق إبليس على الضلالة وعمل بأعمال السعادة مع الملائكة، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه، قال: وكان من الكافرين.
قلت: قد مضى قول كعب هذا في "الأعراف" وجاء معناه مرفوعا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه، قال: (أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم) خرجه ابن ماجة في السنن. وخرج أبو عيسى الترمذي عن عبدالله بن عمرو قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: (أتدرون ما هذان الكتابان)؟ فقلنا: لا يا رسول الله، إلا أن تخبرنا؛ فقال للذي في يده اليمنى: (هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء أبائهم وقبائلهم ثم أجمل على أخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا - ثم قال للذي في شماله - هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء أبائهم وقبائلهم ثم أجمل على أخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا...) وذكر الحديث، وقال فيه: حديث حسن. وقالت فرقة: ليس المراد بقوله تعالى: "فطر الناس عليها" ولا قوله عليه السلام: (كل مولود يولد على الفطرة) العموم، وإنما المراد بالناس المؤمنون؛ إذا لو فطر الجميع على الإسلام لما كفر أحد، وقد ثبت أنه خلق أقواما للنار؛ كما قال تعالى: "ولقد ذرأنا لجهنم" [الأعراف: 179] وأخرج الذرية من صلب آدم سوداء وبيضاء. وقال في الغلام الذي قتله الخضر: طبع يوم طبع كافرا. وروى أبو سعيد الخدري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بنهار؛ وفيه: وكان فيما حفظنا أن قال: (ألا إن بني آدم خلقوا طبقات شتى فمنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت مؤمنا، ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت كافرا، ومنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت كافرا، ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت مؤمنا، ومنهم حسن القضاء حسن الطلب). ذكره حماد بن زيد بن سلمة في مسند الطيالسي قال: حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد. قالوا: والعموم بمعنى الخصوص كثير في لسان العرب؛ ألا ترى إلى قوله عز وجل: "تدمر كل شيء" [الأحقاف: 25] ولم تدمر السموات والأرض. وقوله: "فتحنا عليهم أبواب كل شيء" [الأنعام: 44] ولم تفتح عليهم أبواب الرحمة.
وقال إسحاق بن راهويه الحنظلي: تم الكلام عند قوله: "فأقم وجهك للدين حنيفا" ثم قال: "فطرة الله" أي فطر الله الخلق فطرة إما بجنة أو نار، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (كل مولود يولد على الفطرة) ولهذا قال: "لا تبديل لخلق الله" قال شيخنا أبو العباس: من قال هي سابقة السعادة والشقاوة فهذا إنما يليق بالفطرة المذكورة في القرآن؛ لأن الله تعالى قال: "لا تبديل لخلق الله" وأما في الحديث فلا؛ لأنه قد أخبر في بقية الحديث بأنها تبدل وتغير. وقالت طائفة من أهل الفقه والنظر: الفطرة هي الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه؛ فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة؛ يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفته. واحتجوا على أن الفطرة الخلقة، والفاطر الخالق؛ لقول الله عز وجل: "الحمد لله فاطر السموات والأرض" [فاطر: 1] يعني خالقهن، وبقوله: "وما لي لا أعبد الذي فطرني" [يس: 22] يعني خلقني، وبقوله: "الذي فطرهن" [الأنبياء: 56] يعني خلقهن. قالوا: فالفطرة الخلقة، والفاطر الخالق؛ وأنكروا أن يكون المولود يفطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار قالوا: وإنما المولود على السلامة في الأغلب خلقة وطبعا وبنية ليس معها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة؛ ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا. واحتجوا بقوله في الحديث: (كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء - يعني سالمة - هل تحسون فيها من جدعاء) يعني مقطوعة الأذن. فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها؛ فيقال: هذه بحائر وهذه سوائب. يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السائمة، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلهم. قالوا: ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمورهم ما انتقلوا عنه أبدا، وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون. قالوا: ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفرا أو إيمانا، لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئا، قال الله تعالى: "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا" [النحل: 78] فمن لا يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان، أو معرفة أو إنكار. قال أبو عمر بن عبدالبر: هذا أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها. ومن الحجة أيضا في هذا قوله تعالى: "إنما تجزون ما كنتم تعملون" [الطور: 16] و"كل نفس بما كسبت رهينة" [المدثر: 38] ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء. وقال: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" ولما أجمعوا على دفع القود والقصاص والحدود والآثام عنهم في دار الدنيا كانت الآخرة أولى بذلك. والله أعلم. ويستحيل أن تكون الفطرة المذكورة الإسلام، كما قال ابن شهاب؛ لأن الإسلام والإيمان: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وهذا معدوم من الطفل، لا يجهل ذلك ذو عقل. وأما قول الأوزاعي: سألت الزهري عن رجل عليه رقبة أيجزي عنه الصبي أن يعتقه وهو رضيع؟ قال نعم؛ لأنه ولد على الفطرة يعني الإسلام؛ فإنما أجزى عتقه عند من أجازه؛ لأن حكمه حكم أبويه. وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجزي في الرقاب الواجبة إلا من صام وصلى، وليس في قوله تعالى: "كما بدأكم تعودون" [الأعراف: 29] ولا في (أن يختم الله للعبد بما قضاه له وقدره عليه): دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمنا أو كافرا؛ لما شهدت له العقول أنه في ذلك الوقت ليس ممن يعقل إيمانا ولا كفرا، والحديث الذي جاء فيه: (أن الناس خلقوا على طبقات) ليس من الأحاديث التي لا مطعن فيها؛ لأنه انفرد به علي بن زيد بن جدعان، وقد كان شعبة يتكلم فيه. على أنه يحتمل قوله: (يولد مؤمنا) أي يولد ليكون مؤمنا، ويولد ليكون كافرا على سابق علم الله فيه، وليس في قوله في الحديث (خلقت هؤلاء للجنة وخلقت هؤلاء للنار) أكثر من مراعاة ما يختم به لهم؛ لا أنهم في حين طفولتهم ممن يستحق جنة أو نارا، أو يعقل كفرا أو إيمانا.
قلت: وإلى ما اختاره أبو عمر واحتج له، ذهب غير واحد من المحققين منهم ابن عطية في تفسيره في معنى الفطرة، وشيخنا أبو العباس. قال ابن عطية: والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدة ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به؛ فكأنه تعالى قال: أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر، لكن تعرضهم العوارض؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه) فذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة. وقال شيخنا في عبارته: إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام وهو الدين الحق. وقد دل على صحة هذا المعنى قوله: (كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء) يعني أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلقة سليما من الآفات، فلو ترك على أصل تلك الخلقة لبقي كاملا بريئا من العيوب، لكن يتصرف فيه فيجدع أذنه ويوسم وجهه فتطرأ عليه الآفات والنقائص فيخرج عن الأصل؛ وكذلك الإنسان، وهو تشبيه واقع ووجهه واضح.
قلت: وهذا القول مع القول الأول موافق له في المعنى، وأن ذلك بعد الإدراك حين عقلوا أمر الدنيا، وتأكدت حجة الله عليهم بما نصب من الآيات الظاهرة: من خلق السموات والأرض، والشمس والقمر، والبر والبحر، واختلاف الليل والنهار؛ فلما عملت أهواؤهم فيهم أتتهم الشياطين فدعتهم إلى اليهودية والنصرانية فذهبت بأهوائهم يمينا وشمالا، وأنهم إن ماتوا صغارا فهم في الجنة، أعني جميع الأطفال، لأن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صورة الذر أقروا له بالربوبية وهو قوله تعالى: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا" [الأعراف: 172]. ثم أعادهم في صلب آدم بعد أن أقروا له بالربوبية، وأنه الله لا إله غيره، ثم يكتب العبد في بطن أمه شقيا أو سعيدا على الكتاب الأول؛ فمن كان في الكتاب الأول شقيا عمر حتى يجري عليه القلم فينقض الميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم بالشرك، ومن كان في الكتاب الأول سعيدا عمر حتى يجري عليه القلم فيصير سعيدا، ومن مات صغيرا من أولاد المسلمين قبل أن يجري عليه القلم فهم مع آبائهم في الجنة، ومن كان من أولاد المشركين فمات قبل أن يجري عليه القلم فليس يكونون مع آبائهم؛ لأنهم ماتوا على الميثاق الأول الذي أخذ عليهم في صلب آدم ولم ينقض الميثاق، ذهب إلى هذا جماعة من أهل التأويل، وهو يجمع بين الأحاديث، ويكون معنى قوله عليه السلام لما سئل عن أولاد المشركين فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) يعني لو بلغوا. ودل على هذا التأويل أيضا حديث البخاري عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم - الحديث الطويل حديث الرؤيا، وفيه قول عليه السلام: (وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة). قال فقيل: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأولاد المشركين). وهذا نص يرفع الخلاف، وهو أصح شيء روي في هذا الباب، وغيره من الأحاديث فيها علل وليست من أحاديث الأئمة الفقهاء؛ قاله أبو عمر بن عبدالبر. وقد روي من حديث أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: (لم تكن لهم حسنات فيجزوا بها فيكونوا من ملوك الجنة، ولم تكن لهم سيئات فيعاقبوا عليها فيكونوا من أهل النار، فهم خدم لأهل الجنة) ذكره يحيى بن سلام في التفسير له. وقد زدنا هذه المسألة بيانا في كتاب التذكرة، وذكرنا في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس ما ذكره أبو عمر من ذلك، والحمد لله. وذكر إسحاق بن راهويه قال: حدثنا يحيى بن آدم قال: أخبرنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي قال: سمعت ابن عباس يقول: لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو متقاربا - أو كلمة تشبه هاتين - حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر. قال يحيى بن آدم فذكرته لابن المبارك فقال: أيسكت الإنسان على الجهل؟ قلت: فتأمر بالكلام؟ قال فسكت. وقال أبو بكر الوراق: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" هي الفقر والفاقة؛ وهذا حسن؛ فإنه منذ ولد إلى حين يموت فقير محتاج، نعم، وفي الآخرة.
قوله تعالى: "لا تبديل لخلق الله" أي هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخالق. ولا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه؛ أي لا يشقى من خلقه سعيدا، ولا يسعد من خلقه شقيا. وقال مجاهد: المعنى لا تبديل لدين الله؛ وقال قتادة وابن جبير والضحاك وابن زيد والنخعي، قالوا: هذا معناه في المعتقدات. وقال عكرمة: وروي عن ابن عباس وعمر بن الخطاب أن المعنى: لا تغيير لخلق الله من البهائم أن تخصى فحولها؛ فيكون معناه النهي عن خصاء الفحول من الحيوان. وقد مضى هذا في "النساء". "ذلك الدين القيم" أي ذلك القضاء المستقيم؛ قاله ابن عباس. وقال مقاتل: ذلك الحساب البين. وقيل: "ذلك الدين القيم" أي دين الإسلام هو الدين القيم المستقيم. "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" أي لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقا معبودا، وإلها قديما سبق قضاؤه ونفذ حكمه.
الآية: 31 - 32 {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون}
قوله تعالى: "منيبين إليه" اختلف في معناه، فقيل: راجعين إليه بالتوبة والإخلاص. وقال يحيى بن سلام والفراء: مقبلين إليه. وقال عبدالرحمن بن زيد: مطيعين له. وقيل تائبين إليه من الذنوب؛ ومنه قول أبي قيس بن الأسلت:
فإن تابوا فإن بني سليم وقومهم هوازن قد أنابوا
والمعنى واحد؛ فإن "ناب وتاب وثاب وآب" معناه الرجوع. قال الماوردي: وفي أصل الإنابة قولان: أحدهما: أن أصله القطع؛ ومنه أخذ اسم الناب لأنه قاطع؛ فكأن الإنابة هي الانقطاع إلى الله عز وجل بالطاعة. الثاني: أصله الرجوع؛ مأخوذ من ناب ينوب إذا رجع مرة بعد أخرى؛ ومنه النوبة لأنها الرجوع إلى عادة. الجوهري: وأناب إلى الله أقبل وتاب. والنوبة واحدة النوب، تقول: جاءت نوبتك ونيابتك، وهم يتناوبون النوبة فيما بينهم في الماء وغيره. وانتصب على الحال. قال محمد بن يزيد: لأن معنى: "أقم وجهك" فأقيموا وجوهكم منيبين. وقال الفراء: المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين. وقيل: انتصب على القطع؛ أي فأقم وجهك أنت وأمتك المنيبين إليه؛ لأن الأمر له، أمر لأمته؛ فحسن أن يقول منيبين إليه، وقد قال الله تعالى: "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء" [الطلاق: 1]. "واتقوه" أي خافوه وامتثلوا ما أمركم به. "وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين" بين أن العبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص؛ فلذلك قال: "ولا تكونوا من المشركين" وقد مضى هذا مبينا "في النساء والكهف" وغيرهما. "من الذين فرقوا دينهم" تأوله أبو هريرة وعائشة وأبو أمامة: أنه لأهل القبلة من أهل الأهواء والبدع. وقد مضى "في الأنعام" بيانه. وقال الربيع بن أنس: الذين فرقوا دينهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ وقاله قتادة ومعمر. وقرأ حمزة والكسائي: "فارقوا دينهم"، وقد قرأ ذلك علي بن أبي طالب؛ أي فارقوا دينهم الذي يجب اتباعه، وهو التوحيد. "وكانوا شيعا" أي فرقا؛ قاله الكلبي. وقيل أديانا؛ قاله مقاتل. "كل حزب بما لديهم فرحون" أي مسرورون معجبون، لأنهم لم يتبينوا الحق وعليهم أن يتبينوه. وقيل: كان هذا قبل أن تنزل الفرائض. وقول ثالث: أن العاصي لله عز وجل قد يكون فرحا بمعصيته، فكذلك الشيطان وقطاع الطريق وغيرهم، والله أعلم. وزعم الفراء أنه يجوز أن يكون التمام "ولا تكونوا من المشركين" ويكون المعنى: من الذين فارقوا دينهم "وكانوا شيعا" على الاستئناف، وأنه يجوز أن يكون متصلا بما قبله. النحاس: وإذا كان متصلا بما قبله فهو عند البصريين البدل بإعادة الحرف؛ كما قال جل وعز: "قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم" [الأعراف: 75] ولو كان بلا حرف لجاز.