تفسير الطبري تفسير الصفحة 407 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 407
408
406
 الآية : 25
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السّمَآءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الأرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ومن حججه أيها القوم علـى قُدرته علـى ما يشاء, قـيام السماء والأرض بأمره خضوعا له بـالطاعة بغير عمد ترى ثُمّ إذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إذَا أنْتُـمْ تَـخْرَجُونَ يقول: إذا أنتـم تـخرجون من الأرض, إذا دعاكم دعوة مستـجيبـين لدعوته إياكم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21263ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة وَمِنْ آياتِهِ أنْ تَقُومَ السّماءُ والأرْضُ بأمْرِهِ قامتا بأمره بغير عمد ثُمّ إذَا دَعاكمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إذَا أنْتُـمْ تَـخْرُجُونَ قال: دعاهم فخرجوا من الأرض.
21264ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول, فـي قوله: إذَا أنْتُـمْ تَـخْرُجُونَ يقول: من الأرض.
الآية : 26 -27
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ لّهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَىَ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }.
يقول تعالـى ذكره: ولله من فـي السموات والأرض من ملك وجنّ وإنس عبـيد وملك كُلّ لَهُ قانِتُونَ يقول: كلّ له مطيعون, فـيقول قائل: وكيف قـيـل كُلّ لَهُ قانِتُونَ وقد علـم أن أكثر الإنس والـجنّ له عاصون؟ فنقول: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فنذكر اختلافهم, ثم نبـين الصواب عندنا فـي ذلك من القول, فقال بعضهم: ذلك كلام مخرجه مخرج العموم, والـمراد به الـخصوص, ومعناه: كلّ له قانتون فـي الـحياة والبقاء والـموت, والفناء والبعث والنشور, لا يـمتنع علـيه شيء من ذلك, وإن عصاه بعضهم من غير ذلك. ذكر من قال ذلك:
21265ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله وَمِنْ آياتِهِ أنْ تَقُومَ السّماءُ والأرْضُ بأمْرِهِ... إلـى كُلّ لَهُ قانِتُونَ يقول: مطيعون, يعنـي الـحياة والنشور والـموت, وهم عاصون له فـيـما سوى ذلك من العبـادة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كلّ له قانتون بإقرارهم بأنه ربهم وخالقهم. ذكر من قال ذلك:
21266ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة كُلّ لَهُ قانِتُونَ: أي مطيع مقرّ بأن الله ربه وخالقه.
وقال آخرون: هو علـى الـخصوص, والـمعنى: وله من فـي السموات والأرض من ملك وعبد مؤمن لله مطيع دون غيرهم. ذكر من قال ذلك:
21267ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: كُلّ لَهُ قانِتُونَ قال: كلّ له مطيعون. الـمطيع: القانت, قال: ولـيس شيء إلاّ وهو مطيع, إلاّ ابن آدم, وكان أحقهم أن يكون أطوعهم لله. وفـي قوله وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِـينَ قال: هذا فـي الصلاة, لا تتكلـموا فـي الصلاة كما يتكلـم أهل الكتاب فـي الصلاة, قال: وأهل الكتاب يـمشي بعضهم إلـى بعض فـي الصلاة, قال: ويتقابلون فـي الصلاة, فإذا قـيـل لهم فـي ذلك, قالوا: لكي تذهب الشحناء من قلوبنا تسلـم قلوب بعضنا لبعض, فقال الله: وقوموا لله قانتـين لا تزولوا كم يزولون. قانتـين: لا تتكلـموا كما يتكلـمون. قال: فأما ما سوى هذا كله فـي القرآن من القنوت فهو الطاعة, إلاّ هذه الواحدة.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن عبـاس, وهو أن كلّ من فـي السموات والأرض من خـلق لله مطيع فـي تصرّفه فـيـما أراد تعالـى ذكره من حياة وموت, وما أشبه ذلك, وإن عصاه فـيـما يكسبه بقوله, وفـيـما له السبـيـل إلـى اختـياره وإيثاره علـى خلافه.
وإنـما قلت: ذلك أولـى بـالصواب فـي تأويـل ذلك, لأن العصاة من خـلقه فـيـما لهم السبـيـل إلـى اكتسابه كثـير عددهم, وقد أخبر تعالـى ذكره عن جميعهم أنهم له قانتون, فغير جائز أن يخبر عمن هو عاص أنه له قانت فـيـما هو له عاص. وإذا كان ذلك كذلك, فـالذي فـيه عاص هو ما وصفت, والذي هو له قانت ما بـينت.
وقوله: وَهُوَ الّذِي يَبْدَأُ الـخَـلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ يقول تعالـى ذكره: والذي له هذه الصفـات تبـارك وتعالـى, هو الذي يبدأ الـخـلق من غير أصل فـينشئه ويوجده, بعد أن لـم يكن شيئا, ثم يفنـيه بعد ذلك, ثم يعيده, كما بدأه بعد فنائه, وهو أهون علـيه.
اختلف أهل التأويـل, فـي معنى قوله: وَهُوَ أهْوَنُ عَلَـيْهِ فقال بعضهم: معناه: وهو هين علـيه. ذكر من قال ذلك:
21268ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن سعيد العطار, عن سفـيان عمن ذكره, عن منذر الثوريّ, عن الربـيع بن خَيْثم وَهُوَ أهْوَنُ عَلَـيْهِ قال: ما شيء علـيه بعزيز.
21269ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله وَهُوَ الّذِي يَبْدَأُ الـخَـلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ, وَهُوَ أهْوَنُ عَلَـيْهِ يقول: كلّ شيء علـيه هين.
وقال آخرون: معناه: وإعادة الـخـلق بعد فنائهم أهون علـيه من ابتداء خـلقهم. ذكر من قال ذلك:
21270ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله وَهُوَ أهْوَنُ عَلَـيْهِ قال: يقول: أيسر علـيه.
21271ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَهُوَ أهْوَنُ عَلَـيْهِ قال: الإعادة أهون علـيه من البداءة, والبداءة علـيه هين.
21272ـ حدثنـي ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن سماك, عن عكرِمة قرأ هذا الـحرف وَهُوَ الّذِي يَبْدَأُ الـخَـلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ, وَهُوَ أهْوَنُ عَلَـيْهِ قال: تعجب الكفـار من إحياء الله الـموتـى, قال: فنزلت هذه الاَية وَهُوَ الّذِي يَبْدَأُ الـخَـلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ, وَهُوَ أهْوَنُ عَلَـيْهِ إعادة الـخـلق أهون علـيه من إبداء الـخـلق.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا غندر, عن شعبة, عن سماك, عن عكرمة بنـحوه, إلاّ أنه قال: إعادة الـخـلق أهون علـيه من ابتدائه.
21273ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله وَهُوَ أهْوَنُ عَلَـيْهِ: يقول: إعادته أهون علـيه من بدئه, وكلّ علـى الله هين. وفـي بعض القراءة: وكلّ علـى الله هين.
وقد يحتـمل هذا الكلام وجهين, غير القولـين اللذين ذكرت, وهو أن يكون معناه: وهو الذي يبدأ الـخـلق ثم يعيده, وهو أهون علـى الـخـلق: أي إعادة الشيء أهون علـى الـخـلق من ابتدائه. والذي ذكرنا عن ابن عبـاس فـي الـخبر الذي حدثنـي به ابن سعد, قول أيضا له وجه.
وقد وجّه غير واحد من أهل العربـية قول ذي الرّمة:
أخي قَـفَرَاتٍ دَبّبَتْ فِـي عِظامهشُفـافـاتُ أعْجاز الكَرَى فهْوَ أخْضَعُ
إلـى أنه بـمعنى خاضع وقول الاَخر:
لَعَمْرُكَ إنّ الزّبْرَقانَ لَبـاذِلٌلـمَعْروفِه عِنْدَ السّنِـينَ وأفْضَلُ
كَرِيـمٌ لَه عَنْ كُلّ ذَمّ تَأَخّرٌوفِـي كُلّ أسْبـابِ الـمَكارِمِ أوّلُ
إلـى أنه بـمعنى: وفـاضل وقول معن:
لَعَمْرُكَ ما أدْرِي وإنّـي لأَوْجَلُعلـى أيّنا تَعْدُو الـمَنِـيّةُ أوّلُ
إلـى أنه بـمعنى: وإنـي لوجل وقول الاَخر:
تَـمَنّى مُرَىْءُ القَـيْسِ مَوْتـي وإنْ أمُتْفَتِلكَ سَبِـيـلٌ لَسْتُ فِـيها بأوْحَدِ
إلـى أنه بـمعنى: لست فـيها بواحد وقول الفرزدق:
إنّ الّذِي سَمَكَ السّماءَ بَنى لَنابَـيْتا دَعائمُهُ أعَزّ وأطْوَلُ
إلـى أنه بـمعنى: عزيزة طويـلة. قالوا: ومنه قولهم فـي الأذان: الله أكبر, بـمعنى: الله كبـير وقالوا: إن قال قائل: إن الله لا يوصف بهذا, وإنـما يوصف به الـخـلق, فزعم أنه وهو أهون علـى الـخـلق, فإن الـحجة علـيه قول الله: وكانَ ذلكَ علـى اللّهِ يَسِيرا, وقوله: وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُما: أي لا يثقله حفظهما.
وقوله: وَلَهُ الـمَثَلُ الأعْلَـى يقول: ولله الـمثل الأعلـى فـي السموات والأرض, وهو أنه لا إله إلاّ هو وحده لا شريك له, لـيس كمثله شيء, فذلك الـمثل الأعلـى, تعالـى ربنا وتقدّس. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21274ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله وَلَهُ الـمَثَلُ الأعْلَـى فِـي السّمَوَاتِ يقول: لـيس كمثله شيء.
21275ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله وَلَهُ الـمَثَلُ الأعْلَـى فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ مثله أنه لا إله إلاّ هو, ولا ربّ غيره.
وقوله: وَهُوَ العَزِيزُ الـحَكِيـمُ يقول تعالـى ذكره: وهو العزيز فـي انتقامه من أعدائه, الـحكيـم فـي تدبـيره خـلقه, وتصريفهم فـيـما أراد من إحياء وإماتة, وبعث ونشر, وما شاء.
الآية : 28
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ضَرَبَ لَكُمْ مّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لّكُمْ مّن مّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: مثل لكم أيها القوم ربكم مثلاً من أنفسكم, هل لكم مـما ملكت أيـمانكم يقول: من مـمالـيككم من شركاء, فـيـما رزقناكم من مال, فأنتـم فـيه سواء وهم. يقول: فإذا لـم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف رضيتـم أن تكون آلهتكم التـي تعبدونها لـي شركاء فـي عبـادتكم إياي, وأنتـم وهم عبـيدي ومـمالـيكي, وأنا مالك جميعكم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21276ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أنْفُسكمْ هَلْ لَكُمْ مِـمّا مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِـيـما رَزَقْناكُمْ, فأنْتُـمْ فِـيهِ سَوَاءٌ قال: مثل ضربه الله لـمن عدل به شيئا من خـلقه, يقول: أكان أحدكم مشاركا مـملوكه فـي فراشه وزوجته, فكذلكم الله لا يرضى أن يعدل به أحد من خـلقه.
21277ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مـمّا مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِـيـما رَزَقْناكُمْ, فأنْتُـمْ فِـيهِ سَوَاءٌ قال: هل تـجد أحدا يجعل عبده هكذا فـي ماله, فكيف تعمد أنت وأنت تشهد أنهم عبـيدي وخـلقـي, وتـجعل لهم نصيبـا فـي عبـادتـي, كيف يكون هذا؟ قال: وهذا مثل ضربه الله لهم, وقرأ: كَذلكَ نُفَصّلُ الاَياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: تَـخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أنْفُسَكُمْ فقال بعضهم: معنى ذلك: تـخافون هؤلاء الشركاء مـما ملكت أيـمانكم أن يرثوكم أموالكم من بعد وفـاتكم, كما يرث بعضكم بعضا. ذكر من قال ذلك:
21278ـ حُدثت عن حجاج, عن ابن جُرَيج, عن عطاء الـخراسانـي, عن ابن عبـاس, قال: فـي الاَلهة, وفـيه يقول: تـخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تـخافون هؤلاء الشركاء مـما ملكت أيـمانكم أن يقاسموكم أموالكم, كما تقاسم بعضكم بعضا. ذكر من قال ذلك:
21279ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر, قال: سمعت عمران قال: قال أبو مـجلز: إن مـملوكك لا تـخاف أن يقاسمك مالك, ولـيس له ذلك, كذلك الله لا شريك له.
وأولـى القولـين بـالصواب فـي تأويـل ذلك القول الثانـي, لأنه أشبههما بـما دلّ علـيه ظاهرالكلام, وذلك أن الله جلّ ثناؤه وبخ هؤلاء الـمشركين الذين يجعلون له من خـلقه آلهة يعبدونها, وأشركوهم فـي عبـادتهم إياه, وهم مع ذلك يقرّون بأنها خـلقه وهم عبـيده, وعيرهم بفعلهم ذلك, فقال لهم: هل لكم من عبـيدكم شركاء فـيـما خوّلناكم من نعمنا, فهم سواء, وأنتـم فـي ذلك تـخافون أن يقاسموكم ذلك الـمال الذي هو بـينكم وبـينهم, كخيفة بعضكم بعضا أن يقاسمه ما بـينه وبـينه من الـمال شركة فـالـخيفة التـي ذكرها تعالـى ذكره بأن تكون خيفة مـما يخاف الشريك من مقاسمة شريكه الـمال الذي بـينهما إياه أشبه من أن تكون خيفة منه بأن يرثه, لأن ذكر الشركة لا يدلّ علـى خيفة الوراثة, وقد يدلّ علـى خيفة الفراق والـمقاسمة.
وقوله: كذلكَ نُفَصّلُ الاَياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يقول تعالـى ذكره: كما بـيّنا لكم أيها القوم حججنا فـي هذه الاَيات من هذه السورة علـى قدرتنا علـى ما نشاء من إنشاء ما نشاء, وإفناء ما نـحبّ, وإعادة ما نريد إعادته بعد فنائه, ودللنا علـى أنه لا تصلـح العبـادة إلاّ للواحد القهار, الذي بـيده ملكوت كلّ شيء, كذلك نبـين حججنا فـي كل حقّ لقوم يعقلون, فـيتدبرونها إذا سمعوها, ويعتبرون فـيتعظون بها.
الآية : 29
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {بَلِ اتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلّ اللّهُ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: ما ذلك كذلك, ولا أشرك هؤلاء الـمشركون فـي عبـادة الله الاَلهة والأوثان, لأن لهم شركا فـيـما رزقهم الله من ملك أيـمانهم, فهم وعبـيدهم فـيه سواء, يخافون أن يقاسموهم ما هم شركاؤهم فـيه, فرضوا لله من أجل ذلك بـما رضوا به لأنفسهم, فأشركوهم فـي عبـادته, ولكن الذين ظلـموا أنفسهم فكفروا بـالله, اتبعوا أهواءهم, جهلاً منهم لـحقّ الله علـيهم, فأشركوا الاَلهة والأوثان فـي عبـادته فَمَنْ يهْدِي مَنْ أضَلّ اللّهُ يقول: فمن يسدّد للصواب من الطرق, يعنـي بذلك من يوفق للإسلام من أضلّ الله عن الاستقامة والرشاد؟ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يقول: وما لـمن أضلّ الله من ناصرين ينصرونه, فـينقذونه من الضلال الذي يبتلـيه به تعالـى ذكره.
الآية : 30
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: فسدّد وجهك نـحو الوجه الذي وجهك إلـيه ربك يا مـحمد لطاعته, وهي الدين, حنـيفـا يقول: مستقـيـما لدينه وطاعته, فطرة الله التـي فطر الناس علـيها يقول: صنعةَ الله التـي خـلق الناس علـيها ونصبت فطرة علـى الـمصدر من معنى قوله فَأقِمْ وَجْهَكَ للدّينِ حَنِـيفـا وذلك أن معنى ذلك: فطر الله الناس علـى ذلك فطرة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21280ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله فِطْرَةَ اللّهِ التـي فَطَرَ النّاسَ عَلَـيْها قال: الإسلام مذ خـلقهم الله من آدم جميعا, يقرّون بذلك, وقرأ: وَإذْ أخَذَ رَبّكَ منْ بَنِـي آدَمَ منْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ, وأشْهَدَهُمْ علـى أنْفُسِهمْ, ألَسْتُ برَبّكُمْ؟ قالُوا بَلَـى شَهِدْنا قال: فهذا قول الله: كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً, فَبَعَثَ اللّهُ النّبِـيّـينَ بعد.
21281ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فِطْرَةَ اللّهِ قال: الإسلام.
21282ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا يونس بن أبـي صالـح, عن يزيد بن أبـي مريـم, قال: مرّ عمر بـمُعاذ بن جبل, فقال: ما قِوام هذه الأمة؟ قال مُعاذ: ثلاث, وهنّ الـمنـجيات: الإخلاص, وهو الفطرة فِطْرَةَ اللّهِ التـي فَطَرَ النّاسَ عَلَـيْها. والصلاة وهي الـملة والطاعة وهي العصمة, فقال عمر: صدقت.
حدثنـي يعقوب, قال: ثنـي ابن عُلَـية, قال: حدثنا أيوب, عن أبـي قِلابة أن عمر قال لـمعاذ: ما قِوام هذه الأمة؟ ثم ذكر نـحوه.
وقوله لا تَبْدِيـلَ لِـخَـلْقِ اللّهِ يقول: لا تغيـير لدين الله: أي لا يصلـح ذلك, ولا ينبغي أن يفعل.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم نـحو الذي قلنا فـي ذلك. ذكر من قال ذلك:
21283ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد لا تَبْدِيـلَ لِـخَـلْقِ اللّهِ قال: لدينه.
21284ـ حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن لـيث, قال: أرسل مـجاهد رجلاً يقال له قاسم إلـى عكرِمة يسأله عن قول الله: لا تَبْدِيـلَ لِـخَـلْقِ اللّهِ (قال): إنـما هو الدين, وقرأ لا تَبْدِيـلَ لـخَـلْقِ اللّهِ ذلكَ الدّينُ القَـيّـمُ.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا زيد بن حبـاب, عن حسين بن واقد, عن يزيد النـحوي, عن عكرِمة فطْرَةَ اللّهِ التـي فَطَرَ النّاسَ عَلَـيْها قال: الإسلام.
قال: ثنـي أبـي, عن نضر بن عربـي, عن عكرمة لا تَبْدِيـلَ لـخَـلْقِ اللّهِ قال: لدين الله.
قال: ثنـي أبـي, عن سفـيان, عن لـيث, عن مـجاهد, قال: لدين الله.
قال: ثنا أبـي, عن عبد الـجبـار بن الورد, عن القاسم بن أبـي بزّة, قال: قال مـجاهد, فسل عنها عكرِمة, فسألته, فقال عكرمة: دين الله تعالـى ماله أخزاه الله؟ ألـم يسمع إلـى قوله فِطْرَةَ اللّهِ التـي فَطَرَ النّاسَ عَلَـيْها, لا تَبْدِيـلَ لـخَـلْقِ اللّهِ؟.
21285ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة لا تَبْدِيـلَ لـخَـلْقِ اللّهِ: أي لدين الله.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حفص بن غياث, عن لـيث, عن عكرمة, قال: لدين الله.
21286ـ قال: ثنا ابن عيـينة, عن حميد الأعرج, قال: قال سعيد بن جُبَـير لا تَبْدِيـلَ لـخَـلْقِ اللّهِ قال: لدين الله.
21287ـ قال: ثنا الـمـحاربـي, عن جويبر, عن الضحاك لا تَبْدِيـلَ لـخَـلْقِ اللّهِ قال: لدين الله.
21288ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله لا تَبْدِيـلَ لـخَـلْقِ الله قال: دين الله.
21289ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي عن مسعر وسفـيان, عن قـيس بن مسلـم, عن إبراهيـم, قال لا تَبْدِيـلَ لـخَـلْقِ اللّهِ قال: لدين الله.
قال: ثنا أبـي عن جعفر الرازي, عن مغيرة, عن إبراهيـم, قال: لدين الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تغيـير لـخـلق الله من البهائم بأن يخصى الفحول منها. ذكر من قال ذلك:
21290ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن فضيـل, عن مطرف, عن رجل, سأل ابن عبـاس, عن خصاء البهائم, فكرهه, وقال: لا تَبْدِيـل لـخَـلْقِ اللّهِ.
21291ـ قال: ثنا ابن عيـينة, عن حميد الأعرج, قال: قال عكرمة: الإخصاء.
21292ـ قال: ثنا حفص بن غياث, عن لـيث, عن مـجاهد, قال: الإخصاء.
وقوله: ذلكَ الدّينُ القَـيّـمُ يقول تعالـى ذكره: إن إقامتك وجهك للدين حنـيفـا غير مغير ولا مبدّل هو الدين القـيـم, يعنـي الـمستقـيـم الذي لا عوج فـيه عن الاستقامة من الـحنـيفـية إلـى الـيهودية والنصرانـية, وغير ذلك من الضلالات والبدع الـمـحدثة.
وقد وجّه بعضهم معنى الدين فـي هذا الـموضع إلـى الـحساب. ذكر من قال ذلك:
21293ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة, قال: حدثنا عبد الله بن موسى, قال: أخبرنا أبو لـيـلـى, عن بريدة ذلكَ الدّينُ القَـيّـمُ قال: الـحساب القـيـم وَلَكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَـمُونَ يقول تعالـى ذكره: ولكن أكثر الناس لا يعلـمون أن الدين الذي أمرتك يا مـحمد به بقولـي فأَقمِ وَجْهَكَ للدّينِ حَنِـيفـا هو الدين الـحقّ دون سائر الأديان غيره.
الآية : 31 -32
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتّقُوهُ وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الّذِينَ فَرّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: مُنِـيبِـينَ إلَـيْهِ تائبـين راجعين إلـى الله مقبلـين, كما:
21294ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: مُنـيبِـينَ إلـيْهِ قال: الـمنـيب إلـى الله: الـمطيع لله, الذي أناب إلـى طاعة الله وأمره, ورجع عن الأمور التـي كان علـيها قبل ذلك. كان القوم كفـارا, فنزعوا ورجعوا إلـى الإسلام.
وتأويـل الكلام: فأقم وجهك يا مـحمد للدين حنـيفـا منـيبـين إلـيه إلـى الله فـالـمنـيبون حال من الكاف التـي فـي وجهك.
فإن قال قائل: وكيف يكون حالاً منها, والكاف كناية عن واحد, والـمنـيبون صفة لـجماعة؟ قـيـل: لأن الأمر من الكاف كناية اسمه من الله فـي هذا الـموضع أمر منه له ولأمته, فكأنه قـيـل له: فأقم وجهك أنت وأمتك للدين حنـيفـا لله, منـيبـين إلـيه.
وقوله: وَاتّقُوهُ يقول جلّ ثناؤه: وخافوا الله وراقبوه أن تفرّطوا فـي طاعته, وتركبوا معصيته. وَلا تَكُونُوا مِنَ الـمُشْرِكِينَ يقول: ولا تكونوا من أهل الشرك بـالله بتضيـيعكم فرائضه, وركوبكم معاصيه, وخلافكم الدين الذي دعاكم إلـيه.
وقوله: مِنَ الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعا يقول: ولا تكونوا من الـمشركين الذين بدّلوا دينهم, وخالفوه ففـارقوه وكانوا شِيَعا يقول: وكانوا أحزابـا فرقا كالـيهود والنصارى.وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21295ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعا: وهم الـيهود والنصارى.
21296ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعا إلـى آخر الاَية, قال: هؤلاء يهود, فلو وجّه قوله مِنَ الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُمْ إلـى أنه خبر مستأنف منقطع عن قوله: وَلا تَكُونُوا مِنَ الـمُشْرِكِينَ وأن معناه: من الذين فرّقوا دِينَهُم وكانُوا شِيَعا أحزابـا كُلّ حِزْبٍ بِـمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ كان وجها يحتـمله الكلام.
وقوله: كُلّ حِزْبٍ بِـمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ يقول: كل طائفة وفرقة من هؤلاء الذين فـارقوا دينهم الـحقّ, فأحدثوا البدع التـي أحدثوا بـما لديهم فرحون. يقول: بـما هم به متـمسكون من الـمذهب, فرحون مسرورون, يحسبون أن الصواب معهم دون غيرهم