تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 410 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 410

410- تفسير الصفحة رقم410 من المصحف
الآية: 51 {ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون}
قوله تعالى: "ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا" يعني الريح، والريح يجوز تذكيره. قال محمد بن يزيد: لا يمتنع تذكير كل مؤنث غير حقيقي، نحو أعجبني الدار وشبهه. وقيل: فرأوا السحاب. وقال ابن عباس: الزرع، وهو الأثر؛ والمعنى: فرأوا الأثر مصفرا؛ واصفرار الزرع بعد اخضراره يدل على يبسه، وكذا السحاب يدل على أنه لا يمطر، والريح على أنها لا تلقح "لظلوا من بعده يكفرون" أي ليظلن؛ وحسن وقوع الماضي في موضع المستقبل لما في الكلام من معنى المجازاة، والمجازاة لا تكون إلا بالمستقبل؛ قاله الخليل وغيره.
الآية: 52 - 53 {فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون}
قوله تعالى: "فإنك لا تسمع الموتى" أي وضحت الحجج يا محمد؛ لكنهم لإلفهم تقليد الأسلاف في الكفر ماتت عقولهم وعميت بصائرهم، فلا يتهيأ لك إسماعهم وهدايتهم. وهذا رد على القدرية. "إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا" أي لا تسمع مواعظ الله إلا المؤمنين الذين يصغون إلى أدلة التوحيد وخلقت لهم الهداية. وقد مضى هذا في "النمل" ووقع قوله "بهاد العمي" هنا بغير ياء.
الآية: 54 {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير}
قوله تعالى: "الله الذي خلقكم من ضعف" ذكر استدلالا آخر على قدرته في نفس الإنسان ليعتبر. ومعنى: "من ضعف" من نطفة ضعيفة. وقيل: "من ضعف" أي في حال ضعف؛ وهو ما كانوا عليه في الابتداء من الطفولة والصغر. "ثم جعل من بعد ضعف قوة" يعني الشبيبة. "ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة" يعني الهرم. وقرأ عاصم وحمزة: بفتح الضاد فيهن، الباقون بالضم، لغتان، والضم لغة النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ الجحدري: "من ضعف ثم جعل من بعد ضعف" بالفتح فيهما؛ "ضعفا" بالضم خاصة. أراد أن يجمع بين اللغتين. قال الفراء: الضم لغة قريش، والفتح لغة تميم. الجوهري: الضعف والضعف: خلاف القوة. وقيل: الضعف بالفتح في الرأي، وبالضم في الجسد؛ ومنه الحديث في الرجل الذي كان يخدع في البيوع: (أنه يبتاع وفي عقدته ضعف). "وشيبة" مصدر كالشيب، والمصدر يصلح للجملة، وكذلك القول في الضعف والقوة. "يخلق ما يشاء" عني من قوة وضعف. "وهو العليم" بتدبيره. "القدير" على إرادته. وأجاز النحويون الكوفيون "من ضَعَف" بفتح العين، وكذا كل ما كان فيه حرف من حروف الحلق ثانيا أو ثالثا.
الآية: 55 {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون}
قوله تعالى: "ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون" أي يحلف المشركون. "ما لبثوا غير ساعة" ليس في هذا رد لعذاب القبر؛ إذ كان قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير طريق أنه تعوذ منه، وأمر أن يتعوذ منه؛ فمن ذلك ما رواه عبدالله بن مسعود قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة وهي تقول: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد سألت الله لآجال مضروبة وأرزاق مقسومة ولكن سليه أن يعيذك من عذاب جهنم وعذاب القبر) في أحاديث مشهورة خرجها مسلم والبخاري وغيرهما. وقد ذكرنا منها جملة في كتاب (التذكرة). وفي معنى: "ما لبثوا غير ساعة" قولان: أحدهما: أنه لا بد من خمدة قبل يوم القيامة؛ فعلى هذا قالوا: ما لبثنا غير ساعة. والقول الآخر: أنهم يعنون في الدنيا لزوالها وانقطاعها، كما قال الله تعالى: "كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها" [النازعات: 46] كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، وإن كانوا قد أقسموا على غيب وعلى غير ما يدرون. قال تعالى: "كذلك كانوا يؤفكون" أي كانوا يكذبون في الدنيا؛ يقال: أفك الرجل إذا صرف عن الصدق والخير. وأرض مأفوكة: ممنوعة من المطر. وقد زعم جماعة من أهل النظر أن القيامة لا يجوز أن يكون فيها كذب لما هم فيه، والقرآن يدل على غير ذلك، قال الله عز وجل: "كذلك كانوا يؤفكون" أي كما صرفوا عن الحق في قسمهم أنهم ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يصرفون عن الحق في الدنيا؛ وقال جل وعز: "يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون" [المجادلة: 18] وقال: "ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين. انظر كيف كذبوا" [الأنعام: 23].
الآية: 56 {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون}
قوله تعالى: "وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث" اختلف في الذين أوتوا العلم؛ فقيل الملائكة. وقيل الأنبياء. وقيل علماء الأمم. وقيل مؤمنو هذه الأمة. وقيل جميع المؤمنين؛ أي يقول المؤمنون للكفار ردا عليهم لقد لبثتم في قبوركم إلى يوم البعث. والفاء في قوله: "فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون" جواب لشرط محذوف دل عليه الكلام؛ مجازه: إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث. وحكى يعقوب عن بعض القراء وهي قراءة الحسن: "إلى يوم البعث" بالتحريك؛ وهذا مما فيه حرف من حروف الحلق. وقيل: معنى "في كتاب الله" في حكم الله. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ أي وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان لقد لبثتم إلى يوم البعث؛ قاله مقاتل وقتادة والسدي. القشيري: وعلى هذا "أوتوا العلم" بمعنى كتاب الله. وقيل: الذين حكم لهم في الكتاب بالعلم "فهذا يوم البعث" أي اليوم الذي كنتم تنكرونه.
الآية: 57 {فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون}
قوله تعالى: "فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم" أي لا ينفعهم العلم بالقيامة ولا الاعتذار يومئذ. وقيل: لما رد عليهم المؤمنون سألوا الرجوع إلى الدنيا واعتذروا فلم يعذروا. "ولا هم يستعتبون" أي ولا حالهم حال من يستعتب ويرجع؛ يقال: استعتبته فأعتبني، أي استرضيته فأرضاني، وذلك إذا كنت جانيا عليه. وحقيقة أعتبته: أزلت عتبه. وسيأتي في "فصلت" بيانه. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: "فيومئذ لا ينفع" بالياء، والباقون بالتاء.
الآية: 58 - 60 {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون، كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون، فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون}
قوله تعالى: "ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل" أي من كل مثل يدلهم على ما يحتاجون إليه، وينبههم على التوحيد وصدق الرسل. "ولئن جئتهم بآية" أي معجزة؛ كفلق البحر والعصا وغيرهما "ليقولن الذين كفروا إن أنتم" يقول الكفار إن أنتم يا معشر المؤمنين. "إلا مبطلون" أي تتبعون الباطل والسحر "كذلك" أي كما طبع الله على قلوبهم حتى لا يفهموا الآيات عن الله فكذلك "يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون" أدلة التوحيد"فاصبر إن وعد الله حق" أي اصبر على أذاهم فإن الله ينصرك "ولا يستخفنك" أي لا يستفزنك عن دينك "الذين لا يوقنون" قيل: هو النضر بن الحارث. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته؛ يقال: استخف فلان فلانا أي استجهله حتى حمله على اتباعه في الغّي. وهو في موضع جزم بالنهي، أكد بالنون الثقيلة فبني على الفتح كما يبنى الشيئان إذا ضم أحدهما إلى الآخر. "الذين لا يوقنون" في موضع رفع، ومن العرب من يقول: الذون في موضع الرفع. وقد مضى في "الفاتحة".