تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 410 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 410

409

51- "ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً" الضمير في فرأوه يرجع إلى الزرع والنبات الذي كان من أثر رحمة الله: أي فرأوه مصفراً من البرد الناشئ عن الريح التي أرسلها الله بعد اخضراره. وقيل راجع إلى الريح، وهو يجوز تذكيره وتأنيثه. وقيل راجع إلى الأثر المدلول عليه بالآثار. وقيل راجع إلى السحاب لأنه إذا كان مصفراً لم يمطر، والأول أولى. واللام هي الموطئة، وجواب القسم "لظلوا من بعده يكفرون" وهو يسد مسد جواب الشرط. والمعنى: ولئن أرسلنا ريحاً حارة أو باردة، فضربت زرعهم بالصفار لظلوا من بعد ذلك يكفرون بالله ويجحدون نعمه، وفي هذا دليل على سرعة تقلبهم وعدم صبرهم وضعف قلوبهم، وليس كذا حال أهل الإيمان.
ثم شبههم بالموتى وبالصم فقال: 52- "فإنك لا تسمع الموتى" إذا دعوتهم، فكذا هؤلاء لعدم فهمهم للحقائق ومعرفتهم للصواب "ولا تسمع الصم الدعاء" إذا دعوتهم إلى الحق ووعظتهم بمواعظ الله، وذكرتهم الآخرة وما فيها، وقوله: "إذا ولوا مدبرين" بيان لإعراضهم عن الحق بعد بيان كونهم كالأموات وكونهم صم الآذان، قد تقدم تفسير هذا في سورة النمل.
ثم وصفهم بالعمى فقال: 53- "وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم" لفقدهم للانتفاع بالأبصار كما ينبغي، أو لفقدهم للبصائر "إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا" أي ما تسمع إلا هؤلاء لكونهم أهل التفكر والتدبر والاستدلال بالآثار على المؤثر "فهم مسلمون" أي مناقدون للحق متبعون له.
54- "الله الذي خلقكم من ضعف" ذكر سبحانه استدلالاً آخر على كمال قدرته، وهو خلق الإنسان نفسه على أطوار مختلفة، ومعنى من ضعف: من نطفة. قال الواحدي: قال المفسرون: من نطفة، والمعنى من ذي ضعف. وقيل المراد حال الطفولية والصغر "ثم جعل من بعد ضعف قوة" وهي قوة الشباب، فإنه إذ ذاك تستحكم القوة وتشتد الخلقة إلى بلوغ النهاية "ثم جعل من بعد قوة ضعفاً" أي عند الكبر والهرم "وشيبة" الشيبة هي تمام الضعف ونهاية الكبر. قرأ الجمهور ضعف بضم الضاد في هذه المواضع. وقرأ عاصم وحمزة بفتحها. وقرأ الجحدري بالفتح في الأولين والضم في الثالث. قال الفراء: الضم لغة قريش والفتح لغة تميم. قال الجوهري: الضعف والضعف خلاف القوة، وقيل هو بالفتح في الرأي، وبالضم في الجسم "يخلق ما يشاء" يعني من جميع الأشياء ومن جملتها القوة والضعف في بني آدم "وهو العليم" بتدبيره "القدير" على خلق ما يريده، وأجاز الكوفيون من ضعف بفتح الضاد والعين.
55- "ويوم تقوم الساعة" أي القيامة، وسميت ساعة لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا "يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة" أي يحلفون ما لبثوا في الدنيا، أو في قبورهم غير ساعة، فيمكن أن يكونوا استقلوا مدة لبثهم واستقر ذلك في أذهانهم، فحلفوا عليه وهم يظنون أن حلفهم مطابق للواقع. وقال ابن قتيبة: إنهم كذبوا في هذا الوقت كما كانوا يكذبون من قبل، وهذا هو الظاهر لأنهم إن أرادوا لبثهم في الدنيا فقد علم كل واحد منهم مقداره، وإن أرادوا لبثهم في القبور فقد حلفوا على جهالة إن كانوا لا يعرفون الأوقات في البرزخ "كذلك كانوا يؤفكون" يقال أفك الرجل: إذا صرف عن الصدق، فالمعنى: مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون. وقيل المراد يصرفون عن الحق، وقيل عن الخير، والأول أولى، وهو دليل على أن حلفهم كذب.
56- "وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث" اختلف في تعيين هؤلاء الذين أوتوا العلم، فقيل الملائكة، وقيل الأنبياء، وقيل علماء الأمم، وقيل مؤمنو هذه الأمة، ولا مانع من الحمل على الجميع. ومعنى في كتاب الله: في علمه وقضائه. قال الزجاج: في علم الله المثبت في اللوح المحفوظ. قال الواحدي: والمفسرون حملوا هذا على التقديم والتأخير على تقدير: وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله، وكان رد الذين أوتوا العلم عليهم باليمين للتأكيد، أو للمقابلة لليمين باليمين، ثم نبهوهم على طريقة التبكيت بأن "هذا" الوقت الذي صاروا فيه هو "يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون" أنه حق، بل كنتم تستعجلونه تكذيباً واستهزاءً.
57- " فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم " أي لا ينفعهم الاعتذار يومئذ ولا يفيدهم علمهم بالقيامة. وقيل لما رد عليهم المؤمنون سألوا الرجوع إلى الدنيا واعتذروا فلم يعذروا. قرأ الجمهور "لا تنفع" بالفوقية، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتحتية "ولا هم يستعتبون" يقال استعتبته فأعتبني: أي استرضيته فأرضاني، وذلك إذا كنت جانياً عليه، وحقيقة أعتبته أزلت عتبة، والمعنى: أنهم لا يدعون إلى إزالة عتبهم من التوبة والطاعة كما دعوا إلى ذلك في الدنيا.
58- "ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل" أي من كل مثل من الأمثال التي تدلهم على توحيد الله وصدق رسله واحتججنا عليهم بكل حجة تدل على بطلان الشرك "ولئن جئتهم بآية" من آيات القرآن الناطقة بذلك، أو لئن جئتهم بآية كالعصا واليد "ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون" أي ما أنت يا محمد وأصحابك إلا مبطلون أصحاب أباطيل تتبعون السحر وما هو مشاكل له في البطلان.
59- "كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون" أي مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الفاقدين للعلم النافع الذي يهتدون به إلى الحق وينجون به من الباطل.
ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر معللاً لذلك بحقية وعد الله وعدم الخلف فيه، فقال: 60- "فاصبر" على ما تسمعه منهم من الأذى وتنظره من الأفعال الكفرية فإن الله قد وعدك بالنصر عليهم وإعلاء حجتك وإظهار دعوتك ووعده حق لا خلف فيه "ولا يستخفنك الذين لا يوقنون" أي لا يحملنك على الخفة ويستفزنك عن دينك وما أنت عليه الذين لا يوقنون بالله ولا يصدقون أنبياءه ولا يؤمنون بكتبه، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، يقال استخف فلان فلاناً: أي استهدله حتى حمله على اتباعه في الغي. قرأ الجمهور يستخفنك بالخاء المعجمة والفاء، وقرأ يعقوب وابن أبي إسحاق بحاء مهملة وقاف من الاستحقاق، والنهي في الآية من باب: لا أرينك ها هنا. وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة، ثم تلا "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين""، وهو من طريق شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء. وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عنه في قوله: " ويجعله كسفا " قال: قطعاً بعضها فوق بعض "فترى الودق" قال: المطر "يخرج من خلاله" قال: من بينه. وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية "إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء" في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بدر، والإسناد ضعيف. والمشهور في الصحيحين وغيرهما أن عائشة استدلت بهذه الآية على رد رواية من روى من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أهل قليب بدر، وهو من الاستدلال بالعام على رد الخاص فقد "قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: إنك تنادي أجساداً بالية ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" وفي مسلم من حديث أنس "أن عمر بن الخطاب لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يناديهم، فقال: يا رسول الله تناديهم بعد ثلاث وهل يسمعون؟ يقول الله إنك لا تسمع الموتى، فقال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم، ولكنهم لا يطيقون أن يجيبوا".