تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 410 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 410

410 : تفسير الصفحة رقم 410 من القرآن الكريم

** فَإِنّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَىَ وَلاَ تُسْمِعُ الصّمّ الدّعَآءَ إِذَا وَلّوْاْ مُدْبِرِينَ * وَمَآ أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مّسْلِمُونَ
يقول تعالى: كما أنك ليس في قدرتك أن تسمع الأموات في أجداثها, ولا تبلغ كلامك الصم الذين لا يسمعون وهم مع ذلك مدبرون عنك, كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق وردهم عن ضلالتهم بل ذلك إلى الله, فإنه تعالى بقدرته يسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء, ويهدي من يشاء ويضل من يشاء وليس ذلك لأحد سواه, ولهذا قال تعالى: {إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} أي خاضعون مستجيبون مطيعون, فأولئك هم الذين يسمعون الحق ويتبعونه وهذا حال المؤمنين, والأول مثل الكافرين, كما قال تعالى: {إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون} وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الاَية {إنك لا تسمع الموتى} على توهيم عبد الله بن عمر في روايته مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر بعد ثلاثة أيام ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم, حتى قال عمر: يا رسول الله ما تخاطب من قوم قد جيفوا ؟ فقال «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم, ولكن لا يجيبون» وتأولته عائشة على أنه قال «إنهم الاَن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق». وقال قتادة: أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته تقريعاً وتوبيخاً ونقمة.
والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة, من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححاً له عن ابن عباس مرفوعاً «ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيافيسلم عليه, إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام».

** اللّهُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ثُمّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوّةٍ ثُمّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ
ينبه تعالى على تنقل الإنسان في أطوار الخلق حالاً بعد حال, فأصله من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة, ثم يصير عظاماً, ثم تكسى العظام لحماً, وينفخ فيه الروح, ثم يخرج من بطن أمه ضعيفاً نحيفاً واهن القوى, ثم يشب قليلاً قليلاً حتى يكون صغيراً, ثم حدثاً ثم مراهقاً شاباً. وهو القوة بعد الضعف, ثم يشرع في النقص فيكتهل ثم يشيخ ثم يهرم, وهو الضعف بعد القوة, فتضعف الهمة والحركة والبطش, وتشيب اللمة, وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة, ولهذا قال تعالى: {ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء} أي يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد {وهو العليم القدير}.
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن فضيل ويزيد, حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي قال: قرأت على ابن عمر {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعف} فقال {الله الذي خلقكم من ضعف ثم من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعف} ثم قال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأت علي, فأخذ علي كما أخذت عليك, ورواه أبو داود والترمذي وحسنه من حديث فضيل, ورواه أبو داود من حديث عبد الله بن جابر عن عطية عن أبي سعيد بنحوه.

** وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللّهِ إِلَىَ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَـَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَـَكِنّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ * فَيَوْمَئِذٍ لاّ ينفَعُ الّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والاَخرة, ففي الدنيا فعلوا من عبادة الأوثان, وفي الاَخرة يكون منهم جهل عظيم أيضاً, فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا, ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم. قال الله تعالى: {كذلك كانوا يؤفكون * وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث} أي فيرد عليهم المؤمنون العلماء في الاَخرة كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا, فيقولون لهم حين يحلفون ما لبثوا غير ساعة {لقد لبثتم في كتاب الله} أي في كتاب الأعمال {إلى يوم البعث} أي من يوم خلقتم إلى أن بعثتم {ولكنكم كنتم لا تعلمون} قال الله تعالى: {فيومئذ} أي يوم القيامة {لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم} أي اعتذارهم عما فعلوا {ولا هم يستعتبون} أي ولا هم يرجعون إلى الدنيا, كما قال تعالى: {وإِن يستعتبوا فما هم من المعتبين}.

** وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هَـَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لّيَقُولَنّ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَلاَ يَسْتَخِفّنّكَ الّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ
يقول تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} أي قد بينا لهم الحق, ووضحناه لهم, وضربنا لهم فيه الأمثال ليستبينوا الحق ويتبعوه {ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون} أي لورأوا أي آية كانت, سواء كانت باقتراحهم أو غيره, لايؤمنون بها ويعتقدون أنها سحر وباطل, كما قالوا في انشقاق القمر ونحوه, كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} ولهذا قال ههنا {كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون * فاصبر إن وعد الله حق} أي اصبر على مخالفتهم وعنادهم, فإن الله تعالى منجز لك ما وعدك من نصره إياك عليهم وجعله العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والاَخرة {ولا يستخفنك الذين لا يوقنون} أي بل اثبت على ما بعثك الله به, فإنه الحق الذي لا مرية فيه, ولا تعدل عنه وليس فيما سواه هدى يتبع, بل الحق كله منحصر فيه. قال سعيد عن قتادة: نادى رجل من الخوارج علياً رضي الله عنه وهو في صلاة الغداة, فقال: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} فأنصت له علي حتى فهم ما قال, فأجابه وهو في الصلاة {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفّنّك الذين لا يوقنون} رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقد رواه ابن جرير من وجه آخر فقال, حدثنا وكيع: حدثنا يحيى بن آدم عن شريك عن عثمان ابن أبي زرعة عن علي بن ربيعة قال: نادى رجل من الخوارج علياً رضي الله عنه وهو في صلاة الفجر, فقال {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} فأجابه علي رضي الله عنه وهو في الصلاة {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون}.
(طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن الجعد, أخبرنا شريك عن عمران بن ظبيان عن أبي يحيى قال: صلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلاة الفجر, فناداه رجل من الخوارج {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} فأجابه علي رضي الله عنه وهو في الصلاة {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفّنّك الذين لا يوقنون}.

(ما روي في فضل هذه السورة الشريفة واستحباب قراءتها في الفجر)
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن عبد الملك بن عمير, سمعت شبيب أبا روح يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, صلى بهم الصبح فقرأ فيها الروم فأوهم, فقال «إنه يلبس علينا القرآن, فإن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء, فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء» وهذا إسناد حسن, ومتن حسن, وفيه سر عجيب, ونبأ غريب, وهو أنه صلى الله عليه وسلم تأثر بنقصان وضوء من ائتم به, فدل ذلك على أن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام. آخر تفسير سورة الروم. و لله الحمد والمنة.