تفسير الطبري تفسير الصفحة 410 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 410
411
409
 الآية : 51
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لّظَلّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولئن أرسلنا ريحا مفسدة ما أنبته الغيث الذي أنزلناه من السماء, فرأى هؤلاء الذين أصابهم الله بذلك الغيث الذي حيـيت به أرضوهم, وأعشبت ونبتت به زروعهم, ما أنبتته أرضوهم بذلك الغيث من الزرع مصفرّا, قد فسد بتلك الريح التـي أرسلناها, فصار من بعد خضرته مصفرا, لظلوا من بعد استبشارهم وفرحتهم به يكفرون بربهم.
الآية : 52 - 53
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَإِنّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَىَ وَلاَ تُسْمِعُ الصّمّ الدّعَآءَ إِذَا وَلّوْاْ مُدْبِرِينَ * وَمَآ أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مّسْلِمُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: فإنّكَ يا مـحمد لا تُسْمِعُ الـمَوْتَـى يقول: لا تـجعل لهم أسماعا يفهمون بها عنك ما تقول لهم, وإنـما هذا مثل معناه: فإنك لا تقدر أن تفهم هؤلاء الـمشركين الذين قد ختـم الله علـى أسماعهم, فسلبهم فهم ما يُتلـى علـيهم من مواعظ تنزيـله, كما لا تقدر أن تفهم الـموتـى الذين قد سلبهم الله أسماعهم, بأن تـجعل لهم أسماعا.
وقوله: وَلا تُسْمِعُ الصّمّ الدّعاءَ يقول: وكما لا تقدر أن تُسمع الصمّ الذين قد سلبوا السمع الدعاء, إذا هم وَلّوا عنك مدبرين, كذلك لا تقدر أن توفق هؤلاء الذين قد سلبهم الله فهمَ آيات كتابه, لسماع ذلك وفهمه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21344ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: فإنّكَ لا تُسْمِعُ الـمَوْتَـى: هذا مَثَل ضربه الله للكافر فكما لا يسمع الـميت الدعاء, كذلك لا يسمع الكافر. وَلا تُسْمِعُ الصّمّ الدّعاءَ إذَا وَلّوْا مُدْبِرِينَ يقول: لو أن أصمّ ولّـى مدبرا ثم ناديته لـم يسمع, كذلك الكافر لا يسمع ولا ينتفع بـما يسمع.
وقوله: وَما أنْتَ بِهادِ العُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ يقول تعالـى ذكره: وما أنت يا مـحمد بـمسدّد من أعماه الله عن الاستقامة, وَمَـحجة الـحقّ, فلـم يوفقه لإصابة الرشد, فصارِفه عن ضلالته التـي هو علـيها, وركوبه الـجائر من الطرق, إلـى سبـيـل الرشاد, يقول: لـيس ذلك بـيدك ولا إلـيك, ولا يقدر علـى ذلك أحد غيري, لأنـي القادر علـى كل شيء. وقـيـل: بهادي العمي عن ضلالتهم, ولـم يقل: من ضلالتهم. لأن معنى الكلام ما وَصَفْت, من أنه: وما أنت بصارفهم عنه, فحمل علـى الـمعنى. ولو قـيـل: من ضلالتهم كان صوابـا. وكان معناه: ما أنت بـمانعهم من ضلالتهم.
وقوله: إنْ تُسْمِعُ إلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بآياتِنا يقول تعالـى ذكره لنبـيه: ما تسمع السماع الذي ينتفع به سامعه فـيعقله, إلاّ من يؤمن بآياتنا, لأن الذي يؤمن بآياتنا إذا سمع كتاب الله تدبّره وفهمه وعقَله, وعمل بـما فـيه, وانتهى إلـى حدود الله, الذي حدّ فـيه, فهو الذي يسمع السماع النافع.
وقوله: فَهُمْ مُسْلِـمُونَ يقول: فهم خاضعون لله بطاعته, متذللون لـمواعظ كتابه.
الآية : 54
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {اللّهُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ثُمّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوّةٍ ثُمّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ }.
يقول تعالـى ذكره لهؤلاء الـمكذّبـين بـالبعث من مشركي قريش, مـحتـجا علـيهم بأنه القادر علـى ذلك وعلـى ما يشاء: اللّهُ الّذِي خَـلَقَكُمْ أيها الناس مِنْ ضَعْفٍ يقول: من نُطْفة وماء مَهِين, فأنشأكم بَشَرا سويّا ثُمّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوّةً يقول: ثم جعل لكم قوّة علـى التصرّف, من بعد خـلقه إياكم من ضعف, ومن بعد ضعفكم, بـالصغر والطفولة ثُمّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ ضَعْفـا وَشَيْبَةً يقول: ثم أحدث لكم الضعف بـالهرم والكبر عما كنتـم علـيه أقوياء فـي شبـابكم وشيبة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21345ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: الّذِي خَـلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي من نطفة ثُمّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوّةً, ثُمّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ ضَعْفـا الهرم وَشَيْبَةً الشّمَط.
وقوله: يَخْـلُقُ ما يَشاءُ يقول تعالـى ذكره: يخـلق ما يشاء من ضعف وقوّة وشبـاب وشيب وَهُوَ العَلِـيـمُ بتدبـير خـلقه القَدِيرُ علـى ما يشاء, لا يـمتنع علـيه شيء أراده, فكما فعل هذه الأشياء, فكذلك يـميت خـلقه ويحيـيهم إذا شاء. يقول: واعلـموا أن الذي فعل هذه الأفعال بقدرته يحيـي الـموتـى إذا شاء.
الآية : 55
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ويوم تـجيء ساعة البعث, فـيبعث الـخـلق من قبورهم, يقسم الـمـجرمون, وهم الذين كانوا يكفرون بـالله فـي الدنـيا, ويكتسبون فـيه الاَثام, وإقسامهم: حلفهم بـالله. ما لَبِثُوا غيرَ ساعَةٍ: يقول: يقسمون بأنهم لـم يـلبثوا فـي قبورهم غير ساعة واحدة. يقول الله جلّ ثناؤه: كذلك فـي الدنـيا كانوا يُؤْفَكُون: يقول: كذبوا فـي قـيـلهم وقَسَمِهِم ما لبثنا غير ساعة, كما كانوا فـي الدنـيا يكذبون ويحلفون علـى الكذب وهم يعلـمون. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21346ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة ويَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الـمُـجْرِمونَ ما لَبِثُوا غيرَ ساعَةٍ كَذلكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ أي يكذبون فـي الدنـيا, وإنـما يعنـي بقوله: يُؤْفَكُونَ عن الصدق, ويَصُدّون عنه إلـى الكذب.
الآية : 56
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللّهِ إِلَىَ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَـَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَـَكِنّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ }.
كان قَتادة يقول: هذا من الـمقدّم الذي معناه التأخير.
21347ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: وَقالَ الّذِينَ أُوتُوا العِلْـمَ والإيـمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُـمْ فِـي كتابِ اللّهِ إلـى يَوْمِ البَعْثِ قال: هذا من مقاديـم الكلام. وتأويـلها: وقال الذين أوتوا الإيـمان والعلـم: لقد لبثتـم فـي كتاب الله.
وذُكر عن ابن جُرَيج أنه كان يقول: معنى ذلك: وقال الذين أوتوا العلـم بكتاب الله, والإيـمان بـالله وكتابه.
وقوله: فِـي كِتابِ اللّهِ يقول: فـيـما كتب الله مـما سبق فـي علـمه أنكم تلبثونه فَهَذَا يَوْمُ البَعْثِ يقول: فهذا يوم يبعث الناس من قبورهم وَلَكِنّكُمْ كُنْتُـمْ لا تَعْلـمَونَ يقول: ولكنكم كنتـم لا تعلـمون فـي الدنـيا أنه يكون, وأنكم مبعوثون من بعد الـموت, فلذلك كنتـم تكذبون.
الآية : 57
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَيَوْمَئِذٍ لاّ ينفَعُ الّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ }. يقول تعالـى ذكره: فـيوم يبعثون من قبورهم لا يَنْفَعُ الّذِينَ ظَلَـمُوا مَعْذِرَتُهُمْ يعنـي الـمكذّبـين بـالبعث فـي الدنـيا معذرتهم, وهو قولهم: ما علـمنا أنه يكون, ولا أنا نُبعث. وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يقول: ولا هؤلاء الظلـمة يُستَرجعون يومئذٍ عما كانوا يكذّبون به فـي الدنـيا.
الآية : 58
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هَـَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لّيَقُولَنّ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ مُبْطِلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولقد مثلنا للناس فـي هذا القرآن من كل مثل احتـجاجا علـيهم, وتنبـيها لهم عن وحدانـية الله. وقوله وَلِئنْ جِئْتَهُمْ بآيَةٍ يقول: ولئن جئت يا مـحمد هؤلاء القوم بآية: يقول: بدلالة علـى صدق ما تقول لَـيَقُولَنّ الّذِينَ كَفَرُوا إنْ أنْتُـمْ إلاّ مُبْطِلُونَ يقول: لـيقولنّ الذين جحدوا رسالتك, وأنكروا نبوّتك: إن أنتـم أيها الـمصدّقون مـحمدا فـيـما أتاكم به إلاّ مبطلون فـيـما تَـجيئوننا به من هذه الأمور.
الآية : 59
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: كذلك يختـم الله علـى قلوب الذين لا يعلـمون حقـيقة ما تأتـيهم به يا مـحمد من عند الله من هذه العِبر والعظات, والاَيات البـيّنات, فلا يفقهون عن الله حُجة, ولا يفهمون عنه ما يتلو علـيهم من آي كتابه, فهم لذلك فـي طغيانهم يتردّدون.
الآية : 60
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَلاَ يَسْتَخِفّنّكَ الّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: فـاصبر يا مـحمد لـما ينالك من أذاهم, وبلغهم رسالة ربك, فإن وعد الله الذي وعدك من النصر علـيهم, والظفر بهم, وتـمكينك وتـمكين أصحابك وتُبّـاعك فـي الأرض حقّ وَلا يسْتَـخِفّنّك الّذِينَ لا يُوقِنُونَ يقول: ولا يستـخفنّ حلـمك ورأيك هؤلاء الـمشركون بـالله الذين لا يوقنون بـالـمعاد ولا يصدّقون بـالبعث بعد الـمـمات, فـيثبطوك عن أمر الله والنفوذ لـما كلّفك من تبلـيغهم رسالته.
21348ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سعيد بن جُبَـير, عن علـيّ بن ربـيعة, أن رجلاً من الـخوارج, قرأ خـلف علـيّ رضي الله عنه: لَئِنْ أشْرَكْتَ لَـيَحْبَطَنّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنّ مِنَ الـخاسِرِينَ فقال علـيّ: فـاصْبِرْ إنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ, وَلا يَسْتَـخِفّنّكَ الّذِينَ لا يُوقِنُونَ.
قال: ثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن عثمان بن أبـي زرعة عن علـيّ بن ربـيعة قال: نادى رجل من الـخوارج علـيا رضي الله عنه, وهو فـي صلاة الفجر, فقال وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَـيْكَ وَإلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أشْرَكْتَ لَـيَحْبَطَنّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنّ مِنَ الـخاسِرِينَ فأجابه علـيّ رضي الله عنه وهو فـي الصلاة: فـاصْبِرْ إنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ, وَلا يَسْتَـخِفّنّكَ الّذِينَ لا يُوقِنُونَ.
21349ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فـاصْبِرْ إنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ, وَلا يَسْتَـخِفّنّكَ الّذِينَ لا يُوقِنُون قال: قال رجل من الـخوارج خـلف علـيّ فـي صلاة الغداة: وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَـيْكَ وَإلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أشركْت لَـيَحْبَطَنّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنّ مِنَ الـخاسِرِينَ فأنصت له علـيّ رضي الله عنه حتـى فهم ما قال, فأجابه وهو فـي الصلاة: فـاصْبِرْ إنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ, وَلا يَسْتَـخِفّنّكَ الّذِينَ لا يُوقِنُونَ.
آخر تفسير سورة الروم

نهاية تفسير الإمام الطبري لسورة الروم