سورة السجدة| للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 416 من المصحف
الآية: 12 {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون}
قوله تعالى: "ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم" ابتداء وخبر. قال الزجاج: والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة لأمته. والمعنى: ولو ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب. ومذهب أبي العباس غير هذا، وأن يكون المعنى: يا محمد، قل للمجرم ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم لندمت على ما كان منك. "ناكسوا رؤوسهم" أي من الندم والخزي والحزن والذل والغم. "عند ربهم" أي عند محاسبة ربهم وجزاء أعمالهم. "ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون" "ربنا" أي يقولون ربنا. "أبصرنا" أي أبصرنا ما كنا نكذب. "وسمعنا" ما كنا ننكر. وقيل: "أبصرنا" صدق وعيدك. "وسمعنا" تصديق رسلك. أبصروا حين لا ينفعهم البصر، وسمعوا حين لا ينفعهم السمع. "فأرجعنا" أي إلى الدنيا. "نعمل صالحا إنا موقنون" أي مصدقون بالبعث؛ قاله النقاش. وقيل: مصدقون بالذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أنه حق؛ قاله يحيى بن سلام. قال سفيان الثوري: فأكذبهم الله تعالى: فقال: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون". وقيل: معنى "إنا موقنون" أي قد زالت عنا الشكوك الآن؛ وكانوا يسمعون ويبصرون في الدنيا، ولكن لم يكونوا يتدبرون، وكانوا كمن لا يبصر ولا يسمع، فلما تنبهوا في الآخرة صاروا حينئذ كأنهم سمعوا وأبصروا. وقيل: أي ربنا لك الحجة، فقد أبصرنا رسلك وعجائب خلقك في الدنيا، وسمعنا كلامهم فلا حجة لنا. فهذا اعتراف منهم، ثم طلبوا أن يردوا إلى الدنيا ليؤمنوا.
الآية: 13 {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}
قال محمد بن كعب القرظي: لما قالوا: "ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون" رّد عليهم بقوله: "ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها" يقول: لو شئت لهديت الناس جميعا فلم يختلف منهم أحد "ولكن حق القول مني" الآية؛ ذكره ابن المبارك في (رقائقه) في حديث طويل. وقد ذكرناه في (التذكرة). النحاس: "ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها" في معناه قولان: أحدهما: أنه في الدنيا. والآخر: أن سياق الكلام يدل على أنه في الآخرة؛ أي لو شئنا لرددناهم إلى الدنيا والمحنة كما سألوا "ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" أي حق القول مني لأعّذبن من عصاني بنار جهنم. وعلم الله تبارك وتعالى أنه لو ردهم لعادوا؛ كما قال تعالى: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه" [الأنعام: 28].
وهذه الهداية معناها خلق المعرفة في القلب. وتأويل المعتزلة: ولو شئنا لأكرهناهم على الهداية بإظهار الآيات الهائلة، لكن لا يحسن منه فعله؛ لأنه ينقض الغرض المجرى بالتكليف إليه وهو الثواب الذي لا يستحق إلا بما يفعله المكلف باختياره. وقالت الإمامية في تأويلها: إنه يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ولم يعاقب أحدا، لكن حق القول منه أنه يملأ جهنم، فلا يجب على الله تعالى عندنا هداية الكل إليها؛ قالوا: بل الواجب هداية المعصومين، فأما من له ذنب فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله. وفي جواز ذلك منع؛ لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان. وقد تكلم العلماء عليهم في هذين التأويلين بما فيه كفاية في أصول الدين. وأقرب ما لهم في الجواب أن يقال: فقد بطل عندنا وعندكم أن يهديهم الله سبحانه على طريق الإلجاء والإجبار والإكراه، فصار يؤدي ذلك إلى مذهب الجبرية، وهو مذهب رذل عندنا وعندكم، فلم يبق إلا أن المهتدين من المؤمنين إنما هداهم الله تعالى إلى الإيمان والطاعة على طريق الاختيار حتى يصح التكليف فمن شاء آمن وأطاع اختيارا لا جبرا؛ قال الله تعالى: "لمن شاء منكم أن يستقيم" [التكوير: 28]، وقال: "فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا". ثم عقب هاتين الآيتين بقوله تعالى: "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله" [التكوير: 29]. فوقع إيمان المؤمنين بمشيئتهم، ونفي أن يشاؤوا إلا أن يشاء الله؛ ولهذا فّرطت المجبرة لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معذوق بمشيئة الله تعالى، فقالوا: الخلق مجبورون في طاعتهم كلها، التفاتا إلى قوله: "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله" [التكوير: 29]. وفرطت القدرية لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معذوق بمشيئة العباد، فقالوا: الخلق خالقون لأفعالهم، التفاتا منهم إلى قوله تعالى: "لمن شاء منكم أن يستقيم" [التكوير: 28]. ومذهبنا هو الاقتصاد في الاعتقاد؛ وهو مذهب بين مذهبي المجبرة والقدرية؛ وخبر الأمور أوساطها. وذلك أن أهل الحق قالوا: نحن نفرق بين ما اضطررنا إليه وبين ما اخترناه، وهو أنا ندرك تفرقة بين حركة الارتعاش الواقعة في يد الإنسان بغير محاولته وإرادته ولا مقرونة بقدرته، وبين حركة الاختيار إذا حّرك يده حركة مماثلة لحركة الارتعاش؛ ومن لا يفرق بين الحركتين: حركة الارتعاش وحركة الاختيار، وهما موجودتان في ذاته ومحسوستان في يده بمشاهدته وإدراك حاسته - فهو معتوه في عقله ومختل في حسه، وخارج من حزب العقلاء. وهذا هو الحق المبين، وهو طريق بين طريقي الإفراط والتفريط. و:
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وبهذا الاعتبار اختار أهل النظر من العلماء أن سموا هذه المنزلة بين المنزلتين كسبا، وأخذوا هذه التسمية من كتاب الله العزيز، وهو قوله سبحانه: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" [البقرة: 286].
الآية: 14 {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون}
قوله تعالى: "فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا" فيه قولان: أحدهما: أنه من النسيان الذي لا ذكر معه؛ أي لم يعملوا لهذا اليوم فكانوا بمنزلة الناسين. والآخر: أن "نسيتم" بما تركتم، وكذا "إنا نسيناكم". واحتج محمد بن يزيد بقوله تعالى: "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي" [طه:115] قال: والدليل على أنه بمعنى ترك أن الله عز وجل أخبر عن إبليس أنه قال: "ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين" [الأعراف: 20] فلو كان آدم ناسيا لكان قد ذكره. وأنشد:
كأنه خارجا من جنب صفحته سفود شرب نسوه عند مفتأد
أي تركوه. ولو كان من النسيان لكان قد عملوا به مرة. قال الضحاك: "نسيتم" أي تركتم أمري. يحيى بن سلام: أي تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم. "نسيناكم" تركناكم من الخير؛ قاله السدي. مجاهد: تركناكم في العذاب. وفي استئناف قوله: "إنا نسيناكم" وبناء الفعل على "إن" واسمها تشديد في الانتقام منهم. والمعنى: فذوقوا هذا؛ أي ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغّم بسبب نسيان الله. أو ذوقوا العذاب المخلد، وهو الدائم الذي لا انقطاع له في جهنم. "بما كنتم تعملون" يعني في الدنيا من المعاصي. وقد يعّبر بالذوق عما يطرأ على النفس وإن لم يكن مطعوما، لإحساسها به كإحساسها بذوق المطعوم. قال عمر بن أبي ربيعة:
فذق هجرها إن كنت تزعم أنها فساد ألا يا ربما كذب الزعم
الجوهري: وذقت ما عند فلان؛ أي خبرته. وذقت القوس إذا جذبت وترها لتنظر ما شّدتها. وأذاقه الله وبال أمره. قال طفيل:
فذوقوا كما ذقنا غداة محجر من الغيظ في أكبادنا والتحوب
وتذوقته أي ذقته شيئا بعد شيء. وأمر مستذاق أي مجّرب معلوم. قال الشاعر:
وعهد الغانيات كعهد قين ونت عنه الجعائل مستذاق
والذواق: الملول.
الآية: 15 {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون}
هذه تسلية للنبّي صلى الله عليه وسلم؛ أي أنهم لإلفهم الكفر لا يؤمنون بك؛ إنما يؤمن بك وبالقرآن المتدبرون له والمتعظون به، وهم الذين إذا قرئ عليهم القرآن "خروا سجدا" قال ابن عباس: ركعا. قال المهدوي: وهذا على مذهب من يرى الركوع عند قراءة السجدة؛ واستدل بقوله تبارك وتعالى: "وخر راكعا وأناب" [ص: 24]. وقيل: المراد به السجود، وعليه أكثر العلماء؛ أي خروا سجدا لله تعالى على وجوههم تعظيما لآياته وخوفا من سطوته وعذابه. "وسبحوا بحمد ربهم" أي خلطوا التسبيح بالحمد؛ أي نزهوه وحمدوه؛ فقالوا في سجودهم: سبحان الله وبحمده، سبحان ربي الأعلى وبحمده؛ أي تنزيها لله تعالى عن قول المشركين. وقال سفيان: "وسبحوا بحمد ربهم" أي صلوا حمدا لربهم. "وهم لا يستكبرون" عن عبادته؛ قاله يحيى بن سلام. النقاش: "لا يستكبرون" كما استكبر أهل مكة عن السجود.
الآية: 16 {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون}
قوله تعالى: "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" أي ترتفع وتنبو عن مواضع الاضطجاع. وهو في موضع نصب على الحال؛ أي متجافية جنوبهم. والمضاجع جمع مضجع؛ وهي مواضع النوم. ويحتمل عن وقت الاضطجاع، ولكنه مجاز، والحقيقة أولى. ومنه قول عبدالله بن رواحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الصبح ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
قال الزجاج والرمانّي: التجافي التنحي إلى جهة فوق. وكذلك هو في الصفح عن المخطئ في سب ونحوه. والجنوب جمع جنب. وفيما تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجله قولان: أحدهما: لذكر الله تعالى، إما في صلاة وإما في غير صلاة؛ قاله ابن عباس والضحاك. الثاني: للصلاة. وفي الصلاة التي تتجافى جنوبهم لأجلها أربعة أقوال: أحدها: التنفل بالليل؛ قاله الجمهور من المفسرين وعليه أكثر الناس، وهو الذي فيه المدح، وهو قول مجاهد والأوزاعّي ومالك بن أنس والحسن بن أبي الحسن وأبي العالية وغيرهم. ويدل عليه قوله تعالى: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" [السجدة: 17] لأنهم جوزوا على ما أخفوا بما خفي. والله أعلم. وسيأتي بيانه.
وفي قيام الليل أحاديث كثيرة؛ منها حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل - قال ثم تلا - "تتجافى جنوبهم عن المضاجع - حتى بلغ - يعملون") أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده والقاضي إسماعيل بن إسحاق وأبو عيسى الترمذي، وقال فيه: حديث حسن صحيح. الثاني: صلاة العشاء التي يقال لها العتمة؛ قال الحسن وعطاء. وفي الترمذي عن أنس بن مالك أن هذه الآية "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة قال: هذا حديث حسن غريب. الثالث: التنفل ما بين المغرب والعشاء؛ قاله قتادة وعكرمة. وروى أبو داود عن أنس بن مالك أن هذه الآية "تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون" قال: كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء. الرابع: قال الضحاك: تجافي الجنب هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة. وقاله أبو الدرداء وعبادة.
قلت: وهذا قول حسن، وهو يجمع الأقوال بالمعنى. وذلك أن منتظر العشاء إلى أن يصليها في صلاة وذكر لله جل وعز؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الرجل في صلاة ما انتظر الصلاة). وقال أنس: المراد بالآية انتظار صلاة العشاء الآخرة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخرها إلى نحو ثلث الليل. قال ابن عطية: وكانت الجاهلية ينامون من أول الغروب ومن أي وقت شاء الإنسان، فجاء انتظار وقت العشاء غريبا شاقا. ومصلي الصبح في جماعة لا سيما في أول الوقت؛ كما كان عليه السلام يصليها. والعادة أن من حافظ على هذه الصلاة في أول الوقت يقوم سحرا يتوضأ ويصلي ويذكر الله عز وجل إلى أن يطلع الفجر؛ فقد حصل التجافي أول الليل وآخره. يزيد هذا ما رواه مسلم من حديث عثمان بن عفان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله) ولفظ الترمذي وأبي داود في هذا الحديث: (من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة). وقد مضى في سورة "النور" عن كعب فيمن صلى بعد العشاء الآخرة أربع ركعات كن له بمنزلة ليلة القدر.
وجاءت آثار حسان في فضل الصلاة بين المغرب والعشاء وقيام الليل. ذكر ابن المبارك قال: أخبرنا يحيى بن أيوب قال حدثني محمد بن الحجاج أو ابن أبي الحجاج أنه سمع عبدالكريم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ركع عشر ركعات بين المغرب والعشاء بني له قصر في الجنة) فقال له عمر بن الخطاب: إذا تكثر قصورنا وبيوتنا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر وأفضل - أو قال - أطيب). وعن عبدالله بن عمرو بن العاصي قال: صلاة الأّوابين الخلوة التي بين المغرب والعشاء حتى تثوب الناس إلى الصلاة. وكان عبدالله بن مسعود يصلي في تلك الساعة ويقول: صلاة الغفلة بين المغرب والعشاء؛ ذكره ابن المبارك. ورواه الثعلبي مرفوعا عن ابن عمر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جفت جنباه عن المضاجع ما بين المغرب والعشاء بني له قصران في الجنة مسيرة عام، وفيهما من الشجر ما لو نزلها أهل المشرق والمغرب لأوسعتهم فاكهة). وهي صلاة الأّوابين وغفلة الغافلين. وأن من الدعاء المستجاب الذي لا يرّد الدعاء بين المغرب والعشاء.
فصل في فضل التجافي - ذكر ابن المبارك عن ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم؛ ليقم الحامدون لله على كل حال، فيقومون فيسّرحون إلى الجنة. ثم ينادي ثانية: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم؛ ليقم الذين كانت جنوبهم تتجافى عن المضاجع "يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون". قال: فيقومون فيسرحون إلى الجنة. قال: ثم ينادي ثالثة: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم؛ ليقم الذين كانوا "لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار" [النور: 37]، فيقومون فيسرحون إلى الجنة. ذكره الثعلبّي مرفوعا عن أسماء بنت يزيد قال النبّي صلى الله عليه وسلم: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت تسمعه الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم، ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل، ثم ينادي الثانية ستعلمون اليوم من أولى بالكرم ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون، ثم ينادي الثالثة ستعلمون اليوم من أولى بالكرم ليقم الحامدون لله على كل حال في السّراء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون جميعا إلى الجنة، ثم يحاسب سائر الناس). وذكر ابن المبارك قال أخبرنا معمر عن رجل عن أبي العلاء بن الشخير عن أبي ذّر قال: ثلاثة يضحك الله إليهم ويستبشر الله بهم: رجل قام من الليل وترك فراشه ودفئه، ثم توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام إلى الصلاة؛ فيقول الله لملائكته: (ما حمل عبدي على ما صنع) فيقولون: ربنا أنت أعلم به منا؛ فيقول: (أنا أعلم به ولكن أخبروني) فيقولون: رجيته شيئا فرجاه وخوفته فحافه. فيقول: (أشهدكم أني قد أمنته مما خاف وأوجبت له ما رجاه) قال: ورجل كان في سرية فلقي العدو فانهزم أصحابه وثبت هو حتى يقتل أو يفتح الله عليهم؛ فيقول الله لملائكته مثل هذه القصة. ورجل سرى في ليلة حتى إذا كان في آخر الليل نزل هو وأصحابه، فنام أصحابه وقام هو يصلي؛ فيقول الله لملائكته...) وذكر القصة.
قوله تعالى: "يدعون ربهم" في موضع نصب على الحال؛ أي داعين. ويحتمل أن تكون صفة مستأنفة؛ أي تتجافى جنوبهم وهم أيضا في كل حال يدعون ربهم ليلهم ونهارهم. و"خوفا" مفعول من أجله. ويجوز أن يكون مصدرا. "وطمعا" مثله؛ أي خوفا من العذاب وطمعا في الثواب. "ومما رزقناهم ينفقون" تكون "ما" بمعنى الذي وتكون مصدرا، وفي كلا الوجهين يجب أن تكون منفصلة من "من" و"ينفقون" قيل: معناه الزكاة المفروضة. وقيل: النوافل؛ وهذا القول أمدح.
الآية: 17 {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}
قرأ حمزة: "ما أخفيْ لهم" بإسكان الياء. وفتحها الباقون. وفي قراءة عبدالله "ما نخفي" بالنون مضمومة. وروى المفضل عن الأعمش "ما يُخفى لهم" بالياء المضمومة وفتح الفاء. وقرأ ابن مسعود وأبو هريرة: "من قرَّات أعين". فمن أسكن الياء من قوله: "ما أخفي فهو مستقبل وألفه ألف المتكلم. و"ما" في موضع نصب بـ "أخفي" وهي استفهام، والجملة في موضع نصب لوقوعها موقع المفعولين، والضمير العائد على "ما" محذوف. ومن فتح الياء فهو فعل ماض مبني للمفعول. و"ما" في موضع رفع بالابتداء، والخبر "أخفي" وما بعده، والضمير في "أخفي" عائد على "ما". قال الزجاج: ويقرأ "ما أخفى لهم" بمعنى ما أخفى الله لهم؛ وهي قراءة محمد بن كعب، و"ما" في موضع نصب. المهدوّي: ومن قرأ: "قرات أعين" فهو جمع قرة، وحسن الجمع فيه لإضافته إلى جمع، والإفراد لأنه مصدر، وهو اسم للجنس. وقال أبو بكر الأنبارّي: وهذا غير مخالف للمصحف؛ لأن تاء "قرة" تكتب تاء لغة من يجري الوصل على الوقف؛ كما كتبوا (رحمت الله) بالتاء. ولا يستنكر سقوط الألف من "قرات" في الخط وهو موجود في اللفظ؛ كما لم يستنكر سقوط الألف من السموات وهي ثابتة في اللسان والنطق. والمعنى المراد: أنه أخبر تعالى بما لهم من النعيم الذي لم تعلمه نفس ولا بشر ولا ملك. وفي معنى هذه الآية: قال النبّي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل أعدت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر - ثم قرأ هذه الآية - "تتجافى جنوبهم عن المضاجع - إلى قوله - بما كانوا يعملون") خرجه الصحيح من حديث سهل بن سعد الساعدي. وقال ابن مسعود: في التوراة مكتوب: على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال ابن عباس: الأمر في هذا أجل وأعظم من أن يعرف تفسيره.
قلت: وهذه الكرامة إنما هي لأعلى أهل الجنة منزلا؛ كما جاء مبينا في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سأل موسى عليه السلام ربه فقال يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة قال هو رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له ادخل الجنة فيقول أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا فيقول رضيت رب فيقول لك ذلك ومثله ومثله معه ومثله ومثله ومثله ومثله فقال في الخامسة رضيت رب فيقال هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول رضيت رب قال رب فأعلاهم منزلة قال أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر - قال - ومصداقه من كتاب الله قوله تعالى: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون". وقد روي عن المغيرة موقوفا قوله. وخرج مسلم أيضا عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعكم عليه - ثم قرأ - "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين". وقال ابن سيرين: المراد به النظر إلى الله تعالى. وقال الحسن: أخفى القوم أعمالا فأخفى الله تعالى لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
الآية: 18 {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون}
قوله تعالى: "أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا" أي ليس المؤمن كالفاسق؛ فلهذا آتينا هؤلاء المؤمنين الثواب العظيم. قال ابن عباس وعطاء بن يسار: نزلت الآية في علّي ابن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط؛ وذلك أنهما تلاحيا فقال له الوليد: أنا أبسط منك لسانا وأحد سنانا وأرد للكتيبة - وروي وأملأ في الكتيبة - جسدا. فقال له علّي: اسكت! فإنك فاسق؛ فنزلت الآية. وذكر الزجاج والنحاس أنها نزلت في علّي وعقبة بن أبي مُعيط. قال ابن عطية: وعلى هذا يلزم أن تكون الآية مكية؛ لأن عقبة لم يكن بالمدينة، وإنما قتل في طريق مكة منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر. ويعترض القول الآخر بإطلاق اسم الفسق على الوليد. وذلك يحتمل أن يكون في صدر إسلام الوليد لشيء كان في نفسه، أو لما روي من نقله عن بني المصطلق ما لم يكن، حتى نزلت فيه: "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" [الحجرات: 6] على ما يأتي في الحجرات بيانه. ويحتمل أن تطلق الشريعة ذلك عليه؛ لأنه كان على طرف مما يبغي. وهو الذي شرب الخمر في زمن عثمان رضي الله عنه، وصلى الصبح بالناس ثم التفت وقال: أتريدون أن أزيدكم، ونحو هذا مما يطول ذكره.
لما قسم الله تعالى المؤمنين والفاسقين الذين فسقهم بالكفر - لأن التكذيب في آخر الآية يقتضي ذلك - اقتضى ذلك نفي المساواة بين المؤمن والكافر؛ ولهذا منع القصاص بينهما؛ إذ من شرط وجوب القصاص المساواة بين القاتل والمقتول. وبذلك احتج علماؤنا على أبي حنيفة في قتله المسلم بالذمّي. وقال: أراد نفي المساواة ها هنا في الآخرة في الثواب وفي الدنيا في العدالة. ونحن حملناه على عمومه، وهو أصح، إذ لا دليل يخصه؛ قاله ابن العربي.
قوله تعالى: "لا يستوون" قال الزجاج وغيره: "من" يصلح للواحد والجمع. النحاس: لفظ "من" يؤدي عن الجماعة؛ فلهذا قال: "لا يستوون"؛ هذا قول كثير من النحويين. وقال بعضهم: "لا يستوون" الاثنين؛ لأن الاثنين جمع؛ لأنه واحد جمع مع آخر. وقاله الزجاج أيضا. والحديث يدل على هذا القول؛ لأنه عن ابن عباس وغيره قال: نزلت "أفمن كان مؤمنا" في علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، "كمن كان فاسقا" في الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وقال الشاعر:
أليس الموت بينهما سواء إذا ماتوا وصاروا في القبور
الآية: 19 - 20 {أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون، وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون}
قوله تعالى: "أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى" أخبر عن مقر الفريقين غدا؛ فللمؤمنين جنات المأوى، أي يأوون إلى الجنات؛ فأضاف الجنات إلى المأوى لأن ذلك الموضع يتضمن جنات. "نزلا" أي ضيافة. والنزل: ما يهيأ للنازل والضيف. وقد مضى في آخر "آل عمران" وهو نصب على الحال من الجنات؛ أي لهم الجنات معّدة، ويجوز أن يكون مفعولا له."وأما الذين فسقوا" أي خرجوا عن الإيمان إلى الكفر "فمأواهم النار" أي مقامهم فيها. "كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها" أي إذا دفعهم لهب النار إلى أعلاها ردوا إلى موضعهم فيها، لأنهم يطمعون في الخروج منها. وقد مضى هذا في "الحج". "وقيل لهم" أي يقول لهم خزنة جهنم. أو يقول الله لهم: "ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون" والذوق يستعمل محسوسا ومعنى. وقد مضى في هذه السورة بيانه.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 416
416- تفسير الصفحة رقم416 من المصحفالآية: 12 {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون}
قوله تعالى: "ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم" ابتداء وخبر. قال الزجاج: والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة لأمته. والمعنى: ولو ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب. ومذهب أبي العباس غير هذا، وأن يكون المعنى: يا محمد، قل للمجرم ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم لندمت على ما كان منك. "ناكسوا رؤوسهم" أي من الندم والخزي والحزن والذل والغم. "عند ربهم" أي عند محاسبة ربهم وجزاء أعمالهم. "ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون" "ربنا" أي يقولون ربنا. "أبصرنا" أي أبصرنا ما كنا نكذب. "وسمعنا" ما كنا ننكر. وقيل: "أبصرنا" صدق وعيدك. "وسمعنا" تصديق رسلك. أبصروا حين لا ينفعهم البصر، وسمعوا حين لا ينفعهم السمع. "فأرجعنا" أي إلى الدنيا. "نعمل صالحا إنا موقنون" أي مصدقون بالبعث؛ قاله النقاش. وقيل: مصدقون بالذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أنه حق؛ قاله يحيى بن سلام. قال سفيان الثوري: فأكذبهم الله تعالى: فقال: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون". وقيل: معنى "إنا موقنون" أي قد زالت عنا الشكوك الآن؛ وكانوا يسمعون ويبصرون في الدنيا، ولكن لم يكونوا يتدبرون، وكانوا كمن لا يبصر ولا يسمع، فلما تنبهوا في الآخرة صاروا حينئذ كأنهم سمعوا وأبصروا. وقيل: أي ربنا لك الحجة، فقد أبصرنا رسلك وعجائب خلقك في الدنيا، وسمعنا كلامهم فلا حجة لنا. فهذا اعتراف منهم، ثم طلبوا أن يردوا إلى الدنيا ليؤمنوا.
الآية: 13 {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}
قال محمد بن كعب القرظي: لما قالوا: "ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون" رّد عليهم بقوله: "ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها" يقول: لو شئت لهديت الناس جميعا فلم يختلف منهم أحد "ولكن حق القول مني" الآية؛ ذكره ابن المبارك في (رقائقه) في حديث طويل. وقد ذكرناه في (التذكرة). النحاس: "ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها" في معناه قولان: أحدهما: أنه في الدنيا. والآخر: أن سياق الكلام يدل على أنه في الآخرة؛ أي لو شئنا لرددناهم إلى الدنيا والمحنة كما سألوا "ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" أي حق القول مني لأعّذبن من عصاني بنار جهنم. وعلم الله تبارك وتعالى أنه لو ردهم لعادوا؛ كما قال تعالى: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه" [الأنعام: 28].
وهذه الهداية معناها خلق المعرفة في القلب. وتأويل المعتزلة: ولو شئنا لأكرهناهم على الهداية بإظهار الآيات الهائلة، لكن لا يحسن منه فعله؛ لأنه ينقض الغرض المجرى بالتكليف إليه وهو الثواب الذي لا يستحق إلا بما يفعله المكلف باختياره. وقالت الإمامية في تأويلها: إنه يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ولم يعاقب أحدا، لكن حق القول منه أنه يملأ جهنم، فلا يجب على الله تعالى عندنا هداية الكل إليها؛ قالوا: بل الواجب هداية المعصومين، فأما من له ذنب فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله. وفي جواز ذلك منع؛ لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان. وقد تكلم العلماء عليهم في هذين التأويلين بما فيه كفاية في أصول الدين. وأقرب ما لهم في الجواب أن يقال: فقد بطل عندنا وعندكم أن يهديهم الله سبحانه على طريق الإلجاء والإجبار والإكراه، فصار يؤدي ذلك إلى مذهب الجبرية، وهو مذهب رذل عندنا وعندكم، فلم يبق إلا أن المهتدين من المؤمنين إنما هداهم الله تعالى إلى الإيمان والطاعة على طريق الاختيار حتى يصح التكليف فمن شاء آمن وأطاع اختيارا لا جبرا؛ قال الله تعالى: "لمن شاء منكم أن يستقيم" [التكوير: 28]، وقال: "فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا". ثم عقب هاتين الآيتين بقوله تعالى: "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله" [التكوير: 29]. فوقع إيمان المؤمنين بمشيئتهم، ونفي أن يشاؤوا إلا أن يشاء الله؛ ولهذا فّرطت المجبرة لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معذوق بمشيئة الله تعالى، فقالوا: الخلق مجبورون في طاعتهم كلها، التفاتا إلى قوله: "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله" [التكوير: 29]. وفرطت القدرية لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معذوق بمشيئة العباد، فقالوا: الخلق خالقون لأفعالهم، التفاتا منهم إلى قوله تعالى: "لمن شاء منكم أن يستقيم" [التكوير: 28]. ومذهبنا هو الاقتصاد في الاعتقاد؛ وهو مذهب بين مذهبي المجبرة والقدرية؛ وخبر الأمور أوساطها. وذلك أن أهل الحق قالوا: نحن نفرق بين ما اضطررنا إليه وبين ما اخترناه، وهو أنا ندرك تفرقة بين حركة الارتعاش الواقعة في يد الإنسان بغير محاولته وإرادته ولا مقرونة بقدرته، وبين حركة الاختيار إذا حّرك يده حركة مماثلة لحركة الارتعاش؛ ومن لا يفرق بين الحركتين: حركة الارتعاش وحركة الاختيار، وهما موجودتان في ذاته ومحسوستان في يده بمشاهدته وإدراك حاسته - فهو معتوه في عقله ومختل في حسه، وخارج من حزب العقلاء. وهذا هو الحق المبين، وهو طريق بين طريقي الإفراط والتفريط. و:
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وبهذا الاعتبار اختار أهل النظر من العلماء أن سموا هذه المنزلة بين المنزلتين كسبا، وأخذوا هذه التسمية من كتاب الله العزيز، وهو قوله سبحانه: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" [البقرة: 286].
الآية: 14 {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون}
قوله تعالى: "فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا" فيه قولان: أحدهما: أنه من النسيان الذي لا ذكر معه؛ أي لم يعملوا لهذا اليوم فكانوا بمنزلة الناسين. والآخر: أن "نسيتم" بما تركتم، وكذا "إنا نسيناكم". واحتج محمد بن يزيد بقوله تعالى: "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي" [طه:115] قال: والدليل على أنه بمعنى ترك أن الله عز وجل أخبر عن إبليس أنه قال: "ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين" [الأعراف: 20] فلو كان آدم ناسيا لكان قد ذكره. وأنشد:
كأنه خارجا من جنب صفحته سفود شرب نسوه عند مفتأد
أي تركوه. ولو كان من النسيان لكان قد عملوا به مرة. قال الضحاك: "نسيتم" أي تركتم أمري. يحيى بن سلام: أي تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم. "نسيناكم" تركناكم من الخير؛ قاله السدي. مجاهد: تركناكم في العذاب. وفي استئناف قوله: "إنا نسيناكم" وبناء الفعل على "إن" واسمها تشديد في الانتقام منهم. والمعنى: فذوقوا هذا؛ أي ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغّم بسبب نسيان الله. أو ذوقوا العذاب المخلد، وهو الدائم الذي لا انقطاع له في جهنم. "بما كنتم تعملون" يعني في الدنيا من المعاصي. وقد يعّبر بالذوق عما يطرأ على النفس وإن لم يكن مطعوما، لإحساسها به كإحساسها بذوق المطعوم. قال عمر بن أبي ربيعة:
فذق هجرها إن كنت تزعم أنها فساد ألا يا ربما كذب الزعم
الجوهري: وذقت ما عند فلان؛ أي خبرته. وذقت القوس إذا جذبت وترها لتنظر ما شّدتها. وأذاقه الله وبال أمره. قال طفيل:
فذوقوا كما ذقنا غداة محجر من الغيظ في أكبادنا والتحوب
وتذوقته أي ذقته شيئا بعد شيء. وأمر مستذاق أي مجّرب معلوم. قال الشاعر:
وعهد الغانيات كعهد قين ونت عنه الجعائل مستذاق
والذواق: الملول.
الآية: 15 {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون}
هذه تسلية للنبّي صلى الله عليه وسلم؛ أي أنهم لإلفهم الكفر لا يؤمنون بك؛ إنما يؤمن بك وبالقرآن المتدبرون له والمتعظون به، وهم الذين إذا قرئ عليهم القرآن "خروا سجدا" قال ابن عباس: ركعا. قال المهدوي: وهذا على مذهب من يرى الركوع عند قراءة السجدة؛ واستدل بقوله تبارك وتعالى: "وخر راكعا وأناب" [ص: 24]. وقيل: المراد به السجود، وعليه أكثر العلماء؛ أي خروا سجدا لله تعالى على وجوههم تعظيما لآياته وخوفا من سطوته وعذابه. "وسبحوا بحمد ربهم" أي خلطوا التسبيح بالحمد؛ أي نزهوه وحمدوه؛ فقالوا في سجودهم: سبحان الله وبحمده، سبحان ربي الأعلى وبحمده؛ أي تنزيها لله تعالى عن قول المشركين. وقال سفيان: "وسبحوا بحمد ربهم" أي صلوا حمدا لربهم. "وهم لا يستكبرون" عن عبادته؛ قاله يحيى بن سلام. النقاش: "لا يستكبرون" كما استكبر أهل مكة عن السجود.
الآية: 16 {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون}
قوله تعالى: "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" أي ترتفع وتنبو عن مواضع الاضطجاع. وهو في موضع نصب على الحال؛ أي متجافية جنوبهم. والمضاجع جمع مضجع؛ وهي مواضع النوم. ويحتمل عن وقت الاضطجاع، ولكنه مجاز، والحقيقة أولى. ومنه قول عبدالله بن رواحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الصبح ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
قال الزجاج والرمانّي: التجافي التنحي إلى جهة فوق. وكذلك هو في الصفح عن المخطئ في سب ونحوه. والجنوب جمع جنب. وفيما تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجله قولان: أحدهما: لذكر الله تعالى، إما في صلاة وإما في غير صلاة؛ قاله ابن عباس والضحاك. الثاني: للصلاة. وفي الصلاة التي تتجافى جنوبهم لأجلها أربعة أقوال: أحدها: التنفل بالليل؛ قاله الجمهور من المفسرين وعليه أكثر الناس، وهو الذي فيه المدح، وهو قول مجاهد والأوزاعّي ومالك بن أنس والحسن بن أبي الحسن وأبي العالية وغيرهم. ويدل عليه قوله تعالى: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" [السجدة: 17] لأنهم جوزوا على ما أخفوا بما خفي. والله أعلم. وسيأتي بيانه.
وفي قيام الليل أحاديث كثيرة؛ منها حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل - قال ثم تلا - "تتجافى جنوبهم عن المضاجع - حتى بلغ - يعملون") أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده والقاضي إسماعيل بن إسحاق وأبو عيسى الترمذي، وقال فيه: حديث حسن صحيح. الثاني: صلاة العشاء التي يقال لها العتمة؛ قال الحسن وعطاء. وفي الترمذي عن أنس بن مالك أن هذه الآية "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة قال: هذا حديث حسن غريب. الثالث: التنفل ما بين المغرب والعشاء؛ قاله قتادة وعكرمة. وروى أبو داود عن أنس بن مالك أن هذه الآية "تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون" قال: كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء. الرابع: قال الضحاك: تجافي الجنب هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة. وقاله أبو الدرداء وعبادة.
قلت: وهذا قول حسن، وهو يجمع الأقوال بالمعنى. وذلك أن منتظر العشاء إلى أن يصليها في صلاة وذكر لله جل وعز؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الرجل في صلاة ما انتظر الصلاة). وقال أنس: المراد بالآية انتظار صلاة العشاء الآخرة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخرها إلى نحو ثلث الليل. قال ابن عطية: وكانت الجاهلية ينامون من أول الغروب ومن أي وقت شاء الإنسان، فجاء انتظار وقت العشاء غريبا شاقا. ومصلي الصبح في جماعة لا سيما في أول الوقت؛ كما كان عليه السلام يصليها. والعادة أن من حافظ على هذه الصلاة في أول الوقت يقوم سحرا يتوضأ ويصلي ويذكر الله عز وجل إلى أن يطلع الفجر؛ فقد حصل التجافي أول الليل وآخره. يزيد هذا ما رواه مسلم من حديث عثمان بن عفان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله) ولفظ الترمذي وأبي داود في هذا الحديث: (من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة). وقد مضى في سورة "النور" عن كعب فيمن صلى بعد العشاء الآخرة أربع ركعات كن له بمنزلة ليلة القدر.
وجاءت آثار حسان في فضل الصلاة بين المغرب والعشاء وقيام الليل. ذكر ابن المبارك قال: أخبرنا يحيى بن أيوب قال حدثني محمد بن الحجاج أو ابن أبي الحجاج أنه سمع عبدالكريم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ركع عشر ركعات بين المغرب والعشاء بني له قصر في الجنة) فقال له عمر بن الخطاب: إذا تكثر قصورنا وبيوتنا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر وأفضل - أو قال - أطيب). وعن عبدالله بن عمرو بن العاصي قال: صلاة الأّوابين الخلوة التي بين المغرب والعشاء حتى تثوب الناس إلى الصلاة. وكان عبدالله بن مسعود يصلي في تلك الساعة ويقول: صلاة الغفلة بين المغرب والعشاء؛ ذكره ابن المبارك. ورواه الثعلبي مرفوعا عن ابن عمر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جفت جنباه عن المضاجع ما بين المغرب والعشاء بني له قصران في الجنة مسيرة عام، وفيهما من الشجر ما لو نزلها أهل المشرق والمغرب لأوسعتهم فاكهة). وهي صلاة الأّوابين وغفلة الغافلين. وأن من الدعاء المستجاب الذي لا يرّد الدعاء بين المغرب والعشاء.
فصل في فضل التجافي - ذكر ابن المبارك عن ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم؛ ليقم الحامدون لله على كل حال، فيقومون فيسّرحون إلى الجنة. ثم ينادي ثانية: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم؛ ليقم الذين كانت جنوبهم تتجافى عن المضاجع "يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون". قال: فيقومون فيسرحون إلى الجنة. قال: ثم ينادي ثالثة: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم؛ ليقم الذين كانوا "لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار" [النور: 37]، فيقومون فيسرحون إلى الجنة. ذكره الثعلبّي مرفوعا عن أسماء بنت يزيد قال النبّي صلى الله عليه وسلم: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت تسمعه الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم، ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل، ثم ينادي الثانية ستعلمون اليوم من أولى بالكرم ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون، ثم ينادي الثالثة ستعلمون اليوم من أولى بالكرم ليقم الحامدون لله على كل حال في السّراء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون جميعا إلى الجنة، ثم يحاسب سائر الناس). وذكر ابن المبارك قال أخبرنا معمر عن رجل عن أبي العلاء بن الشخير عن أبي ذّر قال: ثلاثة يضحك الله إليهم ويستبشر الله بهم: رجل قام من الليل وترك فراشه ودفئه، ثم توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام إلى الصلاة؛ فيقول الله لملائكته: (ما حمل عبدي على ما صنع) فيقولون: ربنا أنت أعلم به منا؛ فيقول: (أنا أعلم به ولكن أخبروني) فيقولون: رجيته شيئا فرجاه وخوفته فحافه. فيقول: (أشهدكم أني قد أمنته مما خاف وأوجبت له ما رجاه) قال: ورجل كان في سرية فلقي العدو فانهزم أصحابه وثبت هو حتى يقتل أو يفتح الله عليهم؛ فيقول الله لملائكته مثل هذه القصة. ورجل سرى في ليلة حتى إذا كان في آخر الليل نزل هو وأصحابه، فنام أصحابه وقام هو يصلي؛ فيقول الله لملائكته...) وذكر القصة.
قوله تعالى: "يدعون ربهم" في موضع نصب على الحال؛ أي داعين. ويحتمل أن تكون صفة مستأنفة؛ أي تتجافى جنوبهم وهم أيضا في كل حال يدعون ربهم ليلهم ونهارهم. و"خوفا" مفعول من أجله. ويجوز أن يكون مصدرا. "وطمعا" مثله؛ أي خوفا من العذاب وطمعا في الثواب. "ومما رزقناهم ينفقون" تكون "ما" بمعنى الذي وتكون مصدرا، وفي كلا الوجهين يجب أن تكون منفصلة من "من" و"ينفقون" قيل: معناه الزكاة المفروضة. وقيل: النوافل؛ وهذا القول أمدح.
الآية: 17 {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}
قرأ حمزة: "ما أخفيْ لهم" بإسكان الياء. وفتحها الباقون. وفي قراءة عبدالله "ما نخفي" بالنون مضمومة. وروى المفضل عن الأعمش "ما يُخفى لهم" بالياء المضمومة وفتح الفاء. وقرأ ابن مسعود وأبو هريرة: "من قرَّات أعين". فمن أسكن الياء من قوله: "ما أخفي فهو مستقبل وألفه ألف المتكلم. و"ما" في موضع نصب بـ "أخفي" وهي استفهام، والجملة في موضع نصب لوقوعها موقع المفعولين، والضمير العائد على "ما" محذوف. ومن فتح الياء فهو فعل ماض مبني للمفعول. و"ما" في موضع رفع بالابتداء، والخبر "أخفي" وما بعده، والضمير في "أخفي" عائد على "ما". قال الزجاج: ويقرأ "ما أخفى لهم" بمعنى ما أخفى الله لهم؛ وهي قراءة محمد بن كعب، و"ما" في موضع نصب. المهدوّي: ومن قرأ: "قرات أعين" فهو جمع قرة، وحسن الجمع فيه لإضافته إلى جمع، والإفراد لأنه مصدر، وهو اسم للجنس. وقال أبو بكر الأنبارّي: وهذا غير مخالف للمصحف؛ لأن تاء "قرة" تكتب تاء لغة من يجري الوصل على الوقف؛ كما كتبوا (رحمت الله) بالتاء. ولا يستنكر سقوط الألف من "قرات" في الخط وهو موجود في اللفظ؛ كما لم يستنكر سقوط الألف من السموات وهي ثابتة في اللسان والنطق. والمعنى المراد: أنه أخبر تعالى بما لهم من النعيم الذي لم تعلمه نفس ولا بشر ولا ملك. وفي معنى هذه الآية: قال النبّي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل أعدت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر - ثم قرأ هذه الآية - "تتجافى جنوبهم عن المضاجع - إلى قوله - بما كانوا يعملون") خرجه الصحيح من حديث سهل بن سعد الساعدي. وقال ابن مسعود: في التوراة مكتوب: على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال ابن عباس: الأمر في هذا أجل وأعظم من أن يعرف تفسيره.
قلت: وهذه الكرامة إنما هي لأعلى أهل الجنة منزلا؛ كما جاء مبينا في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سأل موسى عليه السلام ربه فقال يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة قال هو رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له ادخل الجنة فيقول أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا فيقول رضيت رب فيقول لك ذلك ومثله ومثله معه ومثله ومثله ومثله ومثله فقال في الخامسة رضيت رب فيقال هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول رضيت رب قال رب فأعلاهم منزلة قال أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر - قال - ومصداقه من كتاب الله قوله تعالى: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون". وقد روي عن المغيرة موقوفا قوله. وخرج مسلم أيضا عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعكم عليه - ثم قرأ - "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين". وقال ابن سيرين: المراد به النظر إلى الله تعالى. وقال الحسن: أخفى القوم أعمالا فأخفى الله تعالى لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
الآية: 18 {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون}
قوله تعالى: "أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا" أي ليس المؤمن كالفاسق؛ فلهذا آتينا هؤلاء المؤمنين الثواب العظيم. قال ابن عباس وعطاء بن يسار: نزلت الآية في علّي ابن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط؛ وذلك أنهما تلاحيا فقال له الوليد: أنا أبسط منك لسانا وأحد سنانا وأرد للكتيبة - وروي وأملأ في الكتيبة - جسدا. فقال له علّي: اسكت! فإنك فاسق؛ فنزلت الآية. وذكر الزجاج والنحاس أنها نزلت في علّي وعقبة بن أبي مُعيط. قال ابن عطية: وعلى هذا يلزم أن تكون الآية مكية؛ لأن عقبة لم يكن بالمدينة، وإنما قتل في طريق مكة منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر. ويعترض القول الآخر بإطلاق اسم الفسق على الوليد. وذلك يحتمل أن يكون في صدر إسلام الوليد لشيء كان في نفسه، أو لما روي من نقله عن بني المصطلق ما لم يكن، حتى نزلت فيه: "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" [الحجرات: 6] على ما يأتي في الحجرات بيانه. ويحتمل أن تطلق الشريعة ذلك عليه؛ لأنه كان على طرف مما يبغي. وهو الذي شرب الخمر في زمن عثمان رضي الله عنه، وصلى الصبح بالناس ثم التفت وقال: أتريدون أن أزيدكم، ونحو هذا مما يطول ذكره.
لما قسم الله تعالى المؤمنين والفاسقين الذين فسقهم بالكفر - لأن التكذيب في آخر الآية يقتضي ذلك - اقتضى ذلك نفي المساواة بين المؤمن والكافر؛ ولهذا منع القصاص بينهما؛ إذ من شرط وجوب القصاص المساواة بين القاتل والمقتول. وبذلك احتج علماؤنا على أبي حنيفة في قتله المسلم بالذمّي. وقال: أراد نفي المساواة ها هنا في الآخرة في الثواب وفي الدنيا في العدالة. ونحن حملناه على عمومه، وهو أصح، إذ لا دليل يخصه؛ قاله ابن العربي.
قوله تعالى: "لا يستوون" قال الزجاج وغيره: "من" يصلح للواحد والجمع. النحاس: لفظ "من" يؤدي عن الجماعة؛ فلهذا قال: "لا يستوون"؛ هذا قول كثير من النحويين. وقال بعضهم: "لا يستوون" الاثنين؛ لأن الاثنين جمع؛ لأنه واحد جمع مع آخر. وقاله الزجاج أيضا. والحديث يدل على هذا القول؛ لأنه عن ابن عباس وغيره قال: نزلت "أفمن كان مؤمنا" في علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، "كمن كان فاسقا" في الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وقال الشاعر:
أليس الموت بينهما سواء إذا ماتوا وصاروا في القبور
الآية: 19 - 20 {أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون، وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون}
قوله تعالى: "أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى" أخبر عن مقر الفريقين غدا؛ فللمؤمنين جنات المأوى، أي يأوون إلى الجنات؛ فأضاف الجنات إلى المأوى لأن ذلك الموضع يتضمن جنات. "نزلا" أي ضيافة. والنزل: ما يهيأ للنازل والضيف. وقد مضى في آخر "آل عمران" وهو نصب على الحال من الجنات؛ أي لهم الجنات معّدة، ويجوز أن يكون مفعولا له."وأما الذين فسقوا" أي خرجوا عن الإيمان إلى الكفر "فمأواهم النار" أي مقامهم فيها. "كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها" أي إذا دفعهم لهب النار إلى أعلاها ردوا إلى موضعهم فيها، لأنهم يطمعون في الخروج منها. وقد مضى هذا في "الحج". "وقيل لهم" أي يقول لهم خزنة جهنم. أو يقول الله لهم: "ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون" والذوق يستعمل محسوسا ومعنى. وقد مضى في هذه السورة بيانه.
الصفحة رقم 416 من المصحف تحميل و استماع mp3