تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 416 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 416

415

قوله: 12- "ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم" المراد بالمجرمين هم القائلون إئذا ضللنا، والخطاب هنا لكل من يصلح له، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يراد بالمجرمين كل مجرم ويدخل فيه أولئك القائلون دخولاً أولياً، ومعنى "ناكسوا رؤوسهم" مطأطئوها حياءً وندماً على ما فرط منهم في الدنيا من الشرك بالله والعصيان له، ومعنى عند ربهم: عند محاسبته لهم. قال الزجاج: والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة لأمته، فالمعنى: ولو ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب "ربنا أبصرنا وسمعنا" أي يقولون: ربنا أبصرنا الآن ما كنا نكذب به وسمعنا ما كنا ننكره، وقيل أبصرنا صدق وعيدكم وسمعنا تصديق رسلك، فهؤلاء أبصروا حين لم ينفعهم البصر، وسمعوا حين لم ينفعهم السمع "فارجعنا" إلى الدنيا "نعمل" عملاً "صالحاً" كما أمرتنا "إنا موقنون" أي مصدقون، وقيل مصدقون بالذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وصفوا أنفسهم بالإيقان الآن طمعاً فيما طلبوه من إرجاعهم إلى الدنيا، وأنى لهم ذلك فقد حقت عليهم كلمة الله فإنهم "لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون" وقيل معنى "إنا موقنون" إنها قد زالت عنهم الشكوك التي كانت تخالطهم في الدنيا لما رأوا وسمعوا ما سمعوا، ويجوز أن يكون معنى "أبصرنا وسمعنا" صرنا ممن يسمع ويبصر فلا يحتاج إلى تقدير مفعول، ويجوزظ أن يكون صالحاً مفعولاً لنعمل كما يجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، وجواب لو محذوف: أي لرأيت أمراً فظيعاً وهولاً هائلاً.
13- "ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها" هذا رد عليهم لما طلبوا الرجعة: أي لو شئنا لآتينا كل نفس هداها فهدينا الناس جميعاً فلم يكفر منهم أحد. قال النحاس: في معنى هذا قولان: أحدهما أنه في الدنيا، والآخر أنه في الآخرة: أي ولو شئنا لرددناهم إلى الدنيا "ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" وجملة لو شئنا مقدرة بقول معطوف على المقدر قبل قوله أبصرنا أي ونقول لو شئنا، ومعنى "ولكن حق القول مني" أي نفذ قضائي وقدري وسبقت كلمتي "لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" هذا هو القول الذي وجب من الله وحق على عباده ونفذ فيه قضاؤه، فكان مقتضى هذا القول أنه لا يعطي كل نفس هداها، وإنما قضى عليهم بهذا، لأنه سبحانه قد علم أنهم من أهل الشقاوة، وأنهم ممن يختار الضلالة على الهدى.
والفاء في قوله: 14- " فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا " لترتيب الأمر بالذوق على ما قبله، والباء في بما نسيتم للسببية، وفيه إشعار بأن تعذيبهم ليس لمجرد سبق القول المتقدم، بل بذاك وهذا. واختلف في النسيان المذكور هنا، فقيل هو النسيان الحقيقي، وهو الذي يزول عنده الذكر، وقيل هو الترك. والمعنى على الأول: أنهم لميعملوا لذلك اليوم، فكانوا كالناسين له الذين لا يذكرونه. وعلى الثاني لا بد من تقدير مضاف قبل لقاء: أي ذوقوا بسبب ترككم لما أمرتكم به عذاب لقاء يومكم هذا، ورجح الثاني المبرد وأنشد: ‌كأنه خارج من جنب صفحته سفود شرب نسوه عند مفتأد أي تركوه، وكذا قال الضحاك ويحيى بن سلام: إن النسيان هنا بمعنى الترك. قال يحيى بن سلام: والمعنى: بما تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم تركناكم من الخير، وكذا قال السدي، وقال مجاهد: تركناكم في العذاب. وقال مقاتل: إذا دخلوا النار. قالت لهم الخزنة: ذوقوا العذاب بما نسيتم، واستعار الذوق للإحساس، ومنه قول طفيل: ‌فذوقوا كما ذقنا غداة محجة من الغيظ في أكبادنا والتحوب وقوله: "وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون" تكرير لقصد التأكيد: أي ذوقوا العذاب الدائم الذي لا ينقطع أبداً بما كنتم تعملونه في الدنيا من الكفر والمعاصي. قال الرازي في تفسيره: إن اسم الإشارة في قوله: "بما نسيتم لقاء يومكم هذا" يحتمل ثلاثة أوجه: أن يكون إشارة إلى اللقاء، وأن يكون إشارة إلى اليوم، وأن يكون إشارة إلى العذاب.
وجملة 15- "إنما يؤمن بآياتنا" مستأنفة لبيان ما يستحق الهداية إلى الإيمان، ومن لا يستحقها، والمعنى: إنما يصدق بآياتنا وينتفع بها "الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً" لا غيرهم ممن يذكر بها: أي يوعظ بها ولا يتذكر ولا يؤمن بها، ومعنى خروا سجداً سقطوا على وجوههم ساجدين تعظيماً لآيات الله وخوفاً من سطوته وعذابه "وسبحوا بحمد ربهم" أي نزهوه عن كل ما لا يليق به ملتبسين بحمده على نعمه التي أجلها وأكملها الهداية إلى الإيمان، والمعنى: قالوا في سجودهم: سبحان الله وبحمده، أو سبحان ربي الأعلى وبحمده. وقال سفيان: المعنى صلوا حمداً لربهم، وجملة "وهم لا يستكبرون" في محل نصب على الحال: أي حال كونهم خاضعين لله، متذللين له غير مستكبرين عليه.
16- "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" أي ترتفع وتنبو يقال: جفا الشيء عن الشيء وتجافى عنه: إذا لم يلزمه ونبا عنه، والمضاجع جمع المضجع، وهو الموضع الذي يضطجع فيه. قال الزجاج والرماني: التجافي والتجفي إلى جهة فوق، وكذلك هو في الصفح عن المخطئ في سب ونحوه، والجنوب جمع جنب، والجملة في محل نصب على الحال: أي متجافية جنوبهم عن مضاجعهم، وهم المتهجدون في الليل الذين يقومون للصلاة عن الفراش، وبه قال الحسن ومجاهد وعطاء والجمهور، والمراد بالصلاة صلاة التنفل بالليل من غير تقييد. وقال قتادة وعكرمة: هو التنفل ما بين المغرب والعشاء، وقيل صلاة العشاء فقط، وهو رواية عن الحسن وعطاء. وقال الضحاك: صلاة العشاء والصبح في جماعة، وقيل هم الذين يقومون لذكر الله سواء كان في صلاة أو غيرها "يدعون ربهم خوفاً وطمعاً" هذه الجملة في محل نصب على الحال أيضاً من الضمير الذي في جنوبهم فهي حال بعد حال، ويجوز أن تكون الجملة الأولى مستأنفة لبيان نوع من أنواع طاعاتهم، والمعنى: تتجافى جنوبهم حال كونهم داعين ربهم خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته "ومما رزقناهم ينفقون" أي من الذي رزقناهم أو من رزقهم، وذلك الصدقة الواجبة، وقيل صدقة النفل، والأولى الحمل على العموم، وانتصاب خوفاً وطمعاً على العلة، ويجوز أن يكون مصدرين منتصبين بمقدر.
17- "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" النكرة في سياق النفي تفيد العموم: أي لا تعلم نفس من النفوس أي نفس كانت ما أخفاه لله سبحانه لأولئك الذين تقدم ذكرهم مما تقر به أعينهم، قرأ الجمهور "قرة" بالإفراد. وقرأ ابن مسعود وأبو هريرة وأبو الدرداء من قرات بالجمع، وقرأ حمزة "ما أخفي" بسكون الياء على أنه فعل مضارع مسند إلى الله سبحانه، وقرأ الباقون بفتحها فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول. وقرأ ابن مسعود ما نخفي بالنون مضمومة، وقرأ الأعمش يخفي بالتحتية مضمومة. قال الزجاج في معنى قراءة حمزة: أي منه ما أخفى الله لهم، وهي قراءة محمد بن كعب، و ما في موضع نصب. ثم بين سبحانه أن ذلك بسبب أعمالهم الصالحة فقال: "جزاء بما كانوا يعملون" أي لأجل الجزاء بما كانوا يعملونه في الدنيا أو جوزوا جزاءً بذلك.
18- "أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً" الاستفهام للإنكار: أي ليس المؤمن كالفاسق فقد ظهر ما بينهما من التفاوت، ولهذا قال: "لا يستوون" ففيه زيادة تصريف لما أفاده الإنكار الذي أفاده الاستفهام. قال الزجاج: جعل الاثنين جماعة حيث قال: "لا يستوون" لأجل معنى من، وقيل: لكون الاثنين أقل الجمع، وسيأتي بيان سبب نزولها آخر البحث.
ثم بين سبحانه عاقبة حال الطائفتين وبدأ بالمؤمنين فقال: 19- "أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى" قرأ الجمهور "جنات" بالجمع، وقرأ طلحة بن مصرف جنة المأوى بالإفراد، والمأوى هو الذي يأوون إلأيه، وأضاف الجنات إليه لكونه المأوى الحقيقي، وقيل المأوى جنة من الجنات، وقد تقدم الكلام على هذا، ومعنى "نزلا" أنها معدة لهم عند نزولهم، وهو في الأصل ما يعد للنازل من الطعام والشراب كما بيناه في آل عمران، وانتصابه على الحال. وقرأ أبو حيوة نزلا بسكون الزاي، والباء في "بما كانوا يعملون" للسببية: أي بسبب ما كانوا يعملونه، أو بسبب عملهم.
ثم ذكر الفريق الآخر فقال: 20- "وأما الذين فسقوا" أي خرجوا عن طاعة الله وتمردوا عليه وعلى رسله "فمأواهم النار" أي منزلهم الذي يصيرون إليه ويستقرون فيه هو النار "كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها" أي إذا أرادوا الخروج منها ردوا إليها راغمين مكرهين، وقيل إذ دفعهم اللهب إلى أعلاها ردوا إلى مواضعهم "وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون" والقائل لهم هذه المقالة هو خزنة جهنم من الملائكة، أو القائل لهم هو الله عز وجل، وفي هذا القول لهم حال كونهم قد صاروا في النار من الإغاظة لهم ما لا يخفى.