تفسير السعدي تفسير الصفحة 416 من المصحف


وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ( 12 ) وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 13 ) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 14 ) .
لما ذكر تعالى رجوعهم إليه يوم القيامة، ذكر حالهم في مقامهم بين [ يديه ] فقال: ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ) الذين أصروا على الذنوب العظيمة، ( نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) خاشعين خاضعين أذلاء، مقرين بجرمهم، سائلين الرجعة قائلين: ( رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ) أي: بان لنا الأمر، ورأيناه عيانًا، فصار عين يقين.
( فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ) أي: صار عندنا الآن، يقين بما [ كنا ] نكذب به، أي: لرأيت أمرا فظيعًا، وحالا مزعجة، وأقوامًا خاسرين، وسؤلا غير مجاب، لأنه قد مضى وقت الإمهال.
وكل هذا بقضاء اللّه وقدره، حيث خلى بينهم وبين الكفر والمعاصي، فلهذا قال: ( وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ) أي: لهدينا الناس كلهم، وجمعناهم على الهدى، فمشيئتنا صالحة لذلك، ولكن الحكمة، تأبى أن يكونوا كلهم على الهدى، ولهذا قال: ( وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي ) أي: وجب، وثبت ثبوتًا لا تغير فيه.
( لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) فهذا الوعد، لا بد منه، ولا محيد عنه، فلا بد من تقرير أسبابه من الكفر والمعاصي.
( فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ) أي: يقال للمجرمين، الذين ملكهم الذل، وسألوا الرجعة إلى الدنيا، ليستدركوا ما فاتهم، قد فات وقت الرجوع ولم يبق إلا العذاب، فذوقوا العذاب الأليم، بما نسيتم لقاء يومكم هذا، وهذا النسيان نسيان ترك، أي: بما أعرضتم عنه، وتركتم العمل له، وكأنكم غير قادمين عليه، ولا ملاقيه.
( إِنَّا نَسِينَاكُمْ ) أي: تركناكم بالعذاب، جزاء من جنس عملكم، فكما نَسِيتُمْ نُسِيتُمْ، ( وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ ) أي: العذاب غير المنقطع، فإن العذاب إذا كان له أجل وغاية، كان فيه بعض التنفيس والتخفيف، وأما عذاب جهنم - أعاذنا اللّه منه - فليس فيه روح راحة، ولا انقطاع لعذابهم فيها. ( بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) من الكفر والفسوق والمعاصي.
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ( 15 ) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 16 ) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 17 ) .
لما ذكر تعالى الكافرين بآياته، وما أعد لهم من العذاب، ذكر المؤمنين بها، ووصفهم، وما أعد لهم من الثواب، فقال: ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ) [ أي ] إيمانًا حقيقيًا، من يوجد منه شواهد الإيمان، وهم: ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا ) بآيات ربهم فتليت عليهم آيات القرآن، وأتتهم النصائح على أيدي رسل اللّه، ودُعُوا إلى التذكر، سمعوها فقبلوها، وانقادوا، و ( خَرُّوا سُجَّدًا ) أي: خاضعين لها، خضوع ذكر للّه، وفرح بمعرفته.
( وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) لا بقلوبهم، ولا بأبدانهم، فيمتنعون من الانقياد لها، بل متواضعون لها، قد تلقوها بالقبول، والتسليم، وقابلوها بالانشراح والتسليم، وتوصلوا بها إلى مرضاة الرب الرحيم، واهتدوا بها إلى الصراط المستقيم.
( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ) أي: ترتفع جنوبهم، وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة، إلى ما هو ألذ عندهم منه وأحب إليهم، وهو الصلاة في الليل، ومناجاة اللّه تعالى.
ولهذا قال: ( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ) أي: في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية، ودفع مضارهما. ( خَوْفًا وَطَمَعًا ) أي: جامعين بين الوصفين، خوفًا أن ترد أعمالهم، وطمعًا في قبولها، خوفًا من عذاب اللّه، وطمعًا في ثوابه.
( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ) من الرزق، قليلا كان أو كثيرًا ( يُنْفِقُونَ ) ولم يذكر قيد النفقة، ولا المنفق عليه، ليدل على العموم، فإنه يدخل فيه، النفقة الواجبة، كالزكوات، والكفارات، ونفقة الزوجات والأقارب، والنفقة المستحبة في وجوه الخير، والنفقة والإحسان المالي، خير مطلقًا، سواء وافق غنيًا أو فقيرًا، قريبًا أو بعيدًا، ولكن الأجر يتفاوت، بتفاوت النفع، فهذا عملهم.
وأما جزاؤهم، فقال: ( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ) يدخل فيه جميع نفوس الخلق، لكونها نكرة في سياق النفي. أي: فلا يعلم أحد ( مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) من الخير الكثير، والنعيم الغزير، والفرح والسرور، واللذة والحبور، كما قال تعالى على لسان رسوله: « أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر »
فكما صلوا في الليل، ودعوا، وأخفوا العمل، جازاهم من جنس عملهم، فأخفى أجرهم، ولهذا قال: ( جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ ( 18 ) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 19 ) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 20 ) .
ينبه تعالى، العقول على ما تقرر فيها، من عدم تساوي المتفاوتين المتباينين، وأن حكمته تقتضي عدم تساويهما فقال: ( أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا ) قد عمر قلبه بالإيمان، وانقادت جوارحه لشرائعه، واقتضى إيمانه آثاره وموجباته، من ترك مساخط اللّه، التي يضر وجودها بالإيمان.
( كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا ) قد خرب قلبه، وتعطل من الإيمان، فلم يكن فيه وازع ديني، فأسرعت جوارحه بموجبات الجهل والظلم، من كل إثم ومعصية، وخرج بفسقه عن طاعة الله.
أفيستوي هذان الشخصان؟.
( لا يَسْتَوُونَ ) عقلا وشرعًا، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلمة، وكذلك لا يستوي ثوابهما في الآخرة.
( أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) من فروض ونوافل ( فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى ) أي: الجنات التي هي مأوى اللذات، ومعدن الخيرات، ومحل الأفراح، ونعيم القلوب، والنفوس، والأرواح، ومحل الخلود، وجوار الملك المعبود، والتمتع بقربه، والنظر إلى وجهه، وسماع خطابه.
( نزلا ) لهم أي: ضيافة، وقِرًى ( بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) فأعمالهم التي تفضل اللّه بها عليهم، هي التي أوصلتهم لتلك المنازل الغالية العالية، التي لا يمكن التوصل إليها ببذل الأموال، ولا بالجنود والخدم، ولا بالأولاد، بل ولا بالنفوس والأرواح، ولا يتقرب إليها بشيء
أصلا سوى الإيمان والعمل الصالح.
( وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ) أي: مقرهم ومحل خلودهم، النار التي جمعت كل عذاب وشقاء، ولا يُفَتَّرُ عنهم العقاب ساعة.
( كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا ) فكلما حدثتهم إرادتهم بالخروج، لبلوغ العذاب منهم كل مبلغ، ردوا إليها، فذهب عنهم روح ذلك الفرج، واشتد عليهم الكرب.
( وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) فهذا عذاب النار، الذي يكون فيه مقرهم ومأواهم، وأما العذاب الذي قبل ذلك، ومقدمة له وهو عذاب البرزخ، فقد ذكر بقوله: