تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 466 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 466

465

68- "ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض" هذه هي النفخة الأولى، والصور هو القرن الذين ينفخ فيه إسرافيل، وقد تقدم غير مرة، ومعنى صعق: زالت عقولهم فخروا مغشياً عليهم، وقيل ماتوا. قال الواحدي: قال المفسرون مات من الفزع وشدة الصوت أهل السموات والأرض. قرأ الجمهور "الصور" بسكون الواو، وقرأ قتادة وزيد بن علي بفتحها جمع صورة، والاستثناء في قوله: "إلا من شاء الله" متصل، والمستثنى جبريل وميكائيل وإسرافيل، وقيل رضوان وحملة العرش وخزنة الجنة والنار "ثم نفخ فيه أخرى" يجوز أن يكون أخرى في محل رفع على النيابة وهي صفة لمصدر محذوف: أي نفخة أخرى، ويجوز أن يكون في محل نصب والقائم مقام الفاعل فيه "فإذا هم قيام ينظرون" يعني الخلق كلهم قيام على أرجلهم ينظرون ما يقال لهم أو ينتظرون ذلك. قرأ الجمهور قيام بالرفع على أنه خبر، وينظرون في محل نصب على الحال وقرأ زيد بن علي بالنصب على أنه حال، والخبر ينظرون، والعامل في الحال ما عمل في إذا الفجائية. قال الكسائي كا تقول خرجت فإذا زيد جالساً.
69- "وأشرقت الأرض بنور ربها" الإشراق الإضاءة، يقال أشرقت الشمس: إذا أضاءت، وشرقت: إذا طلعت، ومعنى بنور ربها: بعدل ربها، قاله الحسن وغيره. وقال الضحاك: بحكم ربها، والمعنى: أن الأرض أضاءت وأنارت بما أقامه الله من العدل بين أهلها، وما قضى به من الحق فيهم، فالعدل نور والظلم ظلمات. وقيل إن الله يخلق نوراً يوم القيامة يلبسه وجه الأرض فتشرق به غير نور الشمس والقمر، ولا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي، فإن الله سبحانه هو نور السموات والأرض. قرأ الجمهور "أشرقت" مبنياً للفاعل، وقرأ ابن عباس وأبو الجوزاء وعبيد بن عمير على البناء للمفعول ووضع الكتاب قيل هو اللوح المحفوظ. وقال قتادة: يعني الكتب والصحف التي فيها أعمال بني آدم فآخذ بيمينه وآخذ بشماله، وكذا قال مقاتل. وقيل هو من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه: أي وضع الكتاب للحساب "وجيء بالنبيين" أي جيء بهم إلى الموقف فسئلوا عما أجابتهم به أممهم "والشهداء" الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما في قوله: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس" وقيل المراد بالشهداء الذين استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة لمن ذب عن دين الله. وقيل هم الحفظة كما قال تعالى: "وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد" "وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون" أي وقي بين العباد بالعدل والصدق، والحال أنهم لا يظلمون: أي لا ينقصون من ثوابهم ولا يزاد على ما يستحقونه من عقابهم.
70- "ووفيت كل نفس ما عملت" من خير وشر "وهو أعلم بما يفعلون" في الدنيا لا يحتاج إلى كاتب ولا حاسب ولا شاهد، وإنما وضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء لتكميل الحجة وقطع المعذرة.
ثم ذكر سبحانه تفصيل ما ذكره من توفية كل نفس ما كسبت فقال: 71- "وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً" أي سيق الكافرون إلى النار حال كونهم زمراً: أي جماعات متفرقة بعضها يتلو بعضاً. قال أبو عبيدة والأخفش، زمراً جماعات متفرقة بعضها إثر بعض، ومنه قول الشاعر: وترى الناس إلى أبوابه زمراً تنتابه بعد زمر واشتقاقه من الزمر، وهو الصوت، إذ الجماعة لا تخلو عنه " حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها " أي فتحت أبواب النار ليدخلوها، وهي سبعة أبواب، وقد مضى بيان ذلك في سورة الحجر "وقال لهم خزنتها" جمع خازن نحو سدنة وسادن "ألم يأتكم رسل منكم" أي من أنفسكم "يتلون عليكم آيات ربكم" التي أنزلها عليهم "وينذرونكم لقاء يومكم هذا" أي يخوفونكم لقاء هذا اليوم الذي صرتم فيه، قالوا لهم هذا القول تقريعاً وتوبيخاً، فأجابوا بالاعتراف ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا لانكشاف الأمر وظهوره، ولهذا "قالوا بلى" أي قد أتتنا الرسل بآيات الله وأنذرونا بما سنلقاه "ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين" وهي "لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين".
فلما اعترفوا هذا الاعتراف 72- "قيل ادخلوا أبواب جهنم" التي قد فتحت لكم لتدخلوها وانتصاب "خالدين" على الحال: أي مقدرين الخلود "فبئس مثوى المتكبرين" المخصوص بالذم محذوف: أي بئس مثواهم جهنم، وقد تقدم تحقيق المثوى في غير موضع. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "مقاليد السموات والأرض" قال: مفاتيحها. وأخرج أبو يعلى ويوسف القاضي في سننه وأبو الحسن القطان وابن السني وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان قال:" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله "له مقاليد السموات والأرض" فقال لي: يا عثمان لقد سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك، مقاليد السموات والارض: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد الله، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو، والأول والآخر، والظاهر والباطن، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، ثم ذكر فضل هذه الكلمات". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن عثمان قال: جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أخبرني عن مقاليد السموات والأرض، فذكره. وأخرجه الحارث بن أبي أسامة وابن مردويه عن أبي هريرة عن عثمان. وأخرجه العقيلي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر عن عثمان. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وسمل أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء ويطأون عقبه، فقالوا له: هذا لك يا محمد وتكف عن شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء، قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي، فجاء بالوحي "قل يا أيها الكافرون" إلى آخر السورة، وأنزل الله عليه "قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون" إلى قوله: "من الخاسرين". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يحمل السموات يوم القيامة على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يحمل السموات يوم القيامة على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟". وفي الباب أحاديث وآثار تقتضي حمل الآية على ظاهرها من دون تكلف لتأويل ولا تعسف لقال وقيل. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: " قال رجل من اليهود بسوق المدينة: والذي اصطفى موسى على البشر، فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه، فقال: أتقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قال الله: "ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" فأكون أول من يرفع رأسه، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي، أو كان ممن استثنى الله". وأخرج أبو يعلى والدارقطني في الإفراد وابن المنذر والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أي هريرة "عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إلا من شاء الله" قال:هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول عرشه تتلقاهم الملائكة يوم القيامة" الحديث. وأخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد من أقوال أبي هريرة. وأخرج الفريابي وابن جرير وأبو نصر السجزي في الإبانة وابن مردويه "عن أنس أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسم عن قوله: "إلا من شاء الله" فقال: جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل وحملةالعرش". وأخرج ابن المنذر عن جابر في قوله: "إلا من شاء الله" قال: موسى، لأنه كان صعق قبل. والأحاديث الواردة في كيفية نفخ الصور كثيرة. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله: "وجيء بالنبيين والشهداء" قال: النبيين الرسل، والشهداء الذين يشهدون لهم بالبلاغ ليس فيهم طعان ولا لعان. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه في الآية قال: يشهدون بتبليغ الرسالة وتكذيب الأمم إياهم.
لما ذكر فيما تقدم حال الذين كفروا وسوقهم إلى جهنم، ذكر هنا حال المتقين وسوقهم إلى الجنة فقال 73- "وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً" أي ساقتهم الملائكة سوق إعزاز وتشريف وتكريم. وقد سبق بيان معنى الزمر " حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها " جواب إذا محذوف. قال المبرد تقديره: سعدوا وفتحت، وأنشد قول الشاعر: فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسا فحذف جواب لو، والتقدير: لكان أروح. وقال الزجاج: القول عندي أن الجواب محذوف على تقدير: حتى إذا جاءوها، وكانت هذه الأشياء التي ذكرت دخلوها فالجواب دخلوها وحذف لأن في الكلام دليلاً عليه. وقال الأخفش والكوفيون: الجواب فتحت والواو زائدة، وهو خطأ عند البصريين، لأن الواو من حروف المعاني فلا تزاد. وقيل إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله، والتقدير: حتى إذا جاءوها وأبوابها مفتحة بدليل قوله "جنات عدن مفتحة لهم الأبواب" وحذفت الواو في قصة أهل النار، لأنهم وقفوا على النار وفتحت بعد وقوفهم إذلالاً وترويعاً. ذكر معناه النحاس منسوباً إلى بعض أهل العلم، قال: ولا أعلم أنه سبقه إليه أحد. وعلى هذا القول تكون الواو واو الحال بتقدير قد: أي جاءوها وقد فتحت لهم الأبواب. وقيل إنها واو الثمانية، وذلك أن من عادة العرب أنهم كانوا يقولون في العدد: خمسة ستة سبعة وثمانية، وقد مضى القول في هذا في سورة براءة مستوفى وفي سورة الكهف أيضاً. ثم أخبر سبحانه أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين فقال: "وقال لهم خزنتها سلام عليكم" أي سلام لكم من كل آفة "طبتم" في الدنيا فلم تتدنسوا بالشرك والمعاصي. قال مجاهد: طبتم بطاعة الله، وقيل بالعمل الصالح، والمعنى واحد. قال مقاتل: إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم حتى إذا هذبوا طيبوا قال لهم رضوان وأصحابه " سلام عليكم " الآية "فادخلوها" أي ادخلوا الجنة "خالدين" أي مقدرين الخلود.
فعند ذلك قال أهل الجنة 74- "الحمد لله الذي صدقنا وعده" بالبعث والثواب بالجنة "وأورثنا الأرض" أي أرض الجنة كأنها صارت من غيرهم إليهم فلمكوها وتصرفوا فيها، وقيل إنهم ورثوا الأرض التي كانت لأهل النار لو كانوا مؤمنين. قاله أكثر المفسرين. وقيل إنها أرض الدنيا، وفي الكلام تقديم وتأخير "نتبوأ من الجنة حيث نشاء" أي نتخذ فيها من المنازل ما نشاء حيث نشاء "فنعم أجر العاملين" المخصوص بالمدح محذوف: أي فنعم أجر العاملين في الجنة، وهذا من تمام قول أهل الجنة.