تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 469 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 469

469 : تفسير الصفحة رقم 469 من القرآن الكريم

** وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ * وَاللّهُ يَقْضِي بِالْحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنّ اللّهَ هُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ
يوم الاَزفة اسم من أسماء يوم القيامة وسميت بذلك لاقترابها كما قال تعالى: {أزفت الاَزفة * ليس لها من دون الله كاشفة} وقال عز وجل: {اقتربت الساعة وانشق القمر} وقال جل وعلا: {اقترب للناس حسابهم} وقال: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} وقال جل جلاله: {فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفرو} الاَية. وقوله تبارك وتعالى: {إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين} قال قتادة وقفت القلوب في الحناجر من الخوف فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها, وكذا قال عكرمة والسدي وغير واحد, ومعنى كاظمين أي ساكتين لا يتكلم أحد إلا بإذنه {يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواب} وقال ابن جريج {كاظمين} أي باكين. وقوله سبحانه وتعالى: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم ولا شفيع يشفع فيهم بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير. وقوله تعالى: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} يخبر عز وجل عن علمه التام المحيط بجميع الأشياء جليلها وحقيرها, صغيرها وكبيرها, دقيقها ولطيفها ليحذر الناس علمه فيهم فيستحيوا من الله تعالى حق الحياء ويتقوه حق تقواه, ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه فإنه عز وجل يعلم العين الخائنة وإن أبدت أمانة ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر. قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم وفيهم المرأة الحسناء أو تمر به وبهم المرأة الحسناء فإذا غفلوا لحظ إليها فإذا فطنوا غض بصره عنها فإذا غفلوا لحظ فإذا فطنوا غض, وقد اطلع الله تعالى من قلبه أنه ود أن لو اطلع على فرجها. رواه ابن أبي حاتم, وقال الضحاك {خائنة الأعين} هو الغمز وقول الرجل رأيت ولم ير. أو لم أر وقد رأى. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعلم الله تعالى من العين في نظرها هل تريد الخيانة أم لا ؟ وكذا قال مجاهد وقتادة, وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وما تخفي الصدور} يعلم إذا أنت قدرت عليها هل تزني بها أم لا ؟ وقال السدي {وما تخفي الصدور} أي من الوسوسة.
وقوله عز وجل: {والله يقضي بالحق} أي يحكم بالعدل, قال الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {والله يقضي بالحق} قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة وبالسيئة السيئة {إن الله هو السميع البصير} وهذا الذي فسر به ابن عباس رضي الله عنهما هذه الاَية كقوله تبارك وتعالى: {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} وقوله جل وعلا: {والذين يدعون من دونه} أي من الأصنام والأوثان والأنداد {لا يقضون بشيء} أي لا يملكون شيئاً ولا يحكمون بشيء {إن الله هو السميع البصير} أي سميع لأقوال خلقه بصير بهم فيهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو الحاكم العادل في جميع ذلك.

** أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَآثَاراً فِي الأرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَانَت تّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ إِنّهُ قَوِيّ شَدِيدُ الْعِقَابِ
يقول تعالى: {أولم يسيرو} هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد {في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم} أي من الأمم المكذبة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما حل بهم من العذاب والنكال مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء قوة {وآثاراً في الأرض} أي أثروا في الأرض من البنايات والمعالم والديارات ما لا يقدر هؤلاء عليه كما قال عز وجل: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه} وقال تعالى: {وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروه} أي مع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد أخذهم الله بذنوبهم وهي كفرهم برسلهم {وما كان لهم من الله من واق} أي وما دفع عنهم عذاب الله أحد ولا رده عنهم راد, ولا وقاهم واق, ثم ذكر علة أخذه إياهم وذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها فقال تعالى: {ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات} أي بالدلائل الواضحات والبراهين القاطعات {فكفرو} أي مع هذا البيان والبرهان كفروا وجحدوا {فأخذهم الله} تعالى أي أهلكهم ودمر عليهم وللكافرين أمثالها {إنه قوي شديد العقاب} أي ذو قوة عظيمة وبطش شديد {وهو شديد العقاب} أي عقابه أليم شديد وجيع, أعاذنا الله تبارك وتعالى منه.

** وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مّبِينٍ * إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَـذّابٌ * فَلَمّا جَآءَهُمْ بِالْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقْتُلُوَاْ أَبْنَآءَ الّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ وَمَا كَـيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِيَ أَقْتُلْ مُوسَىَ وَلْيَدْعُ رَبّهُ إِنّيَ أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُـمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَىَ إِنّي عُذْتُ بِرَبّي وَرَبّكُـمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ يقول تعالى مسلياً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه ومبشراً له بأن العاقبة والنصرة له في الدنيا والاَخرة كما جرى لموسى بن عمران عليه السلام فإن الله تعالى أرسله بالاَيات البينات. والدلائل الواضحات. ولهذا قال تعالى: {بآياتنا وسلطان مبين} والسلطان هو الحجة والبرهان {إلى فرعون} وهو ملك القبط بالديار المصرية {وهامان} وهو وزيره في مملكته {وقارون} وكان أكثر الناس في زمانه مالاً وتجارة {فقالوا ساحر كذاب} أي كذبوه وجعلوه ساحراً مجنوناً مموهاً كذاباً في أن الله أرسله وهذه كقوله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به ؟ بل هم قوم طاغون} {فلما جاءهم بالحق من عندن} أي بالبرهان القاطع الدال على أن الله عز وجل أرسله إليهم {قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم} وهذا أمر ثان من فرعون بقتل ذكور بني إسرائيل. أما الأول فكان لأجل الاحتراز من وجود موسى أو لإذلال هذا الشعب وتقليل عددهم أو لمجموع الأمرين, وأما الأمر الثاني فللعلة الثانية ولإهانة هذا الشعب ولكي يتشاءموا بموسى عليه السلام ولهذا قالوا: {أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا * قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} قال قتادة هذا أمر بعد أمر, قال الله عز وجل: {وما كيد الكافرين إلا في ضلال} أي وما مكرهم وقصدهم الذي هو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا ينصروا عليهم إلا ذاهب وهالك في ضلال {وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه} وهذا عزم من فرعون لعنه الله تعالى إلى قتل موسى عليه الصلاة والسلام أي قال لقومه دعوني حتى أقتل لكم هذا {وليد ع ربه} أي لا أبالي به, وهذا في غاية الجحد والتهجم والعناد, وقوله قبحه الله: {إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} يعني موسى, يخشى فرعون أن يضل موسى الناس ويغير رسومهم وعاداتهم, وهذا كما يقال في المثل: صار فرعون مذكراً, يعني واعظاً يشفق على الناس من موسى عليه السلام. وقرأ الأكثرون {أن يبدل دينكم وأن يظهر في الأرض الفساد} وقرأ الاَخرون {أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} وقرأ بعضهم {يظهر في الأرض الفساد} بالضم {وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب} أي لما بلغه قول فرعون {ذروني أقتل موسى} قال موسى عليه السلام استجرت بالله وعذت به من شره وشر أمثاله ولهذا قال: {إني عذت بربي وربكم} أيها المخاطبون {من كل متكبر} أي عن الحق مجرم «لا يؤمن بيوم الحساب» ولهذا جاء في الحديث عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوماً قال: «اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم وندرأ بك في نحورهم».